العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

عمل أهل المدينة.

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اما بعد..

لم أكن أحب أن اتقدم أمام أهل الفضل من أعضاء المنتدى في مسألة فتح رابط لعمل أهل المدينة، فمثلي ممن لا يزالون يتعثرون في أذيال جهلهم، ويتخبطون في عمياء عثارهم ، لا يصلح لهم الخوض في هذه المواضيع، فقمينٌ بالنكرة : أن يُعمَّقَ له الحفر ، ثم يُرمى به في غياهب كل قبر. وشرعتُ وأنا الجهول بكتابة مقال حول عمل أهل المدينة، فرأيتُ أن النفَس سيطول والمسألة تتشعب وتتفلت، ففضلت الاكتفاء بتلخيص لكتاب ذكر آخر المقال كفى ووفى، سأفتح به شهية إخواني ممن يريدون مدارسة المسألة، والله الموفق.
من أمهات مسائل الفقه المالكي وقواعده:عمل أهل المدينة، فقد اعتبره الامام مالك أصلا فقهياً في استدلاله. واحتج به في قضايا كثيرة.واستعمل في نقله مصطلحات مختلفة.لكنه رغم كل هذا لم يرد عنه ما يوضح مدى ما يعتبره لهذا العمل من حجية،أو ما يعين على فهم مراده منه من طريق صحيح.
ولذلك احتدم الجدل حول هذا الاصل قديماً وحديثاً.واختلفت فيه أراء الفقهاء ما بين مؤيد ومعارض،وموافق ومخالف.ليس من أرباب المذاهب الفقهية الأخرى فحسب،بل حتى من بعض المالكية أنفسهم.
ولم يقتصر الجدل حول صحة اعتماده أصلاً لاستنباط الأحكام فقط؛بل تجاوز ذلك الى الخلاف في مدلوله ومعناه.الشئ الذي كان سبباً في إثراء موضوعه بكثير من أراء الفقهاء والاصوليين.
وقد صور ابو الفضل عياض في ترتيب المدارك مبلغ هذا الخلاف ،وتجاوز أصحابه حد الأنصاف الى الخوض في غير موضع النزاع،فقال:"اعلمواـ أكرمكم الله ـ أن جميع أرباب المذاهب الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر إلب واحد على أصحابنا في هذه المسألة .مخطئون لنا فيها بزعمهم،محتجون علينا بما سنح لهم. حتى تجاوز بعضهم حد التعصب والتشنيع الى الطعن في المدينة وعدّ مثالبها.وهم يتكلمون في غير موضع خلاف. فمنهم من لم يتصور المسألة ولا تحقق مذهبنا،فتكلموا فيها على تخمين وحدس.ومنهم من أخذ الكلام فيها ممن لم يحققه عنا".
وقبله رفع أبو الوليد الباجي عقيرته بهذه الشكوى ،فقال :قد أكثر أصحاب مالك رحمه الله في ذكر إجماع أهل المدينة ،والاحتجاج به ،وحمل ذلك بعضهم على غير وجهه فتشنّع به المخالف عليه،وعدّل عما قرره في ذلك المحققون من أصحاب مالك رحمه الله .
فالمنتقدون للمالكية في العمل نظروا إليه من منظور غير المنظور الذي نظر منه المالكية.فاختلط الأمر على هؤلاء ،وراحوا يتكلمون عن العمل كما لو أنهم يتكلمون عن الإجماع.أو عن امر ابتدعه مالك وأتباعه.أو أمر يتعلق بالثناء الوارد في شأن المدينة وأهلها.
ومن ثم جاء كلامهم مناقضاً لما قصد المالكية بالعمل.فاختلفت الاراء وتضاربت تبعاً لاختلاف التصور الذي انطلق منه كل فريق.
ولهذا السبب لن تتأتى الكتابة المحررة في موضوع العمل إلا بعد تحقيق محل النزاع،والنظر في القضايا التي كانت وراء كل هذا الخلاف.مما يسمح للباحث بالتمييز بين العمل الذي يعتبره المالكية أصلاً مستقلاً لاستنباط الأحكام.وبين ما قصده المخالفون والمعارضون لهذا الأصل من قضايا لا صلة لها بموضع النزاع .ويتم عرض ذلك وفق العناصر الآتية:

