العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عقوبة الردة بين المثبتين والنافين

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
عقوبة الردة بين المثبتين والنافين
دراسة موضوعية في عقوبة الردة وعلاقتها بحرية الاعتقاد


الدكتورة زياد وسيلة
(البحث مستخلص من رسالة دكتوراه بعنوان حرية الاعتقاد في المسيحية والإسلام: دراسة مقارنة)

تمهيد
حرية الاعتقاد من القضايا الأساسية التي نص عليها القرآن الكريم وكفلها التشريع الإسلامي. وهي أيضا من الحقوق الأساسية التي نصت عليها مواثيق حقوق الإنسان المعاصرة. ولا خلاف من حيث المبدأ بين الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق المعاصرة حول مبدأ حرية الاعتقاد وضرورته، ولكن يقع الخلاف في حدود وتطبيقات تلك الحرية. وقد ثار بين الكُتَّاب المعاصرين نقاش حول عقوبة الردة وعلاقتها بحرية الاعتقاد، الأمر الذي جعل بعضهم يذهب إلى إنكار عقوبة الردة في الإسلام أو التشكيك فيها. وقد كثرت الكتابات حول هذا الموضوع، ولكن قلَّ فيها التحرير. وهذه دراسة أكاديمية موسَّعة تستقصي الأحاديث والآثار المتعلقة بثبوت عقوبة الردة وعلاقتها بحرية الاعتقاد. وقد قسمتها إلى أربعة مباحث: المبحث الأول: مفهوم الردة وحكمها عند الفقهاء. المبحث الثاني: توجُّهات الكتاب المعاصرين حول عقوبة الردة. المبحث الثالث: عرض ومناقشة للأدلة المتعلقة بإثبات أو نفي عقوبة الردة. المبحث الرابع: علاقة عقوبة الردة بحرية الاعتقاد.

المبحث الأول
مفهوم الردة وحكمها عند الفقهاء

المطلب الأول: مفهوم الردة

الرِّدّة لغة:

الرِّدّة مصدر قولك: ردَّه يردُّه ردًّا ورِدّة، والرِّدّة الاسم من الارتداد. ومن معانيها: التحوّل، والرجوع، ومنه الردة عن الإسلام، أي الرجوع عنه.[1]

الردة اصطلاحا:

نجد في كتب الفقه تعريفات كثيرة للردة، قد تختلف باختلاف ما يضعه الفقهاء من قيود وتفاصيل، وليس يعنينا الخوض في تفاصيل تلك التعريفات، ونكتفي بإيراد تعريف واحد لإعطاء فكرة عامة عن مفهوم الردة عند الفقهاء، وقد وقع الاختيار على تعريف الفقيه المالكي الدسوقي، حيث عرفها بقوله: "كفر المسلم -المتقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين- مختارا، بقول صريح، أو لفظ يقتضيه، أو فعل يتضمنه."[2]
من خلال التعريف السابق يتبين أن الردة خروج عن الإسلام باعتقاد، أو قول، أو عمل. كإنكار وجود الله تعالى، أو نفي وجود الرسل، أو تكذيب رسول، أو إنكار حكم شرعي معلوم من الدين بالضرورة، أو تحليل حرام مجمع على تحريمه، أو إتيان فعل من أفعال الكفار في العقيدة أو العبادة بشروط معينة. قال النووي: "والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات... وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء."[3]

المطلب الثاني: حكم الردة عند الفقهاء

لا شك أن الردة عن الإسلام توجب لصاحبها الكفر، وتُحبط عمله الذي عمله في إسلامه، وتوجب له الخلود في النار إن مات على الردة. كل ذلك منصوص عليه صراحة في قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 217).

والظاهر أنه لم تنص آيات القرآن الكريم على عقوبة دنيوية للردة، ولكن محمد الطاهر بن عاشور يرى أن في الآية السابقة إشارة إلى معاقبة المرتد بالقتل. قال في تفسير الآية: "وقد أشار العطف في قوله: "فَيَمُت" بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد، وقد علم كلُّ أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلا على وجوب قتل المرتد."[4]
وهذا استدلال فيه نظر؛ لأن التعقيب هنا لا يشترط فيه أن يكون عقب الإتيان بالردة مباشرة، بل يمكن أن يكون المراد به اتصال الردة بالموت، بمعنى أن الموت يعقب الردة المستمرة، حيث لا يعود المرتد إلى الإسلام إلى أن يأتيه الموت وهو على ردته. فالردة هنا فعل مستمر يعقبه الموت. هذا هو المعنى الظاهر والله أعلم.

ويرى بعض السلف أن آية الحرابة في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (*) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 33-34) إنما هي في المرتدين المحاربين، وليس في المسلمين المحاربين. وفي ذلك يقول ابن رجب الحنبلي: "... وَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تَخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، فَمَنِ ارْتَدَّ وَحَارَبَ، فُعِلَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ، وَمَنْ حَارَبَ مِنْ غَيْرِ رِدَّةٍ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تُخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، مِنْهُمْ أَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُ."[5]

وقد ورد في عقوبة الردة أحاديث نبويّة، وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم. والقول المستقر عند فقهاء الإسلام أن عقوبة المرتد القتل، وقد ذكر كثير من الفقهاء أن الإجماع منعقد على ذلك،[6] ولكن بعض المعاصرين ينازع في وجود الإجماع على ذلك.[7] وسيأتي في المباحث التالية الحديث المفصل عن ذلك.

المطلب الثالث: المراد بالردة التي يُعَاقَبُ عليها في الفقه الإسلامي

قبل الحديث عن تفاصيل الآراء حول عقوبة الردة في الفقه الإسلامي ينبغي أن نحرّر محل النقاش نوع الردة التي يتحدث الفقهاء عن عقوبتها.

إن إتيان الشخص بمكفِّر من المكفرات التي تجعله مرتدا عن الإسلام قد يكون سرّا وقد يكون جهرا. والمراد بالردة التي نبحث في عقوبتها هو الردة التي أعلنها صاحبها وصرح بها، فهذه هي الردة التي يبحث الفقهاء في عقوبتها. أما ما يجول في خاطر بعض الناس من أفكار ومعتقدات قد تخرج صاحبها من الدين، أو ما انعقدت عليه قلوب بعض الناس من أفكار كفرية، ولكن لم يحصل منهم تصريح بذلك وإعلان له، فهذا لا يدخل في نطاق الردة التي نتحدث عنها في هذا الفصل، وأمر صاحبها موكول إلى الله تعالى، وليس من وظيفة الدولة أو الأفراد امتحان الناس في عقائدهم وأفكارهم، أو طلب الكشف عنها. ولا يتعرض الشخص للمساءلة عن معتقداته إلا إذا ظهر منه ما يوجب الردة؛ فعندئذ تكون المساءلة للتأكد من أنه قصد ذلك أو لم يقصده. فإن لم يكن قد قصده، فلا شيء عليه، أما إن كان قاصدا لما قال أو فعل، فعندئذ يكون السعي لكشف الشبهات عنه وإعانته على التخلص من تلك المعتقدات أو الأفعال المكفِّرة، قبل أن ينتقل الحديث إلى مسألة العقاب؛ لأن الحكم بالردة في الإسلام حكم قضائي، والقاعدة في القضاء الإسلامي أن الحكم يكون على الظاهر، فلا يمكن اتهام شخص بالردة إلا إذا ظهر منه ما يدل على ذلك. قال ابن حجر: "وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر."[8] وعند استتابة من ظهرت منه الردة -لاشك أن المأمول هو أن تكون توبته صادقة- ولكن ما تنطوي عليه السرائر لا يعلمه إلا الله تعالى، والمطلوب في التوبة هو أن يظهر رجوعه عما أظهره من مكفّرات، فإذا أعلن تخليه عن تلك المكفرات حكم له بالتوبة، وسقطت عنه عقوبة الردة، أما ما تنطوي عليه سريرته من كون تلك التوبة صادقة أو غير صادقة فهذا أمر خارج عن موضوع عقوبة الردة.

المبحث الثاني
توجُّهات الكتاب المعاصرين حول عقوبة الردة

لقد كثُر الحديث في هذا العصر حول عقوبة الردة في الإسلام، وكتبت في ذلك كتب ومقالات كثيرة جدا، ويمكن تصنيف تلك الكتابات إلى ثلاثة توجهات، سنتناولها في ثلاث مطالب حسب الآتي:

المطلب الأول: الاتجاه القائل بوجود عقوبة حدية للردة

الاتجاه الغالب عند العلماء المعاصرين هو السير على ما سار عليه فقهاء المسلمين في إثبات عقوبة للردة، وعدم اعتبار تلك العقوبة منافية لحرية الاعتقاد المكفولة في الإسلام. وأصحاب هذا الاتجاه يصنفون تلك العقوبة ضمن الحدود، كما هو السائد عند فقهاء المذاهب الإسلامية.

وخلاصة ما يستدل به القائلون بأن عقوبة الردة عقوبة حدية من السنة النبوية حديثان، هما حديث: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ."[9]، وحديث: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ."[10]

كما يستدلون بما ورد من آثار عن الصحابة بقتل المرتد، منهم: ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وعائشة، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، ومعاوية بن حيدة.[11]
ويرون أن الإجماع انعقد على ذلك، ومما ورد بشأن ذلك الإجماع ما جاء في كتاب التمهيد لابن عبد البر: "من ارتد عن دينه حل دمه، وضربت عنقه، والأمة مجتمعة على ذلك، وإنما اختلفوا في استتابته."[12] وقال أيضا: "فالقتل بالردة على ما ذكرناه لا خلاف بين المسلمين فيه، ولا اختلفت الرواية والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وإنما وقع الاختلاف في الاستتابة."[13]
وجاء في المغني لابن قدامة بعد ذكر الأدلة: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وابن عباس، وخالد، وغيرهم. ولم يُنكر ذلك فكان إجماعا."[14]
ولأن هذا الاتجاه هو الاتجاه السائد في الفقه الإسلامي، وأدلته معروفة ومستفيضة، كما أن هذه الأدلة قد تعرضت للمناقشة من قبل أصحاب الاتجاه الذي ينفي وجود عقوبة للردة، فلا حاجة لسرد تفاصيل هذه الأدلة في هذا الموضع، وسيأتي مزيد من الحديث عنها عند مناقشة أدلة أصحاب التوجّه النافي لوجود عقوبة للردة.

المطلب الثاني: الاتجاه القائل بوجود عقوبة للردة، ولكنها عقوبة تعزيرية قد تصل إلى القتل

يقرّ أصحاب هذا الاتجاه بثبوت عقوبة للردة في الشريعة، ولكنهم يرون أنها عقوبة تعزيرية قد تصل إلى القتل، ولا تكون بالضرورة القتل في جميع الأحوال. ومن القائلين بهذا الرأي الدكتور سليم العوا، والدكتور عبد الحكيم العيلي.[15] ونظرا لتشابه أدلة أصحاب هذا الرأي، فسأقتصر على عرض رأي الدكتور سليم العوا.

يقول سليم العوا: "ومن الجدير بالبيان –بادئ ذي بدء- أننا في دراستنا لجريمة الردة إنما نناقش فحسب وضع العقوبة بين عقوبات الحدود أو في نطاق غيرها من العقوبات. أما تجريم الردة، ووجوب فرض عقاب عليها، فهما أمران مُسلَّمان."[16]

ويبدأ سليم العوا حديثه عن الردة بالإشارة إلى أن الآيات الواردة في القرآن الكريم بشأن الردة لا تشير إلى عقوبة دنيوية محددة لهذه الجريمة.[17] ثم يذكر أن الفقهاء يوردون في إثبات عقوبة الردة ثلاثة أحاديث:

أحدها
: حديث النفر من عكل وعرينة.[18] ويرجح أن هذا الحديث ليس دليلا مباشرا لعقوبة المرتد، حيث يقول: "أما الرأي السائد بين جمهور العلماء –وهو الصحيح- هو أن النفر من عكل وعرينة لم يقتلوا لمجرد الردة، وإنما قتلوا لكونهم محاربين... وعلى ذلك فإن حديث العرنيين –أو المحاربين من عكل وعرينة- لا يصح أن يكون مستندا للقائلين بأن عقوبة الردة هي القتل حدا؛ لأن جريمة العرنيين لم تكن الردة فحسب، وإنما كانت جريمتهم هي الحرابة."[19] وهذا الذي ذكره الدكتور سليم العوا لا نقاش فيه؛ لأنه ظاهر.

