العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فتاوى النساء في الدرس الفقهي المعاصر

لبنى السموني

:: متابع ::
إنضم
24 أكتوبر 2013
المشاركات
24
الكنية
ام عمر
التخصص
دراسات اسلامية
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
المالكي
المبحث الأول: واقع الفتوى
لقد مرت الفتوى بمراحل، شأنها في ذلك شأن الفقه وكل العلوم الإسلامية، وقد تزامن ظهورها بنزول الوحي بعد أن تعرض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض القضايا، ففي هذا العهد نشطت الفتوى نشاطا كبير الاتساع دائرة التشريع وفرض الفرائض، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل شيء والقرآن ينزل بالإجابات أحيانا، يوجه نبيه للإجابة عليها، حتى صار له صلوات ربي وسلامه عليه مجموعة من الفتاوى، ولم يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته إلى الرفيق الأعلى حتى ترك فيهم من يتولى هذا الأمر، "فقام بالفتوى بعده بَرْكُ الإسلام، وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم ألين الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا وأصدقها بيانا، وأعمقها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط".
ولما جاء التابعون برز منهم خلق كثير انتهت إليهم الرئاسة في الفقه والفتوى، وبرز منهم الفقهاء السبعة وبعد أن جاء عصر الأئمة الأعلام، كان ذلك حجر الأساس في إقامة صرح الفتوى، إذ تطورت تطورا كبيرا حتى صارت تصدر فتاوى افتراضية لمسائل لم تقع بعد.
ولما دخل الفقه الإسلامي مرحلة الجمود والركود، ركدت الحياة العلمية وأغلق باب الاجتهاد، ومع ظهور النهضة الحديثة التي مست كل جوانب العلوم الإسلامية وخاصة الفقه والفتوى جانب منه، ظهر في العصر الحديث مجموعة من العلماء رأوا أن الفتوى تطبيق عملي للفقه على الحياة، وما كان من التقليد في هذا الجانب لا يخدم هذا الفقه، وهو سبب جموده وتوقفه عن التطور، وبالتالي رأوا أنه يجب أن تستجيب الفتاوى لحاجات الناس نوازلهم وفق العصر الذي يوجدون فيه، والتي لا تصلح لآخر وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال ولا تصلح له في حال أخرى.
ومن هؤلاء العلماء محمد رشيد رضا، محمود شلتوت، مصطفى الزرقا، علي الطنطاوي، أحمد الشرنباصي، ويوسف القرضاوي، وقد حالف بعضهم التوفيق ولم يحالف البعض الآخر منهم نتيجة لظهور خطئهم الواضح في مسلمات بديهية من الدين، كالفتاوى المتعلقة بحل فوائد القروض من المصاريف وصناديق الادخار وشهادات الاستثمار وغيرها من الأمور، وهنا يطرح سؤال عن واقع الفتوى في خضم التعدد واختلاف والانفتاح على المجتمعات، وفي ظل ما يعرفه الواقع من حراك.
لي الحق أن أتساءل، هل الفتوى مواكبة ومتطلعة لحاجات الأمة ؟ هل للمفتين دور في حل جملة من الإشكالات التي يتخبط فيها الدرس الفقهي والواقع المعاصر ؟
أولا : الفتوى بين التسيب والاضطراب
للفتوى كما أشرنا منزلة عظيمة وأهمية بالغة، لذلك فقد أحاطتها الشريعة بسياج الحماية من الجهلة والأدعياء، كيف لا وقد تولى الله سبحانه وتعالى بجلالة قدره ذلك في تنزيله، يقول عز من قائل : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين قلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وقوله عز وجل: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم . وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته كما في قوله تعالى: وما أرسنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون، فلو خلت الأرض من الإفتاء والمفتون لأصاب الناس الحرج الشديد، لن المفتي يعتبر موقعا عن الله عز وجل وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم هذه الأهمية والمكانة العظيمة التي يحظى بها هذا المنصب العظيم، فالملاحظ اليوم، انحراف الفتوى عن المنهج الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ورسمه العلماء، وساروا عليه من خلال فتاويهم، ومن خلال الشروط التي وضعوها للمفتي، فقد تسرب الخلل والفوضى إلى هذا المجال، من خلال ما نراه ونسمعه من انتشار الفتاوى بطرق عشوائية، ففي هذا الصدد نشر مقال بجريدة الخبر، مفاده : "أن هناك فوضى حقيقية في مجال الفتوى. وتجرأ ذريع على الإفتاء، وأورد صاحبه أن هناك استنكار لهيئات الشؤون الدينية وأئمة الفتوى بتشديد الرقابة على مختلف منابر الفتوى، وذلك لما ينشر ويكتب من فتاوى تثير الفتن وفتاوى مسترجلة ترسل للمسلمين عبر هواتفهم النقالة، وبريدهم الإلكتروني من قبل أشخاص مجهولي الهوية، ومواقع إلكترونية لا يعرف أصحابها ولا انتماؤها، على الرغم من وجود هيئة وطنية للإفتاء، على مستوى وزارة الشؤون الدينية".
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : "لقد شهد عصرنا نهضة علمية واسعة في مجال الدراسات الإسلامية وقامت جامعات ومعاهد ومؤسسات لتدريس العلوم الدينية في مناطق كثيرة من بلاد العرب والإسلام، وذاب جليد الركود الذي ساد الفكر الإسلامي طول عصور التخلف تحت حرارة المواجهة مع العصر والواقع، وبرز صراع مرير بين القديم والجديد تمخض عن فئات ثلاث من الناس ...".
إن الضرر المخوف في عصرنا هو ما آلت إليه أحوال الفتوى في العالم الإسلامي من الخطإ أو الانحراف أو الاضطراب والتسيب في الإفتاء وإصدار الأحكام بل والتوقيع عن رب العالمين، وذلك مرده :
أولا: لسعة الدائرة التي تنتشر فيها الفتوى الخاطئة أو المنحرفة، بوسائط الإعلام الحديثة.
وثانيا لأسباب أخرى سماها شيخنا القرضاوي "المزالق الخطيرة أو الأسباب البارزة التي تفضي بالمتصدين للفتوى والمتحدثين باسم الشريعة إلى أخطاء مؤكدة وانحرافات جسيمة".
وقد أجملها في ستة مزالق:
الأول: الجهل بالنصوص أو الغفلة عنها.
الثاني: سوء التأويل.
الثالث: عدم الفهم للواقع على حقيقته.
الرابع: الخضوع للأهواء.
الخامس: الخضوع للواقع المنحرف.
السادس: تقليد الفكر الغربي.
بينما بينها بشكل تفصيلي ومنظم الدكتور عصام أحمد البشير إذ أرجع التسيب والاضطراب في الفتوى في عصرنا إلى خمسة أسباب:
أ) المزالق التي تعود إلى التكوين العلمي للمفتي، يقول: "يمكن حصر المزالق التي تعود إلى التكوين العلمي للمتصدين للإفتاء في عالمنا المعاصر في هذه النقاط:
التقليد غير المستبصر لضعف ملكة استجماع مطلوبات الإفتاء.
عدم اعتبار مآلات الفتوى.
قصور الإلمام بمقاصد الشريعة ومحاسنها.
ضعف الإحاطة بالنصوص المعينة على الفتوى.
الخلل في ضبط المصطلحات الشرعية".
ب) المزالق التي تعود إلى عدم التفريق بين الثابت والمتغير من الأحكام يقول: "يمكن حصر مزالق الفتوى التي تعود إلى عدم التفريق بين الثابت والمتغير من الأحكام في هذه النقاط :
الاجتراء على الأحكام القطعية واعتبارها قابلة للاجتهاد.
مخالفة الإجماع القطعي المتيقن.
الجمود على الفتاوى الموجودة في كتب الفقهاء القدامى دون التنبه إلى متغيرات الواقع.
التعامل مع قضايا القضاء بوصفها مسائل إفتاء".
ج) المزالق التي تعود إلى تساهل المفتي:
ويمكن حصرها في نقاط كذلك :
غياب ثقافة "لا أدري".
تتبع رخص المذاهب والفقهاء.
إفتاء المفتي بخلاف ما يعلم وجوبه.
تتبع الحيل المحرمة والمكروهة.
الركون للأهواء وعدم تحري المفتي الحق والصواب.
الخضوع للواقع المنحرف".
د) المزالق التي تعود إلى تشدد المفتي : وهي على وجه الإجمال :
عدم مراعاة الرخص الشرعية.
التشديد فيما تعم به البلوى.
التساهل في إطلاق الإيجاب والتحريم.
تقديم الأحوط على الأيسر.
عدم الرفق بالمستفتي.
اعتماد المفتي على ما يظنه دليل بمجرده دون اعتماد منهج الاستدلال المعتبر عند أهل العلم".
ي) مزالق تعود إلى ملابسات عملية الإفتاء : توجد بعض المزالق التي تعود إلى كيفية الفتوى وتتمثل في النقاط الآتية:
"ـ عدم تسهيل عرض المعلومات.
ـ عدم إرشاد المستفتي إلى المخارج الشرعية والحلول المباحة المخلصة في المآتم.
ـ التسرع في الفتوى وخاصة على الهواء في القنوات الفضائية".
وللقضاء على مثل هذه المزالق أو على الأقل التقليل منها، إحياء الحسبة على المفتين، يقول الإمام البغدادي في هذا الصدد : "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم ويأمرون بألا يستفتى غيرهم". وقد بين الإمام الطريق في اختيار المفتين الذين يعتمد عليهم الإمام قال : "والطريق للإمام إلى معرفة حال من يريد نصبه للفتوى أن يسأل عنه أهل العلم في وقته والمشهورين من فقهاء عصره ويعول على ما يخبرونه من أمره".
وجماع الأمر أن التسيب في الفتوى مرده الفوضى والاضطراب القائمين بها إلى التجاوز في إصدار الأحكام، ولهذا التجاوز نوعان :
ـ إما تجاوز مجاراة الظروف الواقعة في الفتوى وقبولها والإفتاء بصحتها مع مخالفته للحكم الشرعي، وذلك أن للواقع سلطان على النفوس بتصور صعوبة تغييره، وبالتالي تجب مجاراته.
