العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

  • محاور المسألة:
المحور الأول: التوصيف الفقهي:

  1. الأقوال في المسألة.
  2. مآخذ الأقوال.
المحور الثاني: مراحل الاحتفال بالمولد النبوي.
المحور الثالث: مرتبة المسألة من حيث السواغ أو عدمه.
المحور الرابع: نتائج المسألة.


المحور الأول: التوصيف الفقهي للمسالة:
هناك طريقتان:
الطريقة الأول: المنع:
أشهر القائلين به:
[ابن تيمية (728)، الفاكهاني (734)، الشاطبي (790)، الحفار (811)، الصنعاني (1182)، رشيد رضا (1354)].
ويلاحظ أن هؤلاء:
منهم حنابلة: (ابن تيمية وهو أول من حُفِظَ عنه القول بالمنع،كثير من المعاصرين)[1].
ومنهم مالكية: الفاكهاني، الشاطبي، الحفار.
ومنهم غير متمذهبين: الصنعاني، رشيد رضا.
الطريقة الثانية: الجواز:
أشهر القائلين بالجواز: [أبو الخطاب ابن دحية المالكي (632)، أبو شامة المقدسي (665)، محمد بن إبراهيم السبتي المالكي (695)، ابن الحاج المالكي (714)، تقي الدين السبكي (756)، ابن كثير (774)، ابن عاشر (765)، اليافعي (768)، ابن مرزوق الخطيب (781)، ابن عباد (792)، سراج الدين البلقيني (805)، العراقي (806)، الجزري (833)، ابن ناصر الدين الدمشقي (842)، ابن حجر العسقلاني (852)، السخاوي (902)، السيوطي (911)، القسطلاني (923)، ابن حجر الهيتمي (974)، محمد الأسدي (أحد الشيوخ المكيين لابن الأمير الصنعاني)، الزُّرقاني (1367)].
ويلاحظ ما يلي:

  1. هؤلاء المرخصون: منهم من أطلق الترخيص فيه، ومنهم من قيده، وعامتهم صرح بمنع ما يقع فيه من المنكرات.
  2. هؤلاء المرخصون: منهم من اقتصر على الجواز، ومنهم من استحبه، ومنهم من اعتبره عيدا، ومنهم من فضله على ليلة القدر كابن مرزوق الخطيب.
  3. أنهم إما مالكية وإما شافعية.

المالكية:[أبو الخطاب ابن دحية، محمد بن إبراهيم السبتي، ابن الحاج المالكي، ابن عاشر، ابن مرزوق الخطيب، ابن عباد، الزُّرقاني].
الشافعية:[أبو شامة المقدسي، ابن كثير، الجزري، ابن ناصر الدين الدمشقي، ابن حجر العسقلاني، السخاوي، السيوطي، القسطلاني، ابن حجر الهيتمي].

  1. أبو الخطاب ابن دحية المالكي (632هـ) هو أقدم من حُفِظ عنه القول بالجواز.
  2. أربعة من القائلين بالجواز: (ابن دحية، أبو شامة، محمد بن إبراهيم السبتي، ابن الحاج المالكي)، سبقوا ابن تيمية، وهو أول قائل بالمنع.
  3. لم يسلم الشيخ محمد إسماعيل الأنصاري أن ابن كثير يقول بالمولد، وأن بعض ما نسب إليه من الكتب لا يصح، أما كتابه في المولد وما اختصره من كتب غيره فإنه ليس فيه التعرض للاحتفال به[2].
قلت: لكن عنايته بإيراد أخبار المسألة في عدة مواضع ومناسبات من غير نكير، ثم احتفاؤه باحتفال الملك المظفر صاحب إربل يفيد القارئ جزما أنه لا يرى به بأسا، ولو كان يراه محدثا في الدين لبادر إلى إنكار ذلك ولو بإشارة، فلما لم يكن شيء من ذلك، ثم تأليفه فيه، واختصار كتب غيره، يفيد ظنا غالبا أنه لا يرى به بأسا على أقل تقدير.

