العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

كيف تُقوي عقلك ؟

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل

ابتكر علماؤنا الأوائل طرائق سديدة لحفظ العلم والأوقات، واحتالوا حيلاً شرعية لتحفيز الهمم إلى شغل فراغ الطلاب ومؤانسة الجلساء، وإذكاء روح التنافس الشريف، للمفاضلة بين الأذكياء، وقياس سرعة البديهة بين النُّبهاء. وتُعدُّ الألغاز العلمية من أجمل تلك الطرائق .
وقد شغف بها الكبار والصغار، وبات الكثيرون على مسامرة الأحاجي والمعمَيات وعويص المسائل والنوادر (1) .
وقد حدّد العلامة " حاجي خليفة " (ت : 1067 هـ) المقصود بالألغاز، فقال: " هي علم تعرف منه دلالة الألفاظ على المراد دلالة خفية في الغاية، لكن بحيث لا تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحسنها وتنشرح إليها.
وقد بّين - رحمه الله تعالى - في كلام طويل أن علم الألغاز من فروع علم البيان، والغرض من هذا العلم امتحان الأذهان والتندُّر في المجالس.
وأشار إلى أن مبادئ هذا العلم مأخوذة من كلام الملغزين وأصحاب المعمَى، وبعضها أمور تخيلية تعتبرها الأذواق، ومسائلها راجعة إلى المناسبات الذوقية بين الدالّ والمدلول الخفيّ على وجه يقبلها الذهن السليم، ومنفعتهما تقويم الأذهان وتشحيذها (2).

وعلماؤنا الأوائل صنّفوا في الألغاز العلمية وأجادوا في جمعها وتقييدها وتحقيقها؛ لأنهم رأوا أن فيها لونًا من ألوان التفهيم وإعمال الفكر وإطالة النظر، وشحذ الذهن لاستخراج الجواب الصحيح.
ومن أهل العلم من صنف في هذا العلم للجمع بين الجدَة والطرفة وزرع الملح والنوادر المفيدة في قلوب الطلاب.

ومن أشهر كتب الألغاز: " الألغاز " لحمزة بن أحمد الدمشقي (ت :874 هـ)، و" الذخائر الأشرفية في الألغاز الحنفية " لابن الشحنة الحلبي (ت :815هـ)، و " طراز المحافل في ألغاز المسائل " لعبد الرحيم الأسنوي(ت :772هـ).
وتجد بعضاً منها في " تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر " لابن أبي أصيبع المصري (ت :654 هـ) و "نهاية الأرب في فنون الأدب " للنويري (ت :733هـ)، إضافة إلى الكتب التي صنّفها فقهاء الأحناف في الحيل الشرعية (3).
وتعمية المسائل لاستحضار أحكام الحوادث من الأساليب النبوية التي استخدمها معلم البشرية، كما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُط وَرَقُها، وإِنَّها مَثَلُ المُسْلمِ، فَحدِّثُوني ما هِيَ؟ فوَقَعَ الناسُ في شَجَرِ البَوادي. قال عبدُ اللّهِ: وَوَقَعَ في نَفسِي أنَّها النَّخْلةُ، فاسْتَحْيَيْتُ. ثمَّ قالوا: حَدِّثْنا ما هِيَ يا رسول اللّه. قال: هيَ النَّخْلة" (4).
وبعض ألغاز المسائل قد تُستخرج من كتاب الله - تعالى -، بعد النظر في مصنفات المفسرين وكتب غريب القرآن. والقصد منها: الحث على تدبر كلام الله - تعالى - ومذاكرة معانيه.
مثال ذلك قول الملغز: ما هي العشرة التي تقبل الزيادة؟ والجواب: هي ثواب الحسنة، قال الله - تعالى -:" مَن جَآءَ بالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا "[الأنعام: 160].
وأيضاً قول الملغز: ما هي الأربعة عشر التي كلمت الله - تعالى - ولا لسان لها؟ والجواب: هي السموات السبع والأرضين السبع. قال الله - تعالى -:" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" [فصلت: 11].

والألغاز الأدبية من أشهر الألغاز العلمية، وهي قسمان : الألغاز النثرية، والألغاز الشعرية. فالألغاز النثرية: الغوامض التي تكون على هيئة نثر أدبي راق ٍ كقول الإمام السيوطي (ت : 911 هـ) ملغزاً:
" ما قولكم في شيء يطير بلا جناح، يبيض ويفرخ في البطاح، رأسه في ذنبه وعينه في قتبه، يسمع بأذن واحدة، ويبصر بعين زائدة، تلعب به الأطفال، ويتلى في سورة الأنفال " (5).

والألغاز الشعرية: الغوامض التي تكون على هيئة بيت شعري أو بضعة أبيات أو قصيدة مليحة، كقول الشاعر:
ومُـرضـعة أولادها بعد ذبحـهم *** لهـا لبن مـا لذّ قطُّ لشارب
وفي بطنها السكينُ والثديُ رأسها *** وأولادها مذخورة للنوائب (6) .
ومما يلحق بالألغاز الأدبية: الأحاجي اللغوية التي تبحث في غمار لسان العرب ومعاريضه، والمعاني المتعددة للألفاظ، والاشتقاق اللغوي بأسلوب مليح ولطيف.
كقول الملغز: أيجوز الوضوء مما يقذفه الثعبان؟ والجواب: نعم.
والثعبان مفرد جمعها ثعب، والمقصود به: مسيل الماء من الوادي بعد اجتماع الأمطار فيه.
وتُعدُّ الألغاز الفقهية لوناً من ألوان ترسيخ الأحكام الشرعية في نفوس طلبة العلم الشرعي، أبدع فيه العلماء منذ القرن السادس الهجري.