ـ وإما لغيبة الورع والخوف من الله تعالى، ولو اطلع هؤلاء على سير العلماء الذين كانوا يهابون من الفتوى ويحجمون عنها ولا يتسرعون فيها، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال : "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك".
ثانيا: الاختلاف والتعدد
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة "في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 الموافق 17 أكتوبر 1987 إلى يوم الأربعاء 58 صفر 1408 الموافق لـ 21 أكتوبر 1987" قد نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة وفي التعصب الممقوت من بعض أتباع المذاهب لمذهبهم، تعصبا يخرج عن حدود الاعتدال، ويصل بأصحابه إلى الطعن في المذاهب الأخرى وعلمائها، استعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية وتصوراتهم حول اختلاف المذاهب الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليه المضللون بأنه ما دام الشرع الإسلامي واحدا وأصوله من القرآن العظيم والسنة النبوية الثابتة متحدة أيضا فلماذا اختلاف المذاهب ؟ ولم لم توجد حتى يصبح المسلمون أمام مذهب واحد ؟ وفهم واحد لأحكام الشريعة ؟ كما استعرض المجلس أيضا أمر العصبية المذهبية والمشكلات التي تنشأ عنها ولاسيما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم في عصرنا هذا حيث يدعو أصحابها إلى خط اجتهادي جديد، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقتها الأمة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أئمتها أو بعضهم ويوقعون الفتنة بين الناس.
يشهد الناس في العالم اليوم ومنهم المسلمون والعرب في حياتهم اختلافات كثيرة، بل نزعات وصراعات وحروبا عالمية وإقليمية ومحلية، تزهق الكثير من الأرواح وتظلم وتشرد الكثير، وتؤرق حياة الأكثر والأكثر، فإذا ما بحثنا عن سبب ذلك رددناه إلى الاختلاف والتعدد، ويمكن إجمال ذلك في نقاط :
"السبب الأول في تعدد الأفهام هو السبب الوجودي : ذلك أن الإنسان يكتشف في نفسه وجودا ذاتيا لا يشاركه فيه أحد، فجسمه في وجود مستقل عن الأجسام الأخرى، فلماذا لا تكون له الذاتية المعنوية والعلمية المستقلة عن غيره، مثل جسمه، فكما تتولد عند الإنسان النزعة في امتلاك المعاني الذهنية الخاصة".
فهذه النزعة هي نزعة غريزية طبيعية في وجودها المادي وفي وجودها المعنوي، وهذا ما يدفع الفرد إلى تكوين بنية معان خاصة به، أي عقلا خاصا، لأن العقل بنية معان : ذلك أن العقل البشري لا يقبل على نفسه التقليد أو التفكير العادي أو الدور الهامشي.
"والسبب الثاني في تعدد الأفهام السبب المعرفي الاستدلالي: وذلك بحسب المناهج التي يتعامل معها ويقرأ بها مفكر عن آخر، وحيث أن المناهج المعرفية منها ما هو علمي تجربي، ومنها ما هو علمي نظري، ومنها ما هو عقلي منطقي برهاني، ومنها ما هو عرفاني".
فهذه المناهج وغيرها تسهم في صناعة الاختلاف بين الناس وتعدد الأفهام بين المفكرين، والتعدد يعزى عند ذلك للاختلاف في طريقة تناول الموضوع وصياغته ضمن منظومة المفهومية المحدودة. فقد ينبني عن اختلاف جذري بين المتلقي والمرسل، هذا إن قيل في المواقف العادية يمكن أن يطبق أيضا على المجالات الفقهية، سواء منها القديمة أو المعاصرة، فالاختلاف والتعدد وارد لدى فقهائنا بحسب ما ورد لديهم من العلم والأسباب في ذلك معروفة لا سبيل لإعادة ذكرها في هذا المقام.
"أما السبب الثالث في تعدد الأفهام واختلافها فهو السبب العقدي ... فهو أن المفكر يسعى بكل ما أوتي من أدوات معرفية وسياسية لإثبات فرديته الفكرية المتميزة عن الآخرين، أي إن الدافع عنده هو إثبات صحة عقيدته مقابل تخطيء العقائد الأخرى، وبغض النظر عن القيمة الحقيقية العلمية لعقيدته أو عقائد الآخرين، لأنه يرى من الواجب عليه الانتصار لعقيدته".
فغالبا ما تكون العقائد التي يدافع عنها موروثة أو يعتقدها كدين مثل العقائد الإسلامية التاريخية كتيار السنة، وتيار الشيعة مثلا، والحال كذلك في العقائد اليهودية والصائبة وغيرها، ولكن الدين الحق بنفسه ليس سببا للاختلاف، لأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لهداية الناس كافة، كما في القرآن الكريم، فإذا وقع الاختلاف بين المؤمنين به، محقوا في فهمه، والاجتهاد في تفسيره، وتأويل عقيدة وفقها وسياسة.
"أما السبب السياسي في تعدد الأفهام بين البشر فهو إيجابي في حالة كونه اجتهادا للقيام على النفس والجماعة بالحق والإصلاح والاستقامة، ولكنه سلبي عندما يصير أداة وليس سببا حقيقيا، وبالأخص إذا استغل العلم والعلماء أدوات كاذبة وخادعة في وسائله، والخداع عندما يكون ذلك المفكر أو العالم أداة علمية في يده الملك أو الرئيس أو الوزير، فيدعوه إلى تشكيل الهوية المتميزة لذلك البلد عن البلدان الأخرى".
وغالبا ما يعلن عن السببين السابقين ويبقى السبب السياسي سرا.
"السبب الجغرافي : فهو يدفع أهل الشمال للاختلاف عن أهل الجنوب، وأهل المشرق بالتميز عن أهل المغرب، فلأهل المغرب مفكروه وعلماؤه وفلاسفته، ولأهل المشرق مفكروه وعلماؤه وفلاسفته ..".
ثم أخيرا "السبب الاقتصادي: فهو يدافع عن فئات تتناحر في الأفكار والمذاهب الفكرية والشعبية، التاريخية أو المعاصرة سواء أكانوا مؤلفين كبارا أم قصاصين شعبيين، أم أصحاب دور نشر ومطابع، أم مرتزقة من العلم والكتب وتجارة الورق ...".
وهذه الأسباب في جملتها لا تخرج عن الأسباب الموضوعية لاختلافهم، وهي المرتبطة بطبيعة الإنسان المعرفية وقدراته التي تؤدي إلى تفاوت الناس إدراكهم، والمرتبطة أيضا بطبيعة المادة العلمية المبحوثة، إذا كانت قابلة لتعدد الاجتهاد فيها والمرتبطة كذلك في قدرات الاجتهاد نفسه إن كان اجتهادا فرديا أو اجتهادا جماعيا، والمرتبطة من جهة أخرى في شرعية الجهة التي يصدر عنها الاجتهاد الفقهي أو العقدي أو السياسي، فالأصل أن الاحتهاد لا يصدر إلا عن ولاية شرعية، والذي لا ريب فيه أن "من الفروع المهمة لهذه التقوى التي هي أصل الإفتاء، والاجتهاد استقبال الخلاف الفقهي كظاهرة طبيعية منتظرة من جمهور المشاركين في النظر الفقهي وعدم التبرم من ذلك، وخاصة في المواطن التي يضبطها نص وتحتاج إلى الرأي "وما كثر فيه الاجتهاد : كثر فيه جواز الخطأ، وما قل : قل كما يقول الإمام الجويني". فالاجتهاد واقع لا محالة في الفتوى، ولذا نبه عليه العديد من العلماء، وأصلوا له من الكتاب والسنة وألفوا فيه الكتب والدواوين، وكما أن واقعنا اليوم حافل زاخر باختلافات شيوخنا في العديد من القضايا إذا لم نقل جلها، وتبعا لذلك وصى علماؤنا وساداتنا عن ضرورة البحث في آراء العلماء في النازلة، سواء في آراء السابقين أو المحدثين، يقول الدكتور عبد الله الهلالي : "وإذا وجد في الفتيا خطأ مجمعا عليه أو مختلفا فيه، فإن كان المفتى به مذهبه يقتضي أنه خطأ فهو منكر تجب إزالته، وإن كره رد الفتيا، لأن الفتيا بخلاف الاعتقاد حرام". والكلام في الشروط وما ينبغي أن يكون عليه حال الفتوى كثير ومستفيض، مجاله كتب الإفتاء بالكلام والتحليل.


ثالثا : مراعاة واليسر في الفتوى
لاشك أن من خصائص الشريعة الإسلامية السماحة واليسر ورفع الحرج حتى ذكر الإمام الشاطبي: "أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع".
يقول الإمام الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط، فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك فإن المستفتي خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب للوسط مذموما عند العلماء الراسخين" وقال الإمام القرافي رحمه الله : "وإذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تسهيل فلا تفتي العامة بالتشديد، والخواص وولاة الأمور بالتسهيل، وذلك قريب من الفسوق والخيانة ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى، والحاكم كالمفتي في هذا".
وقال ابن القيم الجوزية : "لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي من حرج جاز ذلك بل استحب وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنت بأن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به المرأة ضربة واحدة، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالا إلى بيع التمر بالدراهم ثم يشتري ثمرا آخر فيتخلص من الربا، فأحسن المخارج ما خلص من المآتم، وأقبح الحيل ما وقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم".
والذي يتحمل ما قيل أن المفتي يجب أن يرعي مبدأ اليسر ورفع الحرج وأن يحمل المستفتي على الوسط في الأحكام من غير إفراط ولا تفريط، وأن يخبر بالرخصة في محلها لمن ثبتت له، لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، كما ينظر بين الأقوال في المذهب الواحد فيرجح بينها بموازين الترجيح، وينظر أقربها إلى الحق مع قوة الدليل، وأقربها إلى مبدأ اليسر ومراعاة الأحوال الزمانية والمكانية في ذلك.
وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي : أن طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه وكيف طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغويات بالشر والعوائق على الخير وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وعن شمال، ومن بين يديه ومن خلفه تريد أن تقتلعه من جذوره وتأخذه إلى حيث لا يعود، والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، قلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه، ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة، ترغيبا في الدين وتثبيتا لأقدامه على الطريق القويم، قال سفيان الثووي : "إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل واحد".