  1. تنازع المانعون والمجيزون: ابنَ الحاج المالكي (714)، فكلٌ أضافه إلى فريقه، وفي الحقيقة إن قوله فيه التباس، فهو يرى أنه يشرع الإكثار من التعبد وفعل الخيرات في الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع الاحتفال بالمولد بالرسوم المشهورة، وأنكر ما يقع فيه من المنكرات والأباطيل[3].
وبه يتبين: أن تلخيص السيوطي لتقرير ابن الحاج، ليس بدقيق إذ قال: (وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد: فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات)[4].
وخلاصة قول ابن الحاج: اعتبار المولد بشهر مولده، لا بمجرد يومه، ويكون بالاكثار من التعبد وفعل الخير لا بالرسوم المشهورة، أو ما يقع فيه من الأباطيل.


  1. نص بعض المالكية على كراهة صوم يوم المولد المحمدي إلحاقا له بالأعياد[5]، ونص آخرون على كراهة الوصية بعمل المولد الشريف تبعا للفاكهاني[6]، أو كراهية الوصية بإقامته على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة من اختلاط النساء بالرجال والنظر للمحرم، ونحو ذلك من المنكر[7].
  2. اعتبر بعضُ الشافعية صحةَ الوقف على قراءة المولد النبوي[8]، واعتبر بعضُ الشافعية أن ليلة المولد أفضل الليالي بالنسبة لنا، وبالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأنه رأى فيه ربه بعيني رأسه[9].




  • مآخذ الأقوال في المسألة:

  • مآخذ المنع:

  1. النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة أو قيام ليلته مع عظيم فضل هذا اليوم، يدل على أن العبادة لا تخص في زمان ولا في مكان إلا أن شرعت، وما لم يشرعه الله ورسوله، فهو بدعة وضلالة [10][11].
ولذا: فإن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية من البدع التي ليس لها أصل في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عملها عن أحد من السلف[12].

  1. اتخاذه عبادة دائرة بدوران الأوقات فيه تغيير الشريعة، وتشبيه غير المشروع بالمشروع، وفي اتخاذ يوم المولد عيدا مضاهاة للشريعة بالتزام كيفية وهيئة معينة[13].
  2. من جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال[14].
  3. لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه[15].
  4. لو كانت ليلة المولد تحدث فيها عبادة زائدة على سائر الليالي لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف، والواقع أنهم اختلفوا فيها فقيل: إنه ولد عليه الصلاة والسلام في رمضان، وقيل: في ربيع، وقيل غير ذلك على أربعة أقوال[16].
  5. لو فتح هذا الباب لجاء قوم فقالوا: يوم هجرته إلى المدينة يوم أعز الله فيه الإسلام فيجتمع فيه ويتعبد، ويقول آخرون: الليلة التي أسري به فيها حصل له الشرف ما لا يقدر قدره فتحدث فيها عبادة فلا يقف ذلك عند حد، والخير كله في اتباع السلف الصالح الذين اختارهم الله له فما فعلوا فعلناه وما تركوا تركناه[17].
  6. الاحتفال بالمولد طريقة نصرانية لا يعرفه أهل الإسلام مطلقًا قبل عهد الدولة العبيدية في مصر[18].

  • مآخذ الجواز:

