العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
سئل الإمام العلامة أبو السعود عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي :
كان يتقدم لنا أنه إذا تعارض الأصل والغالب، يتقدم الأصل إلا في صور قدم الغالب وهو النادر، فهل هذا كذلك أو وقع فيه خطأ؟ فإن قلتم بتصويب ما تقدم وأن القاعدة كذلك هي عند الأيمة ، فما حكم الصامت
( الماء الذي يعصر من العنب قبل نضجه، يستعمل في الأدوية وإذا خمر لمدة طويلة صار مسكرا) الذي يأتي به البرابرة ( سكان الجبال من بلاد المغرب من برقة إلى المحيط الأطلسي)،من الجبال؟ ويبيعونه بالمدن؟ وقد علمتم حالهم وما هم عليه من كثرة تعاطي الخمور ومناولتهم إياه، فالغالب على أوانيهم فخارا أو جلودا أو قروعا ( اليقطين الجاف)، استعملوا الخمر فيها، والأصل السلامة والطهارة، فهل يبنى على الغالب أو الأصل؟ فإن هذا مما عمت به البلوى، وربما دعت الحاجة إلى اشترائه، فاذكر لي ما عندكم في ذلك.
فأجاب:
إن القاعدة صحيحة كما ذكرت، وقد قال الإمام العالم أبو الحسن الأبباني ـ وذكر أقسام شأن الشبهات والإلتباس ـ : " القسم الرابع أن يكون الحل معلوما، ولكن غلب على الظن جريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن فيرفع الاستصحاب ، ويقضى بالتحريم، إذ الاستصحاب ضعيف، ولا يبقى له حكم مع غلبة الظن، كما غذا غلب على ظنه نجاسة إناء بعلامة معينة، فلا يجوز التوضؤ به ولا شربه، هذا إذا غلب على الظن بعلامة متعلقة بعين الشيء، فأما غلبة الظن الناشئة من التكثير، فهل تنقل عن حكم الأصل؟ فيه خلاف .
فمن الناس من يقدم الأصل لضعف الغلبة الناشئة من الكثرة، ويقول: لسنا ننتقل عن الأصول بمجرد ميل النفس إلى الانتقال، حتى يكمل السبب، ثم احتجوا لذلك.
وقال قائل: الغالب مقدم، ثم ذكر الاحتجاج ثم قال: فالصحيح عندنا التمسك بالغالب، إلا في موضع يلزم من التمسك حرج وغضاعة مال محترم، وبيان ذلك بالفقه والنقل، ثم استدل لذلك. انتهى .
وقد ذكر الإمام شهاب الدين القرافي القاعدة في فروقه، وذكر نظائر قدم الشرع النادر فيها على الغالب رحمة للعباد، قال : " وقد غفل عن هذا قوم فدخل عليهم الوسواس، وهم يعتقدون أنهم على قاعدة شرعية، وهي الحكم بالغالب.وهذا كما قالوه، ولكن الشرع ألغى هذا، ثم قال: فمن ألغى الغالب في جميع المسائل خالف الإجماع....قال في مختصر البغوي: والمقصود ...أن يظهر لك أن خلاف القول بترجيح الغالب على النادر مما لا ينبغي، بل ما يكون ذلك إلا بعد بحث شديد، ومعرفة الباحث بالمسائل الفقهية، والدلائل الشرعية، واستقرائه بذلك كله، فبعده يصح له أن يحكم بترجيح ذلك الغالبن وأيضا فلا ينبغي أن يقال: غذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يرجح؟ قولان، انتهى .
إذا تقرر هذا، فحكم المسألة المسؤول عنها ـ وهي شراء الصامت من اسواق المسلمين ـ الجواز عملا بالأصل، الذي هو النادر دفعا للحرج، حسبما تبين مما تقدم، هذا مقتضى قواعد المذهب، أما مقتضى الورع، فأمر زائد على ذلك، إذ مبناه على الخروج من الشبهات والله أعلم . الأجوبة الصغرى، 209-213