الأول: عده من قبيل الإجماع:
هل عمل أهل المدينة من قبيل الإجماع؟
إن الإجابة على هذا السؤال تسهم في رفع قدر كبير من الالتباس والخفاء اللذين يكتنفان الموضوع.وتبين وجه الصواب في كثير من الاعتراضات الموجهة الى هذا الأصل من زمان الإمام مالك الى يوم الناس هذا.
فقد ادعى كثير من العلماء ان مالكاً يعتبر عمل اهل المدينة إجماعا في مقام إجماع الأمة.وعلى رأس هؤلاء الامام الشافعي وابن حزم والسرخسي والبزدوي والشيرازي والغزالي والفخر الرازي والآمدي والسبكي والزركشي وابو زهرة والشيخ عليش وغيرهم.
وتعلق هؤلاء بأمرين:
الأول :وجود مادة الإجماع في المصطلح الذي كان يستعمله مالك في الموطأ
الثاني :ما ورد في رسالته الى الليث من قوله :فإنما الناس تبع لأهل المدينة.وقوله:فإذا كان الامر بالمدينة ظاهرا معمولاً به لم أر لأحد خلافه.
أما الاول ؛فغن مالكاً لم يستعمل كلمة الإجماع مطلقة في الموطأ.
وأما متعلقهم في الرسالة فلا يدل على أنه يرى أن تخصيص الإجماع بهم.أو أن إجماعهم إجماع لا تجوز مخالفته.بل غاية ما يدل عليه كلامه أنه حجة عنده ولا يلزم من ذلك أن يكون إجماعاً بمنزلة إجماع الأمة.
ويُبعد ذلك امتناعه عن إلزام الناس بالموطأ حين عرض عليه أبو جعفر المنصور ذلك.
فالمنتقدون للماكية لم يدركوا سر ما قصد إليه مالك في اعتباره لعمل أهل المدينة.ولا حققوا المسالة من أساسها.ولا فهموا اسرارها ومراميها.
وقصارى ما انتهوا إليه أنهم خلطوا بين عمل أهل المدينة وبين الإجماع.
ونفى أبو الحسن الابياري أن يكون العمل عند مالك في منزلة إجماع الامة فقال:ولكنه (أي العمل) عندي لا يتنزل منزلة إجماع الأمة،حتى يفسق المخالف وينقض قضاؤه ولكنه يقول هو حجة على معنى ان المستند إليه مستند الى مآخذ الشريعة ،كما يستند الى القياس وخبر الواحد.
وقال ابو العباس القرطبي :فإجماع اهل المدينة ليس حجة من حيث إجماعهم؛بل إما هو من جهة نقلهم المتواتر.وإما من جهة مشاهدتهم لقرائن الأحوال الدالة على مقاصد الشرع.

الثاني: هل مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة متبع ام مبتدع؟