  1. ما ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى؛ فنحن نصومه شكرا لله تعالى)، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنّ به في يوم معين، من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة؛ وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟[19].
  2. عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال: (ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه)[20]، تعليل النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الاثنين بأنه يومٌ ولد فيه يدل على مشروعية شكر الله في اليوم الذي ولد فيه.
  3. الشريعة حثت على إظهار الفرح بشكر النعم، والفرح بمولده صلى الله عليه وسلم لا ينكر قياسا على غيره من أوقات الفرح، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود.
  4. أن أصل عمل المولد الشريف وإن لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، إلا أنه حدث بعدها بالمقاصد الحسنة[21].
  5. لم يزل عمل المسلمين على المولد الشريف في سائر الأقطار والمدن الكبار، ولم يعترض عليه في زمان ظهوره، فكان إجماعا سكوتيا على مشروعيته واستحسانه[22].
  6. أن في قراءة سيرته عليه الصلاة والسلام ومبدأ أمره، وما موقع في يوم مولده من الآيات، تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف أمرٌ حسن يثاب عليه[23]
  7. أن المولد يشتمل على خير كصدقة وذكر وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، وليس فيها شر، فهي سنة للأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة[24].
  8. أن البدع لا تكره إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في إظهار السرور والفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم[25].
  9. عمل المولد اشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة، ومن لا فلا[26].
  10. كان النصارى يتخذون من مولد المسيح عليه السلام عيدا، فلو كان موضع منع، لجاء النهي الصريح عن مضاهاتهم فيه.




  • خلاصة مآخذ الأقوال:
  • خلاصة مآخذ المنع:

  1. تخصيص العبادة في زمن لم يخصصه فيه بدعة في الدين، وفيه مضاهاة للشريعة، وتغيير للدين.
  2. اتخاذ موسم غير شرعي: بدعة.
  3. لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه.
  4. لو كانت ليلة المولد تحدث فيها عبادة زائدة على سائر الليالي لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف، والواقع أنهم اختلفوا فيها.
  5. لو فتح هذا الباب، لم يقف ذلك عند حد، ولجاء قوم وعظموا يوم الهجرة، وآخرون التي أسري به فيها.
  6. أن الاحتفال بالمولد تشبه بالنصارى، فهي طريقتهم في الاحتفال بمولد عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

  • خلاصة مآخذ الجواز:

  1. تعليل صيام يوم عاشوراء ويوم الاثنين بحدوث نعمة فيه.
  2. الشريعة حثت على إظهار الفرح بشكر النعم.
  3. لم يزل عمل المسلمين على المولد الشريف، ولم يعترض عليه في زمان ظهوره، فكان إجماعا سكوتيا على استحسانه.
  4. في قراءة سيرته عليه الصلاة والسلام يوم مولده تعظيم لقدره.
  5. أن المولد يشتمل على خير كصدقة وذكر وليس فيها شر.
  6. أن البدع لا تكره إلا إذا راغمت السنة.
  7. عمل المولد اشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة ومن لا فلا.


المحور الثاني: مراحل المولد النبوي:

  • مر المولد النبوي بثلاث مراحل:

  • عدم الاحتفال بالمولد: (ما قبل الدولة الفاطمية في مصر والملك المظفر في الموصل).
  • الاحتفال بالمولد: (حين حدوثه، فقد استحسنه بعضهم وأنكره آخرون).
  • الاختصام فيه: (في عصرنا الحي: فقد اضطرم الخلاف فيه وتقاول الناس).
فأكمل الأحوال: هي الحال الأولى من عدم الاحتفال به مطلقا، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح والقرون المفضلة، إلى ما بعد استقرار المذاهب الفقهية بكثير.
حال مترددة: عند حدوث المولد بين الاستحسان والتسويغ والإنكار والبدعية من غير مبالغة في الاستطالة أو إثارة خصومة.
الحال الثالثة: هي حال المخاصمة والمفارقة في حكمه والإسراف في القول فيه، كما هو حال كثير من العصريين.

  • في زمن حدوث المولد طريقتان:
الطريقة الأولى: أن الفاطميين هم الذين أحدثوه، وهذه طريقة القائلين بالبدعية تنفيرا منه.
الطريقة الثانية: أن الذي أحدثه هو الملك السني العادل: "المظفر كُوْكُبوري"[27] صاحب إربل بإشارة من الشيخ الملا، وهذه طريقة القائلين بالاستحسان.
والطريقة الأولى: هي الطريقة الصواب، فهناك عدة نصوص بينت أن المولد النبوي كان من ضمن المواليد الستة للفاطميين، وضمن الأعياد الكثيرة لهم، وبسطت هذه النصوص مراسيم الاحتفال بها، ذكر ذلك القلقشندي في صبح الأعشى والمقريزي في خططه.