وليس معنى هذا أن ألوي أعناق النصوص رغما عنها، لأستخرج منها ـ كرها ـ معاني وأحكاما تيسر على الناس، كلا، فالتيسير الذي أعنيه، هو الذي لا يصادم نصا ثابتا محكما، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام".
والمتطلع في كتب الأصول والفقه يلمس شروط العمل بالأدلة، والغاية منها ترمي إلى تلمس جانب اليسر والتخفيف على عموم المكلفين تبعا لقصد الشارع في ذلك ابتداء يقول عز من قائل: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فالعمل بالأعراف حسب تغيرها ما لم تصادم نصا شرعيا واجبا، بل لا مانع في ذلك من تجديد الحكم، إذ الحاجة إليه "تبرز فيما إذا ترتب على تطبيقها حرج شديد أو مشقة أو مضايقة، يكون التجديد فيها مطلوبا إعمالا لمبدأ دفع الحرج في الإسلام، وللقاعدة الشرعية الكلية "المشقة تجلب التيسير". وإذا ضاق الأمر اتسع، وكذلك إذا كان الحكم الفقهي مجافيا لمقتضى المصلحة والواقع، وكانت المصلحة من جنس المصالح المعتبرة شرعا ومراعاة مقصود الشارع بحفظ الدين، والعقل والعرض أو المال، فيكون التجديد سائغا، إعمالا لمقتضى المصلحة، وعملا بمقتضى مبدأ اليسر والسماحة التي قام عليه التشريع الإسلامي".
محصول المقال أن مبدأ التيسير في الفتوى من القضايا التي تجاذبها الطرفان: طرف قاض بالتشديد وإلزام الناس ما لا يطيقون أو ما يشق عليهم أو يعجزهم بحجة الأخذ بالأحوط، وذلك لعدم إحاطته بمسالك التيسير وتغيير الفتوى، أو تقليدا منه لأئمة معتبرين من غير اعتبار أن بعض فتواهم كانت مبنية على عوائد أو أعراف، أو مصالح كانت موجودة في زمانهم، وكذا "التعصب للمذاهب والأشخاص، وهذا المسلك يؤدي بالمفتي إلى الاعتقاد أن الحق مع إمامه أو مقلده في المسألة ولو اختلف مناط الفتوى أو احتاجت إلى اجتهاد جديد".
هذا فضلا عن التمسك بظواهر النصوص، ولا خلاف أن النصوص الشرعية محل تعظيم، لكن الإشكال في عدم معرفة مدلولاتها وفقهها، وقد وقع أصحاب هذا الاتجاه في إشكالات عدة وأوقعوا الناس في مشكلات.
ولا ريب أن السلوك بالناس مسلك التشديد ينافي روح الشريعة الإسلامية ونصوصها ومقاصدها القطعية، وطرف آخر فرط فجعل من التيسير مدخلا للتلاعب، فصار يتبع رخص العلماء وجعل منها دينا، روى البيهقي عن إسماعيل القاضي (ت 282 هـ) قال دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابا قد جمعت له فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: "مصنف هذا الكتاب زنديق، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر بإحراق الكتاب".
وقال النووي : "لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا لهواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب من الجواز، وذلك قد يؤدي إلى الانحلال من ربقة التكليف".
والواقع المعاصر للمتوسعين في مفهوم التيسير يشهد بتجاوزات، فربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا يحتمل وجها في اللغة أو الشرع، كما أن ضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوغ التضحية بالثوابت والمسلمات والتنازل عن القطعيات، مهما بلغت المجتمعات من تغيير وتطور.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله "ولعل أصحاب هذا التوجه يريدون إضفاء الشرعية على الواقع، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية تعطيه سندا للبقاء، وربما كانت مهمتهم تبرير أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة، ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصا مقتنعا لا يبتغي زلفى إلى أحد، ولا مكافأة من ذوي سلطان، ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته، ومنهم من يفعل ذلك رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو من وراءهم خلف الكواليس أو حبا في الظهور والشهرة".
وإذا جمعنا الرأيين بزغ طرف ثالث سلك مسلك التيسير المنضبط، فكانت وسطا بين الإفراط والتفريط، بين التشديد والانحلال، فلا شدائد ابن عمر ولا رخص ابن عباس، فعملوا له ـ مبدأ التيسير ـ ما لم يخالف النصوص والمقاصد الشرعية، وكان بذلك تحت أصل مشروع، يقول الإمام الشاطبي : "والخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا، لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد".
ولذا رأى أن الأئمة لم يتوانوا في سلوك مذهب التيسير متى كان سائغا، وقد نقل عنهم ما لا يحصى من المسائل التي سلكوا فيها هذا المسلك، فقد عقد الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بابا في كتابه "الفقيه والمتفقه" سماه باب التمحل في الفتوى فقال "متى وجد المفتي للسائل مخرجا في مسألته، وطريقا يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه، كرجل حلف أن لا ينفق على زوجته ولا يطعمها شهرا أو شبه هذا، فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها، أو دين لها عليه، أو يقرضها ثمن بيوتها، أو بيعها سلعة وينولها من الثمن ...".
وخلاصة القول إن مبدأ التيسير دعت إليه الشريعة ودلت عليه نصوصها وتمثل بها علماؤها في إصدار الأحكام الشرعية على ما استجد من النوازل الفقهية بالنظر إلى ما فيه مصلحة للمسلمين، والتي لا تخالف مقصدا شرعيا ثابتا من مقاصد الشريعة.
المبحث الثاني: واقع المرأة المعاصرة
إن المتأمل في واقع المرأة المسلمة في كثير من البلاد الإسلامية، يلحظ غياب المرأة المسلمة المثقفة عن القيام بدورها الفعال في بناء المجتمع المسلم المعاصر، على الرغم من أهمية دورها، وخطورته في مثل هذا الزمن الذي تتنازع الإنسان فيه المذاهب المختلفة والمشارب المتنوعة التي تسعى جاهدة لانتزاعه من جذوره، والإلقاء به في خضم تيارات التيه والتغريب، فمما لا شك فيه أن المرأة تشكل جزءا هاما وحيويا من بناء المجتمع، وبالتالي فإن أي خلل يطرأ على قيامها بدورها يظهر أثره واضحا على بنية المجتمع وسيره، ويحق لي هنا أن أتساءل عن السبب الذي من أجله تأخرت المرأة المسلمة ؟ وهذا ما سأحاول توضيحه فإذن الله تعالى وتوفيق منه في هذا المبحث، وذلك في نقطتين :
أولا : ضعف الوازع الديني
ليس هناك من شك في أن المرأة حظيت باهتمام كبير في المرحلة المعاصرة نتيجة إدراك دورها الإسلامي والحيوي في المجتمع، وليس هناك من شك أيضا في أن نتيجة هذا الاهتمام راجع إلى ما نالته المرأة من حقوق لم تكن تحظى بها من قبل عند كثير من الأمم والشعوب، كما أنه لا ريب في أن المرأة المؤمنة بالإسلام العارفة به ترضى بحكم الله سبحانه، فتنصرف إلى العمل من أجل فضله العظيم، فهو الوهاب الكريم القائل جل وعلا : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما .
والمرأة المسلة تدرك أنها كالرجل، تتحمل مسؤوليات عديدة في سبيل المحافظة على الإسلام، ونشر أخلاقه بين الناس.
ومن المسؤوليات التي تحقق هذا الغرض :
- أخذها حظا كافيا من المعرفة التي تمكنها من فهم واجباتها وحقوقها لكي تعطي كل ذي حق حقه.
- تصحيح عقيدتها بنفي الشرك عن الله سبحانه وتعالى، وتحقيق العبودية له والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغير ذلك من أركان الإسلام عملا بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : "والمجتمع المسلم حين يفتقد نساء مؤمنات بعقائد الإسلام تسود فيه الخرافة بين النساء وينتشر السحر والمكر، وتكثر المفاسد التي تعرض المجتمع إلى الضعف والانحلال".
ـ تؤدي الصلاة في أوقاتها، والزكاة إذا وجبت عليها طبق أحكام الشريعة وتصوم رمضان وتحج البيت وتعتمر، وتشارك في حفظ قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستمرار العمل بها في المجتمع المسلم، جاء في منار أصول الفتوى أنه "إذا كان سلفنا الصالح علماء ومتعلمون وأميون، حكام ومحكومون، رجالا ونساء، يحرص على أن لا يقوموا بأي فعل حتى يعلموا حكم الله فيه، فإن ذلك كان مرده لقوة تدينهم، وكثرة ارتباطهم بربهم ومراقبتهم له، أما اليوم فإن كثيرا من الناس عطلوا وازعهم الديني، وبذلك غابت مراقبتهم وخشيتهم لله، بل منهم من أعرض عن دينه وانساق وراء شهواته فصدق عليه قول الله تعالى : "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" " والمرأة في ذلك سواء، فكان من الطبيعي أن يؤدي ضعف التدين عندها إلى الإعراض عن هذا المجال فما هو السبب في ذلك مع العلم أن المسلم لا يحل له أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ؟
في نظري المتواضع، أن هذا الأمر راجع إلى وجود خلل في المرأة ذاتها بالدرجة الأولى واستسلامها لما ورد عن الفقهاء بنعتها به وفق ما كان يوافق عصرهم، علما أنه عصر كان حافلا بالعالمات الجليلات، فالخلل في عصرنا حيث كان مقصود إبعادها عن الساحة الفقهية بتكريس الفقه الذكوري، وأن حق المرأة القبع في المنزل ولا حاجة لعلم أو تعلم أو عمل، رغم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة كما ورد ذلك في حديث المصطفى العدنان.
ولما كان الجهل بالشرع ومقاصده أحد الأسباب الكبيرة التي تؤدي إلى الفتن وغوائلها، فإن الفقه في الدين وتجويد أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هما الواقيان من شر الفتن قبل وقوعها كما أنهما الدواء والعلاج للفتن بعد وقوعها، كل ذلك على افتراض الإخلاص ونبذ الهوى، لأن دور العلم هو الكشف عن الشبهات وبيان الرشد من الغي والحق من الباطل.