اشتهر الإمام مالك بعمل أهل المدينة،وارتبط اسمه بهذا الأصل ارتباطاً وثيقاً.فهو أصل من أصول فقهه ،ودليل يعتمده ويحتج به .ومع ذلك لم يبتدع هذا الأصل ولم ينفرد به،ولم يبدأ بتقريره ؛بل هو مسبوق إليه.إذ هو من الاصول التي احتج بها سلفه من فقهاء الصحابة والتابعين،واعتبروه حجة معتمدة عندهم.
ذلك أن مفهوم العمل قد ظهر في وقت مبكر يالمدينة.إذ كانت مدرسة المدينة ترى المكانة العليا لهذا العمل طوال القرون الاولى الى عهد مالك.
وتتمثل قضاياه في أقضية عمر بن الخطاب ،وتتبعه للسنن،واعتماده على مشاورة الصحابة ،الذين كانوا متوافرين بالمدينة.وفي اقضية عثمان بعده.
وجاء التابعون فأخذوا تلك القضايا مع ما انضاف إليها من آثار الصحابة،وأقضية الأئمة ،وكان العمل يتمثل فيما اشتهر من تلك القضايا،وعرف مأخذاً لأهل المدينة.
ومما يدل على اعتبار سلف مالك بهذا الأصل أمران:
أحدهما:الاحتجاج به
ثانيهما:استعمالهم مصطلحات في العمل ،سار مالك على نهجهم فيها ،ونقل بها قضاياه.
وقد أثر عن عدد من أهل المدينة،من الصحابة والتابعين،مواقف متعددة .وأقوال كثيرة،تدل على ان عمل أهل المدينة حجة عندهم.منها:
1- ما روي عن عمر بن الخطاب قال على المنبر:أُحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثاً العملُ على خلافه.
2-كان أبو الدرداء يسأل فيجيب.فُيقال له:بلغنا كذا وكذا بخلاف ما قال. فيقول:وانا قد سمعته.ولكني ادركت العمل على غيره.
3-ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال :إذا رأبت أهل المدينة على شئ فاعلم أنه السنة.
4-نقل ابن عبد البر عن أبي بكر بن عبد الرحمن المدني أنه وصف عمل أهل المدينة بأنه (الحق الذي لا شك فيه)
5-ما رواه قتادة عن سعيد بن المسيب حينما سُئل عن الرجل يتزوج وهو محرم؛فقال (أجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما)
6-ما روي عن ابي الزناد أنه قال:كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء،ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها.وما كان منها لا يعمل به الناس ألقاه،وإن كان مخرجه من ثقة.
وهناك أمثلة كثيرة عنه وعن غيره مثل:سليمان بن يسار والقاسم بن محمد وابن شهاب الزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري.
من هذه النصوص وأمثالها يتبين لنا ان الإمام مالكاً مسبوق بهذا المنهج.وأن سلفه قد عمل به.وجاء هو تابعاً فيه.
ونرى في هذه النصوص ايضاً أثر مدرسة المدينة في شخصية مالك.فكما راى فقهاءها يحتجون بعمل اهل المدينة،رآهم كذلك يستعملون من الاساليب ما يدل على اعتبارهم هذا الاصل.فمنهم من يحتج بما أدرك عليه الناس.أو بما جرى به القضاء عندهم.ومنهم من يعبر عنه بالأمر القديم عندهم.
هذه الاساليب وغيرها،قد سار مالك على نهجهم فيها.فنقل بها قضايا عمل اهل المدينة.مما يوضح جلياً أنه كان شديد الاتباع لهم.بعيدا عن الابتداع. ميالاً الى التأسي بمن سبقه.مجانباً لما يخالف أصول مدرستهم.ولذا كان عمل اهل المدينة أحد الأصول التي اعتمد عليها في الاجتهاد والاستنباط.
فإن كان في ذلك نقد او نقاش فليس من العدل ان يوجه الى مالك وحده.وإن كان فيه حكاية حال،ونقل اخبار وافعال،فهو وغيره ممن سبقه من علماء المدينة،ومن شيوخه ،ومن روى عنهم سواء،إلا أن يكون مالك أكثر فيه النقل.وعدّد فيه القول.فيكون قد اسدى الى الاجيال اللاحقة جميلاً؛حيث حفظ لهم ما لم يحفظه غيره.ونقل إليها ما لم يتح لغيره من ممارسة هذا المنهج مع علماء المدينة؛وخاصة فيما لا نص فيه.
وإذا تقرر أن مالكاً قد سُبق في الاحتجاج بعمل أهل المدينة،فما سبب شهرة نسبته إليه؟
أولاً:كثرة ما ابتلي به من الافتاء
ثانياً:انه دوَّن بعض ما أفتى به معتمداُ على أقوال أهل المدينة،وكان اشهر من أخذ بذلك فنسب القول إليه.
الثالث:مخالفة بعض فتاويه للأخبار التي رواها هو.

ثالثا:عمدة مالك في الاحتجاج بعمل أهل المدينة:

