العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

لماذا أنكر الشافعي الاستحسان؟

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي


لماذا أنكر الشافعي الاستحسان؟



دأب الإمام أبو حنيفة رحمه الله على استعمال لفظ الاستحسان في مجالسه العلمية أثناء تقليب وجوه النظر في المسائل الفقهية. ومن المعلوم أنه لم يُنْقَل إلينا شيء من تأليف أبي حنيفة في الفقه أو الأصول حتى نرجع إليه وننظر في مضمونه لتحديد مراده من عبارات الاستحسان التي كان يستخدمها. وكل ما نُقل إلينا من عبارات الاستحسان التي كان يستخدمها هو روايات تلاميذه، وعلى رأسهم محمد بن الحسن الشيباني.

الملاحظ على عبارات محمد بن الحسن الشيباني التي ورد فيها لفظ الاستحسان -سواء منها ما كان منسوبا إلى أبي حنيفة أم ما كان من اجتهاداته هو- الإجمال وعدم تفصيل وجه الاستحسان. انظر -مثلا- إلى العبارات الآتية من كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني:


"قلت فإن كانَت السَّجْدَة في وسط السُّورَة كيفَ يصنع لها؟ قال: يسْجد لها، ثمَّ يقوم فَيقْرَأ ما بقي أَو ما بدا لهُ منْهَا، ثمَّ يرْكَع. قلت: فإن أراد أن يرْكَع بالسَّجْدَة بعَينهَا هل يُجْزيه ذلك؟ قال: أما في القياس فالركعة في ذلك والسجدة سَوَاء؛ لأن كل ذلك صَلَاة، ألا ترى إلى قول الله تعالى في كِتَابه: (وخَرَّ رَاكِعًا) وتفسيرها خَرَّ سَاجِدا، والركعة والسجدة سَوَاء في القياس، وأما في الاسْتِحْسَان فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن يسجدها، وبالقياس نَأْخُذ."[1]


"وإن حَلَفَ لا يَشْتَري طعاما ولا نيَّة لهُ فاشْترى حِنْطَة أَو دقيقًا أَو تَمرا أَو شَيْئا من الفَوَاكه ممَّا يُؤْكَل فإنه يَحْنَث في القيَاس، وأما في الاسْتِحْسَان فَيَنْبَغي أن لا يَحْنَث إِلَّا فِي الخبز والحِنْطَة والدقيق."[2]


"قلت: أَرَأَيْت رجلا كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ أو أَمَةً لَهُ مُكَاتبَة فَاسِدَة، ثمَّ مَاتَ السَّيِّد قبل أَن تُؤدِّي: ما حالها؟ قال: هي مَمْلُوكَة للورَثَة، وتبطل الـمُكَاتبَة. قلت: أرَأَيْت إن أدَّت إلى الورَثَة الـمُكَاتبَة بعد موت السَّيِّد؟ قَال: تُعْتق في الاسْتِحْسَان. قلت: فهَل تُعْتق في الْقيَاس؟ قَال: لا. قلت: بالقِيَاس تَأْخُذ أم بالاستحسان؟ قَال: لا، بل بالاستحسان."[3]

وقد يذكر أحيانا تعليلا مجملا لوجه الاستحسان، ومثال ذلك ما يأتي:

"قلت: أرَأَيْت رجلا كاتب عبدا لهُ على أَن يَخْدمه شهرا، هل تجوز هذه الـمُكَاتبَة؟ قال: نعم. قلت: لِـمَ، والخدمة غير معْلُومَة؟ قال: أستحسن ذلك؛ أَلا ترى أَنَّا نُجيز الـمُكَاتبَة على مَال ليس بمَعْلُوم!"[4]


هذه هي العبارات الـمُجْمَلة التي نُقل من خلالها الاستحسان الحنفي، وظاهر هذه العبارات يوهم بأن الاستحسان شيءٌ خارجٌ عن النص والقياس.


وتجدر الإشارة إلى أن العبارات التي تتحدث عن تفاصيل الاستحسان -من خلال بيان أنواعه ودليل الاستحسان في كل مسألة- لم تكن موجودة في ذلك الوقت، بل ظهرت في كتابات علماء الحنفية بعد ذلك بوقت طويل نتيجة للسجالات العلمية حول الموضوع.


لقد كان من الطبيعي لمن اطلع على تلك العبارات الـمُجْمَلة حول الاستحسان -مثل تلك التي ذكرها محمد بن الحسن الشيباني- أن يستغربها: فالقياس بجميع معانيه كان معروفا ومقبولا من طرف جماهير العلماء، أما هذا االاستحسان الذي يُتْرَك من أجله القياس، ودون أن يكون له دليل شرعي ظاهر، فهو أمر غريب!

هذا هو الذي جعل العلماء الذين اطلعوا على تلك العبارات ينكرون الاستحسان، ويشنون حملة لنقضه، ومنهم الإمام الشافعي.