الثاني
: حديث الأسباب الثلاثة المبيحة للدم الذي سيأتي تفصيل الكلام فيه.[20] وقد صرف الدكتور سليم العوا هذا الحديث عن الاستدلال به على الردة إلى الاستدلال به على الحرابة، مستندا في ذلك إلى ما ذكره ابن تيمية من أن هذا الحديث يحتمل أن يكون المراد به المسلم المحارب قاطع الطريق، وأن المراد فيه بترك الدين ترك أمر الدين لا تغيير الدين، ويحتمل أن يكون المراد به من ارتدّ وحارب ثم تاب بعد القدرة عليه فإنه يُقتل بكل حال، حتى مع رجوعه إلى الإسلام، مؤيدا هذين الاحتمالين بحديث عائشة رضي الله عنها الذي ورد فيه: "رجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض." ثم خلص إلى القول: "الحديث الذي نحن بصدده لا يقرر حكم الردة المجردة، وإنما يقرر حكم المحارب. والمحارب يُقتل سواء كان مسلما أو غير مسلم، فلا يسوغ الاستناد إلى قوله صلى الله عليه وسلم "المارق من الدين المفارق للجماعة" في إثبات عقوبة القتل حدا للمرتد."[21]

الثالث
: حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولم يطعن سليم العوا في صحة هذا الحديث، لكن حاول أن يثبت أن الأمر فيه ليس على الوجوب، بل على الإباحة. ويكون معنى الحديث عنده: "أن من بدل دينه فيجوز أن يعاقب بالقتل، لا أنه يجب حتما قتله." وقد استند في صرف دلالة الحديث إلى الإباحة على القرائن الآتية:
1- أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عاقب على الردة بالقتل.
2- حديث الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته. وقد عقّب على الواقعة بقوله: "وقد ذكر الحافظ ابن حجر والإمام النووي نقلا عن القاضي عياض وغيره من العلماء أن الأعرابي كان يطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إقالته من الإسلام، فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل ولا أمر بعقابه، بل تُرك يخرج من المدينة دون أن يعرض له أحد".[22]
3- حديث النصراني الذي أسلم وقرأ البقرة وآل عمران، ثم ارتد. ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ."[23]
وقد عقّب سليم العوا على هذا الحديث بقوله: "ففي هذا الحديث أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم على ردته."[24]
4- ما ورد في قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران: 72)
يقول سليم العوا معقّبا على هذه الآية: "وقد كانت هذه الردة الجماعية في المدينة، والدولة الإسلامية قائمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمها، ومع ذلك لم يعاقب هؤلاء المرتدين الذين يرمون –بنص القرآن الكريم- إلى فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عنه."[25] وقد أحال على تفسير ابن كثير وقال: "حيث ورد في تفسير هذه الآية مثل هذا المعنى".[26]
5- ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حبس النفر البكريين، وفي تفريق عمر بن عبد العزيز بين من عرف شرائع الإسلام ومن لم يعرفها. واستخلص من تلك الآثار أن هذا كان فهما منهم بأن العقوبة الواردة في الحديث النبوي الشريف إنما هي عقوبة تعزيرية، وليست عقوبة حدّ.[27]

وخلاصة رأيه أن عقوبة الردة متروكة للسلطة المختصة لتقرر فيها ما تراه مناسبا في العقوبات، ومنها الإعدام إذا رأت ذلك مناسبا.[28]

وسيأتي مناقشة هذه النصوص والوقائع التي أوردها بعد استكمال عرض توجهات المعاصرين حول عقوبة الردة.

المطلب الثالث: الاتجاه الذي ينفي وجود عقوبة للردة

يرى أصحاب هذا التيار أن عقوبة الردة تتناقض مع حرية الاعتقاد؛ لأن قتل المرتد، أو حتى مجرد استتابته، هو إكراه في الدين. ومن هؤلاء عبد المتعالي الصعيدي في كتابه "الحرية الدينية في الإسلام[29] وجمال البنا في كتابه "حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام[30] والدكتور طه جابر العلواني في كتابه "لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم"، وغيرهم. وتتشابه إلى حدّ بعيد استدلالات هؤلاء الكتاب، وسنلخصها في ما يأتي من خلال بعض كتبهم، خاصة كتاب الدكتور طه جابر العلواني.

1- أنه لم يرد في القرآن الكريم ذكر عقوبة دنيوية للمرتد. يقول العلواني: "فلا وجود لهذا الحد في القرآن المجيد وهو المصدر المنشئ الأوحد لأحكام الشريعة."[31] كما يرى هؤلاء أن القرآن الكريم قد تضمن عقوبات محددة لجرائم أقل شناعة من الردة، ومع ذلك لم يذكر عقوبة للردة،[32] ويستنتجون من هذا أن في ذلك دلالة على أن القرآن الكريم يقصد إلى عدم تشريع عقوبة دنيوية للردة.

2- أنه لا وجود لعقوبة المرتد في السنة الفعلية التطبيقية. يقول العلواني: "ولم نجد واقعة واحدة من وقائع عصر النبوة تشير إلى ما يمكن أن يقوم دليلا على قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق عقوبة دنيوية ضد من يغيرون دينهم، مع ثبوت ردة عناصر كثيرة عن الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم، ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم."[33]

3- أن الفقهاء في حديثهم عن قتل المرتد لم يكونوا يقصدون مجرد الردة، بل الردة المختلطة بالخروج السياسي والقانوني عن الأمة ونظمها. يقول العلواني: "وقد تبيّن أن الفقهاء كانوا يعالجون جريمة غير التي نعالجها؛ إذ كانوا يناقشون جريمة مركّبة اختلط فيها السياسي والقانوني والاجتماعي، بحيث كان تغيير المرتد دينه أو تدينه نتيجة طبيعية لتغيير موقفه من الأمة والجماعة والمجتمع والقيادة السياسية والنظم التي تتبناها الجماعة، وتغيير الانتماء والولاء تغييرا تاما."[34]

4- أن النصوص الواردة في عقوبة المرتد أحاديث آحاد، وحديث الآحاد لا يعمل به في الحدود. ويبدو أن هذا الاستدلال يعود إلى الشيخ محمود شلتوت حين قال في معرض حديثه عن عقوبة الردة: "وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة إذا لوحظ أن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد."[35]

5- أن حالة المرتد في اختيار الدين تشبه حالة الكافر الأصلي، فيجب أن يكون المسلم مختارا في إسلامه دائما ليستمر إسلامه صحيحا، وحينئذ لا يكون لأحد إكراهه عليه إذا أراد تركه بمقتضى استمرار اختياره فيه؛ لأن حقه في الاختيار باق بعد إسلامه لم ينقطع، ولا يحق لأحد أن يسلب منه هذا الحق. وآية عدم الإكراه في الدين ورد فيها نفي الإكراه مطلقا، ويشمل هذا النفي منع إكراه من لم يدخل في الإسلام ابتداء، كما يشمل منع إكراه المرتد.[36]

6- أن الكفر بنفسه ليس مبيحا للدم، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم.[37]

7- حمل الأحاديث الواردة في قتل المرتد على أنها في المرتد المحارب، وليست في المرتد الذي ارتد ردة مجردة دون محاربة.[38]

المبحث الثالث
عرض ومناقشة للأدلة المتعلقة بإثبات أو نفي عقوبة الردة

المطلب الأول: عدم وجود عقوبة في القرآن الكريم
صحيح أن القرآن الكريم لم ينص على عقوبة دنيوية للردة، ولكن السؤال: هل عدم ورود العقوبة في القرآن الكريم نفي لإمكان العقوبة، أي هل عدم نص القرآن الكريم على عقوبة دنيوية للمرتد دليل على عدم مشروعية معاقبته؟ وهل منهج القرآن الكريم في التشريع هو النص على عقوبات لجميع الجرائم؟

الواقع أن عدم ذكر عقوبة الردة في القرآن الكريم لا ينهض دليلا على عدم مشروعيتها. فالقرآن الكريم حرّم أشياء كثيرة، ولكنه نص على العقوبة الدنيوية لبعض تلك المحرمات فقط.

ويكفي هنا أن نورد عقوبة شرب الخمر، فقد حرم القرآن الكريم الخمر، ولم ينص على عقوبة دنيوية لها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب شارب الخمر بعقوبة قدّرها الصحابة رضي الله عنهم بنحو أربعين ضربة. ثم زاد الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب على تلك العقوبة، وجعلوا عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة.[39]

هذه الواقعة المتفق عليها تدل على أن عدم نص القرآن الكريم على عقوبة دنيوية لجريمة من الجرائم لا يعني عدم مشروعية فرض عقوبة على تلك الجريمة. والقول بأن عقوبة الردة تتعلق بحق خالص لله تعالى، ولا تعلق لها بحقوق العباد، فلا ينبغي أن يعاقب عليها سوى الله تعالى، كلام لا يُسلَّم لأصحابه لأمرين: أحدهما: أن القائلين بمعاقبة المرتد لا يقولون بمعاقبة المرتد لكفره، ولكن لما يحدثه المرتد من فتنة في الدين، سواء أسعى إلى نشر الكفر بين الناس أم لم يسع إلى ذلك. والثاني: أن العقوبات ليست مقصورة على ما يتعلق بحقوق العباد فترك الصلاة أمر لا علاقة له بحقوق العباد.

المطلب الثاني: عدم تطبيق العقوبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه نفّذ عقوبة للردة، ولكن هذا لا ينهض دليلا على نفي العقوبة؛ لأن عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لا ينفي الحكم، فهو لم يفعل ذلك لعدم توفر أسباب العقوبة، ولكنه نص على عقوبة المرتد، وليس كل ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعله هو نفسه.

وقد ذكر النافون لعقوبة المرتد وقائع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يرون أن أسباب العقوبة على الردة قد توفرت فيها، ومع ذلك لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابها، ولم يأمر بمعاقبتهم. واستنتجوا من تلك الوقائع نفي معاقبة المرتد في الحياة الدنيا. وفيما يأتي عرض ومناقشة لتلك الوقائع.

أولا: عدم قتل المنافقين

الذي يستفاد من نصوص القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه لم يكن يعرف جميع المنافقين، يدل على ذلك قوله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم)ٍ (التوبة: 101). ولكن بعض المنافقين كانت تظهر من أقوالهم وتصرفاتهم علامات النفاق، يدل على ذلك قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (*) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 29-30)

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب المنافقين لأنهم أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر، وأمور الإسلام والكفر تبنى على الظاهر، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على ظاهر إعلانهم الإسلام. ولم يطبق عليهم عقوبة الردة لأنها حكم قضائي، والقضاء يبنى على الظواهر. وقد كان المنافقون كلما بدا منهم ما يفضح كفرهم بادروا إلى الاعتذار والتظاهر بالإسلام. وحتى عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين لما وقع منه ما وقع حين قال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل"، أنكر مقالته بعد أن بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في مغازي الواقدي: "...ثُمّ إنّ ابْنَ أُبَيّ أَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا ابْنَ أُبَيّ، إنْ كَانَتْ سَلَفَتْ مِنْك مَقَالَةٌ فَتُبْ. فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاَللهِ: مَا قُلْت مَا قَالَ زَيْدٌ، وَلَا تَكَلّمْت بِهِ!"[40]

يقول سليم العوا: "لأنهم لا يظهرون الكفر، وإنما هم يخفونه ويظهرون الإسلام. والأحكام القضائية في النظام الإسلامي إنما تبنى على الظاهر من الأعمال أو الأقوال، لا على الباطن الذي انطوت عليه القلوب أو أسرّته الضمائر."[41]
وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه يحكم بالظاهر، ولم يؤمر بالتنقيب على ما في القلوب. ومن ذلك ما في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي اعترض على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ: «وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: «لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ، فَقَالَ: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ."[42]

ثانيا: قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته

والحديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ بلفظ (فخرج/ فخرج الأعرابي)، وأخرجه الحميدي في مسنده فقال: حدثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ الْمَدِينَةَ، فَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ حُمَّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، قَالَ: «لَا» ، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ بِهِ الْحُمَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، قَالَ: «لَا» ، ثُمَّ اشْتَدَّتْ بِهِ الْحُمَّى، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، قَالَ: «لَا» ، ثُمَّ اشْتَدَّتْ بِهِ الْحُمَّى، فَخَرَجَ هَارِبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَتُنْصِعُ طِيبَهَا.»[43]

وينبغي الإشارة أولا إلى أن طلب هذا الأعرابي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته يحتمل أمرين: أحدهما: أقالته من بيعة الهجرة التي توجب عليه البقاء في المدينة وتمنعه من العودة إلى البادية، فعلى هذا الاحتمال، لم يكن الرجل يريد الارتداد، وإنما كان يريد العودة إلى البادية. الثاني: أن المراد بها إقالته من بيعة الإسلام. وقد أورد الباجي في شرحه على موطأ الإمام مالك أقوال العلماء في مراد الإعرابي بإقالته من البيعة، حيث ذكر أن بعض العلماء، ومنهم القاضي عياض، ذهب إلى أن المراد إقالته بيعةَ الإسلام. وأن آخرين ذهبوا إلى أن المعنى إقالته من الهجرة، وليس الارتداد عن الإسلام، بدليل أنه لم يُرد حلّ ما عقده إلا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وحمله بعضُهم على الإقالة من المقام بالمدينة. ثم أورد ترجيح أنه أراد إقالته عن الهجرة، بدليل أنه إنما طلب ذلك بعد مرضه، فأراد الخروج من المدينة بسبب الحمى التي أصابته.[44] وقد رجح أبو جعفر الطحاوي أن المراد هنا ليس طلب الردة عن الإسلام، وإنما طلب التحلل من بيعة الهجرة، حيث ذكر أن البيعة على نوعين: بيعة الأعرابي، وبيعة المهاجر التي توجب لصاحبها الإقامة في دار الهجرة (المدينة) ويحرم على صاحبها نقضها.[45]

وإذا أخذنا بقول من قال إنه ليس المراد إقالته من بيعة الإسلام، وهو إنما إقالته من بيعة الهجرة إلى المدينة، فلا وجه عندئذ للاستدلال بهذه القصة على عدم قتل المرتد.