هل الاحتجاج بالعمل عند مالك لأجل الثناء الوارد في المدينة؟
إن الذين استدلوا لحجية عمل أهل المدينة بالأحاديث الواردة في فضل المدينة لم يُصيبوا المعاني التي لاجلها قرر مالك حجية العمل .إذ لم يرد عنهفي مقام الاستدلال لهذا الاصل إشارة الى تلك الأحاديث وما فيها من ثناء على المدينة وأهلها.وإنما قال بحجية العمل مراعاة للاعتبارات الآتية:
الاعتبار الاول:أن القرآن المشتمل على الشرائع،وفقه الغسلام نزل بها .وأهلها هم أول من وُجه غليهم التكليف.ومن خوطبوا بالامر والنهي.وأجابوا داعي الله فيما أمر.وأقاموا عمود الدين.
الثاني:أن أهلها وقفوا على وجوه الادلة من قول الرسول ،وفعله،وفعل الصحابة في زمانه،ووجوه الترجيح،ولذلك لا يُشك في أن اهل المدينة كانوا أعرف بمواقع الوحي.وأجدر بان يُحافظوا على ما سمعوه وشاهدوه.فهم في مهبط الوحي؛حيث يكون فيه الضبط أيسر وأكثر.وإذا بعدت الشقة كثر الوهم والخلط.
الثالث:لبث النبي في المدينة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.وبها كان يُدير شؤون الدين والدنيا .ويبني قواعد الامة.ويُربي الناس.ويحكم بينهم.فجمع بذلك بين الدين والدنيا عبادة ومعاملة.فاعتبر دينه كما اعتبر عمله.
الرابع:أن حاله مع الصحابة الى أن قُبض على اوجه:إما أن يأمرهم بالأمر فيفعلونه.أو يفعل الأمر فيتبعونه.أو شياهدهم على امر فيقرهم عليه.
فلما كانت لهم هذه المنزلة منه ،حتى انقطع التنزيل،وقُبض بينهم .فمحال أن يذهب عليهم _وهم مع هذه الصفة_الحديث.ولا يمكن أن يتصل العمل به من الصحابة الى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه.
الخامس:قام في المدينة من بعد النبي أتبع الناس له من أمته؛أبو بكر.ثم عمر.ثم عثمان.فنفذوا سنته بعد تحريها والبحث عنها،ومع حداثة العهد بالنبوة والتشريع.فكان عملهم سنة تتبع.وعملاً يُعتمد عليه.
السادس:ثم جاء التابعون من بعدهم،يسلكون تلك السبل،ويتبعون تلك السنن.ناظرين الى الدين بمنظار من سَبَقهم.النص في عقولهم.والعمل شائع بين ظهرانيهم.وآثار الرسول معروفة بينهم،ينقلها الاخلاف عن الأسلاف ،والابناء عن الآباء.
السابع:فالمدينة_لما تقدم_قد ورثت علم السنة،وفقه الإسلام في عهد تابعي التابعين ؛وهو العهد الذي رآها فيه مالك،فطفق يحدث بعمل اهل المدينة.وما عملهم إلا قبس من عمل نبيهم الذي عاش بينهم.وخالطهم في السراء والضراء.فاتخذه مالك مطية للتشريع.يصل منه الى تقنين الأحكام ما لم يجد نصاً يعتمد عليه،أو وجده ولكنه لم يطمئن الى صحته.
ومن هنا يتبين خطأ من يعترض على الإمام مالك في اعتبار عمل اهل المدينة حجة من أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة.وأن البقاع لا تعصم ساكنيها.