المحور الثالث: مرتبة المسألة من حيث السواغ أو عدمه:

  • مسألة الاحتفال بالمولد النبوي: مسألة فقهية حادثة بعد الأزمن الفاضلة، اختلف فيها العلماء حين حدوثها على قولين، وليست هي من جنس مسائل أصول الدين التي يتمايز فيها أهل السنة عن أهل الأهواء، ولا تصل الى حد التضليل والمفاصلة بين الحق والضلال.
    وقد أفرط في المسألة فريقان:
    فريقٌ: رفع درجتها إلى مستوى المحبة أو البغض، ووالى عليها وعادى سواء كان قائلا بالمشروعية أو بالبدعية.
    وفريقٌ: أقحم فيها من المنكرات الغليظة ما أخرجها عن سياقها المفترض.
    وقد ترتب على الخلاف في هذه المسألة بين المعاصرين: انقسام شديد بين أهل السنة وأصبح هذا اليوم يوما مشهودا في الخلاف، حتى صار إحياؤه صبغة صوفية محضة، وبات إنكاره شعارا سلفيا متجردا.
  • على فرض القول بعدم مشروعية الاحتفال به: فإن تردد المسألة على مسرح الاجتهاد والخلاف يوجب الاحتراس في إطلاق العبارة، وعدم المبالغة في الإنكار، لاسيما إذا ترتب عليه تصنيف العامل بالبدعة ولو كان عن اجتهاد أو تقليد.
وعلى فرض القول بالمشروعية: فلا معنى لاتهام القائل بخلافه أنه لا يسعى لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن قوله نشأ عن معنى مناقض لعرى المحبة ومواثيقها؛ فإن هذا التشنيع الشنيع نوعٌ من البغي والجهل، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم في أفئدة أمته في موضع أسمى.
مهما يكن، فإن كلًا: صدر عن رأي باجتهاد ونظر، وتنزيل البدعة في آحاد المسائل مسألة اجتهادية، يجوز أن يقع فيها التفاوت والاختلاف.
ولما ثار: الخلاف في المسألة في الأزمنة الماضية، كان للعلماء موقفان منها استحسانا أو إنكارا، ولم يصل إلى الحد الحرج الذي نراه اليوم غلوا أو جفاء، وآلت إلى موضع مفاصلة في المواقف والمناهج.
وقد سمحت أدوات المجتهدين: بتمرير الخلاف فيها، فالقائل بالبدعية، يتأول لأصحابها، وأنه يقع لهم الأجر من جهة النية الطيبة، وليست من جنس الفاسد المحض، والقائل بالاستحسان: لم ينكر مأخذ القول بالبدعية.
وإنما احتدم الخلاف فيها بين المعاصرين، لأمور منها:

  1. ما تميز به هذا العصر من البعد عن تأصيل الفقهاء، والاشتغال بتصنيف مناهج الناس.
  2. ظهور خصمين متصادمين، أحدهما انحرف إلى السعة والآخر وقع في الضيق، وكلاهما في طرف، ولم تكن مدارس الفقهاء منقسمة على هذا النحو الساذج والحاد.
  3. توهم أن توصيف العمل بالبدعية يعني بالضرورة إخراج المسألة من حيز الخلاف الاجتهادي المتردد إلى مسائل أصول الدين، فارتفعت فيها وتيرة الإنكار.
ومما يدل بوضوح أن موضع المسالة مما يحتمله الاجتهاد: ذهاب جماعة من أهل العلم إلى استحسانه، وذهاب آخرين إلى إنكاره، وسبق سرد أسمائهم، وهؤلاء المانعون، والمرخصون، كلهم من أعيان الفقهاء، ولم يكن منعهم فيه أو ترخيصهم عبثًا.