 
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

شيخنا الكريم الدكتور أبا حاتم بارك الله فيكم على هذه الفائدة اللطيفة ولعل هذا من فوائد تفرغكم بعد الرسالة وننتظر المزيد .
حقيقة حينما أرى فقه المالكية أرى أنهم يملكون فقه أصول الفقه وقواعده فأصولهم ليست مجرد دلالات الألفاظ واحتجاج بالأدلة النقلية والعقلية مجردة عن الفقه في تأصيلها ويظهر هذا في عدة أمور منها :
1 – إدراكهم لتداخل الأدلة والقواعد الأصولية لا سيما في تعارض الأدلة العقلية وما هو المقدم منها حينئذٍ .
2 – إدراكهم لوجود المستثنيات من القواعد الأصولية والفقهية ومدارك الاستثناء .
3 – إدراكهم التعامل مع الكليات والجزئيات عند التعارض والتوافق والتفاتهم إلى قضايا الأعيان .
4 – جمعهم بين شدة التمسك بظواهر النصوص والتشديد في البدع وبين إعمالهم للمقاصد والمصالح والمعاني الشرعية المعتبرة .
5 – كثرة الأصول المحتج بها عندهم مما يعطيهم المرونة بالعمل بالأقرب منها للشرع والمصلحة والعدل .
6 – قدرتهم على التعامل مع النوازل بفقه ملائم يتكيف مع صور تلك النوازل وما يحيط بها من ملابسات وعدم التقليد والجمود على ما هو مسطر في الكتب ، بل إننا نلحظ في الفقه المالكي أنهم يفتون بالمشهور والراجح والشاذ والضعيف في المذهب ويراعون الخلاف ويعملون المصالح بل ربما خرجوا عن المذهب في بعض الأقضية وكل ذلك حسب ما يقتضيه فقه المسألة وهذا يندر وجوده في بقية المذاهب التي تعتمد المعتمد في المذهب في كل وقت ومكان وحال وهو ما يفيد أنهم جمعوا بين علم الفتيا وفقه الفتيا .
ولعل مما يذكر في هذا – على سبيل التمثيل - ما ذكره القاضي عياض في مذاهب الحكام في نوازل الأحكام ( ص 47 ) في الشهادات تحت سؤال عن شهادة المختفي : في نازلة وهي أن صاحب دار سكة الجزيرة وغرناطة في عهد المرابطين المسمى سعد وخصمه السبتي المدعو الرميلي حيث ادعى الأخير أنه دفع للأول شيئا يضربه له في دار السكة فلم يسلمه جميع ما ضربه وقال سعد صاحب دار السكة إنه دفع لخصمه الرميلي أكثر مما كان له عنده فتحاكما إلى قاض أندلسي كنيته أبو سعيد وكان قد شهد بذلك شاهد أجلسه الرميلي له خلف ستر مع آخر وسمع إقرار سعد للرميلي فحكم القاضي بحكم لم يرتضه الرميلي ، وبلغ الأمر إلى الأمير المرابطي بقرطبة فأحال القضية على القاضي عياض الذي كان له ولابن رشد ومحمد بن إسماعيل اجتهادات مختلفة في النازلة .
وسبب الخلاف في ذلك الاختلاف في مسألة الحكم باليمين مع الشاهد التي يعتمدها مالك خصوصا في الأموال وقد اشتهر عند الأندلسيين عدم أخذهم بهذا الأصل في المذهب في أقضيتهم :
وابن رشد أخذ بالقاعدة وأفتى بشهادة المختفي مع اليمين .
وخالفه عياض مشترطا عدالة الشاهد عملا بقاعدة ليس كل من تجوز شهادته يجوز تعديله .
وخالفه ابن الحاج مجيزا الشهادة على هذه الحال .
وأفتى محمد بن إسماعيل برد شهادة الشاهد .
ونحن نلحظ هذا الفقه التطبيقي في فهم النوازل في التأليف المتقدم عندهم في النوازل والوثائق وعلم القضاء ونحوها .
وباختصار فالمالكية ليسوا حرفيين في التعامل مع القواعد الأصولية ولا مع أصول المذهب وفروعه بل فقههم مع تأصيله فقه متجدد يعايش الزمان والمكان والحال .
وهذا لا يعني عدم وجود فقهاء محققين في كل مذهب يدركون واقعهم مع سعة علمهم ولكني أتحدث عن سمة هذا المذهب كمذهب له أصوله ومنهجه ومساره عبر العصور .