وحتى إذا أخذنا الحادثة على أن المراد بها طلب الردة والإقالة من بيعة الإسلام، فإنها تدل على عكس ما يستدل به هؤلاء؛ لأن الرجل لم يعلن ردته أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلن نقضه البيعة، بل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته ثلاث مرات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة يرفض إقالته البيعة. فإذا أخذنا إقالة البيعة هنا بمعنى الارتداد، فإن الرجل طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات أن يأذن له بالردة، فلم يأذن له فيها جميعا، وبعد ذلك خرج الرجل هاربا من المدينة. ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهروبه وصفه بأنه خَبَثٌ نفته المدينة.[46]

وإنما كان يصحّ الاستدلال بهذه الحادثة لو أن الأعرابي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن الردة ونقض البيعة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه. أو لو أنه لما استقال البيعة أقاله النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له في الردة، ثم تركه يخرج دون أن يعاقبه. أمَّا وقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله البيعة، بمعنى أنه رفض أن يأذن له في الارتداد، كما أن الأعرابي لم يعلن ردته ونقض بيعته، بل خرج هاربا من المدينة، فليس في الحديث ما يدل على عدم قتل المرتد. فالرجل قد خرج فارا من دار الإسلام، وتخلصت دار الإسلام من خبثه، فلا حاجة لطلبه بعد ذلك.

ثالثا: قصة النصراني الذي أسلم وقرأ البقرة وآل عمران ثم ارتد

جاء في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ."[47]

وقد ذكرنا من قبل تعقيب سليم العوا من هذ الحادثة بقوله: "ففي هذا الحديث أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم على ردته."[48] ولكننا عند النظر في الرواية الكاملة نجد أن الرجل قد هرب، وما دام قد هرب فكيف يقول قائل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه على ردته. وإنما كان يستقيم الاستدلال بهذه الواقعة لو ثبت أن الرجل ارتد وأقام في المدينة بين أظهر المسلمين، ومع ذلك لم يعاقبه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وبهذا يتبين أن الاستدلال بهذه الواقعة، وواقعة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله بيعته على عدم معاقبة النبي صلى الله عليه وسلم للمرتدين لا يستقيم، وإنما يمكن الاستدلال بهما على أن المرتد إذا خرج من البلاد التي يحكمها الإسلام فلا ينبغي طلبه. أما الاستدلال بهما على عدم معاقبة المرتد مع إعلانه ردته وإقامته في البلاد التي يحكمها الإسلام، فهو استدلال في غير محله.

رابعا: الردة الجماعية لليهود

يرى القائلون بهذا أنها مذكورة في قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران: 72)
يقول سليم العوا معقّبا على هذه الآية: "وقد كانت هذه الردة الجماعية في المدينة، والدولة الإسلامية قائمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمها، ومع ذلك لم يعاقب هؤلاء المرتدين الذين يرمون –بنص القرآن الكريم- إلى فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عنه."[49]

والواقع أنه لا يوجد ما يثبت وقوع ردة جماعية من اليهود في المدينة، بل الظاهر ما ذكره الطبري من أن اليهود تآمروا بينهم على فعل ذلك، ولكن الله تعالى المطَّلع على أسرارهم فضحهم في ما كانوا يبيِّتون فعله.
جاء في تفسير الطبري في سبب نزول الآية: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72] " كَانَ أَحْبَارٌ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَي عَشَرَ حَبْرًا، فَقَالُوا لِبَعْضِهِمُ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَقُولُوا نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ، فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ، يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ، فَمَا بَالُهُمْ؟ فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ".[50]

وجاء في تفسير الطبري أيضا: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: "قَالَتِ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسْلِمُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَارْتَدُّوا آخِرَهُ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَاطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى سِرِّهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72]. "وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِي أَمَرَتْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ الصَّلَاةُ، وَحُضُورُهَا مَعَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ آخِرَهُ."[51]

وهذا الكلام يشير إلى أن الذي وقع هو تآمر بالتظاهر بالإسلام ثم الارتداد عنه، فكشف الله تعالى ما تآمروا عليه، فافتضح تآمرهم، وبطلت حيلتهم قبل وقوعها. فالحديث عن وقوع "ردة جماعية" كما يقول أصحاب هذا الرأي لا يوجد ما يؤكده، ولا نجد في أحداث السيرة النبوية حديثا عن وقوع شيء من تلك الردة.

المطلب الثالث: الأحاديث الواردة في قتل المرتد

الأحاديث المتعلقة بعقوبة الردة نوعان: أحدهما: الروايات التي تنص على أن "من بدل دينه فاقتلوه"، والثاني: الأحاديث الواردة في أسباب إباحة دم المسلم. وفيما يأتي عرض مفصل للروايات الواردة في هذا الموضوع.

أولا: حديث الأمر بقتل من بدل دينه

جاء في صحيح البخاري: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ.»[52]

وقد شكك المنكرون لعقوبة المرتد في صحة هذا الحديث على أساس أنه مرويٌّ من طريق عكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة مطعون في عدالته.

وعند النظر في ترجمة عكرمة نجد أن علماء الجرج والتعديل قد اختلفوا في توثيقه. وقد ذكر ابن حجر أنه احتج به البخاري وأصحاب السنن، وتركه مسلم، ولم يخرج له سوى حديثا واحدا في الحج مقرونا بسعيد بن جبير.[53]
وممن نُسِب إليه الطعن في عكرمة: عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن عبد الله بن عباس، وابن سيرين، وعطاء، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وابن سعد.[54]
وممن نُسب إليه توثيق عكرمة: جابر بن زيد، والشعبي، وسعيد بن جبير، وقتادة، وأيوب، وسفيان الثوري، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والبخاري حيث قال: "ليس أحد من أصحابنا إلا احتج بعكرمة."[55]

وقد ذكر ابن حجر أن ممن صنّف في الدفاع عن عكرمة وبيان عدالته: أبو جعفر بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو حاتم الرازي، وابن حبان، وأبو عمر بن عبد البرّ، وغيرهم.[56] وهم كلهم من كبار علماء الحديث.

وقد لخص ابن حجر في إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري) أقوال أهل الجرح في التعديل في عكرمة، فذكر أن الذين طعنوا في عدالته احتجوا لذلك بثلاثة أمور: أولها: اتهامه بالكذب، والثاني: أنه كان يرى رأي الخوارج، والثالث: أنه كان يقبل جوائز الأمراء. وقال في التعقيب على ذلك: "فأما البدعة ]أي القول برأي الخوارج[ فإن ثبتت عليه فلا تضرّ حديثه؛ لأنه لم يكن داعية، مع أنها لم تثبت عليه. وأما قبول الجوائز فلا يقدح أيضا إلا عند أهل التشديد، وجمهور أهل العلم على الجواز كما صنّف في ذلك ابن عبد البرّ، وأما التكذيب فسنبيّن وجوه ردّه بعد حكاية أقوالهم."[57] ثم أخذ ابن حجر في إيراد الأقوال التي طعنت في عدالته، والأقوال التي ردّت تلك المطاعن. ومما ذكره ابن حجر في بيانه لما ورد في شأنه من اتهام بالكذب أن من العبارات الواردة في تكذيبه ما يُراد به الخطأ في الرواية، وليس تعمد الكذب؛ فقد كان المتقدمون يطلقون عبارة "كذب فلان" على الخطأ؛ لأن الكذب والخطأ يشتركان في مخالفة الواقع.[58]

الخلاصة أن عكرمة اختلف علماء الجرح والتعديل في توثيقه، والخلاف في توثيق الرواة لم يقع في عكرمة فقط، بل هناك رواةٌ كُثُر اختُلف في تعديلهم أو تجريحهم، ومن الطبيعي أن من ترجَّح لديه تعديل راوٍ من الرواة يصحح الرواية عنه، ومن ترجَّح لديه الطعن في عدالته لم يقبل حديثه. البخاري وغيره من أصحاب السنن ترجّح لديهم توثيقه فأخرجوا له أحاديث، في حين أعرض الذين مالوا إلى عدم توثيقه عن رواية أحاديثه.
وحتى إذا قلنا بعدم توثيق عكرمة واستبعدنا روايته، فإن حديث قتل من بدل دينه ورد بروايات أخرى صحيحة غير رواية عكرمة، وهي الآتي:

1- جاء في صحيح البخاري: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، ... أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، إِلَى اليَمَنِ " ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، قَالَ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ."[59]

2- جاء في صحيح مسلم: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَاتِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلَانِ... اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ، قَالَ: انْزِلْ، وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ: مُوثَقٌ:، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ."[60]

3- جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَلِيًّا، أُتِيَ بِأُنَاسٍ مِنَ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا، فَأَحْرَقَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ."[61]

4- جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، بِالْيَمَنِ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، وَنَحْنُ نُرِيدُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْذُ، قَالَ: أَحْسَبُهُ، شَهْرَيْنِ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ: قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ: "أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دَيْنِهِ فَاقْتُلُوهُ" أَوْ قَالَ: "مَنْ بَدَّلَ دَيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ."[62]

ثانيا: حديث الأسباب الثلاثة المبيحة لدم المسلم

ذهب القائلون بإنكار وجود عقوبة للردة إلى أن ما ورد من روايات بشأن كون الردة واحدا من الأسباب المبيحة لدم المسلم إنما يراد بها الردة المصحوبة بالخروج على الجماعة. وحملوا الروايات التي لم يذكر فيها مفارقة الجماعة على رواية ابن مسعود التي ذكر فيها مفارقة الجماعة، وحملوا المفارقة على الخروج المسلح على جماعة المسلمين. وذهب سليم العوا –وهو من القائلين بأن العقوبة تعزيرية- إلى أن تلك الروايات محمولة على حديث عائشة رضي الله عنها الذي ورد فيه تفسير الخروج بالحرابة. ونقل كلاما عن ابن تيمية يذكر فيه أن المقصود بمفارق الجماعة يحتمل أن يكون المحارب قاطع الطريق لا المرتد، وهو بذلك يفسر رواية ابن مسعود بحديث عائشة رضي الله عنها الذي ورد فيه: "رجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض." ثم عقب على ذلك بقوله: "فإذا صح هذا التفسير –وهو عندي صحيح- فإن الأسباب المبيحة لدم المسلم والمذكورة في حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم هي نفسها التي وردت في حديث عائشة عند أبي داود، ويكون النص في هذا الحديث على المروق من الدين ومفارقة الجماعة مقصودا به من فعل ذلك بمحاربة الله ورسوله، وليس بمجرد الردة. وعلى ذلك فإن المرتد الذي لم تقترن ردته بمحاربة جماعة المسلمين التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم "بمحاربة الله ورسوله" لا يستدل عليه بهذا الحديث." ثم قال في تقرير هذه النتيجة: "الحديث الذي نحن بصدده لا يقرر حكم الردة المجردة، وإنما يقرر حكم المحارب. والمحارب يقتل سواء كان مسلما أو غير مسلم، فلا يسوغ الاستناد إلى قوله صلى الله عليه وسلم "المارق من الدين المفارق للجماعة" في إثبات عقوبة القتل حدا للمرتد."[63]

وإذا نظرنا بالتفصيل في هذا الحديث نجد أنه قد ورد بثلاث صيغ: الصيغة الأولى: ورد فيها ذكر مفارقة الجماعة، والصيغة الثانية: وردت مجردة من ذكر مفارقة الجماعة، والصيغة الثالثة: وردت بذكر الحرابة التي ورد ذكر عقوبتها في القرآن الكريم.