إن النظر فيما كتبه الشافعي في نقض الاستحسان يُظهر أنه فهم من عبارات الحنفية أن الاستحسان قول خارج عن الاجتهاد المشروع القائم على النصوص الشرعية والقياس عليها. يقول الشافعي: "والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبدا إلا عَيْنٌ قائمةٌ تُطْلَبُ بدلالة يُقْصَدُ بها إليها، أو تَشْبيه على عَيْن قائمة. وهذا يُبيّن أنّ حراما على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر. والخبر -من الكتاب والسنة- عَيْنٌ يَتَأخَّى معناها المجتهدُ ليُصيبَهُ، كما البَيْتُ[5] يتأخَّاه من غاب عنه ليُصيبَهُ، أو قصده بالقياس."[6] فالاجتهاد يكون إما بناء على دلالة النصوص الشرعية، أو بالقياس عليها، مع العلم أن مفهوم القياس عند الشافعي واسع، وهو يطابق مفهوم الاجتهاد.[7] ويقول الشافعي بعد ذلك: "ولو جاز تعطيل القياس جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خَبَرٌ بما يحضرهم من الاستحسان. وإن القول بغير خَبَر ولا قياس لغير جائز."[8]


هكذا إذًا فهم الشافعي وعلماء عصره الاستحسان من العبارات الواردة في كتب تلاميذ أبي حنيفة؛ فسبب إنكارهم على عبارات الاستحسان الواردة في كتب الحنفية هو أنها كانت غامضة مجرَّدة عن ذِكْرِ وَجْهِ الاستحسان ودليله، وهي العبارات التي جعلت ظاهِرَهُ أنَّهُ شيءٌ زائدٌ عن النصوص الشرعية والقياس عليها.


لا شك أن ما كان يُعبّر عنه أبو حنيفة بالاستحسان هو وجهٌ من وجوه الاستدلال، وله سنده في ذلك من المنقول أو المعقول، ولم يكن شيئا خارجا عن مدلول النصوص الشرعية والقياس عليها، ولكن الروايات التي نُقلت عن أبي حنيفة لا تذكر -عادة- وَجْه ذلك الاستدلال وسَنَدَهُ، والعلماء الذين حكموا على الاستحسان الحنفي حكموا عليه من خلال تلك الكتابات المجردة عن الدليل.


يقول الجصاص في كتابه: الفصول في الأصول، وهو من أقدم ما وصلنا من كتب الأصول الحنفية: "تكلم قوم من مخالفينا في إبطال الاستحسان حين ظنوا أن الاستحسان حُكم مما يشتهيه الإنسان ويهواه، أو يلذه، ولم يعرفوا معنى قولنا في إطلاق لفظ الاستحسان."[9]


ونتيجة لذلك الإنكار الذي قُوبلَت به عبارات الاستحسان -المنسوبة إلى أبي حنيفة- انبرى علماء المذهب الحنفي لبيان أن ما كان يُعبّر عنه أبو حنيفة بالاستحسان هو اجتهادات قائمة على أدلة من المنقول أو المعقول، وأنها من صميم الاجتهاد المشروع، وليست خارجة عنه. وبعد رحلة طويلة من السجال العلمي حول موضوع الاستحسان وضع الحنفية تصورا متكاملا له.

يقول الجصاص: "وجميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان فإنهم إنما قالوه مقرونا بدلائله وحججه، لا على جهة الشهوة واتباع الهوى، ووجوه دلائل الاستحسان موجودة في الكتب التي عملناها في شرح كتب أصحابنا."[10] ويقول: "وقد سمى أصحابنا عموم الكتاب والسنة في بعض الأحوال استحسانا، وكذلك الإجماع والقياس."[11]

وبعد أن تمكن علماء الحنفية من وضع تصوُّر مقبول حول مفهوم الاستحسان، خَفَتَ النزاع حوله، وصار كثير من علماء الأصول يُعبّرون عن الخلاف الواقع حوله بأنه خلاف لفظي. فالغزالي -مثلا- أورد بيان الكرخي ومن جاء بعده من علماء الحنفية لمفهوم الاستحسان، وأنه أجناس، منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن أو من السنة، وعقب على ذلك بقوله: "وهذا مما لا يُنْكَر، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ، وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة."[12]



[1]الشيباني، محمد بن الحسن، كتاب الأصل المعروف بالمبسوط، تصحيح وتعليق أبي الوفاء الأفغاني (بيروت: عالم الكتاب، ط1، 1410هـ/ 1990م) ج1، ص316.[2]محمد بن الحسن الشيباني، كتاب الأصل، ج3، ص391.
[3]محمد بن الحسن الشيباني، كتاب الأصل، ج3، ص421.
[4]محمد بن الحسن الشيباني، كتاب الأصل، ج3، ص415.
[5]مراده بالبيت الكعبة، يتأخاها في الصلاة من لا يراها بناء على الاجتهاد.
[6]الشافعي، الرسالة، ص503-504.
[7]انظر بحث المؤلف عن العلاقة بين القياس والاجتهاد عن الإمام الشافعي. البحث متوفر على الرابط: http://www.feqhweb.com/vb/t11775
[8]الشافعي، الرسالة، ص505.
[9]الجصاص، أحمد بن علي الرازي، الفصول في الأصول، تحقيق عجيل النشمي (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1414هـ/ 1994م)ج4، ص223.
[10]الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص226.
[11]الجصاص، الفصول في الأصول، ج4، ص228.
[12]الغزالي، المستصفى، ج1، ص216.
 
أعلى