فالإمام مالك قرر حجية العمل بناء على ما توافر لأهل المدينة من المزايا لم تتوفر لغيرهم،وليس لكونهم ساكنين في المدينة.حتى قال القرافي في نفائسه بعد كلام قرره:وعلى كل تقدبر،فلا عبرة بالمكان.بل لو خرجوا من هذا المكان الى مكان آخر كان الحكم على حاله.فهذا سر المسألة عند مالك،لا خصوص المكان.
وقال رحمه الله:لم يقل مالك :إن إجماع المدينة حجة،لأجل البقعة.
ويندفع بما سبق ما دكره أبو اسحاق الشيرازي ،ونقله الفخر الرازي ،والعلامة ابن القيم؛وهو كيف يكون قول من كان بالمدينة معتبراً حجة ما دام قاطناً بها، فإذا خرج منها لم يكن قوله حجة.ومالك_كما مر_لم يُسند حجة العمل لسكنى المدينة.فلا وجه لهذا الاعتراض.
وعليه،فإن من اتفق له من المزية في نقل الخبر ما اتفق لأهل المدينة يكون هو وأهل المدينة سواء فيما نقلوه عنه،وإن لم يكن ساكناً بها.
العنصر الرابع:متى يقول مالك بحجيته:
هل يقول مالك بحجية عمل أهل المدينة في كل زمان؟
لا يقول مالك بحجية عمل أهل المدينة في كل زمان.وإنما يقصد فترة زمنية محددة.توفر فيها لأهل المدينة من أسباب العلم ما لم يتوفر لغيرهم.ثم انتهت تلك الأسباب وزالت،وصاروا كغيرهم من أهل البلدان الأخرى.
وقد حددها العلماء بما يُسمى الأعصار المفضلة، وهي عصر الصحابة،والتابعين،وعصر اتباع التابعين،قال ابن تيمية:والكلام إنما هو في إجماعهم فيي تلك الأعصار المفضلة .
وورد في ايصال السالك:إن عمل مدينة النبي الذي أجمعوا عليه من أدلة مذهب مالك.والمراد بهم الصحابة والتابعون.
وقال حبيب الله الشنقيطي:عمل أهل المدينة الذي هو حجة عند مالك هو ما كان من الصحابة والتابعين خاصة،لا من دونهم؛لأن مالكاً كان من تابعي التابعين .فالذي هو حجة عنده هو إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين.
ولعل ماخذ هذا القول رسالة مالك الى الليث بن سعد،التي ذكر فيها الميزات العلمية لأهل المدينة، والمنهج العلمي المتبع عندهم.واقتصر في ذلك على الصحابة والتابعين .
واما فترة أتباع التابعين،فليس فيما نقل عن مالك _فيما يبدو_ما يؤكد صحة احتجاجه بعملهم،وإن نصّ البعض على اعتبار العمل فيها حجة.
والذي يغلب على الظن احتجاجه بعمل أتباع التابعين.ويمكن تقوية هذا الظن بأمرين:
الامر الأول:ما جاء في رسالة الليث:بلغني أنك تُفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا،وببلدنا الذي نحن فيه. فواضح أن هذا حديث عن معاصريه.
الأمر الثاني:أنه قد استدل لعمل أهل المدينة في مسالة من المسائل،فقال:الأمر عندنا كذا.فبلغ كلامه ابن أبي ذئب،فقال:ما يحل لمالك أن يقول هذا.ليس هذا مما ظن عليه.فلما علم كالك بقوله قال:أنا لا اعتد براي ابن أبي ذئب.إنما أعتد بمن أدركته من اهل العلم.
فإذا علمنا أن أهل العلم الذين أدركهم مالك،وتتلمذ عليهم،هم من التابعين ومن كان في فترتهم،تبين أنه يعتد في عمل أهل المدينة بالتابعين وأتباع التابعين.