1- الصيغة التي ورد فيها ذكر مفارقة الجماعة

الروايات التي ورد فيها ذكر "مفارقة الجماعة" كلها مروية عن ابن مسعود رضي الله عنه من طريق الأعمش عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.[64]
ونص رواية ابن مسعود عند البخاري: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ."[65]
أما نصها عند مسلم فكالآتي: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ."[66]
فالرواية التي ورد فيها ذكر "مفارقة الجماعة" رواية واحدة عن ابن مسعود رضي الله، ولم ترو عن أي صحابي آخر.

2- الصيغة التي لم يرد فيها ذكر مفارقة الجماعة

أما الروايات التي لم يذكر فيها ذكر "مفارقة الجماعة"، وإنما ورد فيها قتل من كفر بعد إسلامه، فهي مروية عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم: عثمان بن عفان، وأبو هريرة، وعائشة أم المؤمنين.

- حديث عثمان رضي الله عنه:
وهو مروي من عدة طرق،[67] منها طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَعَفَّانُ، الْمَعْنَى، قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ، فَدَخَلَ مَدْخَلًا كَانَ إِذَا دَخَلَهُ يَسْمَعُ كَلامَهُ مَنْ عَلَى الْبَلَاطِ، قَالَ: فَدَخَلَ ذَلِكَ الْمَدْخَلَ وَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَتَوَعَّدُونَنِي بِالْقَتْلِ آنِفًا. قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا "، فَوَاللهِ مَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللهُ، وَلا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ قَطُّ، وَلا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟[68]

- حديث أبي هريرة: أخرجه البزار من طريق إسماعيل بن مسلم، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة. ونصه: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن بشار وزياد بن يحيى قَالاَ: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن أبي عدي، حَدَّثَنا إسماعيل بن مسلم، عن عمارة بن القعقاع، عن أَبِي زُرْعَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفسا متعمدا فيقتل به."[69]

- حديث عائشة رضي الله عنها في قصتها مع الأشتر:
وهو مروي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عمر بن غالب عن عائشة. وقد روي بألفاظ متقاربة، هي: (كفر بعدما أسلم) (رجل ارتد أو ترك الإسلام)، (رجل ارتد بعد إسلامه)، (التارك للإسلام). ونكتفي هنا بإيراد روايتين صحيحتين لهذا الحديث:

الرواية الأولى: ما جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ابن مهدي)، عَنْ سُفْيَانَ (الثوري)، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (السبيعي)، عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ لِلْأَشْتَرِ: أَنْتَ الَّذِي أَرَدْتَ قَتْلَ ابْن أُخْتِي؟ قَالَ: قَدْ حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِهِ، وَحَرَصَ عَلَى قَتْلِي. قَالَتْ: أَوَ مَا عَلِمْتَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ رَجُلٍ، إِلَّا رَجُلٌ ارْتَدَّ، أَوْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، أَوْ زَنَى بَعْدَمَا أُحْصِنَ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ.»[70]

الرواية الثانية: ما جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى عَائِشَةَ أَنَا وَعَمَّارٌ وَالْأَشْتَرُ، فَقَالَ عَمَّارٌ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمَّتَاهُ، فَقَالَتْ: السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، حَتَّى أَعَادَهَا عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللهِ إِنَّكِ لَأُمِّي وَإِنْ كَرِهْتِ، قَالَتْ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: هَذَا الْأَشْتَرُ، قَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي أَرَدْتَ أَنْ تَقْتُلَ ابْنَ أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ أَرَدْتُ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ، قَالَتْ: أَمَا لَوْ فَعَلْتَ مَا أَفْلَحْتَ، أَمَّا أَنْتَ يَا عَمَّارُ، فَقَدْ سَمِعْتَ أَوْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مَنْ زَنَى بَعْدَمَا أُحْصِنَ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا فَقُتِلَ بِهَا."[71]

3- الصيغة التي ورد فيها ذكر الحرابة الواردة في القرآن الكريم
ورد عن عائشة رواية تذكر فيها من ارتد وخرج يحارب الله ورسوله، ولكن العقوبة هنا لم تحصر في القتل، بل جعلت عقوبة الحرابة الواردة في القرآن الكريم.
وقد روي هذا الحديث من طريق إِبْرَاهِيم بْن طَهْمَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بلفظين:

أحدهما: "وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ
" دون ذكر الخروج من الإسلام (الارتداد)، وهو في سنن أبي داود باللفظ الآتي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا، فَيُقْتَلُ بِهَا "[72]

والثاني: "رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ يُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ"
بذكر الخروج من الإسلام. ونصه في سنن النسائي كالآتي: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ يُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ."[73]

حمل الروايات بعضها على بعض

بعد عرض الروايات الواردة في الأسباب المبيحة لدم المسلم، رأينا أن بعضها ورد دون ذكر "مفارقة الجماعة"، في حين أن رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وردت بتلك الزيادة، ولذلك فإنه لا بد من النظر أيهما أولى بالحمل على الآخر: حمل الروايات التي لم يرد فيها ذكر "مفارقة الجماعة" على رواية ابن مسعود رضي الله، أم العكس؟

وقبل الحديث عن ذلك نتحدث عن المراد بـ"مفارقة الجماعة". فعبارة "المفارق للجماعة/ التارك للجماعة" يحتمل أن يكون المراد بها المفارقة الحسية المصحوبة بالخروج على المسلمين بقتالهم، سواء مباشرة أو بمساعدة أعدائهم من الكفار. وعلى هذا الاحتمال يكون معنى "المفارق للجماعة" الخارج على جماعة المسلمين بقتالها أو مساعدة الكفار على قتالها. ويحتمل أن يكون معناها المفارقة المعنوية، بمعنى الخروج عن جماعة المسلمين بالخروج من الدين الإسلامي، فالخارج من الإسلام يكون قد فارق جماعة المسلمين وانتمى إلى جماعة الكفار، حتى لو كان باقيا في ديار المسلمين مسالما لهم ومتعايشا معهم. وبهذا تكون عبارة "المفارق للجماعة" تفسيرا لعبارة "التارك لدينه".

وهذا المعنى الأخير هو الذي فهمه العلماء المتقدمون؛ يقول ابن دقيق العيد: "وَكَذَلِكَ "الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ "التَّارِكُ لِدِينِهِ"، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ: جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا فِرَاقُهُمْ بِالرِّدَّةِ عَنْ الدِّينِ."[74]
ولذلك قالوا باستحقاق المرتد العقوبة بمجرد ثبوت الردة عليه، ولم يشترطوا في إباحة دمه الخروج على المسلمين بالسلاح. ولذلك لم يحتاجوا إلى القول بحمل الروايات الواردة بدون ذكر مفارقة الجماعة على رواية ابن مسعود رضي الله عنه التي ذكر فيها مفارقة الجماعة.

وقد ذهب بعض الكتاب المعاصرين المنكرين لعقوبة الردة إلى القول بأن المراد بمفارقة الجماعة المفارقة الحسية المصحوبة بقتال المسلمين أو إعانة عدوهم عليهم، وحملوا الروايات الواردة بدون ذكر الخروج على الجماعة على رواية ابن مسعود رضي الله عنه.

والظاهر أن المراد بـ"مفارقة الجماعة" المفارقة المعنوية، بمعنى أن الردة تخرج صاحبها من جماعة المسلمين إلى جماعة الكفار، وليس المراد بها الخروج على جماعة المسلمين بقتالهم أو مساعدة من يقاتلهم من الكفار. ويؤيد هذا الترجيح ما يأتي:
1- أن رواية ابن مسعود رضي الله عنه التي ذكر فيها مفارقة الجماعة لم يرد في أي صيغة من صيغها بما يصرح بلفظ "الخروج على الجماعة" (بحرف "على")، وهي الصيغة التي تدل بشكل صريح على قتال المسلمين أو الإعانة على قتالهم. وقد تتبعت جميع ألفاظ الرواية فوجدتها وردت بالعبارات الآتية: عبارة "التارك لدينه المفارق للجماعة"، وعبارة "التارك لدينه المفارق الجماعة"، وعبارة "التارك الإسلام والمفارق الجماعة"، وعبارة "المارق من الدين التارك للجماعة". وهي جميعها عبارات أقرب إلى الدلالة على المفارقة المعنوية منها إلى الدلالة على المفارقة الحسية.

2- الروايات الأخرى التي وردت بذكر الارتداد عن الإسلام دون ذكرٍ لمفارقة الجماعة، وهي أكثر عددا، وأصرح دلالة. وأقوى تلك الروايات رواية عثمان رضي الله عنه، حيث ورد فيها "رجل كفر بعد إسلامه"، ثم قال: "ولا أحببت بديني بدلا منذ هداني الله عز وجل"، وهو صريح في أن المراد مجرد الردة ولا علاقة لذلك بالخروج على جماعة المسلمين وقتالهم.

3- أن الخروج على جماعة المسلمين جريمة تستقل بجواز قتال صاحبها دون انضمام الردة إليها؛ فمن قاتل جماعة المسلمين حلّ قتاله سواء أكان كافرا أصليا، أم مرتدا، أم مسلما مقيما على الإسلام. وإذا كان الخروج المسلح على جماعة المسلمين يُحِلّ دم صاحبه بمفرده، فذكر الردة معه زيادة لا فائدة منها، بل يمكن الاستغناء عنها.

4- الظاهر أن المراد بإحلال الدم في هذا الحديث، إباحة قتل الشخص ابتداء، أي قضاءً؛ ولذلك ربط بترك الدين، وورد مقرونا بجريمتي الزنا بعد الإحصان، والقتل العمد. وهذا ينطبق على جريمة الردة بغض النظر عن اقترانها بالخروج على جماعة المسلمين. أما قتل الشخص في حال كونه مقاتلا للمسلمين فهو لا يحتاج إلى حكم قضائي قائم على إثبات الجريمة، بل هو قتل لعارضِ الاعتداء على المسلمين، وهو غير خاص بالمرتد، بل يعم الكافر الأصلي والمسلم الباغي.
أما حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكر فيه عقوبة الحرابة الواردة في القرآن الكريم، فقد اختلفت آراء العلماء فيه. فذهب ابن تيمية إلى أنه يحتمل أن يكون المراد به المسلم المحارب قاطع الطريق، وليس المراد به المرتد، وبناء على ذلك حمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الأسباب الثلاثة المبيحة للدم على أنه في المسلم المحارب، وليس في المرتد، وهو بذلك يكون قد حمل حديث ابن مسعود على حديث عائشة الذي ذُكر فيه عقوبة الحرابة. وفسّر المروق من الدين وتركه بمعنى الخروج على أحكام الدين وتركها دون تغيير الدين بالردة، وهو بذلك يفرّق بين ترك الدين وبين تغيير الدين. ويؤيد ما ذهب إليه بكون الحديث يتحدث عن إباحة دم المسلم والمرتد ليس مسلما، وبأن المرتد يُقتل حتى لو لم يخرج على جماعة المسلمين، فيكون ذكر مفارقة الجماعة مشيرا إلى الحرابة. كما يرى أن ابن تيمية أن حديث ابن مسعود يحتمل أن يراد به المرتد الذي حارب ثم تاب بعد القدرة عليه، فإن رجوعه إلى الإسلام لا يعفيه من القتل بسبب ما ارتكبه من جرائم القتل وأخذ المال في الحرابة.