  • فقه ابن تيمية لأبعاد المسألة:
شيخ الإسلام ابن تيمية هو أشهر من قال بالمنع، وأول من حفظ عنه ذلك، ومع ذلك فإنه يرى أن تعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد.
واعتبر ذلك من المرتبة الثانية من مراتب العمل: فهو عمل صالح من بعض وجوهه إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع، وهو بذلك بين مرتبة العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه، وبين مرتبة العمل الذي ليس فيه صلاح أصلا.
وحث ابن تيمية: على تفطن حقيقة الدين، والنظر إلى ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف، وجنس المنكر، أو جنس الدليل، وغير الدليل، يتيسر كثيرًا، أما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين.
وشبه ابن تيمية مسألة المولد بمسألة فيها فقه عظيم:
فعن الإمام أحمد، لما قيل له عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة.
وقد قصد الإمام أحمد: أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم[28].


  • المحور الرابع: نتائج المسألة:

  • المتيقن أن عمل المولد النبوي عملٌ محدث، لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الأئمة المهديون، ولم يطرأ إلا بعد انقضاء زمن السلف والقرون المفضلة بأزمنة طويلة.
  • أول من أحدث المولد العبيديون (الفاطميون) بمصر، ثم شاع في مكة كما قص ذلك ابن جبير في رحلته المشرقية عام 579، ثم أحدثه الملك كوكبوري في الموصل بإشارة من الشيخ الملا.
  • أول من حفظ عنه القول بالجواز: أبو الخطاب ابن دحية المالكي (632)، وأول من حفظ عنه القول بالمنع: ابن تيمية (728).
  • اعتقاد فضل خاص بيوم المولد 12 ربيع الأول أو نحوه، بدعة في الاعتقاد، لاسيما أنه لم يثبت ذلك ثبوتا يصار إليه، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه بنوع عمل، ولم يدع ذلك من قال بالاحتفال به، ولذا احتاجوا إلى تعليل عدم العمل النبوي فيه بأنه حتى لا يفرض عليهم.
وثبوت الفضل في يوم: هو مما يقف العلم به عند خبر الشارع، فالفضل أمر غيبي لا يثبت إلا بنص، وإنما جاء فضل صيام يوم الاثنين، لأن فيه أحداثا جليلة، ومنها يوم مولده صلى الله عليه وسلم، فجاء الشارع بإثبات فضل يوم الاثنين لا يوم الثاني عشر من ربيع الأول.

  • تخصيص يوم المولد النبوي الثاني عشر من ربيع الأول أو نحوه بنوع من العبادة، لا يكون إلا عن اعتقاد، "إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع"[29].
فيكون هذا التخصيص بالعمل بدعة كالذي قبله، وإذا كان الشارع نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو قيام مع كونها عيد الأسبوع وأفضل الأيام والفضل فيه ثابتٌ قطعا؛ فكيف بما لم يثبت فيه فضلٌ أصلا؟


  • إن جُعِل يوم المولد النبوي يوما عاما، مرسوما للفرح وسرور بين الناس، يتكرر كل عام بمظاهر العيد، فإنه يكون بذلك ممنوعا من هذا الوجه، لاسيما إذا أضفيت عليه سمات العيد كالتزين، واللعب، وتعطيل الأعمال، والترخص بالمباحات.
ولا يجوز استحداث الأعياد، وتجاوز ما حده الله ورسوله من الأعياد الشرعية، ويجب الوقوف عند ما افترضه الشارع واقتصر عليه؛ فإن يوم العيد عندنا أهل الإسلام ليس مجرد عادة محضة، وإنما هو شعيرة في الدين، وفي الزيادة عليه مضاهاة لما سنه الشارع، وتجاوز لحدود الله، فـــ "الأعياد شريعة من الشرائع، يجب فيها الاتباع، لا الابتداع"[30].