ولكي تساهم المرأة في بناء المجتمع الإسلامي القائم على الأسس الشرعية، فلابد من إعدادها إعدادا جيدا، وذلك من خلال تأصيل العلم الشرعي في نفسها، وتطبيقه سلوكيا، ففي نظري كلما كان المجتمع النسائي المسلم ملتزما راشدا ومستنيرا، أعان على بناء المجتمع الإسلامي وزاده قوة وتماسكا، ويصبح بذلك نسيجا متكاملا لا يمكن فصل أجزائه بعضها عن بعض، إذن لابد من تقييم لوضع المرأة المسلمة من قبل أصحاب الخبرة والمسؤولية في هذا المجال لوضع الحلول المناسبة لكل ما تعانيه من تقصير وتقهقر ولامبالاة، لأن الواقع كما نعيشه متحدث بذلك.
إن ما نشاهده اليوم في بعض المجتمعات العربية والإسلامية من انحلال خلقي، ما هو إلا نتيجة لعدم التزام المرأة بالأحكام الشرعية كما أرادها الدين الإسلامي، وكل من ينكر هذه الحقيقة فإنه يخادع نفسه، فللمرأة دور كبير وتأثير شديد في ضبط أي مجتمع أو انحلاله وفساده لأنها تشكل نصف المجتمع، إذن فلا يمكن أن يستقيم المجتمع النسائي المسلم إلا من خلال تطبيقه للمنهج الإلهي، لأن غيابه عن حياته يعرضه للزلل والانسياق وراء أهواء النفس الأمارة بالسوء في كل زمان ومكان. فكلما ضعف الوازع الديني وانتشر الجهل بالشرع في أي مجتمع إسلامي، أدى إلى خلل في العقائد والسلوك، ومن ثم تنتشر البدع والخرافات، وتجد لها تربة خصبة لنموها وترعرعها، وتتفاعل معها على أنها حقائق مسلم بها، ولنا أن نتساءل : من المسؤول عن هذا الوضع وتكريسه ؟
إن المسؤولية متعددة الأطراف، أولها الأسرة لأنها المحضن الأول للأبناء والمسؤول عن توجيهاتهم وغرس العقيدة وتعميقها في نفوسها وكذلك القيم والمفاهيم والسلوكات الحسنة التي دعا إليها الإسلام، فهي حتما تبدأ من الأسرة، فإن لم تؤدى هذه المسؤولية على أكمل وجه، فسيتعرض الأبناء إلى كل ما في المجتمع من سلبيات وتأثيرها عليهم وبالتالي استقطابهم من طرف بعض التيارات الدينية المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، وما أكثرها في زماننا هذا، وعلى سبيل المثال ظهور ما يسمى بعبدة الشيطان في بعض البلاد العربية، وهذه حقائق لا يمكن لأحد إنكارها، فإن كانت الأم مدرسة جيدة تربي أبناءها كما أمر الله سبحانه وتعالى وبمعونة وتوفيق منه ستكون نتائج التربية حسنة.
ثم يأتي دور الإعلام في المسؤولية، لأن له دور مهم وكبير في حياتنا المعاصرة، وله من الأهمية ما يجعله في المرتبة الثانية بعد الأسرة في تنشئة الأجيال وتربيتها، فبدلا من أن يقوم الساهرون على الإعلام في البلاد الإسلامية بتوجيه المرأة الوجهة الصحيحة وإثرائها فكريا وترسيخها عقديا وثقافيا، ومساعدتها على تعلم العلوم الشرعية من فقه وغيره كي يكون الزاد الذي تتلقى به الأجيال، تراهم قد بذلوا جل طاقاتهم لتكوين رأي عام ضد القيم الإسلامية، والترويج للقيم والسلوكيات الغربية، فقد قصروا دورها وحصروه في كونها بضاعة يهتم بمظهرها من جميع النواحي، مما ساعد على تخلفها وإضاعة وقتها في أمور تبعدها عن أي تقدم أو تطور، أو بشكل عام عن المقصد الذي خلقها الله تعالى من أجله، هذا هو دور الإعلام اليوم أثر في تراجع المرأة وأبعدها عن أداء دورها ومشاركتها في إعداد قادة الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
فمن خلال هذا الواقع الأليم أستطيع أن أقول، إن المسؤولية تضاعفت في عصرنا الراهن بالنسبة للأسرة عامة والمرأة خاصة للمشاركة في مجابهة وسائل الإعلام وبث روح الاعتزاز بأننا خير أمة أخرجت للناس، كما لا ننسى هنا أن للزوج دور مهم في توجيهها، وتعليمها ومحاولة إثراء فكرها بالعلوم الشرعية، لكن من المؤسف اليوم أننا نرى أن معظم الرجال قد انشغلوا بأنفسهم عن إفادة النساء في أمور دينهن وعدم تشجيعهن والأخذ بأيديهن إلى الطريق الصحيح.
تلك كانت بعض الأسباب المهمة التي جعلت المرأة من ضعف في الوازع الديني وعدم التفقه في الدين، ولنا أن نسأل : ما هو الحل ؟ إذا عرفنا الأسباب فالحل واضح، وهو علاج تلك الأسباب.
ثانيا : دخول المرأة سوق الشغل
لقد كثرت التساؤلات في هذا العصر عن رأي الدين الإسلامي في شغل المرأة خارج بيتها وسماحه لها بالتكسب وضمان حق مادي لها يقيها الحاجة والخصاصة، وطفحت سجلات الأحداث ومقالات الوصف، فامتلأت صفحات الجرائد وملفات المجلات وصدر العديد من المؤلفات، تناول مشكل شغل المرأة وتشغيلها، وفاضت في الموضوع أقلام الكتاب بالتحليل والوصف والبيان وإصدار الأحكام، فهؤلاء يصفون خلفيات سيئة تمس الأسرة وتعود على المرأة نفسها بالوبال والخسران، وتحامل آخرون يذكرون مزايا عمل المرأة ويزكون استثمار إمكانياتها وأهمية مردودها الإيجابي الذي ينجز لشخصها والإفادة لأسرتها ومجتمعها ماديا وعلميا.
يقول الدكتور عصمة كركر : "لم يشهد العهد النبوي الشريف المصانع ولا الصناعات الحديثة ولم يحتلوا المشاغل العمومية، ومع ذلك اتسم أفراده بالحركة المستمرة والحركية الذائبة، ففيه المهن الحرة والصناعات الصغرى، وتعامل الكل مع الرعي والفلاحة والتجارة والصناعة واتخاذ الحرف المختلفة للتكسب وضمان الرزق الحلال،... فاشتغل أصحابه رضي الله عنهم ... وكذلك الصحابيات الجليلات بدءا من نسائه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن".
ومن أهم النصوص الدالة على أن المرأة كانت تشتغل في العهد النبوي ما ذكره أنس بن مالك : "كانت المرأة بالمدينة عطارة تسمى الحولاء وكانت قد زارت بيت أم المؤمنين عائشة رشي الله عنها تشكو أمر زوجها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إني لأجد ريح الحولاء، فهل أتتكم وهل ابتعتم منها شيئا".
كما وصفت زوجة عبد الله بن مسعود بأنها كانت امرأة صناعة وليس لعبد الله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من ثمن صنعتها، ورغبت في الصدقة لأجل الأجر فسألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إني امرأة ذات صنعة فأبيع وغيرها من النماذج التي أغنت الفقه القديم، لكن السؤال المطروح اليوم في ظل ما يعرفه عصرنا من تأزم أوضاع وصعوبة حياة، ما موقف العلماء المعاصرين من دخول المرأة سوق الشغل؟
إن الدراسة العلمية المعرفية المتكاملة لموضوع واجبات المرأة ومسؤولياتها في الإسلام تقتضي الانطلاق من الإطار المرجعي الضابط للرؤية والحاكم للمنهج خصوصا وأننا شعوب إسلامية يجب أن ننطلق من النظر إلى ذواتنا من خلال الخصوصية لا من خلال الاستلاب، فمشاركة المرأة في التصور الإسلامي أمانة وتكليف ومصلحة شرعية راجحة، ومسؤولية حضارية أكيدة سندها شمول الاستخلاف وتحمل الأمانة، أما في المنظومة الغربية فمشاركة المرأة حق تطالب به، وهدف تطمح إليه وهو بالتالي مصلحة شخصية، والفرق بين الأمرين واضح، تقول الدكتورة جميلة مصدر "إن خصوصية الانتماء لأمة الإسلام تحيل على السمة العامة للرؤية الإسلامية لمختلف قضايا الأمة التي تقتضي بالضرورة الانطلاق من أصولية المنهج في احتكامه إلى الوحي ... وعليه فإن ما نعيشه اليوم من "عولمة لقضية المرأة" وضرب لخصوصيات الأمة والشعوب في هذا المجال، إنما هو شكل من أشكال الهيمنة التي يحاول النظام العالمي الجديد فرضها على العالم، فعبر استقراء الطرح العالمي للقضية في المؤتمرات الخاصة بالمرأة نجد ميلا واضحا لنسخ المبادئ العامة والقيم الراسخة للأمم والحضارات وطمس هويات الشعوب".
إن الذي تبث في الشرع أن الرجل هو المسؤول عن نفقة زوجته، فهو يخرج للعمل من أجل توفير نفقتها، وهي راعية في بيت زوجها، ولاشك أن هذه الرعاية تتطلب احتباسها في بيت الزوجية، فلا تغادره إلا باتفاق بينها وبين زوجها، وقد أوضح العلماء قديما أن المرأة إذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزا تسقط بموجبه نفقتها اللهم إلا إذا كان خروجها خروجا محدودا غير مطرد، فما عساه يكون الحكم إذا خرجت للعمل وهو يستغرق نهارها كله وذلك كل يوم ؟
لقد تضاربت الأقوال في جواز عمل المرأة وتحريمه، مستندين في ذلك على ما ورد في القرآن وصحيح السنة النبوية، ومن الذين قالوا بالتحريم ربطوها بمبدأ الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح "مشاركة في مكتب واحد" أو على جهة التلويح "الاتصالات الهاتفية" بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة، ومن هؤلاء الشيخ محمد الأثري حيث يقول "وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي، إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها، فالدعوة إلى نزول المرأة إلى الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه"، مستندا في ذلك إلى قوله تعالى : "وقرن في بيوتكن. ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقم الصلاة وءاتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا".