شيخنا الكريم أبا حاتم :
ما ذكرتموه يتعلق بمبحث الأصل والظاهر وهو مبحث مهم جدا وقد ألف فيه رسائل علمية منها رسالة ماجستير لأخينا الدكتور أحمد الرشيد ومنها رسالة ماجستير لمحمد سماعي الجزائري .
ونظير ما ذكرتم في مسالة تعارض الأصل والظاهر من السنة ما ورد في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال : ( أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل ) متفق عليه .
وجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بمزادة مشركة متفق عليه ، وكذلك دعاه اليهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة .
فالأصل هنا الطهارة ؛ إذ الأصل في الأشياء الطهارة كما هو مقرر ، والغالب من حال هؤلاء ملابستهم للنجاسة في ثيابهم وأوانيهم .
فهناك من رجح الأصل ، وهناك من رجح الغالب ، والمالكية يفرقون بين أن تكون مما يطبخ فيها عادة فلا بد من غسلها وغليها قبل الأكل وبين ما إذا كانت مما لا يطبخ فيها عادة فلا بأس باستعمالها من غير غسل .
وقد ذكر القرافي نظائر لهذه المسألة حينما تكلم عن تقديم الغالب على النادر والعكس في كتابه الفروق فذكر :
" الرابع : طين المطر الواقع في الطرقات وممر الدواب والمشي بالأمدسة التي يجلس بها في المراحيض الغالب عليها وجود النجاسة من حيث الجملة وإن كنا لا نشاهد عينها والنادر سلامتها منها ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب وأثبت حكم النادر توسعة ورحمة بالعباد فيصلي به من غير غسل " .

وخلاصة الترجيح بين الأصل والظاهر أن الأمر يعتمد على أمور منها :
1 – تقديم ما قدمه الشرع منهما إن ورد نص بذلك .
2 – تقديم ما يدفع الحرج عن المكلفين ومنه المثال الذي ذكرتموه شيخنا ومنه ما نقل هنا عن القرافي .
3 – تقديم ما تؤيده أصول الشريعة العامة .
4 – تقديم الأحوط .
5 – تقديم الظاهر الذي يسنده دليل قوي ناقل عن الأصل .
6 – تقديم الخاص على العام ( ما يتعلق بالصورة المتنازع عليها أكثر )
7 – تقديم ما يسنده الحس والمشاهدة .
 

أحمد محمد عروبي

:: متخصص ::
إنضم
29 ديسمبر 2009
المشاركات
133
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
وزان
المذهب الفقهي
المالكي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

بل إننا نلحظ في الفقه المالكي أنهم يفتون بالمشهور والراجح والشاذ والضعيف في المذهب ويراعون الخلاف ويعملون المصالح بل ربما خرجوا عن المذهب في بعض الأقضية وكل ذلك حسب ما يقتضيه فقه المسألة وهذا يندر وجوده في بقية المذهب التي تعتمد المعتمد في المذهب في كل وقت ومكان وحال وهو ما يفيد أنهم جمعوا بين علم الفتيا وفقه الفتيا .

هيه.... يا ابا حازم... هل عمل فيك القرافي عمله !!!

ام إنه الإنصاف الذي يتمتع به الأفذاذ مثلكم ؟؟

(ابتسامة)
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية


وهذا لا يعني وجود فقهاء محققين في كل مذهب يدركون واقعهم مع سعة علمهم ولكني أتحدث عن سمة هذا المذهب كمذهب له أصوله ومنهجه ومساره عبر العصور .

أظن المراد: وهذا لا يعني "عدم" وجود فقهاء محققين في كل مذهب..
وشكر الله للشيخين الكريمين إفاداتهما الماتعة ونكاتهم النافعة.
 
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

هيه.... يا ابا حازم... هل عمل فيك القرافي عمله !!!