  • اغتنام مرور يوم المولد النبوي 12 ربيع الأول أو نحوه بالتذكير بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكر فضائله وسجاياه، وقراءة شيء من سيرته وإلقاء الأشعار ونحو ذلك، ولو تخلل ذلك اجتماع، فلا بأس به ما لم يعتقد فضلا في الزمان أو أن يكون مضاهيا للعيد، فهنا يكون ممنوعا كما سبق بيانه.
  • تحديد اليوم لا يقتضي بالضرورة أن يكون عيدا، فالعيد هو موسم عام للفرح والسرور، كذا في ملتنا وفي بقية الملل والأمم، ولو كان مجرد التكرر يقتضي أن يكون ذلك اليوم عيدا، لكن يوم عاشوراء يوم عيد، ولكان يوم عرفة يوم عيد، ولكان الحج عيدا، ولكان شهر رمضان كله عيد، ولكانت ليلة النصف من شهر شعبان عيدا، وهكذا، وهذا لا يقوله أحد.
وهذا هو سبب ما التبس على كثير من الناس في الحديث عن الهجرة في يوم الهجرة أو عن غزوة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، أو ما يحدث من الاحتفال بتخريج حفاظ القرآن الكريم في يوم معين، وكذا أسبوع الشجرة أو عيد الأم، ونحو ذلك، بغض النظر على ما قد يرد على بعض الأيام من محذور خاص.
وعندما يكون التأصيل خطأ: يقع مثل هذا اللبس عند من يفكر ويستشكل، وتجد من يمرره ممن لم يعط للعلم ثمرة قلبه.
والخلاصة: إن كان الاحتفال بيوم المولد النبوي الشريف كالاحتفال بالأعياد، بأن يكون يوم فرح وسرور لعامة الناس، وتضفى عليه مظاهر العيد وسماته، فهذا ممنوع لأنه تجاوز لما شرعه الله من الاقتصار على الأعياد الشرعية.
وإن لم يكن يوم فرح وسرور كالأعياد المعروفة بين الناس، فإنه لا يكون عيدا، فلا يكون ممنوعا.

  • الواقع المذكور في كتب التاريخ أن الدولة العبيدية (الفاطمية)، وكذا كوكبري حاكم الموصل، أنهم كانوا يتخذون هذا اليوم يوم عيد، وله مواصفات العيد الشرعي، وقد ذكر ابن جبير في رحلته أنه كان يوما مشهودا بمكة[31].
  • من مظاهر كثير من الناس في الاحتفال بالمولد النبوي: الاجتماع في يوم معين، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي المختار، وإنشاد المدائح النبوية، وإطعام الطعام، وإظهار الفرح والسرور، وتوزيع الحلوى، والرقص والغناء، وفي بعض الدول يكون إجازة، ويتبادلون فيه التهاني.
ففيه بنية الأعياد المعروفة عند الناس: يوم زمني في السنة متكرر، يوم فرح وسرور، عامٌ بين الناس، فهو بهذا الوجه ممنوع.

  • ذهب بعض المتأخرين إلى قول وسط بين المانعين والمجوزين، وهو الاقتصار في هذا اليوم على ذكر الشمائل المحمدية وقراءة سيرته ونحو ذلك، وهذه طريقة السيوطي، والقرضاوي، وهذا بابه واسع، وفيه مندوحة للفريقين، وعساه يكون حائلا عن الإسراف في تعظيمه إلى درجة جعله يوم عيد، وما يحصله فيه من تجاوز.
  • من المتوسعين في إطلاق وصف البدعة في الأعياد، من يعتبر عمليا اليوم الثاني والثالث من شهر شوال عيدا، ويضفي عليهما مظاهر العيد، من الاحتفال والتهاني والتزين وإظهار الفرح والسرور والترخص بالمباحات والولائم والاحتفالات، وكل مظاهر العيد، وهذا أمرٌ عجيب، فالعيد هو اليوم الأول من شهر شوال فقط؛ فأين قولهم؟
والانفصال عن هذا المقام: بأنه لا مانع أصلا من تعيين الأيام وتكرارها إذا لم يكن تعبدا ولم يلزم منه اعتقاد فضل خاص، والتوسع هنا إنما كان بالمباحات التي تدعم تعظيم يوم العيد الأول لا مضاهاته، وجرت التسمية بالعيد اتساعا لقربه منه، ولإضفاء بعض مظاهره عليه، أما القياس على تسمية أيام منى بالعيد، فضعيف لأن الأحكام مختلفة وفيها خلاف أيضا.
والخلاصة: الممنوع هو العيد المضاهي للأعياد الشرعية، وليس في تعيين بعض الأيام لمناسبة مباحة ما يمنع منه، إذا لم يكن تعبدا ولم يلزم منه اعتقاد فضل خاص، والله أعلم.