حقيقة عمل أهل المدينة وأقسامه وحجيته:

يظهر من معظم ما كتب حول موضوع عمل أهل المدينة،أنه موضوع شائك،يلفه كثير من الغموض والتردد.وقد أحس بهذا المتقدمون والمتأخرون،
فنجد الإمام الشافعي _على جلالة قدره في العلم والفهم.ومعاصرته لمالك وأخذه عنه_يُسجل هذا الغموض بقوله:وما عرفنا ما تريد بالعمل الى يومنا هذا.وما أرانا نعرفه ما بقينا.
وقرر ذلك غيره مثل البدر الزركشي في البحر المحيط.
فصورة الموضوع إذن لم تكن واضحة لدى كثير ممن كتب فيه.وأكبر دليل على ذلك اختلاف المالكية أنفسهم ،فمن قائل :انه من باب الاجماع.وقال آخرون :انه من باب المتواتر.
وقالوا في مراد الإمام مالك منه:أراد المنقولات المستمرة كالآذان والإقامة.وقيل :أراد إجماعأهل المدينة من الصحابة والتابعين.وقيل:محمول على أن روايتهم متقدمة.وقيل:يعم كل ذلك.
وقال الأستاذ الدكتور أحمد نور سيف وهو أحد المعاصرين:إن زهور العمل ومصطلحاته المختلفة في الفقه المدني قبل مالك،ثم إبراز مالك هذا الأصل في قضاياه ومصطلحاته المختلفة تدل على أن الاعتداد بهذا الأصل،والاحتجاج به ،كان مأخذاً معتبراً عندهم في الاستدلال من قديم.
لكن حقيقة هذا الاستدلال ودرجته عند المدنيين أو عند مالك ليس من اليسير تحديدها بصورة منضبطة الحدود والمعالم.
وأفضل تحديد لمفهوم عمل أهل المدينة هو للباحث عبد الرحمن الشعلان حيث عرفه بقوله:هو ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة كلهم أو أكثرهم في زمن مخصوص سواء أكان سنده نقلاً أو اجتهاداً.
أقسام عمل أهل المدينة:
درج كثير من المتقدمين على تقسيم عمل أهل المدينة باعتبار سنده الى قسمين:
الأول :عمل سنده النقل والحكاية عن النبي.ويُسمى العمل النقلي.
وهذا القسم يشمل قوله كالآذان وفعله كالصاع والمد،وإقراره عليه السلام لما شاهده منهم كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع علمه بكونها عندهم كثيرة.
الثاني: عمل سنده الاجتهاد والاستدلال.ويُسمى العمل الاجتهادي.وهو ما اتفق عليه أهل المدينة أو أكثرهم من المساءل الاجتهادية.
الاستدلال على حجية هذه الاقسام:
أولاً:حجية العمل النقلي:هذا الضرب من النقل لا ينبغي ان يُختلف في حجيته ،بل لم يُخالف في حجيته أحد،لأنه من باب النقل المتواتر.والمتواتر يوجب العلم القطعي،فيجب الأخذ به،فكذلك نقل أهل المدينة.وقد استدل مالك لهذا الضرب من النقل بقوله:انصرف رسول الله من غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفاً من الصحابة.مات بالمدينة منهم عشرة آلاف.وباقيهم تفرق في البلدان.فأيهما أحرى ان يُتبع ويؤخذ بقولهم:من مات عندهم النبي وأصحابه الذين ذكرت.أو من مات عندهم واحد أو اثنان من اصحاب النبي؟
وأشار اليه مالك في مناظرته أبو يوسف في الترجيع في الآذان ومقدار الصاع.
وهذا يدل على أن العمل النقلي بمنزلة الأحبار المنقولة بنصها عن النبي.ولذلك فإن علماء المدينة إذا استندوا في آرائهم الفقهية الى نقل عملي يعتبرون مستندين الى دليل شرعي صحيح.
واستدل القاضي عبد الوهاب على حجيته بقوله :ودليلنا على كونه حجة اتصال نقله على الشرط المراعى في التواتر من تساوي أطرافه،وامتناع الكذب والتشاعر على ناقليه وهذه صفة ما يحج نقله.
وقال عياض:وقد ساءه ما لحق المالكيين من ضيم تجاه الاحتجاج بهذا الأصل:فهذا النوع من إجماعهم... حجة يلزم المصير إليه ويُترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس.فإن هذا النقل محقق معلومه،موجب للعلم القطعي،فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون.
ثانياً:حجية العمل الاجتهادي:
اضطربت الأقوال في ضبط رأي الإمام مالك في العمل الاجتهادي.وعلى أساس من هذه الاختلافات يمكن تقرير ما يأتي
أ-إن كان عملهم الاجتهادي الذي اتفقوا عليه واقعاً في عصر الصحابة ،فالإمام مالك وغيره من الأئمة متفقون على ان الاجماعات الاجتهادية التي استمر الاتفاق عليها حتى نهاية عصرهم حجة شرعية لا يسوغ لأحد خلافها.
ب- أما إن كان عملهم الاجتهادي واقعاً بعد عصر الصحابة الى عصر مالك فهو معترك النزال،وقد اختلف المالكية في حكم هذا النوع عند الإمام:
أولاً:قرر معظم المالكية أنه ليس بحجة،ولا فيه ترجيح على غيره من الأدلة الظنية.وهو قول كبراء مالكية بغداد.
ثانياً:ذهب بعض المالكية الى أنه ليس بحجة ولكن لاتفاقهم -لمزيد فضلهم- قوة يترجح بها على خصوص اجتهاد غيرهم.
وأيد هذا الرأي ابن رشد الجد وابو العباس القرطبي.
ثالثاً:ذهبت جماعة من مالكية المغرب الى أن عمل أهل المدينةفيما طريقه الاجتهاد حجة عند مالك.
ومتمسك هذه الجماعة كون أهل المدينة أعرف بوجوه الاجتهاد،وابصر بطرق الاستنباط،لما لهم من المزية في معرفة أسباب خطاب النبي،ومعاني كلامه ومخارج ألفاظه،مما ليس لغيرهم ممن نأى عنه وبعُد.وقد ثبت أن من حصلت له هذه المزية كان حجة على غيره.
والذي عليه اهل التحقيق من المالكية أن لا حجة في هذا ولا يصح عن مالك اعتماده حجة.وقد نص غير واحد منهم على ذلك.
قال القاضي عبد الوهاب:إن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين .وإنما يجعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه،وليس هؤلاء من ائمة النظر والدليل،وإنما هم أهل تقليد.
وقال ابن رشيق:نسب أبو حامد وغيره من الشافعية الى مالك انه يقول :لا حجة إلا في إجماع أهل المدينة عن رأي واجتهاد.
وجعلوا ذلك سبباً في الطعن في مقاله والإزراء بمذهبه.وهذا جهل عظيم بمذهب هذا الإمام.... وكيف يجوز أن يُنسب الى هذا الإمام أو غيره ما لا يثبت نقله من طريق صحيح.