يقول ابن تيمية في معرض رده على القائلين بعدم قبول توبة المرتد: "على أن قوله: التارك لدينه المفارق للجماعة قد يُفسَّر بالمحارب قاطع الطريق، كذلك رواه أبو داود في سننه مفسَّرا عن عائشة رضي الله عنها... ولهذا وصَفَه بفراق الجماعة، وإنما يكون هذا بالمحاربة. يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول، والمرتد لم يدخل في هذا العموم، فلا حاجة إلى استثنائه. وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجَب الدين، ويُفرَّق بين ترك الدين وتبديله، أو يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين ومقيس بن حبابة، ممن ارتد وقتل وأخذ المال، فإن هذا يُقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه. ولهذا والله أعلم استثني هؤلاء الثلاثة الذين يُقتلون بكل حال وإن أظهروا التوبة بعد القدرة. ولو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله: المفارق للجماعة، فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس. وفهذا وجه يحتمله الحديث، وهو –والله أعلم- مقصود هذا الحديث."[75]

ومن العلماء من أخذ حديث عائشة على أنه في المرتد المحارب، وذهب بناء على ذلك إلى أن آية الحرابة ليست في الحرابة التي تقع من المسلم، وإنما هي في المرتدين المحاربين مثل ما حدث في قصة النفر من عكل وعرينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب ابن رجب الحنبلي إلى أن ما ذُكر في حديث عائشة من الخروج من الإسلام يحتمل أن يكون المراد به الخروج عن أحكام الإسلام لا الردة، ولكنه لم يحمل حديث ابن مسعود على حديث عائشة، بل رجح العمل بحديث ابن مسعود لكونه أقوى في الثبوت من حديث عائشة. يقول ابن رجب الحنبلي: "وَالرِّوَايَةُ الْأَوْلَى قَدْ تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ خُرُوجُهُ عَنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تَخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، فَمَنِ ارْتَدَّ وَحَارَبَ، فُعِلَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ، وَمَنْ حَارَبَ مِنْ غَيْرِ رِدَّةٍ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تُخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، مِنْهُمْ أَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَلْفَاظُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ عَنْهَا مَوْقُوفًا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظُهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ."[76]

المطلب الرابع: آثار الصحابة رضي الله عنهم والتابعين

أولا: رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قتل المرتد

احتج المنكرون لعقوبة الردة والقائلون بأنها عقوبة تعزيرية بآثار رويت عن عمر بن الخطاب رضي الله، ولكنهم عادة لا يوردون جميع الآثار المروية عنه، بل يركزون على ما يوافق رأيهم. وحتى يتضح لنا جليا رأي عمر بن الخطاب في عقوبة الردة لا بد من النظر في جميع ما روي عنه. وعند النظر فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله بشأن عقوبة الردة نجدها على ثلاثة أنواع:

أولها
: الرواية الصحيحة عنه بأنه يقول بقتل المرتد. فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه: أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلى الله، فإن قبلوها فخلّ عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله."[77] هذه رواية صحيحة صريحة في القول بقتل المرتد، وليس في هذه الرواية ما يدل على أن هؤلاء الناس قد قاتلوا المسلمين أو أعانوا على قتالهم، بل فيها ذكر مجرد الردة.

الثاني
: أخرج مالك في «الموطأ» في كتاب الأقضية من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس، فأخبره، ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مُغَرِّبةٍ خَبَر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قرّبناه، فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يومٍ رغيفاً، واستتبتموه، لعلَّه يتوب، ويراجع أمر الله؟! ثم قال عمر: اللهم إني لم أَحْضُر، ولم آمر، ولم أَرْضَ إذْ بلغني."[78]

وهذه الرواية التي تمسك بها المنكرون لعقوبة الردة لم يثبت صحتها؛ لأنها لم يتوفر فيها شرط الاتصال الذي هو أحد شروط صحة الرواية. وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي ذلك فقال: "وضعّف رحمه الله تعالى ما روي عن عمر رضي الله عنه فقال: الذي روي عن عمر: "لو حبستموه ثلاث" ليس بثابت؛ لأنه لا نعلمه متصلا."[79]

وحتى لو قلنا بصحة هذا الأثر وأخذنا به، فإنه في الاستتابة وليس في القول بعدم قتل المرتد؛ لأنه وقَّت الحبس بثلاثة أيام. ومقتضى ذلك أنه يقتل بعد ذلك إن لم يتب، ولذلك استدل الفقهاء بهذا الأثر على وجوب الاستتابة أو استحبابها، ولم يستدلوا به على أن حكم المرتد الحبس بدلا من القتل.

الثالث
: ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثَّوْرِيِّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو مُوسَى بِفَتْحِ تُسْتَرَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَسَأَلَنِي عُمَرُ - وَكَانَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَام، وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ- فَقَالَ: «مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟» قَالَ: فَأَخَذْتُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأُشْغِلَهُ عَنْهُم، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ النَّفَرُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟» قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، مَا سَبِيلُهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: «لَأَنْ أَكُونَ أَخَذْتُهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كُنْتَ صَانِعًا بِهِمْ لَوْ أَخَذْتَهُمْ؟ قَالَ: «كُنْتُ عَارِضًا عَلَيْهِمُ الْبَابَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَبِلْتُ مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ».[80]
وهذا الأثر صحيح، ولكن يلاحظ عليه ما يأتي:
أولا: أنه ليس فيه نصّ على عدم القتل، وإنما فيه نص على الحبس دون تحديد أمد معين لذلك.
ثانيا: أن هؤلاء المرتدين قد لحقوا بالكفار وقتلوا في المعركة، فجريمتهم لم تكن مجرد الردة، بل كانت الردة مصحوبة بالقتال ضد المسلمين، فهم كانوا يستحقون القتل حتى على رأي من يقول إن المرتد لا يقتل إلاّ إذا حارب. ومع ذلك قال عمر ما قال في شأن حبسهم واستتابتهم لو أخذهم سِلْما. وهو أمر يوحي بوجود خصوصية في قصة هؤلاء النفر جعلت عمر يقف منهم هذا الموقف. ومبادرة عمر إلى السؤال عن أولئك النفر وما حدث لهم يدل على أن لهم قصة سابقة لحادثة الردة والانضمام إلى صفوف الكفار المحاربين ومقتلهم في تلك الموقعة. وتجنب أبي موسى الأشعري الجواب عن السؤال يدل أيضا على أن لهم قصة سابقة، ولذلك حاول أن يتجنب الخوض في المسألة، ولم يتكلم فيها إلا بعد إصرار عمر على ذلك. هذه القرائن تدل على وجود قصة خاصة لهؤلاء النفر لم يذكرها الرواة.
وإذا لم تكن هناك أسباب أخرى -غير مسألة الردة- دفعت عمر إلى هذا الموقف، فإن الذي يستفاد من هذه الرواية أن عمر بن الخطاب رضي الله يرى جواز ترك قتل المرتد حتى لو كان محاربا قد لحق بصفوف العدو وقاتل المسلمين، وأنه يمكن بدلا من قتله حبسه أملا في توبته.
وعلى كل حال، فهذا الأثر يمكن أن يكون شاهدا على أن عقوبة القتل للمرتد يمكن وقفها في بعض الأحوال والإبقاء على حبسه واستتابته. وليس فيها نفي لمعاقبة المرتد بالقتل، ولا فيها دليل صريح على أن المرتد يعاقب بأي عقوبة تعزيرية قد يكون القتل واحدا منها.

والخلاصة أنه صحّ عن عمر بن الخطاب قوله بقتل المرتد، كما صحّ عنه في النفر البكريين أنه قال بحبسهم وعرض الإسلام عليهم، أي استتابتهم. ولا يمكن القول إن أمره بقتل المرتد يكون في من حارب، وعدم أمره بالقتل يكون في من لم يحارب؛ لأن ما روي عنه هو عكس هذا. فقد أمر بقتل المرتدين في قصة ابن مسعود بعد استتابتهم مع أنه لم يرد فيها ذكر كونهم محاربين، وقال في النفر البكريين الذين ارتدوا ولحقوا بالكفار الذين يقاتلون المسلمين، إنه لو أمسك بهم سلما لحبسهم وعرض عليهم الإسلام؛ فهؤلاء البكريين مع كونهم مرتدين محاربين قال بحبسهم وعرض الإسلام عليهم.

ثانيا: رأي إبراهيم النخعي

مما استدل به المنكرون لعقوبة الردة والقائلون بأنها عقوبة تعزيرية قولهم بأن التابعي الجليل إبراهيم النخعي كان يرى عدم قتل المرتد، وأنه يستتاب أبدا.
وعند النظر فيما روي عن إبراهيم النخعي نجد أنه روي عنه القول بقتل المرتد بعد استتابته.

أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ]النخعي[، فِي الْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ تُرِكَ وَإِنْ أَبَى قُتِلَ." [81]
هذه الرواية تثبت أن إبراهيم النخعي يرى قتل المرتد بعد الاستتابة.

وروى عبد الرزاق عن معمر عن سعيد ]بن أبي عروبة[ عن أبي معشر عن إبراهيم ]النخعي[ في المرأة ترتد، قال: "تستتاب، فإن تابت، وإلا قتلت."[82]

روى ابن أبي شيبة قال: "حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم ]النخعي[ في المرأة ترتد عن الإسلام، قال: تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت."[83]

وروى ابن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: تستتاب وإلا قتلت."[84]

وروى ابن أبي شيبة قال: "حدثنا عبد الصمد، عن هشام، عن حماد ]بن أبي سليمان[، عن إبراهيم قال: تقتل."[85]

وهذه الروايات تثبت أن إبراهيم النخعي يقول بقتل المرأة المرتدة. وإذا كان يقول بقتل المرأة المرتدة -التي اختلف الفقهاء في قتلها- فمن باب أولى يقول بقتل المرتد.

ومقابل الروايات السابقة في قتل المرتدة، وردت رواية في مصنف ابن أبي شيبة بعدم قتل المرتدة: روى ابن أبي شيبة قال: "حدثنا حفص، عن عبيدة، عن إبراهيم قال: لا تقتل."[86]

وبهذا يتبين أن رواية قتل المرتدة وردت من طريقين مختلفين، هما: طريق سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي، وطريق هشام عن حماد عن إبراهيم النخعي. في حين وردت رواية عدم قتلها من طريق واحد، هو طريق حفص عن عبيدة عن إبراهيم النخعي.

وقد رجح البخاري الروايات التي تثبت قول إبراهيم النخعي بقتل المرتدة، حيث جاء في: "بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ" قوله: "وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ: «تُقْتَلُ المُرْتَدَّةُ."[87] وكذلك فعل ابن حجر، حيث قال: "وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا تقتل. والأولى ]يعني رواية القتل[ أقوى؛ فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم."[88]

وقد وردت رواية عن إبراهيم النخعي قد يُفهم منها أنه يرى عدم قتل المرتد، وهي التي استند إليها منكرو عقوبة الردة. جاء في مصنف عبد الرزاق: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ فِي الْمُرْتَدِّ: «يُسْتَتَابُ أَبَدًا» قَالَ سُفْيَانُ هَذَا الَّذِي نَأْخُذُ بِهِ."[89] فهذه الرواية تشير إلى أن المرتد يستتاب أبدا.

ولكن عند النظر فيما يتعلق بهذه الرواية نجد أن عبد الرزاق أورد بعد هذا الأثر مباشرة أثرا آخر نصه: أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم قال: كان يُقال: ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإذا وجدتم للمسلم مخرجا فادرؤا عنه، فإنه أن يخطأ حاكم من حكام المسلمين في العفو خير من أن يخطأ في العقوبة."[90]

وهذا يشير إلى أن الاستتابة الدائمة للزنديق الذي تتكرر منه الردة والتوبة، فتحمل توبته على القبول وإن كان صدقها فيه شك، فما دام هناك ما يدل على الإسلام، وهو إعلان التوبة الظاهرة، فإن العقوبة تدرأ عنه مخافة أن تكون التوبة صادقة، والخطأ في ترك كافر أفضل من الخطأ في قتل مسلم.

ثالثا: رأي عبد الله بن مسعود

روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني مررت بمسجد من مساجد بني حنيفة، فسمعتهم يقرأون شيئا لم ينزله الله "الطاحنات طحنا، العاجنات عجنا، الخابزات خبزا، اللاقمات لقما". قال: فقَّدم ابن مسعود ابنَ النواحة إمامهم فقتله، واستكثر البقية، فقال: لا أُجزرُهم اليوم الشيطان، سيِّروهم إلى الشام حتى يرزقهم الله توبة، أو يفنيهم الطاعون. قال: وأخبرني إسماعيل عن قيس أن ابن مسعود قال: إن هذا –لابن النواحة- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه إليه مسيلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت قاتلا رسولا لقتلته."[91]
وهذه الرواية عن ابن مسعود يمكن أن يستفاد منها أن تطبيق عقوبة الردة فيه نظر للحاكم، فيمكن أن يتصرف فيه أحيانا بما تقتضيه المصلحة.