ام إنه الإنصاف الذي يتمتع به الأفذاذ مثلكم ؟؟

(ابتسامة)
غفر الله لك يا شيخ أحمد وجعلني عند حسن ظنك
أما الأولى فلا بد منها لكل دارس لعالم فالتأثر وارد بالممارسة والمخالطة فكيف بعالم كالقرافي عنده من سعة العلم بالمنقول والمعقول وقوة الحجة ما يندر حصوله .
وأما الإنصاف فهو واجب وهو مقتضى العدل حتى مع المخالفين في الملة فكيف بمذهب سني وأخوك لا يرى فرقا بين هذه المذاهب الأربعة فكلها مذاهب اتفق على قبولها وصحة مسلكها وسلامة منهجها فاتباعي لمالك لا يقل عن اتباعي لأحمد رحمهما الله .
 
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

أظن المراد: وهذا لا يعني "عدم" وجود فقهاء محققين في كل مذهب..
وشكر الله للشيخين الكريمين إفاداتهما الماتعة ونكاتهم النافعة.
نعم هو كما قلتم شيخنا الكريم أبا بكر فجزيتم خيرا وقد تم التعديل
 
إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
رد: مثال لتطبيق القواعد الفقهية في فتوى مالكية

شيخنا الكريم الدكتور أبا حاتم بارك الله فيكم على هذه الفائدة اللطيفة ولعل هذا من فوائد تفرغكم بعد الرسالة وننتظر المزيد .
حقيقة حينما أرى فقه المالكية أرى أنهم يملكون فقه أصول الفقه وقواعده فأصولهم ليست مجرد دلالات الألفاظ واحتجاج بالأدلة النقلية والعقلية مجردة عن الفقه في تأصيلها ويظهر هذا في عدة أمور منها :
1 – إدراكهم لتداخل الأدلة والقواعد الأصولية لا سيما في تعارض الأدلة العقلية وما هو المقدم منها حينئذٍ .
2 – إدراكهم لوجود المستثنيات من القواعد الأصولية والفقهية ومدارك الاستثناء .
3 – إدراكهم التعامل مع الكليات والجزئيات عند التعارض والتوافق والتفاتهم إلى قضايا الأعيان .
4 – جمعهم بين شدة التمسك بظواهر النصوص والتشديد في البدع وبين إعمالهم للمقاصد والمصالح والمعاني الشرعية المعتبرة .
5 – كثرة الأصول المحتج بها عندهم مما يعطيهم المرونة بالعمل بالأقرب منها للشرع والمصلحة والعدل .
6 – قدرتهم على التعامل مع النوازل بفقه ملائم يتكيف مع صور تلك النوازل وما يحيط بها من ملابسات وعدم التقليد والجمود على ما هو مسطر في الكتب ، بل إننا نلحظ في الفقه المالكي أنهم يفتون بالمشهور والراجح والشاذ والضعيف في المذهب ويراعون الخلاف ويعملون المصالح بل ربما خرجوا عن المذهب في بعض الأقضية وكل ذلك حسب ما يقتضيه فقه المسألة وهذا يندر وجوده في بقية المذاهب التي تعتمد المعتمد في المذهب في كل وقت ومكان وحال وهو ما يفيد أنهم جمعوا بين علم الفتيا وفقه الفتيا .