ويرى الدكتور أحمد نصري أن مثل هذه الآراء جرت علينا فيقول : "من جهة أخرى وجه المستشرقين لمسألة تحريم الاختلاط بين الجنسين في الإسلام مجموعة من الانتقادات، ورأوا أن الإجراء الإسلامي يحد من حرية المرأة بل يسجنها داخل البيت، فقد ذكر Paul Baltay أن الاهتمام بعزل الجنسين في الإسلام قد أدى إلى سجن النساء، أما كاردي فوفيري فيرى أن العادة قد طورت عزل النساء عن الرجال من عقاب إلى قاعدة عامة للإسلام وأن حبس النساء في البيوت قد اتخذ ذريعة لحماية النساء من السقوط في الفاحشة".
ويقول الدكتور أيضا معلقا "ومعلوم أن اختلاط الجنسين إذا لم يكن له حدود أو نظام مرسوم، تحول إلى فوضى لا ضابط لها، لهذا عنى الإسلام بوضع شروط لهذا الاختلاط، فمنع المسلمة بأن تختلط بأحد من الرجال وتخلو به إلا أن يكون زوجا أو محرما حرمة مؤبدة كأبيها وأخيها، وكذلك لا يجوز لها أن تسافر إلا مع زوج أو محرم حرمة مؤبدة إلا لضرورة مؤبدة".
لكن هل هذا ما حير علماء الأمة في تحريمهم لدخول المرأة سوق الشغل، أين هي حاجاتها وكذا إكراهات العصر وظروفه ؟ وليس أيضا بالضرورة أن تخرج للعمل وهي متزوجة، فهناك الغير متزوجة ما حكم عملها ؟ الأسئلة المطروحة على الساحة كثيرة لا نجد أي جواب عليها عند أي فقيه أو مفكر قديم أو معاصر، بل كل الحديث كان عن المتزوج والاختلاط وضوابطه، ومن تحدث عن العصر نسب لها الانبهار والانسياب والتقليد الأعمى لما هي عليه المرأة الغربية كما ذكر ذلك الدكتور محمد هيثم الخياط حيث قال : "منذ أن نشأت الفكرة الحديثة عن حقوق الإنسان في الغرب كمحتوى دنيوي وجد المسلمون عامة والنساء بخاصة أنفسهم في مأزق ... فأصبحن مؤيدات أو فاعلات في حقوق الإنسان بأنه واقعيا كل المجتمعات الإسلامية تضطهد النساء من المهد إلى اللحد، هذا يدفع بالعديد منهن لينصرفن بعمق عن الحضارة الإسلامية بعدة طرق، هذا الإحساس المر بالانصراف يقود في العديد من المرات إلى الغضب والمرارة تجاه النظام الأبوي للتفكير والبنى الاجتماعية المسيطرة في معظم المجتمعات الإسلامية، فتجد النساء المسلمات غالبا دعما وتعاطفا في الغرب طالما يظهرن كمتمردات ومنحرفات العالم الإسلامي فأنا لا أحبد ما يقولون تبريرا".
فمع أني لم أجد ما ينصف المرأة ـ باعتباري منهن ـ بل كل الآراء ضدها، باستثناء ما ورد عند العلماء القدامى من بيان لمكانتها في الإسلام وتشريفه وتكريمه لها، ففي هذا المقام سأحاول قدر الإمكان إبراز بعض الأسباب التي أراها حسب ما يجري في الواقع أنها الدافع لدخول المرأة سوق الشغل والبحث عن لقمة العيش مع شقيقها الرجل، فأقول :
لقد وجدت المرأة المعاصرة نفسها مدفوعة بعوامل عديدة ومدعوة بعوامل أخرى، منها ما هو نفسي ومنها ما هو اقتصادي اجتماعي ومنها ما هو ثقافي حضاري، وما هو إنساني أخلاقي، لتلقي بذاتها في معترك العمل بعد أن أتيح لها نصيب لا بأس به من العلم والتعليم بجهدها وجهادها، ويرجع خروج المرأة إلى العمل للأسباب الآتية :
الحاجة المادية إما لفقدان العائل أو رغبة في مساعدته والإسهام في دخل الأسرة بغية تحسين العيش.
استغلال المواهب فيما يعود على الأمة بالخير العميم.
محاولة الاستقلال الذاتي والاقتصادي عن الرجل.
إشباع الشعور بالنقص الناتج عن انتقاص الرجل للمرأة وعدم احترامه لها.
المشاركة في الحياة العامة بصفة عامة.
شغل أوقات الفراغ خاصة بعد إنهاء مرحلة التعليم.
الخوف من المستقبل بفقدان العائل بسبب وفاة أو طلاق ...
كل هذه الأسباب تحيلنا إلى أن الأصل في تعامل الشارع وخطابه ـ قرآنا وسنة ـ موجه للرجال والنساء على حد سواء، بدءا من تقرير الكرامة الإنسانية وانتهاء بتقرير المسؤولية الجزائية والمص**
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قد استقر في عرف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكر إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول الرجال والنساء".
ويقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في حديثه عن منطلق الشريعة "وقد استدعى هذا المنطلق أن يكون كل من الرجل والمرأة شريكا للآخر في كليات الحقوق الإنسانية دون أي تمايز أو اختلاف ألا وهي حق الحياة وحق الحرية وحق الأهلية، كما استدعى أن يكونا شريكين في الواجبات التي تقتضيها عمارة الحياة الإنسانية طبقا للمنهج الذي شرعه الإسلام من إصلاح الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع، يتقاسمان بينهما جهودا متكافئة الخطورة والأهمية في سبيل تلك الحياة ورعايتها".
هل هذا كله ترف مجرد، ومحاكاة غير واعية لمسيرة المرأة في الغرب وتقليد أعمى لها ؟ أم أنها أصوات حق تنطلق من أعماق ظلم وقهر ؟ وهل يمكن أن يكون هناك ظلم حقيقي في مثل هذا العصر الذي نالت فيه المرأة المسلمة في كثير من المجتمعات الإسلامية قسطا وافرا من العلم والثقافة، واقتحمت فيه ميادين الحياة العلمية والعملية، وتبوأت فيه العديد من المناصب.
ولي أن أختم هذه الورقات بقول الدكتورة سارة بنت عبد المحسن "إن افتقاد المجتمعات الإسلامية لتوازنها وتصارع المتناقضات في داخلها وغياب الرؤية الواضحة والفهم الصحيح لمبادئ الإسلام وأحكامه واقتحام الفكر الوافد بما يحمله من خليط غير متجانس قد انعكس ذلك على موقف المرأة المسلمة المعاصرة من نفسها ومن مجتمعها وقد تمثل ذلك في موقفين :
الأول: السلبية المستسلمة: إن الوأد النفسي والتربوي والاجتماعي الذي تعرضت له المرأة المسلمة اليوم، رسخ في داخلها شعور الشغف والانكسار والاستسلام للواقع، فأصبحت سهلة الانقياد.. لا تترك لها مجالا لنظر عقلي أو تمييز فكري مكتفية بدور الشاهد لتسقط عن نفسها واجب التكليف وما يستلزمه من تحمل المسؤولية.
الثاني: الانهزامية النفسية: إن الظلم الذي تعرضت له المرأة، والإهمال الذي عانت منه وضعف رصيدها العلمي وثقافتها الدينية الصحيحة فتح الباب على مصراعيه أمام تيارات الغزو الفكري الذي اجتهد في رفع شعارات التحرير والمساواة ورد الحقوق وغيرها".
وهكذا نجد أن المرأة المسلمة باستسلامها وسلبيتها أمام المجتمع أو بانهزاميتها أمام تيارات التغريب، قد ظلمت نفسها وأعانت غيرها على ظلمها، فتركت بذلك المجال فارغا لمن يريد أن يقول شيئا عن كفاءتها ومؤهلاتها العلمية المطموسة التي بإمكانها أن تساهم بحظ وافر في الدفع بالوطن العربي وإعداد كفاءاته إلى الأمام بدل حصرها في نفسها والسماع إلى القول بتحريم خروجها لسوق الشغل، لكن السؤال المطروح دوما وأبدا أين هي المرأة المعاصرة في ظل الفوضى التي يعرفها العالم الإسلامي، أين هم الفقهاء من ضرورة ووجوب إعادة النظر في الأحكام السابقة وفق الظروف الراهنة وما يعتري المجتمع من تغيرات ؟ يبقى السؤال واردا ما دامت الإجابة غائبة عن الساحة الفقهية.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: "فمن دعا إلى زجها في مجالات العمل المهني والاقتصادي من دون قيود ولا ضوابط شرعيين لأنه لا يبالي بالشريعة أو لأنه يدعي أن القيود والضوابط لم تثبت في الشريعة... ومن دعا إلى حجز المرأة في البيت، بيت أهلها وبيت زوجها لتعنى بشؤون الأسرة والزوج والأولاد... لنهم استدلوا إلى أن الشريعة تحرم على المرأة أن تعمل خارج منزلها في المجال الاقتصادي، وبل يحرم عليها مجرد الاختلاط... ونحن نرى أن كلا الموقفين تزايدا على الشريعة أو انتهاكا لها، لأن الشريعة ليست ثوبا يغير زيه وطوله وعرضه بحسب ما يشاء الناس، وهي ليست قيدا وغلا يحول بين الناس وبين ما تقضى به حاجاتهم وضروراتهم ومواكبتهم لمقتضيات زمانهم". ثم يضيف موجها الكلام لساداتنا الفقهاء : "إن هذين الموقفين من قضية علم المرأة يدعوان الفقيه إلى بحث القضية على نهج الاجتهاد الفقهي وأصوله المقررة لاكتشاف حكم الله تعالى كما يبدو لنا من أدلة الشريعة في الكتاب والسنة".
ثالثا: الملفات الفقهية النسائية والدرس الفقهي المعاصر
غير خاف أن تجديد الخطاب الديني قضية مركزية في الفكر العربي الإسلامي منذ بناء الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا أو على أساسه قام الصراع بين تيار التجديد وتيار الجمود والتقليد، صراع مسترسل ومتواصل لا يهدأ على مر هذه القرون الطويلة، من هذا المنطلق ظلت الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني تفرض نفسها بإلحاح كلما أصابت المجتمع العربي الإسلامي فتنة أو محنة، وقد أدرك رواد الفكر العربي الحديث مند ما يقرب من قرنين، أن تجديد الفكر الديني مهمة أولية من مهام النهضة العربية الحديثة والمعاصرة فبدلوا في ذلك الجهود الكبيرة وقدموا حياتهم أحيانا قربانا لهذه المشاريع الفكرية.