[1]) منهم: (بكر أبو زيد، ابن باز، ابن عثيمين).

[2]) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ص109

[3]) المدخل لابن الحاج (2/ 15).

[4]) الحاوي للفتاوي (1/ 226).

[5]) مواهب الجليل لشرح (3/ 318)، الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (1/ 518).

[6]) حاشية الصاوي (4/316).

[7]) حاشية الصاوي (4/ 320).

[8]) جواهر العقود (1/ 292).

[9]) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج في شرح المنهاج (2/ 405).

[10]) مجموع الفتاوى (23/133، 134)، المعيار المعرب (1/113).

[11]) مجموع الفتاوى (23/133، 134).

[12]) مجموع الفتاوى (25/298)، [السنن والمبتدعات (ص: 143)].

[13]) مجموع الفتاوى (23/133، 134)، الاعتصام للشاطبي (1/39).

[14]) مجموع الفتاوى (23/133، 134).

[15]) [المعيار المعرب والجامع المغرب (ص: 99- 101)].

[16]) المعيار المعرب (1/113).

[17]) المعيار المعرب (1/113).

[18]) [تصحيح الدعاء (ص: 110- 111)].

[19]) الحاوي للفتاوي (1/ 229).

[20]) أخرجه مسلم (2/ 819 رقم 1162).

[21]) [نقلاً من المورد الروي في المولد النبوي لملا علي قاري (ص: 12)].

[22]) ((بلوغ المأمول في الاحتفال بمولد الرسول)) ص 85-86، [نقلاً من المورد الروي في المولد النبوي لملا علي قاري (ص: 12)].

[23]) الحاوي للفتاوي (1/221، 222).

[24]) ((الفتاوي الحديثية))

[25]) نقلاً من كتاب سبل الهدى والرشاد.

[26]) شرح الزرقاني على ((المواهب)) جـ1 ص 263

[27] اسم تركي معناه بالعربية ذئب أزرق، ونقل ابن كثير وجماعة من العلماء أخبار الملك العادل المظفر صاحب إربل وما كان يصنعه في يوم المولد النبوي، وكان يعمل المولد سنة في ثامن الشهر وسنة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي فيه.

[28] ) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 126، 127).

[29]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 107).

[30]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 123).

[31]) رحلة ابن جبير ط دار الهلال (ص: 82).
 
إنضم
18 يونيو 2011
المشاركات
37
الكنية
أبو حمزة الحنبلي
التخصص
تجاره
المدينة
الجيزه
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

ما شاء الله
تأصيل سديد وتقعيد رشيد
.....
بارك الله فيكم ونفع بكم
 
إنضم
29 نوفمبر 2015
المشاركات
41
الكنية
أبو معاوية
التخصص
تقني
المدينة
العاصمة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

شكرا لكم و بارك الله فيكم
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

والخلاصة: الممنوع هو العيد المضاهي للأعياد الشرعية، وليس في تعيين بعض الأيام لمناسبة مباحة ما يمنع منه، إذا لم يكن تعبدا ولم يلزم منه اعتقاد فضل خاص، والله أعلم.

جزاكم الله خيراً
 

شتا محمد حسين

:: متابع ::
إنضم
9 ديسمبر 2015
المشاركات
13
الإقامة
السعودية
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمر
التخصص
شريعة
الدولة
lwv
المدينة
الاسكندرية
المذهب الفقهي
حنبلى
رد: فقه أبعاد مسألة (المولد النبوي)

جزاكم الله خيرا
 
أعلى