ولعل مما يذكر في هذا – على سبيل التمثيل - ما ذكره القاضي عياض في مذاهب الحكام في نوازل الأحكام ( ص 47 ) في الشهادات تحت سؤال عن شهادة المختفي : في نازلة وهي أن صاحب دار سكة الجزيرة وغرناطة في عهد المرابطين المسمى سعد وخصمه السبتي المدعو الرميلي حيث ادعى الأخير أنه دفع للأول شيئا يضربه له في دار السكة فلم يسلمه جميع ما ضربه وقال سعد صاحب دار السكة إنه دفع لخصمه الرميلي أكثر مما كان له عنده فتحاكما إلى قاض أندلسي كنيته أبو سعيد وكان قد شهد بذلك شاهد أجلسه الرميلي له خلف ستر مع آخر وسمع إقرار سعد للرميلي فحكم القاضي بحكم لم يرتضه الرميلي ، وبلغ الأمر إلى الأمير المرابطي بقرطبة فأحال القضية على القاضي عياض الذي كان له ولابن رشد ومحمد بن إسماعيل اجتهادات مختلفة في النازلة .
وسبب الخلاف في ذلك الاختلاف في مسألة الحكم باليمين مع الشاهد التي يعتمدها مالك خصوصا في الأموال وقد اشتهر عند الأندلسيين عدم أخذهم بهذا الأصل في المذهب في أقضيتهم :
وابن رشد أخذ بالقاعدة وأفتى بشهادة المختفي مع اليمين .
وخالفه عياض مشترطا عدالة الشاهد عملا بقاعدة ليس كل من تجوز شهادته يجوز تعديله .
وخالفه ابن الحاج مجيزا الشهادة على هذه الحال .
وأفتى محمد بن إسماعيل برد شهادة الشاهد .
ونحن نلحظ هذا الفقه التطبيقي في فهم النوازل في التأليف المتقدم عندهم في النوازل والوثائق وعلم القضاء ونحوها .
وباختصار فالمالكية ليسوا حرفيين في التعامل مع القواعد الأصولية ولا مع أصول المذهب وفروعه بل فقههم مع تأصيله فقه متجدد يعايش الزمان والمكان والحال .
وهذا لا يعني عدم وجود فقهاء محققين في كل مذهب يدركون واقعهم مع سعة علمهم ولكني أتحدث عن سمة هذا المذهب كمذهب له أصوله ومنهجه ومساره عبر العصور .
شيخنا الكريم أبا حاتم :
ما ذكرتموه يتعلق بمبحث الأصل والظاهر وهو مبحث مهم جدا وقد ألف فيه رسائل علمية منها رسالة ماجستير لأخينا الدكتور أحمد الرشيد ومنها رسالة ماجستير لمحمد سماعي الجزائري .
ونظير ما ذكرتم في مسالة تعارض الأصل والظاهر من السنة ما ورد في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي ؟ قال : ( أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل ) متفق عليه .
وجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بمزادة مشركة متفق عليه ، وكذلك دعاه اليهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة .
فالأصل هنا الطهارة ؛ إذ الأصل في الأشياء الطهارة كما هو مقرر ، والغالب من حال هؤلاء ملابستهم للنجاسة في ثيابهم وأوانيهم .
فهناك من رجح الأصل ، وهناك من رجح الغالب ، والمالكية يفرقون بين أن تكون مما يطبخ فيها عادة فلا بد من غسلها وغليها قبل الأكل وبين ما إذا كانت مما لا يطبخ فيها عادة فلا بأس باستعمالها من غير غسل .
وقد ذكر القرافي نظائر لهذه المسألة حينما تكلم عن تقديم الغالب على النادر والعكس في كتابه الفروق فذكر :
" الرابع : طين المطر الواقع في الطرقات وممر الدواب والمشي بالأمدسة التي يجلس بها في المراحيض الغالب عليها وجود النجاسة من حيث الجملة وإن كنا لا نشاهد عينها والنادر سلامتها منها ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب وأثبت حكم النادر توسعة ورحمة بالعباد فيصلي به من غير غسل "
.