لقد أصبح الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني ملحا أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن صورة المسلم أمام العالم ككل والعالم الغربي خصوصا، أصبحت لصيقة بالإرهاب وجز الرؤوس، وسفك دماء الأبرياء، أفلم تزدد هذه الصورة في الآونة الأخيرة تشوها بعد أن وقع ما وقع ؟
إن تجديد الخطاب الديني حاجة ماسة وضرورة ملحة من ضرورات نهضتنا من الكبوة المريرة الراهنة، ضرورة داخلية عضوية، تقتضيها رغبة المجتمع العربي الإسلامي في القضاء على التخلف واللحاق بقطار العصر، إنه محور أساسي من محاور المشروع المجتمعي ككل، الذي تنشده البلدان الإسلامية، فقد أصبحت تروم تجديدا يروم الآخر، بغض النظر عن دينه ووطنه ولونه، تجديدا يهيء المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي، تجديدا يؤمن بإنسانية الإنسان ويحارب الظلم، تجديدا تنتفي فيه النظرة الدونية للمرأة، تجديدا يدعو للتنمية البشرية ويحض على المواطنة وكل ما فيه صلاح البلاد والعباد.
فمن المعلوم أن الشريعة الإسلامية تنطوي على ثروة حقوقية كانت ولا تزال مرجع الحقوقيين الباحثين في العالم، ومن بين هذه الاهتمامات الاهتمام بقضية المرأة لذلك أقول :
لقد بدأ الاهتمام بقضايا المرأة على المستوى العالمي بشكل واضح ابتداء من عام 1975 م حيث اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحد ذلك العام "عام المرأة الدولي" وأقيم في ذلك العام المؤتمر العالمي الأول للمرأة، وحيث أن المرأة المسلمة لم تتطبع بالأنموذج الغربي بالسرعة المطلوبة وبالتواريخ التي كانت والمؤتمرات السابقة الذكر في الهامس، فقد اتخذت عدة خطوات من أجل تفعيل تغريب المرأة المسلمة، ويمكن تأريخ هذه الخطوة من سنة 2000 م وهي السنة التي حددتها الأمم المتحدة موعدا نهائيا لتوقيع جميع الدول على اتفاقية "القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة" وقد كان الهدف من ذلك كله هو:
"1. دفع عجلة مقومات حقوق المرأة الإنسانية وتمكين النساء ومنحهن سلطة، كعنصرين مهمين في السياسة الخارجية.
2. دمج هذا الهدف السياسات وتحويله إلى جزء من مؤسساتها عن طريق الدبلوماسية العامة، وبرامج التبادل المحلية والدولية، وتدريب العاملين في السلك الخارجي الدبلوماسي.
3. تشجيع الحرية والا*** والأسواق الحرة عبر برامج الترويج لقضايا المرأة.
4. إنشاء تشاركات وتحالفات مع الحكومات الأخرى والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية المحلية والخارجية، والقطاع الخاص لصيانة هذه المصالح".
ما عرضت هذا إلا للقول : لقد كان للتدخل الأمريكي السافر في شؤون المرأة المسلمة عموما والعربية خصوصا بالإضافة إلى نشوء بعض المجالس العليا الخاصة بالنساء في بعض الدول العربية، أثر في ظهور متغيرات سريعة ومفاجأة متتابعة في تنفيذ بعض القضايا والتوصيات التي نصت عليها الاتفاقيات والمؤتمرات الصادرة عن الأمم المتحدة، سأشير إلى أهم القضايا التي حدث فيها التغيير في بعض الدول العربية، ودور الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض المنظمات الغربية في هذا التغيير وتشجيعه حسب ما تيسر.
أولا: المشاركات السياسية
أود هنا الإشارة قبل الحديث عن أي شيء إلى اتفاقية صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20/12/1952، وذلك لالتصاقها الوثيق بموضوعها وعنوانها "اتفاقية خاصة بشأن الحقوق السياسية للمرأة". وقد انفق فيها على الأحكام التالية :
المادة الأولى: للنساء حق التصويت في جميع الانتخابات بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون تمييز.
المادة الثانية: للنساء الأهمية في أن ينتخبن لجميع الهيئات المنتخبة بالاقتراع العام المنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز.
المادة الثالثة: للنساء أهلية تقليد المناصب العامة وممارسة جميع الوظائف العامة المنشأة بمقتضى التشريع الوطني بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون أي تمييز"، وهنا لنا أن نتساءل ـ مع العلم أن هذه الاتفاقيات تسري على جميع الدول العربية، وقد حققت نسبة استيعاب كبير في جمهورية مصر، وكذلك دولة قطر ـ هل نحن ننتمي إلى دولة إسلامية تحتكم إلى دستورها الأول كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وفيهما من الاتفاقيات ما يحفظ كرامة المرأة ويصونها ؟ أم نحن مجرد تبع خدم للولايات المتحدة الأمريكية واتباعها ؟ يبقى السؤال عالقا إلى ما شاء الله ؟ !!!
ب) ما يتعلق بالأحوال الشخصية:
وأبرز مثالين فيما يتعلق بالتغيير في أحكام الأحوال الشخصية، والتي بقيت دون أن تعبث بها ـ إلى حد ما ـ يد القوانين الوضعية ما حصل ببلادنا، المغرب، وجمهورية مصر من محاولات مستميتة، من أجل تغيير هذه الأحكام المبنية على الأحكام الشرعية وإلباسها لباس الاتفاقيات والتوصيات الأممية المخالفة للفطرة، في نظري، فضلا عن مخالفتها للشريعة الإسلامية، من باب التحديث وحقوق المرأة ومسايرة العالم الغربي، وأشير فقط باختصار شديد إلى التغييرات التي حصلت في المغرب وأغض الطرف على بلاد مصر فأقول:
إن أبرز حدث في هذا الشأن ما يسمى: "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" التي أعلنت في 19/3/1999 وهذه الخطة جزء من مخطط دولي يهدف إلى فرض النموذج الغربي العلماني في العلاقات الاجتماعية والأسرية وتعديل قوانين الأسرة "مدونة الأحوال الشخصية" لتتماشى معه، ومما دعت إليه هذه الخطة:
رفع سن الزواج لدى الفتيات من 15 إلى 18 سنة، تقاسم الممتلكات في حالة الطلاق، إلغاء تعدد الزوجات، وإضفاء الاختيارية على وجوب حضور ولي أمر المرأة عند الزواج، ـ هذه القضايا سنتطرق إلى بعضها بالدراسة والتحليل في الفصل الموالي بإذن الله تعالى ـ.
وقد تم تنزيل هذه الخطة في الكثير من الدول العربية الإسلامية "المغرب، النيجر، مصر، اليمن". وهذا المشروع أعدته في المغرب "كتابة الدولة" المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة مع الجمعيات النسوية والأحزاب والمنظمات الحقوقية اليسارية، ودون استشارة باقي مكونات المجتمع المدني المعنية بقضايا الأسرة وعلى رأسها العلماء".
فهذا مما رأيته من القضايا العالقة، من هذه الحملات الفاجرة والمؤامرات الماكرة يرد كيدها ويتوغل مكرها، لو ذهبنا نعد في أمتنا الصالحين والعلماء والفقهاء، والدعاة وأهل الفضل والغيرة من العامة والخاصة، من الرجال والنساء، ما استطعنا، وما أحصاهم منا محصى ولا أتى على آخرهم عاد، لكن أين كثير منهم ؟ أين تأثيرهم؟ أين الألوف المؤلفة من خريجي الجامعات والمدارس والمعاهد الشرعية ؟ أين المعلمات الفاضلات، والمؤمنون المصلحون والمؤمنات الصالحات؟ أهكذا يترك أمر أمة شرع لها العلي القدير لخطط فاسدة فاجرة ؟
إن أمتنا اليوم في أمس الحاجة إلى نفرة ليقفوا جميعا يدا واحدة أمام تلك المؤامرات الدنيئة التي تريد بنساء أمتنا الفساد والانحلال ولا سبيل إلى دحض هذه الحملات إلا بالعمل الجاد الهادف المدروس المبني على تحليل وتدبير، وتخطيط وتفكير وحسن تسيير، العمل الذي يضم الجهود إلى بعضها ويتجه في منحى واحد. وإن اختلف مسلك الرجال عن النساء، في الدعوة والجهاد، قال تعالى: المؤمنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وأهم خطوة نحو الإصلاح، ألا تغتر وخاصة النساء بتلك الخطابات الرنانة من دعاة التحرير أمثال :
"انحطاط المرأة انحطاط الأمة".
"قهر المرأة مؤقت وتاريخي".
"عمل المرأة يرفع معدلات الثروة في المجتمع".
"التعليم والعمل يوقفان عملية عزل النساء".
"الارتقاء بحال المرأة خطوة حول التمدن".
"تعليم المرأة طريق لرفع ما لحقها من حيف".
هذه الخطابات تبدو في ظاهرها خطابات منطقية معقولة المعنى تخدم المرأة والمجتمع على حد سواء، لكن محتواها ينم عن التدليس والدس والتزوير للمضامين الحق للرؤى الشرعية في تلك الدعوات ولكم الاطلاع على الأمر.
والمتتبع لقضايا المرأة المعاصرة والمطلع عليها يجد منها ما لا يحصى لكثرتها، نذكر على سبيل المثال القضايا العالقة:
حكم زواج الصغيرة، وحكمها إن كبرت ورفضت الزواج.
حكم تنظيم النسل بحجة إحسان التربية للأولاد.
حكم الولي العاضل.
حكم الإعراض عن الزواج لاستكمال الدراسة الشرعية.