رابعا: رأي عمر بن عبد العزيز

روى عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد، فكتب إليه عمر: أن سَلْهُ عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام، فإن أبى فاضرب عنقه، وإن كان لم يعرفها فغلِّط الجزية، ودعه."[92]

وهذه الرواية تؤكد أن عمر بن العزيز يقول بقتل المرتد، وليس فيها ما يصرح بكون عقوبة الردة عقوبة تعزيرية قد تصل إلى القتل، كما يرى سليم العوا، ولكن يستفاد منها بعض شروط تطبيق عقوبة الردة. فهي صريحة في أن عقوبة الردة القتل، ولكن هذه العقوبة لا تطبق إلا على الشخص الذي دخل الإسلام وعقل شرائعه، أما إذا كان الشخص قد أعلن دخوله الإسلام عرضا ثم أعلن رجوعه عن الإسلام، دون أن يعقل شرائع الإسلام وحقيقته، فإنه لا يعاقب على ردته، وكأن عمر بن عبد العزيز رأى أن مثل هذا الشخص لم يستقر إسلامه، فلا يعد قد أسلم حقيقة، وإنما كان إعلانه الإسلام أمرا عارضا لا حقيقة له. ويدل على ذلك أنه أمره بأن يسأله عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرفها فقد استقر إسلامه، فأمره أن يستتيبه بقوله: "فاعرض عليه الإسلام"، فإن أبى الرجوع إليه حكم عليه بالقتل عقوبة.

روى عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني قوم من أهل الجزيرة أن قوما أسلموا، ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا، فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه عمر: أن ردّ عليهم الجزية ودعهم."[93]
وهذه الرواية الثانية فيها جهالة في الرواة، حيث قال معمر: "أخبرني قوم من أهل الجزيرة"، ولذلك فهي من حيث قواعد الحديث لا يمكن الاستدلال بها. وبذلك يتبين ضعف استدلال الدكتور سليم العوا بها على أن عمر بن عبد العزيز كان يرى أن عقوبة الردة عقوبة تعزيرية.

المطلب الخامس: مسألة حديث الآحاد

ذكر الشيخ شلتوت بأن من الفقهاء من لا يأخذ بخبر الآحاد في الحدود، ولكنه لم يورد أسماء الفقهاء القائلين بهذا، ولا أشار إلى دليلهم في ذلك.[94] والمعلوم أن المسلمين يعملون بأخبار الآحاد منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، ولم يخرج عن هذا سوى شذوذ من الناس، وقد فُنِّدت دعواهم من قديم، ومن أقدم ما وصلنا مما كتب في تفنيد تلك الدعوى ما ورد في كتاب الرسالة للإمام الشافعي.[95]

وفضلا عما سبق، فإن قتل المرتد كان معروفا مشهورا بين الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يضعف احتمال عدم ثبوت عقوبة الردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فكيف يقضي كبار الصحابة رضي الله عنهم، مثل معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، بقتل المرتد، ويصف معاذ بن جبل رضي الله عنه ذلك بأنه قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون قد ثبت لهم ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟

والقول بأن الحدود يتطلب إقامتها القطع، ولا يكفي فيها الظن، غير صحيح، فلم يشترط أحد من الفقهاء توفر عنصر القطع في إقامة العقوبات الحدية. نعم، القاعدة المتفق عليها بين الفقهاء عدم ترتيب عقوبة حدية على جريمة يكتنف ثبوتها شبهة؛ حيث يكون تفسير الشبهة لصالح المتهم. والشبهة ظن معتبر يشكّك في ثبوت الجريمة، ومع قيام هذا الظن المعتبر تطبق قاعدة: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.

ولا يمكن لأحد أن يزعم توفر القطع في العقوبات الحدية؛ فشهادة الشاهدين في عقوبة القصاص، أو شرب الخمر، أو السرقة، أو شهادة أربعة شهود في الزنا، كلها أدلة ظنية، وهي بالتأكيد من أخبار الآحاد، واحتمال الخطأ والكذب فيها قائم. ولكن لما كان مجرد ظن نظري، لا يوجد من القرائن ما يؤيده لم يكن معتبرا، ويقتل الشخص قصاصا أو تقطع يده، بتلك الشهادة، على الرغم من كونها من أخبار الآحاد الظنية. وكذلك أحاديث الآحاد إذا ثبت صحتها ترجّح فيها جانب الصحة، وصار احتمال الخطأ وعدم الثبوت غير معتبر. يستوي في ذلك العقوبات وغير العقوبات من الأحكام.

أما ما ذكره الدكتور طه جابر العلواني من أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المنشئ للأحكام، فهو كلام مخالف للواقع؛ لأن السنة النبوية أيضا مصدر مُنْشِئٌ للأحكام، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع عقوبة على شرب الخمر، وهي عقوبة لا وجود لها أصلا في القرآن الكريم. وتشريع عقوبة للخمر مثل تشريع عقوبة للردة، فكلا الفعلين حرّمه القرآن الكريم دون أن يُرتِّب عليه عقوبة دنيوية، وكلاهما رتّب عليه النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة دنيوية. والفرق الوحيد بينهما أن عقوبة الخمر تم تنفيذها في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، أما عقوبة الردة فالظاهر أنه لم يحصل تنفيذها في حضرته أو بأمر مباشر منه صلى الله عليه وسلم. وهذا الفارق قد يجعل عقوبة شرب الخمر أقوى وأظهر في الثبوت، ولكنه لا ينفي الأصل المشترك بينهما، وهو انتصاب النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، وتشريعه لأحكام لم يرد التنصيص عليها في القرآن الكريم. وهذا يكفي في رد القول بأن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المنشئ للأحكام.

المطلب السادس: القول بأن عقوبة الردة تؤدي إلى ظهور المنافقين

يرى الرافضون لعقوبة الردة أن فرض عقوبة على المرتد، سواء أكانت القتل أم ما دونه من عقوبات، سيؤدي إلى تكوين طبقة من المنافقين تبطن الكفر وتظهر الإسلام. وهي طبقة ضررها على المسلمين أكبر من نفعها. فكيف يصح لنا أن نصنع بأيدينا فئة من المنافقين يضمرون للإسلام الشر ويتربصون به الدوائر. وليس من شأن التهديد بالعقاب على الردة حمل المرتد على الرجوع إلى الإسلام. وحكمة الله تعالى في التشريع تتنزه عن هذا. [96]

وكون تقرير عقوبة على الردة قد لا يجدي في حمل المرتد على الرجوع إلى الإسلام، أمر قد يكون صحيحا؛ لأن المعتقدات نابعة من قناعات فكرية، والقناعات الفكرية تتغير بالإقناع أكثر منه بالعقاب المادي. كما أن القول بأن تقرير عقوبة القتل على المرتد قد يحوّل المرتدين إلى منافقين أمر وارد.

ولكن السؤال أيهما أخف ضررا: السماح بالردة المعلنة، التي يعلن صاحبها ارتداده عن الإسلام، وقد ينشط بعد ذلك في الدعوة إلى الردة، وقد لا ينشط في ذلك ويدعو إلى فعلته بمقتضى الحال لا بالمقال، أم منع الإعلان عن الردة، بترتيب عقوبة على ذلك، وترك من يرتد يتحول منافق؟

الظاهر أن ضرر الردة المعلنة أكبر من ضرر النفاق. فالردة المعلنة فيها إشاعة للكفر والتشكيك في عقائد الإسلام، وفيها نشرٌ لذلك التشكيك. أما النفاق فهو مطموس في نفس صاحبه، وصاحبه مذموم عادة موسومٌ بالجبن والخيانة. وهو إن سعى إلى بثِّ أفكاره الكفرية بين الناس فإن أمره سيظهر ويُصنَّف ضمن دائرة الزندقة التي وضع لها الفقهاء حكما خاصا بها.

إن القول بمنع العقاب على الردة لأن تلك العقوبة تؤدي إلى إيجاد طابور خفي من المنافقين الساعين إلى الإضرار بالإسلام، يقابله القول بأن عدم العقاب على الردة سيوجد طابورا ظاهرا من المرجفين المشككين في الدين الداعين إلى ردتهم بالقول، إذا قلنا بإعطائهم حرية الاعتقاد والتدين، أو الداعين إلى ردتهم بلسان الحال، إذا قلنا بأننا نمنعهم بقوة القانون من الدعوة إلى الردة مع السماح لهم بإعلانها.

ومن المعلوم في الإسلام أن المعاقبة على الفواحش الظاهرة تختلف عن المعاقبة على الفواحش الباطنة، وذلك لما في إظهار الفاحشة من تشجيع عليها، أما إخفاؤها فإنه يقلل من ضررها. فمثلا، الشخص الذي يضمر في نفسه اتهام شخص آخر بالزنا لا يعاقب بعقوبة القذف؛ لأن ضرر تلك التهمة قاصر عليه، فإذا أعلنها صاحبها، طولب بإثباتها، فإن عجز عوقب عقوبة القذف؛ لأن في إعلانها إشاعة للطعن في أعراض الناس وأنسابهم. ومن ارتكب فاحشة الزنا سرا، فقد أتى شيئا مُضرّا به وبالمجتمع، ولكن لا يعاقب على ذلك عقوبة دنيوية. فإن هو فعل تلك الفاحشة بصورة تجعل أربعة من الناس يشهدون وقوعها، يكون قد جاهر بتلك الفاحشة، وفي المجاهرة بالفاحشة إشاعة لها بين الناس، فيستحق بذلك عقوبة دنيوية. وكذلك من ارتد في نفسه عن الدين ولم يعلن ذلك فضرره قاصر على نفسه، وأمره إلى الله تعالى. فإن أخذ يبث سمومه ويدعو إليها سرا، قُمع بعقوبة الزندقة، وإن هو جاهر بردته قُمِع بعقوبة الردة. والهدف من ذلك كله هو منع إظهار الفواحش –ومنها الردة- في المجتمع، وإبقائها مطموسة حتى يبقى ضررها قاصرا على أصحابها.

المطلب السابع:
عقوبة الردة عند الحنفية
استند المنكرون لعقوبة الردة إلى قول الحنفية بعدم قتل المرتدة وذكرهم أحكام الردة ضمن أبواب الجهاد، ليرتبوا على ذلك أن الحنفية إنما يقولون بقتل المرتد بسبب خروجه المسلح على جماعة المسلمين أو مظنة ذلك، وأن عدم قتل المرتدة لأنها لا تحارب، وذلك يعني أن قتل المرتد لعلة كونه يحارب، وأن تصنيف أحكام المرتد ضمن أبواب الجهاد يوحي بأن أحكام الردة متصلة بمحاربة المسلمين.
ولتمحيص هذا الكلام ننظر في كتب الحنفية لنرى حقيقة موقف الحنفية من عقوبة الردة.
الثابت أن أبا حنيفة رحمه الله كان يرى عدم قتل المرأة المرتدة، وسبب قوله ذلك يعود إلى أمرين:

أحدهما: أنه هو نفسه روى عن ابن عباس رضي الله عنه عدم قتل المرأة المرتدة، فأخذ بقول الصحابي ابن عباس رضي الله عنه. جاء في مصنف ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، ووَكِيعٌ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَا يُقْتَلْنَ النِّسَاءُ إِذَا هُنَّ ارْتَدَدْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُحْبَسْنَ وَيُدْعَيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُجْبَرْنَ عَلَيْهِ.»[97]

الثاني: عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل نساء الكفار ودراريهم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا امرأة ولا وليدا". وهاهنا عمومان: عموم قتل المرتد الذي يدخل فيه الرجل والمرأة، وعموم النهي عن قتل النساء والأولاد الذي تدخل فيه المرأة المرتدة. وقد رجح أبو حنيفة إلحاق المرأة المرتدة بعموم النهي عن قتل النساء،[98] وأخذا برأي ابن عباس رضي الله عنه في عدم قتلها.