وقد دّون الفقهاء ألغازهم على الأبواب الفقهية كي يتقوّى الطلاب على الـملكة الفقهية، ولتحصل لهم الـدُّربة على استخراج المقاصد والأحكــام من الأدلة مع إعمال فكر وإطالة نظر (7).
ومن أمثلة الألغاز الفقهية: ما تقول في رجل ملك نصاباً عند طلوع الشمس فوجبت عليه الزكاة عند غروبها؟ والجواب: أن هذا يكون في زمن خروج الدجال، فإن بعض أيامه تطول جداً، كما جاء في الحديث المشهور:
"... قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْماً، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ فَذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: «لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ» " (8).
ومن الأمثلة أيضاً قول الملغز: ما تقول في امرأتين لقيهما رجلان فقالتا لهما: مرحباً بابنينا وزوجينا وابني زوجينا! والجواب: هذان رجلان تزوج كل منهما أم الآخر. وهما القائلتان ذلك (9).

ومن الصور الفقهية المليحة: مر رجل في طريق فوجد أحد أصدقائه مع اثني عشرة امرأة فقال له: ما وقوفك مع هاته النسوة؟ فقال الصديق: لا تظن بي سوءاً، أربع منهن عماتي، وأربع خالاتي، وأربع أخواتي، وكلهن أولاد امرأتي.
والجواب: أن هذا الرجل متزوج بامرأة لها ثلاث بنات من غيره، وله والد وجدان، والد أمه ووالد أبيه.
تزوج جده لأبيه إحدى بنات المرأة فولد منها أربع بنات فهن عماته.
وتزوج جده لأمه البنت الثانية فولد منها أربع بنات فهن خالاته.
وتزوج والده البنت الثالثة فأنجب منها أربع بنات فهن أخواته. وكلهن حفيدات زوجته (10).
وطرق الإفادة من الألغاز العلمية كثيرة من أهمها:

أولاً: تدريب النفس على العزيمة والإصرار على مجاوزة العجز. قال بعض السلف: " ما لزم أحد الدعة إلا ذّل وحُبُّ الهوينا يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز " (11).

ثانياً: شحذ الهمة في تنويع المواد المقروءة، فينبغي على المرء أن يقرأ في الطب والفلك وعلوم الأرض إلى جانب العلوم الإسلامية والعربية.

ثالثاً: التقرب إلى الله - تعالى -في شغل الأوقات والساعات بكل نافع ومفيد، وهذا لا يحصل إلا بتحريك القلب إلى استحضار أهمية العبادات، ومجاهدة النفس في الصدّ عن الانغماس في اللذات الدنيوية الفانية.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلاباً مِنَ القِدْرِ إذا اجْتَمَعَتْ غَلْياً " (12).

رابعاً: تذكير الصغار والكبار بفوائد الألغاز العلمية، وأنها من العلوم المقوية لمدارك العقل والتفكير، وحثهم على الاعتناء بها لتحصيل ملكة التدبر وتعزيز سرعة البديهة.

خامساً: بذل المكافآت والجوائز النقدية والعينية لتحفيز الناس على الإقبال على الاشتغال بالألغاز العلمية في أوقات فراغهم، ولصدّ البطالين والفارغين عن الانهماك في الأعمال الضارة على الفرد والمجتمع.

سادساً: الدعاء للعلماء والمربين من السلف والخلف الذين قيّدوا لنا هذه العلوم النافعة، وسهروا على تهذيبها وتنقيحها، ووجوب التأسي بسيرتهم والوقوف على فضائل أعمارهم.

وقد قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي صاحب "المهذب": " كنتُ أعيد كل درس مئة مرة ،وإذا كان في المسألة بيت شعر يُستشهد به: حفظت القصيدة كلها من أجله " (13).

إن الألغاز العلمية لون من ألوان الثقافة العربية العريقة، ينبغي على المعلمين والمربين أن يحسنوا الإفادة منها، في خلواتهم وأوقات فراغهم في المدارس والمعاهد والمراكز العلمية.
وأن يحتسبوا في ذلك فإن الوقت أمانة والفراغ أمانة، وكل مخلوق سوف يسأل عن أمانته أحفظها أم ضيعها؟!
وختاماً: يجب التنبيه إلى عدم الإغراق في الاشتغال بالألغاز، فإن المبالغة في العناية بها قد تؤدي إلى التقصير في طلب كثير من العبادات الفاضلة، والتوسط مطلب عزيز، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. والحمد لله رب العالمين .

الهوامش والمراجع :
1- الأحاجي:: تعمية المراد، وإضمار خلاف ما يظهر السائل. والأحاجي: الكلام الذي يخالف معناه للفظه.
2- "كشف الظنون": (1/149).
3- لمعرفة الفرق بين الحيل الفقهية المباحة والمحظورة، انظر: "معجم مصطلحات أصول الفقه" (ص/190) و"كشف الظنون" (1/694) وفيه حكاية طريفة عن الحيل .
4- أخرجه البخاري: (كتاب العلم- باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا رقم الحديث : 4).
5- "الكنز المدفون والفلك المشحون": (ص 80) والجواب: الماء.
6- "أجمل الألغاز الأدبية"(ص /38) والجواب: المحبرة.
7- وأفضل الكتب المصنفة في الألغاز الفقهية التي ينصح بها العلماء: "طراز المحافل" للأسنوي.
8- أخرجه مسلم (كتاب الفتن باب ذكر الدجال رقم الحديث: 2937).
9- "أجمل الألغاز الأدبية": (ص / 122).
10- "ألغاز وأحاجي": (ص / 157).
11- "محاضرات الأدباء" (1/ 448).
12- أخرجه الإمام أحمد في "المسند": (6/70) والطبراني في الكبير (603) والحاكم (3142) وصحّحه.
13- "علو الهمة" (ص /185).
 
أعلى