انتهى نقلاً مختصراً من كتاب منهج الاستدلال بالسنة في المذهب المالكي
تأليف:مولاي الحسين بن الحسن الحيان
والله أعلم
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
انتهى نقلاً مختصراً ليوسف الخطيب من كتاب منهج الاستدلال بالسنة في المذهب المالكي للحسين بن الحسن الحيان.
 
إنضم
29 أغسطس 2008
المشاركات
26
التخصص
لغة ودراسات قرآنية
المدينة
جبل عمور
المذهب الفقهي
مذهب الإمام مالك
بارك الله فيك شيخنا الفاضل شهاب الدين.
1- ما روي عن عمر بن الخطاب قال على المنبر:أُحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثاً العملُ على خلافه.
2-كان أبو الدرداء يسأل فيجيب.فُيقال له:بلغنا كذا وكذا بخلاف ما قال. فيقول:وانا قد سمعته.ولكني ادركت العمل على غيره.
3-ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال :إذا رأبت أهل المدينة على شئ فاعلم أنه السنة.
4-نقل ابن عبد البر عن أبي بكر بن عبد الرحمن المدني أنه وصف عمل أهل المدينة بأنه (الحق الذي لا شك فيه)
5-ما رواه قتادة عن سعيد بن المسيب حينما سُئل عن الرجل يتزوج وهو محرم؛فقال (أجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما)
6-ما روي عن ابي الزناد أنه قال:كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء،ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها.وما كان منها لا يعمل به الناس ألقاه،وإن كان مخرجه من ثقة.
أرجوا ذكر المصادر التي جاءت فيها هذه الآثار؟.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
وفيكم بارك، إلا ان لقب "شيخ" كبير وكثير علي...
أما الأول والثاني والسادس فذكرهم جاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض، أما الثالث فجاء في الاستذكار لابن عبد البر، وكتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي، الرابع من كتاب التمهيد لابن عبد البر، والخامس من كتاب منهج الاستدلال..
 
إنضم
10 يونيو 2009
المشاركات
395
التخصص
فقه واصوله
المدينة
قرطبة الغراء
المذهب الفقهي
المالكي -اهل المدينة-
بوركتم .
من يعين على ايجاد كتب في نصرة عمل اهل المدينة
وفقكم الله
 
إنضم
12 مارس 2008
المشاركات
39
التخصص
القضاء الشرعي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
المالكي
جزاك الله خيرا وبارك فيك يا أخي شهاب الدين الإدريسي ، أنا يوسف الخطيب المالكي الذي نقلت عنه هذا التلخيص جزيت الجنة على هذا النقل ليستفيد طلبة العلم عامة والمالكيين خاصة
 
إنضم
16 مارس 2012
المشاركات
10
الكنية
أبو الحارث
التخصص
أصول فقه
المدينة
المدينة المنورة
المذهب الفقهي
شافعي
رد: عمل أهل المدينة.

حقق المسألة شيخ الإسلام : ؛ فقال:(( التحقيق في (مسألة إجماع أهل المدينة): أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين ، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم ؛ وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي ج مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد ، وكترك صدقة الخضراوات والأحباس ؛ فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء ؛ أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع ؛ كما هو حجة عند مالك ، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. فأبو يوسف : لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل ، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر ؛ رجع إلى قوله ؛ وقال: (( لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت )).
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة -قبل مقتل عثمان بن عفان-؛ فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي ، وكذا ظاهر مذهب أحمد.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح ، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ؛ ففيه نزاع. فمذهب مالك والشافعي: أنه يرجح بعمل أهل المدينة. ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة. ولأصحاب أحمد وجهان ؛ كالمذهبين.
المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا ؟
فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية؛ هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم. وهو قول المحققين من أصحاب مالك )).
انتهى ملخصاً من مجموع الفتاوى(20//303-310).
 
أعلى