وقد علل الكاساني عدم قتل المرأة بأنها يسهل إجبارها على الإسلام، أما الرجل فليس من السهل إجباره على الإسلام. وفي ذلك يقول: "... ولأن القتل إنما شرع وسيلة إلى الإسلام بالدعوة إليه بأعلى الطريقين عند وقوع اليأس عن إجابتها بأدناهما، وهو دعوة اللسان بالاستتابة بإظهار محاسن الإسلام، والنساء أتباع الرجال في إجابة هذه الدعوة، فإنهن في العادة الجارية يسلمن بإسلام أزواجهن ... فلا يقع شرع القتل في حقها وسيلة إلى الإسلام، فلا يفيد."[99] وبناء على هذا التعليل نص علماء الحنفية على إجبار المرأة المرتدة على الإسلام، حيث يقول الكاساني: "وأما المرأة فلا يباح دمها إذا ارتدت ولا تقتل عندنا، ولكنها تجبر على الإسلام، وإجبارها على الإسلام أن تحبس وتخرج في كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام، فإن أسلمت وإلا حبست ثانيا. هكذا إلى أن تسلم أو تموت. وذكر الكرخي رحمه الله هذا وزاد عليه تضرب أسواطا في كل مرة تعزيرا لها على ما فعلت."[100]

ولا نجد في موقف الحنفية من قتل المرتد ربطا مباشرا بين العقوبة وبين الحرابة. انظر مثلا ما يقوله الكاساني عن أحكام المرتد المتعلقة بنفسه: "... منها إباحة دمه إذا كان رجلا، حرا كان أو عبدا؛ لسقوط عصمته بالردة...ومنها أنه يستحب أن يستتاب، ويعرض عليه الإسلام؛ لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب؛ لأن الدعوة قد بلغته، فإن أسلم فمرحبا وأهلا بالإسلام، وإن أبى نظر الإمام في ذلك: فإن طمع في توبته، أو سأل هو التأجيل، أجّله ثلاثة أيام، وإن لم يطمع في توبته، ولم يسأل هو التأجيل قتله من ساعته."[101] ويقول أيضا: "فإن قتله إنسان قبل الاستتابة يكره له ذلك، ولا شيء عليه؛ لزوال عصمته بالردة."[102]

ومما يدل على التنافر بين مذهب الحنفية ورأي المنكرين لعقوبة الردة، أن الكاساني ذكر ضمن أدلة الحنفية على أن عقوبة المرتد قصة عمر رضي الله عنه التي يستدل بها المنكرون على عدم مشروعية قتل المرتد، وهي ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم عليه رجل من جيش المسلمين، فقال: هل عندكم من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بالله بعد إسلامه، فقال عمر: ماذا فعلتم به؟ قال: قرّبناه فضربنا عنقه. فقال عمر: هلا طينتم عليه بيتا ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله تعالى. اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.[103]


المبحث الرابع
علاقة عقوبة الردة بحرية الاعتقاد

لا يرى القائلون بمعاقبة المرتد تعارضا بين تلك العقوبة وحرية الاعتقاد، بل يذهبون إلى أن معاقبة المرتد إنما هي جزء من منظومة حماية حرية الاعتقاد. وينطلقون عادة من افتراض أن من أسلم عن قناعة، ودخل الإيمان في قلبه، لا يمكن أن يرتد، وأن الإسلام قد وضع ضمانة ضد الردة بالنهي عن إكراه الناس على الدخول في الإسلام، فلا يدخل الإسلام أحد إلا عن قناعة. وبناء على ذلك فإن من يرتد يفترض فيه أنه لم يدخل الإسلام بصدق وحسن نية، وإنما أعلن دخوله ثم ردته بقصد سيء هو استغلال الحرية الدينية للإرجاف والتشكيك في الإسلام، وهو بذلك يستحق عقوبة الإعدام.[104] يقول الدكتور محمد الزحيلي: "... دخل الإسلام نفاقا، ورياء، ولمصلحة خسيسة، وبقي على الكفر في قلبه ... فهذا يتلاعب في العقيدة، ويسخر من المقدسات، ويستغل الحرية الدينية لأهواء وشهوات، فكان الواجب صيانة الدين والحرية الدينية من هذا العبث، ليستحق المرتد القتل لهذه الجريمة حماية لحرية العقيدة."[105]
هذا في من دخل الإسلام وارتد بسوء قصد، أما من "خرج عن الإسلام لوسوسة شياطين الإنس والجن، وإغوائهم بالشهوات، وإغرائهم بالمكاسب والمناصب، كما يفعل المنصرون وغيرهم. فهنا يستتاب المرتد وتكشف له الحقائق، ويناقش في شبهته حتى لا يبقى له حجة، وتزال عنه الأوهام... فإن أصرّ فإنه يقتل لجريمة العبث في المقدسات والعقائد والأديان، حماية للحرية الدينية."[106]

وإذا نظرنا في التبريرات السابقة نرى أن القول بأن معاقبة المرتد الذي لم يدخل في الدين حقيقة، وإنما أعلن دخوله ثم ردته من أجل التشكيك في الدين، أمرٌ تقتضيه حماية حرية الاعتقاد من سوء الاستغلال والعبث، ظاهر وصحيح. أما تعليل معاقبة الذي ارتد بسبب الشكوك والأوهام الطارئة بحماية الحرية الدينية، فهو أمر لا يستقيم، والأولى تعليل والوةوةوولكن ذلك بحماية النظام الاجتماعي للمجتمع المسلم. "وإذا كانت النظم المختلفة قد قننت عقوبات مختلفة لحماية نظامها الاجتماعي والسياسي منذ القديم، فالإسلام في هذا ليس بدعا حينما يقرر أن من بدّل دينه فاقتلوه."[107]

أما الرافضون لمعاقبة المرتد فإنهم يعللون رفضهم بكون العقاب مناقضا لحرية الاعتقاد التي كفلها القرآن الكريم لجميع الناس. ويرون أن معاقبة المرتد تدخل في الإكراه في الدين الذي نفاه القرآن الكريم.

والواقع أن ترتيب عقوبة على المرتد فيه حَدٌّ من حريته الدينية، إما بإجباره على إخفاء أفكاره خوفا من العقاب والحدّ من حريته في ممارسة معتقداته الجديدة إذا استمر على الردة، أو بلجوئه إلى الهجرة إلى بلاد إخوانه من الكفار ليعيش معهم حياة الكفر. ولكن لا يمكن اعتبار ترتيب عقوبة على الردة بمثابة الإكراه في الدين؛ لأن العقوبات تصنف ضمن الزواجر وليس ضمن الإكراه. والفرق بين الزجر والإكراه أن الزجر يكون بترتيب عقوبة على فعل مُضرّ بالإنسان نفسه أو بالمجتمع. ويكون القصد من ترتيب تلك العقوبة زجر الناس عن ارتكاب ما يُعد في العرف الشرعي أو القانوني جريمة. أما الإكراه فهو حمل إنسان بالقوة أو التهديد على فعل شيء لا يرغب في فعله.

والعقوبات في أصلها تشرع للزجر عن ارتكاب الجرائم، ولا تُعدّ في عرف القانون الوضعي ولا الشرعي إكراها للناس. فعندما يرتب القانون عقوبة على السرقة لا نقول إن القانون يَحْرِم الناس من حرية الاختيار بين الأمانة والخيانة، ويُكرههم على اختيار معيَّن. وعندما يرتب القانون عقوبة على تعاطي المخدرات، لا نقول إن القانون يحرم الناس من حرية الاختيار ويجبرهم على اختيار معيَّن. وعندما يرتب الشارع عقوبة على إعلان الردة عن الإسلام، لا نقول إننا قد حرمنا الإنسان من حرية الاختيار بين الإيمان والكفر التي كفلها القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)؛ فحرية الاختيار لا تزال قائمة في نفس الإنسان، ولكنه يُمنع من إعلان ذلك الاختيار الذي يعده الشارع مضرا بالمجتمع ومفسدا له. فالعلة في معاقبة المرتد ليست الكفر، وإنما هي ما تحدثه الردة من إرجاف وتشكيك في الدين. والدليل على ذلك أن المرتد إذا لم يعلن ردته ولم يجاهر بها فإنه لا يكون عُرضة للمساءلة والعقاب.

وكون عقوبة الردة فيها حَدٌّ من الحرية الدينية للمرتد ليس طعنا في الشريعة الإسلامية؛ لأن مبدأ الحد من الحرية الدينية لمصلحة المجتمع مبدأ مُتّفق عليه، وأقرته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. حيث نصت تلك المواثيق على إمكان الحدّ من الحرية الدينية لمصلحة السلامة العامة، والنظام العام، والصحة العامة، وغيرها. جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966م) المادة 18 (3): "تخضع حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتى تستوجبها السلامة العامة، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الأخلاق، أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية." ويبقى الخلاف بين الأنظمة الحاكمة في تقدير تلك المبررات ونوعها.[108]

ففي نظام علماني يسوي بين الأديان، ويعتبر الدين ممارسة شخصية يلجأ إليها الأفراد لتلبية احتياجاتهم النفسية والروحية، قد تكون معاقبة المرتد أمرا غير مقبول؛ لأنها لا تهدد السلامة العامة والنظام العام، فكل شخص له الحق في اختيار الطريق الذي يلبي به احتياجاته الروحية، وأن يتنقل بين تلك الطرق أو يجمع بينهما، فهي كلها سواء. ومع ذلك فإننا حتى في الدول العلمانية التي تعتبر نفسها أكثر الدول احتراما لحرية الاعتقاد، وهي الدول الأوروبية، نجد تقييدا واضحا للحريات الدينية المتعلقة بالمسلمين بحجج واهية، فمثلا يُمنع الأذان الذي يُسمع من خارج مكان الصلاة ويُسمح بقرع أجراس الكنائس، وفي فرنسا تمنع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب بحجة حماية النظام اللائكي ومبادئ الجمهورية، وغيرها من الأمثلة كثير.

أما في نظام يقوم على الدين –مثل النظام الإسلامي- ويعدّ الأمن الديني -بمعنى مساعدة الناس على المحافظة على دينهم وممارستهم له- في قمة الأولويات، فإن الردة بالنسبة له تُعدّ من الجرائم التي تهدد الأمن الديني للمجتمع، وتنقل أفراده من طريق الأمن والسلامة إلى طريق الهلاك؛ ولذلك يرتب عليها عقوبة زاجرة لمنع إحداث الفتنة بين الناس.

خلاصة

ختاما نستخلص مما سبق عرضه ما يأتي:

- عقوبة الردة ثابتة لا يمكن إنكارها، وأكبر دليل على ذلك شيوع القول والعمل بها بين الصحابة رضي الله عنهم، ولو لم تكن ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لما شاع القول والعمل بها بينهم. أما هل تسمى العقوبة حدا أم تعزيزا، فهذا ليس له أهمية كبيرة؛ لأن هذه التسميات مجرد اصطلاحات وضعها الفقهاء لتصنيف العقوبات.

- تدل النصوص الشرعية وتطبيقات الصحابة والتابعين على أن الأصل في عقوبة الردة هي الإعدام، ولكن قد تخفف هذه العقوبة في ظروف تقتضي ذلك التخفيف. وهذا ما يستفاد من حادثة ابن مسعود رضي الله عنه مع النفر من بني حنيفة عندما رأى عددهم كثيرا وكان له أمل أن يرجع بعضهم إلى الدين ولا يذهبوا جميعا ضحايا للشيطان، ومقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النفر البكريين. كما أنها قد لا تطبق على من كان إسلامه عَرَضًا دون أن يثبت إسلامه كما هو موقف عمر بن عبد العزيز حين طلب من الوالي أن يسأل ذلك المرتد إن كان قد عرف شرائع الإسلام بعد إسلامه أم لا؟ فإن لم يكن قد عرف شرائع الإسلام، بمعنى أن إسلامه كان أمرا عارضا، تركه.

- يستفاد من رأي إبراهيم النخعي أن توبة المرتد تقبل في جميع الأحوال حتى لو تكررت منه الردة والتوبة مرات كثيرة ووُجِد الشكّ في صدق توبته، وذلك بناء على قاعدة الخطأ في العفو أفضل من الخطأ في العقاب.

- لا يستقيم إدراج عقوبة الردة ضمن الإكراه في الدين، ولكن لا يمكن إنكار أن هذه العقوبة تتضمن تقييدا للحرية الدينية للمرتد، وتجعله بين ثلاثة خيارات: إما الهروب من بلاد الإسلام واللحاق بإخوانه في بلاد الكفار، وعندئذ فلن يسأل عنه أحد؛ أو إخفاء ردته وامتناعه عن المجاهرة بما يتعلق بها من شعائر دينية؛ أو المجاهرة بالردة ومواجهة العقوبة المقررة لذلك.