حكم الإجهاض بعد شهرين من الحمل، وبرضا الزوجين.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن واقع فتاوى المرأة في البلاد الإسلامية تشهد تباينا واختلافا كثيرا بين مدارس الفتيا، والتنافر والتباعد بين بعض الفقهاء والأعلام، إضافة إلى الحيرة والاضطراب الذي اعترى كثيرا من المسلمات من جراء الاختلاف، وهذا الأمر يظهر من خلال عدة أمور أشير لها في النقاط التالية:
1. ضرورة التمييز في قضايا المرأة وأحكامها بين ما هو قطعي وما هو ظني وبين الثابت والمتغير، وأعتقد أن الخلط بينهما زاد من ضرورة الاختلاف بين المتنازعين، في حين أن أصل المسألة لم يحرر من الناحية الفقهية ولم يعرف ما هو من قبيل السائغ من الاجتهاد وما لا يجوز الاجتهاد فيه، والقاعدة في هذا الباب "لا إنكار في مورد النص". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "مسائل الاجتهاد من عمل فيها يقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه فإذا كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين".
فلا إنكار إلا ما ضعف فيه الخلاف أو كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كما ذكره أبو يعلى في الأحكام السلطانية.
2. من المقرر شرعا أن الدين بني على اليسر ورفع الحرج، وأدلة ذلك كثيرة غير منحصرة، يقول عز وجل : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
ويقول عليه الصلاة والسلام : "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا".
لكن المتأمل في حال كثير من فتاوى المرأة المعاصرة يجد أن هناك نوع من التشديد والتضيق الذي لخالف مقاصد اليسر ورفع الحرج، وقد يكون السبب في ذلك التعصب للمذهب أو لآراء أو لأفراد العلماء، وهذا لاشك أنه نوع من الانغلاق في النظر، وحسن الظن بالنفس، وتشنيع على المخالف والمنا** مما يولد منهجا متشددا يتبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء والمذاهب، مما يوقعه في الضيق والعنت، يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى : "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم" مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول فيصبح حال أولئك النساء إما بحثا عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها، وإما ينبذون التقييد بالأحكام الشرعية في شؤون حياتهم وهي الطامة الكبرى، ولم وسع الفقهاء على الناس في بعض المسائل التي أضحت من أولوياتهم واحتياجاتهم كمجالات عمل المرأة ومشاركتها الاجتماعية معاملاتها المالية والاقتصادية وبعض مسائل الترويح والترفيه لضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية.
ومن مظاهر التشدد والانغلاق والتمسك بظاهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها، والحكم بالحل والحرمة على ظاهر دون اعتبار دلالات فهم النصوص أو العوارض المؤثرة عليها من نسخ وتقليد وتخصيص وتأويلات معتبر كما هو الشأن في صورة المرأة ووضع عباءتها وبعض المسائل الخاصة بالزينة، يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى : "لا يجوز للمفتي أن يشهد على رسوله بأن أحل كذا أو حرمه، أو أوجبه أو كرهه، إلا ما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته.
قال غير واحد من السلف، ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا وحرم كذا، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه ...". أما الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف فهذه سمة واضحة ومعلم بارز لهذا المنهج، حمل كثيرا من الفتاوى المتعلقة بالمرأة نحو الغلو والتشدد.
3. ظهر ضمن مناهج الفتيا في مسائل المرأة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي، خصوصا أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادة على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكثرت فيه المغويات بالشر** والعوائق من الغير، وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيبا لهم وتثبيتا لهم على الطريق القويم، ولا شك أن هذه دعوى مباركة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العل** وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم، ودرء الضرر عنه في الدارين، لكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه، يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالرخص، لكن ضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوغ التضحية بالثوابت والمسلمات أو التنازل عن الأصول والقطعيات، مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور، فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان، والمصلحة المعتبرة شرعا ليست بذاتها دليلا مستقلا، بل هي مجموعة جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلا أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه، وقد أثبتت حجة المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل.
وبناء على هذا الخلل التقعيدي، خرجت بعض الفتاوى تبيح للمرأة ممارسة الرياضات المختلطة بالرجال، ولا تمنع سفور المرأة وخروجها من غير حجاب، زاعمين خصوصية الحجاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أفتوا بجواز تمثيل المرأة وغناءها أمام الملأ، وجواز الاختلاط مع الرجال من غير حاجة، يقول سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه : "إني أخاف عليكم ثلاثا وهي كائنات : زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم". يقول الإمام القرافي رحمه الله : "لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف، أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين. ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارة باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين".
4. الشريعة الإسلامية تتميز بالوسطية واليسر، ولذا ينبغي للناظرين في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل من طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طر الانحلال، والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع ولذلك كان من خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.
لهذا كان لزاما على علماء وفقهاء العصر أن يسلكوا طريقا وسطا في اجتهاداتهم وفتاويهم دون الجمود على ما سلف أو التساهل والترخص حتى الانحلال والفساد.

المبحث الثالث: الملفات الفقهية النسائية معقدة ومركبة
أولا: واقع النساء والدرس الفقهي المعاصر:
لاشك أن الملفات النسائية المعاصرة أصبحت ذات طبيعة مختلفة عن التي سبقتها، وذلك أنها تعكس الواقع بإشكالاته وتعقيداته، مما اقتضى نظرا فقهيا يتفق مع أصول الشريعة، ويتواكب مع المستجدات النازلة في شؤون المرأة المعاصرة لتتمكن من الموازنة بين أحكام الشرع ومتطلبات الواقع المعاصر وبصورة تجعلها تمارس دورها بشكل إيجابي وفاعل.
إن المتأمل في كثير من فتاوى المرأة المعاصرة يجد أن هناك انفصالا بين واقع المرأة والدرس الفقهي، وهذا راجع إلى أسباب كثيرة نذكر منها على سبيل الإيجاز لا الحصر:
أ- كثيرا ما نجد أن هناك عددا من العلماء لا يميزون في قضايا المرأة وأحكامها بين ما هو قطعي وما هو ظني، وما هو ثابت وما هو متغير، وهذا الخلط جعل الاختلاف بين الفقهاء المتنازعين كبير جدا، في حين أن أصل المسالة في كثير من الأمور لم يحرر من الناحية الفقهية ولم يعرف ما هو من قبيل السائغ من الاجتهاد أو مما لا يجوز الاجتهاد فيه، ولهذا يعذر المخالف في الظني الذي يسوغ فيه النظر والاجتهاد ولا يعذر المصادم للنصوص والإجماعات القطعية التي لا تقبل النسخ أو التأويل، والقاعدة تقول "لا إنكار في موارد الاجتهاد"، وقد ذكر أبو يعلى في الأحكام السلطانية أنه لا إنكار إلا ما ضعف فيف الخلاف أو كان ذريعة على محظور متفق عليه.
ب- من المقرر شرعا أن الله سبحانه وتعالى شرع لعباد ما يطيقون ورفع عنهم كل أشكال الحرج والمشقة والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله جل وعلا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ وقوله عز وجل شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقال عليه الصلاة والسلام «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا» لكن بالنظر على أغلب الفتاوى اليوم، تجدها إما تتخذ منهج التشدد والتضييق الذي يخالف مقاصد التيسير ورفع الحرج – وهنا لا أتهم أحدا بأنه يقصد مصادمة النص – فقد يكون الداعي إما التعصب للمذهب أو للآراء، أو لأفراد العلماء أو لخوف مواجهة الحياة المعاصرة وبالتالي رفض ما فيها من انفتاح على العالم بثقافته وطروحاته، فتكون النتيجة لهذا النوع من الانغلاق في النظر، وحسن الظن بالنفس، والتشنيع على المخالف والمنافس، هو تولد منهج متشدد، يتبعه الفقيه أو المفتي ويلزم الناس بالتزام مذهبه في النظر، وهذا مخالف لما جاء به الشارع الحكيم، يقول الإمام أحمد "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم"، فيصبح حال أولئك النساء إما بحثا عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدمها، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في شؤون حياتهن، وهي الطامة الكبرى، ولو وسع الفقهاء على الناس في بعض المسائل التي أضحت من أولوياتهم واحتياجاتهم: كمجال عمل المرأة ومشاركتها الاجتماعية، ومعاملاتها الاقتصادية والمالية، وبعض مسائل الترفيه والرياضة وضبطوا صور الجواز واستثنوا منها صور المنع، ووضعوا لهن البدائل الشرعية، لكان خيرا من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك القضايا النازلة.
وإما أن تعمد إلى منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير، فقد ظهر ضمن مناهج الفتيا في مسائل المرأة هذا التيار الذي انتشر على نطاق واسع على المستوى الفردي والمؤسساتي، خصوصا أن طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكثرت فيه المغويات بالشر، والعوائق على الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته و غالبا لا يجد من يأخذ بيده بل ربما يجد من يعوقه.
وأما هذا الواقع دعا العديد من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخيص في إجابة المستفتين ترغيبا وتثبيتا لهم على الطريق القويم.
لا ريب في أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي من مقاصد الشريعة العليا، وهو رفع الحرج والمشقة وجلب التيسير والنفع، لكن الواقع المعاصر لثلة من أصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخيص، وربما وقع احدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل.
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يصوغ التضحية بالثوابت والمسلمات، أو التنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور، فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان.
والمصلحة المعتبرة شرعا ليست دليلا مستقلا بذاتها بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلا أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه، وقد أثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل.
وبناء على هذا الخلل التعقيدي خرجت بعض الفتاوى تبيح للمرأة ممارسة الرياضات المختلطة بالرجال، وتسمح لها بالتمثيل الساقط في البرامج التلفزيونية، ولا تمنع سفور المرأة وخروجها من غير حجاب زاعمين خصوصية الحجاب لنساء النبي إلى غير ذلك. فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحدوا منه، وإمامهم في ذلك النبي لما قال: «إني أخاف عليكم ثلاثا وهي كائنات: زلة عامل، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم». فزلة العالم محفوفة بالخطر لترتب زلل العالم عليها.
يقول الدكتور كمال عبد اللطيف: "لم نفكر في التأريخ الخطي لمسار تطور قضايا المرأة في الفكر العربي المعاصر، ولم ننزع نحو إبراز التطابق بين مقتضيات الشرط التاريخي وأنماط تبلور وتطور الأفكار في علاقتها المعقدة بالمجتمع، بل لجأنا على طريقة سلمنا فيها بصورة عامة بوجود تطابقات نسبية بين التصورات الإصلاحية وواقع النساء في مجتمعنا".