- مبدأ الحدّ من الحرية الدينية لمصلحة المجتمع مبدأ مُتّفق عليه، وأقرته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، حيث نصت تلك المواثيق على إمكان الحدّ من الحرية الدينية لمصلحة السلامة العامة، والنظام العام، والصحة العامة، وغيرها. ويبقى الخلاف بين الأنظمة الحاكمة في تقدير تلك المبررات ونوعها.


[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (ردد) (القاهرة: دار المعارف، د. ت) ج3، ص1621.

[2] الدسوقي، محمد بن أحمد، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (د. م: دار الفكر، د. ت) ج4، ص301.

[3] أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي محمد معوض (الرياض: دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، 1423هـ/ 2003م) ج7، ص283-284.

[4] محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984 هـ، ج2، ص335.

[5] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، تحقيق شعيب الأرنؤوط، إبراهيم باجس، بيروت/ مؤسسة الرسالة، 1422هـ/ 2001م، ج1، ص320.

[6] انظر مثلا: موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة، المغني، القاهرة: مكتبة القاهرة، 1388هـ/ 1968م، ج9، ص3. ابن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1387هـ، ج5، ص306.

[7] طه جابر العلواني، لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص148.

[8] ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق وتعليق عبد القادر شيبة الحمد، (د.م.) (د.ن.)، ط1، 1421هـ/ 2001م، ج12، 285.

[9] صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، ج4، ص61.

[10] مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ج3، ص1302.

[11] انظر: رشاد طاحون، حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، ص323 وما بعدها، تيسير العمر، الردة وآثارها: دراسة مقارنة مع القانون، سوريا: دار النوادر، ط1، 1433هـ/ 2012م، ص229-239.

[12] ابن عبد البر، التمهيد، ج5، ص306.

[13] ابن عبد البر، التمهيد، ج5، ص318.

[14] ابن قدامة، المغني، ج9، ص3.

[15] عبد الحكيم حسن العيلي، الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام: دراسة مقارنة، القاهرة: دار الفكر العربي، 1983م، ص423-432.:

[16] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي (دراسة مقارنة)، القاهرة: شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2006م، ص179.

[17] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص181-182.

[18] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، «فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: «فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ». محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، بَابُ أَبْوَالِ الإِبِلِ، وَالدَّوَابِّ، وَالغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، د.م: دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، ج1، ص56).

[19] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص186.

[20] نص الحديث: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ." صحيح مسلم، ج3، ص1302.

[21] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص187.

[22] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص191- 192. ونص الحديث كالآتي: أخرج الإمام مالك في الموطأ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلاَمِ. فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ. فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي.فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى. فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا. وَيَنْصَعُ طِيبُهَا.» موطأ الإمام مالك، تحقيق الأعظمي، ج5، ص1304-1305.

[23] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ج4، ص202-203.

[24] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص192.

[25] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص193.

[26] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص193 هامش (90).

[27] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص194.

[28] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص191.

[29] عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية في الإسلام، القاهرة: دار الكتاب المصري، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1433هـ/ 1912م.

[30] انظر: جمال البنا، حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام، دار الفكر الإسلامي، القاهرة.

[31] العلواني، لا إكراه في الدين، ص9.

[32] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص203، وهو في هذا المقام ينقل رأي الدكتور عوض محمد عوض.

[33] العلواني، لا إكراه في الدين، ص10.

[34] العلواني، لا إكراه في الدين، ص10.

[35] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة: دار الشروق، د. ت، ص281.

[36] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص203، وهو في هذا المقام ينقل رأي الدكتور عوض محمد عوض؛ عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية في الإسلام، ص38-39.

[37] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ص281.

[38] عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية في الإسلام، ص107-109.

[39] أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ"، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، "فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ." صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب: حد الخمر، ج3، ص1330.

[40] محمد بن عمر بن واقد السهمي الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس (بيروت: دار الأعلمي، ط3، 1409هـ/ 1989م) ج2، ص416.

[41] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص182.

[42] صحيح البخاري، ج5، ص163. والقصة أيضا في صحيح مسلم، ج2، ص742.

[43] أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، مسند الحميدي، حقق نصوصه وخرج أحاديثه: حسن سليم أسد الدَّارَانيّ (دمشق: دار السقا، ط1، 1996م) ج2، ص328، رقم (1277).

[44] محمد الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، (د. م.) المطبعة الخيرية، (د.ت)، ج4، ص63.

[45] أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، شرح مشكل الآثار، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1415 هـ، 1494م) ج4، ص427 وما بعدها.

[46] أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، مسند الحميدي، ج2، ص328.

[47] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ج4، 202-203.

[48] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص192.

[49] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص193.

[50] محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، القاهرة: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط1، 1422 هـ - 2001م، ج5، ص496.

[51] محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، ج5، ص496-497.

[52] صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله (حديث رقم: 3017).

[53] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص446.

[54] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص447.

[55] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص450.

[56] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص446.

[57] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص447.

[58] ابن حجر، إرشاد الساري (مقدمة فتح الباري)، ص448-449.

[59] صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: حكم المرتد والمرتدة استتابتهم، ج9، ص15، ج9، ص65.

[60] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، ج3، ص1456.

[61] أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ - 2001م، ج5، ص119). قال عنه المحقق: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[62] مسند أحمد، ج36، ص343). قال عنه المحقق: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.

[63] سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص187.

[64] صحيح البخاري، ج9، ص5؛ صحيح مسلم، ج3، ص1302-1303. والرواية أيضا في مسند أبي داود الطيالسي، والفتن لنعيم بن حماد، ومسند ابن أبي شيبة، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وسنن ابن ماجه، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، والسنن الكبرى للنسائي، والسنة لابن أبي عاصم، ومسند البزار، وصحيح ابن حبان، وسنن الدارقطني.
وقد وردت رواية واحدة عند البزار عن مُسْلِمٍ وَهُوَ أَبُو الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود. وعقّب على تلك الرواية بقوله: "وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ." أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق المعروف بالبزار، مسند البزار، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، وصبري عبد الخالق الشافعي (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1988م) ج5، ص331.

[65] صحيح البخاري، ج9، ص5.

[66] صحيح مسلم، ج3، ص1302.

[67] ومنها: طريق نافع عن ابن عمر عن عثمان. جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُغِيرَةَ بْنَ مُسْلِمٍ أَبَا سَلَمَةَ، يَذْكُرُ عَنْ مَطَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُثْمَانَ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: عَلامَ تَقْتُلُونِي؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ"، فَوَاللهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلا قَتَلْتُ أَحَدًا فَأُقِيدَ نَفْسِي مِنْهُ، وَلا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ." مسند أحمد، ج1، ص502. قال عنه المحقق حسن. مطر - وهو ابن طهمان الوراق - وإن كانوا تكلموا في حفظه، حسن الحديث في المتابعات والشواهد وهذا منها، وباقي رجاله ثقات.
ومنها: طريق محمد بن مجبَّر عن أبيه عن جده عن عثمان بن عفان. جاء في مسند أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبِيدَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُجَبَّرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشْرَفَ عَلَى الَّذِينَ حَصَرُوهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَفِي الْقَوْمِ طَلْحَةُ؟ قَالَ طَلْحَةُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ أَنْتَ فِيهِمْ فَلا يَرُدُّونَ، قَالَ: قَدْ رَدَدْتُ، قَالَ: مَا هَكَذَا الرَّدُّ أُسْمِعُكَ وَلا تُسْمِعُنِي يَا طَلْحَةُ؟ أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يُحِلُّ دَمَ الْمُسْلِمِ إِلا وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلاثٍ: أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ يَزْنِيَ بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا فَيُقْتَلَ بِهَا " قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَكَبَّرَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْكَرْتُ اللَّهَ مُنْذُ عَرَفْتُهُ، وَلا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا فِي إِسْلامٍ، وَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكَرُّهًا وَفِي الْإِسْلامِ تَعَفُّفًا، وَمَا قَتَلْتُ نَفْسًا يَحِلُّ بِهَا قَتْلِي." مسند أحمد، ج3، ص20.
ومنها: طريق ابن جريج عن أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان بن عفان. جاء في السنن الكبرى للبيهقي: أَخْبَرَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيجٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِثَلَاثٍ: أَنْ يَزْنِيَ بَعْدَمَا أُحْصِنَ، أَوْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا فَيُقْتَلَ، أَوْ يَكْفُرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَيُقْتَلَ." النسائي، السنن الكبرى، ج3، ص441. صححه الألباني.

[68] مسند أحمد، ج1، ص491.

[69] مسند البزار، ج17، ص180.

[70] مسند أحمد، ج42، ص307.

[71] مسند أحمد، ج40، ص349. قال عنه المحقق: حديث صحيح. والحديث مروي أيضا في مسند أبي داود الطيالسي، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند إسحاق بن راهويه، والسنن الكبرى للنسائي.

[72] محمد ناصر الدين الألباني، صحيح أبي داود، الكويت: مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، ط1، 1423 هـ - 2002م، ج4، ص126. وورد بهذا اللفظ أيضا في المعجم الأوسط للطبراني: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: نا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: مُحْصَنٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَرَجُلٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا [ص:119] مُتَعَمِّدًا فَقُتِلَ بِهِ، وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَيُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ». الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص118.

[73] النسائي، السنن الكبرى، ج7، ص101. قال عنه الألباني: صحيح. ومثله في السنن الكبرى للنسائي، ج3، ص438)، وشرح مشكل الآثار للطحاوي، ج5، ص51، وفي حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج9، ص15) دون ذكر عبارة "فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ".

[74] ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، مطبعة السنة المحمدية (د. م.، د. ت)، ج2، ص 217.

[75] ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المملكة العربية السعودية: الحرس الوطني السعودي، د. ت.، ص319-320.

[76] ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ج1، ص320.

[77] أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، تحقيق وتخريج حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، ج10، ص168-169، (رقم: 18707).

[78] الإمام مالك، الموطأ، كتاب الأقضية (18)، ج2، ص280-281. والأثر أخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى، وعبد الرزاق في مصنفه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وسعيد بن منصور في سننه.

[79] أحمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الشافعي، مختصر خلافيات البيهقي، تحقيق ودراسة الدكتور إبراهيم الخضير، الرياض: مكتبة الرشد، شركة الرياض للنشر والتوزيع، ط1، 1417هـ/ 1997، ج4، ص405. وقال البيهقي في السنن الصغرى بعد ذكر هذه الرواية: "وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهَذَا فِي الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَحِلُّ الدَّمُ بِثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ" وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَنَاةٍ مُؤَقَّتَةٍ تَتْبَعُ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ عُمَرَ لِانْقِطَاعِهِ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ ثَلَاثٍ شَيْئًا." أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، السنن الصغرى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1406هـ/ 1986م، ج3، ص279.

[80] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص165.

[81] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص398.

[82] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص176.

[83] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص400.

[84] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص400.

[85] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص400.

[86] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص400.

[87] صحيح البخاري، ج9، ص14.

[88] ابن حجر، فتح الباري، ج12، ص280.

[89] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص166.

[90] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص166.

[91] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص169.

[92] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص171.

[93] عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، ج10، ص171.

[94] محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ص281.

[95] انظر في رد شبهة عدم العمل بخبر الآحاد في الحدود: تيسير خميس العمر، الردة وآثارها، ص364-366، رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، ص367.

[96] انظر كلام الدكتور عوض محمد عوض في هذا الشأن في: سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، ص204.

[97] ابن أبي شيبة، المصنف، ج9، ص399.

[98] علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1406هـ/ 1986م) ج7، ص135.

[99] الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص135.

[100] الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص135.

[101] الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص134.

[102] الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص135.

[103] الكاساني، بدائع الصنائع، ج7، ص134-135.

[104] رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، ص326-329؛ تيسير العمر، الردة وآثارها، ص585-586.

[105] محمد الزحيلي، الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية: أبعادها وضوابطها، ورقة مقدمة للدورة 19 لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ص27. رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، ص328، 333، تيسير خميس العمر، الردة وآثارها، ص229-239، ص585-586

[106] محمد الزحيلي، الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، ص27.

[107] رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، ص334.

[108] Paul M. Taylor, Freedom o fReligion: UN and European Human Rights Law and Practice, UK: Cambridge University Press, 2005, pp.292-332.
 

المرفقات

  • عقوبة الردة بين المثبتين والنافين.pdf
    499.8 KB · المشاهدات: 3
أعلى