هذه الأمور كلها تجعل العلاقة بين الدرس الفقهي وقضايا النساء علاقة نفور وتباعد مما يجعل المجتمع النسائي تعمه الفوضى والاضطراب، بعيدا عن أي نهضة أو استقرار.
لا ريب أن للمجتهد من حيث الأصل أ، يجتهد فيما يعرض له من نوازل متى كان مراعيا للمنهج الشرعي الصحيح في ذلك، غلا أن الواقع دل على أ، اكثر النوازل تحتاج إلى مزيد من بصر ونظر لشدة تشابكها، ولعظيم أثرها سواء أكانت سياسية او اقتصادية او طبية أ, اجتماعية إلى غير ذلك.
ولاشك أن التعجل في إصدار حجكم فيها من آحاد أهل العلم ليس سديدا إلا حين تتعذر فيها الفتوى الجماعية أو تتأخر، وذلك لما يفضي إليه هذا المسلك من اضطراب العامة لاختلاف الاجتهادات.
فمن بين الأسباب التي جعلت الفتوى لا تغطي جميع مناحي الحياة، هو أن بعض أهل العلم بات يتحرج من التوقف في الفتوى في بعض المسائل خشية أن ينسب إليه الجهل، أو لظنه أن ذلك سينزل من رتبته العلمية في نظر الناس، مع أن الجواب الشرعي يقضي بتوقف العالم في الفتوى فيما لم يظهر له وجهه، كما لو لم يظهر له حكمها بعد النظر في الأدلة، أو تكافأت عنده الأدلة وعجز عن الترجيح. يقول ابن عبد البر: "ومن أشكل عليه شيء، لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه و نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا فتدبره".
إذ واجب العلماء هو توضيح وتفسير ما أشكل على الناس فهمه أو كان لديهم قصور في تحصيله، لأن عدم وضوح الفتيا يؤدي على الانحراف عن المسار الحقيقي. "بحيث تبقى ملتبسة عند من يسمعها، وخصوصا من أهل العلم، والأصل أن يكون الحكم واضحا، بحيث لا يقع معه ليس في الفهم ولا اختلاف في المراد".
يقول ابن القيم لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الأشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانا مزيلا للإشكال، متضمنا لفصل الخطاب، كافيا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسالة في المواريث فقال: يقسم على الورثة على فرائض الله عز وجل، وكتبه فلان، وسئل آخر، فقال فيها قولان ولم يزد...".
وقد عبر الخطيب البغدادي عن هذا المعنى بقوله. وليتجنب مخاطبة العوام وفتواهم بالتشقيق والتقعير والغريب من الكلام، فإنه يقتطع عن المطلوب، وربما وقع لهم به غير المقصود".
ومن القضايا المطروحة في الساحة الفقهية أيضا ولا تجد لها جوابا مفصلا، أن هناك من يفتي عامة الناس بتطهير أرباح مساهماتهم بما يقابلها من نشاط الشركة المحرم، دون أن يوضح ذلك وطريقته، ومن يفتي بجواز التامين التعاوني دون التجاري دون أن يوضح الفرق، ونحو ذلك، فلا يكون الجواب كافيا في إزالة ما علق في أذهان العامة من إشكال أو سؤال، وهكذا تبقى الفتوى عاجزة عن أداء المطلوب وسط المجتمع، بحيث تتراكم المشكلات ويكثر الزلل وتبقى الأمة غارقة في كثير من القضايا التي لا تجد لها حلولا، وهذا إذ دل على شيء فهو يدل على عدم استجابة الفتوى للواقع الراهن في كثير من القضايا، وخير ذليل على ذلك الواقع المعاش، ومما يزيد الأمر تعقيدا "هو الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور ولا تبقى جامدة أبد الدهر".
وإغفال الواقع حال الحكم في النازلة أو المقصود أن يطلق الحكم مجردا عن الواقع بناء على الأصل العام الذي يحكم أمثالها دون تنزيله على واقع بعينه ويكتفي بذلك، أو يضع لفتواه شروطا يبعد انطباقها على الحالة القائمة.
من الأمثلة على ذلك: أن بعض المفتين سئل عن حكم الإيجار المنتهي بالتمليك، فقال: يجوز، فقال له السائل: لكنهم يلزموننا بالتأمين، فقال لا توافقهم على التامين، بل خذ السيارة بدون تأمين ومعلوم أن هذا الجواب لا يناسب الواقع القائم إذ الواقع أنه لا يملك أخذ السيارة بدون تأمين، وكان ينبغي أن يقول للسائل مثلا: هو بشرط لا يجوز، ويجوز بدونه.
فإذا نظرنا إلى هذه الأمور نجدها مما عمت به البلوى، والقاعدة تقول إذ عمت البلوى حفف الحكم.
ثالثا: تعريف عموم البلوى وأثرها على التخفيف في الحكم
أ- تعريف عموم البلوى في اللغة
العموم من عدم، ومن معانيها الشمول والجمع، يقال عم الشيء يعم عموما، شمل الجماعة، عم القوم بالعطية، أي خير يعم القوم بخيره وعقله والبلوى من الابتلاء والبلاء، ومن معانيها الاختبار والمحنة والامتحان.
أما معناه في اصطلاح الفقهاء والأصوليين:
وعموم البلوى كمركب اصطلاحي يقصد به في عرف الفقهاء والأصوليين شيوع المحظور شيوعا يعسر على المكلف معه تحاشيه، "وبتعبير آخر هو شيوع البلاء بحيث يصعب على المرء التخلص أو الابتعاد عنه".
فالمقصود بعموم البلوى: انتشار أمر يكثر وقوعه بين الناس، يصعب الاحتراز عنه، مما يقتضي التيسير والتخفيف.
جاء في البحر المحيط "قال الشيخ أبو حامد الإسفرايليني في تعليقه ومعنى قولنا تعم به البلوى أن كل أحد يحتاج إلى معرفته، ومعنى هذا أن جميع المكلفين خاصهم وعامهم – يحتاجون إلى معرفة حكم تلك الحادثة للعمل به، إذ إنهم مكلفون فيها بالفعل أو الترك".
لا تخفى الحاجة الملحة للمفتي في إدراكه لمسألة عموم البلوى، والتعرف على شروطها، ومتى يتم اعتبارها ومتى لا يتم، وهذا جزء أصيل من تكوين عقلية المفتي وإدراكه للواقع حتى يستطيع التمييز بين الأمور التي تعد مما عمت به البلوى، وتفيد القواعد الشرعية المرعية التخفيف بسببها، فيفتي بما يفيد التخفيف، والأمور التي لم تتوافر فيها شروط اعتبار عموم البلوى موجبة للتخفيف، فلا يتهاون في الحكم على الواقعة بما يؤدي إلى التفريط في أحكام الشرع الشريف، ونحن في هذا المقام سنكتفي بالتعريف وعرض بعض الأدلة للمتقدمين والمعاصرين على أن ييسر الله تعالى مواصلة العمل في هذا البحث.
ب- فمن الأدلة على أن عموم البلوى من أسباب تخيف الحكم: حديث كبشة: عن كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنه أن أبا قتادة رضي الله عنه دخل عليها فسكبت له وضوء، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت منه، قال كبشة: فرآني انظر، فقال أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلا نعم، فقال: إن رسول الله قال «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات».
وجه الدلالة: أن النبي اعتبر شيوع الابتلاء بملامسة الهرة – حينما وصفها بالطواف – أمرا يخفف عنده، فلا يقال بنجاسة ما لا تلامسه، فإن قيل بنجاسة عين الهرة، فالتخفيف في هذا الأمر ظاهر، وإن قيل بعدم نجاستها – كما هو ظاهر الحديث - فمعلوم أن الهرة تأكل الفئران والحشرات وأنواع الميتة ثم ترد الماء.
واعتبار أنها طاهرة وأن الماء تلع فيه طاهر التعليل بكونها من الطوافين، أمر يصعب الاحتراز منه دليل على أن عموم البلوى سبب في تخفيف الحكم.
ومن الرخص التي شرعت بسبب العسر وعموم البلوى، ما ذكره السيوطي في جواز الصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كدم القروح والدمامل والبراغيث، وطين الشارع وذرق الطيور إذا عم في المساجد والمطاف، وأثر نجاسة عسر زواله، وأمثالها وهي كثيرة مفصلة فيك تب الفقه، ومن هذا القبيل ما ذكره الفقهاء في جواز عقد الاستصناع، و هو عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئا – مع أنه يخالف القواعد، لأنه عقد على المعدوم، إلا انه أجيز للحاجة الماسة إليه وفي منعه مشقة وإحراج.
أما من القضايا المعاصرة ومما عمت به البلوى في عصرنا، عمل المرأة في كثير من ميادين الحياة، ولاسيما بعد أن زاحمت الرجال في كل أنواع التعليم الجامعي والدراسات العليا، وأضحى من النساء الطبيبة والمهندسة، والمحاسبة والإدارية، والاقتصادية والمعلمة وخريجة العلوم والرياضيات، والأستاذة في جميع التخصصات، وأضحى كثير من النساء متفوقات في مجالاتهن المتنوعة حتى وإن منهن من يسبقن الرجال.
وهذا يتطلب من أهل الفتوى خصوصا المتشددين على النساء: أن يتخلوا عن فكرة التشديد والتضييق، وأن يرحبوا بعمل المرأة بضوابطه فيما تحسنه وتتخصص فيه من مهن متعددة، و بخاصة ما كان أقرب إلى طبيعتها، وإلى خدمة بنات جنسها، ولا يجوز تغليب خوف الفتنة، والحكم بحبس المرأة في جدران بيتها، وهي قادرة أن تعلم وتطبب وتمرض، وتملأ الفراغ في جوانب الحياة بكفاية وأمانة ربما فاقت فيه كثيرا من الرجال.
وخلاصة القول: أننا اليوم في حاجة إلى علماء وفقهاء يفعلون اجتهاداتهم، بالنظر الفقهي الراشد في النوازل والقضايا المستجدة .
والله ولي ذلك والقادر عليه.
 
إنضم
14 مايو 2014
المشاركات
62
الكنية
ابو عبدالله
التخصص
شريعة اسلامية
المدينة
الطائف
المذهب الفقهي
لا يوجد
رد: فتاوى النساء في الدرس الفقهي المعاصر

جزاك الله خير
 
أعلى