وخلاصة الترجيح بين الأصل والظاهر أن الأمر يعتمد على أمور منها :
1 – تقديم ما قدمه الشرع منهما إن ورد نص بذلك .
2 – تقديم ما يدفع الحرج عن المكلفين ومنه المثال الذي ذكرتموه شيخنا ومنه ما نقل هنا عن القرافي .
3 – تقديم ما تؤيده أصول الشريعة العامة .
4 – تقديم الأحوط .
5 – تقديم الظاهر الذي يسنده دليل قوي ناقل عن الأصل .
6 – تقديم الخاص على العام ( ما يتعلق بالصورة المتنازع عليها أكثر )
7 – تقديم ما يسنده الحس والمشاهدة .
الحمد لله والله أكبر!! سيل وتدفق.
لو أني علمت أني أسل منك هذا الخير لكان لي إليك في كل يوم قاعدة، ولكن لا عجب فإنك أنت.
صدقت أخي الحبيب، بعد الرسالة حدثت أمور وتطورات كثيرة وخير عميم والحمد لله.
راقتني جدا شهادتك أخي الحبيب، وليس الإنصاف من أهله بمستغرب.
وقد أحوجني تدخلك إلى القول، فإن ما ذكرتُه وذكرتَه يشبه أيضا مسألة تعارض الأصل والغالب، ومن أمثلتها فتوى إمامنا المهدي الوزاني رحمه الله الآتية:
قال الوزاني: " سئلت عن امرأة ادعت على رجل أنه غصبها بلادها، فأجابها بالحوز والمِلك، فأثبت ملكيتها، فاستظهر بالشراء منها، فأفتاها بأنها جاهلة فلها فسخ البيع، وهم جماعة، وأفتى واحد بلزوم البيع.
فأجبت: الحمد لله، ما سطره المفتي أعلاه في غاية الحسن والصواب، إذ هو الحق الذي لاشك فيه ولا ارتياب، فقد أفاد مع الاختصار وأجاد، وكشف عن حقيقة المراد، ومن العجب تواطؤ المفتين حوله على ترك الكلام على المقال، وادعاؤهم جهل المرأة الذي لا دليل عليه هنا بحال، مع أن المفتي إذا خرج عن المقال كان فيه نوع من تلقين الخصوم المنهي عنه شرعا.
والحاصل أن ما أفتوا به باطل، وعن طريق الشريعة عاطل، وذلك لأمور:
ـ أولها: أن دعوى الجهل توجب سقوط دعوى المرأة جملة وتفصيلا، لأن الخصم إذا انتقل من دعوى إلى أخرى سقطت دعوياه معا كما هو عند كل من يتعاطى الفتوى...
ـ ثانيها: أن قولهم : " حيث ادعت المرأة الجهل فيما باعته، وعدم معرفتها قدر قيمته تريد فسخ البيع فإنها تصدق في ذلك الخ" غير سديد، لأنه موجب لعدم صحة بيع المرأة مطلقا، أي امرأة كانت، وهذا لا قائل به، فلو جاز هذا لكان كل امرأة باعت شيئا ثم أرادت فسخه أن تدعي الجهل ولو بعد مضي السنين الطويلة وتفسخه، ولا يخفى أنه تلاعب، ومخالف لما اتفق عليه الأئمة من أن المتبايعين محمولان على المعرفة حتى يثبت الجهل، فقد ذكر هذه القاعدة ابن فرحون، وصاحب الفائق، والحطاب، والشيخ الرهوني، وبناني، ولم يذكروا فيها خلافا أصلا، ولا فرقوا بين رجل وامرأة، وذلك هو الحق.
ـ ثالثها: احتجاجهم على ـ نقض بيع هذه المرأة بعد مضي ستة أعوام ـ بمسألة زوج الولي الصالح الزاهد البطريني، مع أن زوجة البطريني لم تكن دخالة خراجة، ولا من أهل البوادي الذين يصلون إلى أراضيهم، لا سيما في زمن الربيع وأيام المصيف، ولذا قال البرزلي: إن ابن عرفة احتج بأنها لا تعلم حقيقة ما باعت إذ لم تشاهده، ولا هناك من وصفه لها، فعذرها الخ . ولا شك أن هذه المرأة هنا لم يثبت أنها لم تعلم حقيقة ما باعت ولا أنها لم تره قط حتى تعذر بذلك، كما أنه لم يقل أحد في بيع زوجة البطريني أنه فسخ بعد ستة أعوام، فقياس هذه عليها من البعد بمكان" .
قلت - أنا العبد الفقير يوسف -
ـ أولا : نظر الإمام الوزاني رحمه الله إلى اضطراب الدعوى، إذ انتقلت دعوى المرأة من ادعاء الغصب، إلى دعوى الجهل بعد أن قامت عليها حجة البيع باستظهار الرجل عليها بوثيقة بيع، وهذا منبئ عن تذرع بما هو معتبر في الشرع لحل عقد استوفى أركانه وشروطه، لذا فالإمام يقرر سقوط الدعوين معا.
ـ ثانيا: القاعدة المقررة أن مدعي الجهل مدع الأصل، مع أن الأصل في الإنسان الجهل، لقوله تعالى:الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا"، لكن ليس دائما يراعى هذا الأصل في المعاملات والتعاقدات.
فلو اعتبرت دعوى المرأة الجهل لضاعت حقوق ولم يقف عقد على ساق، ولما أقرت امرأة على عقد بدعوى أن الأصل في المرأة الجهل بالبيع وأحوال الأسواق، فسدا للذريعة كان القول بلزوم هذا البيع للمرأة وعدم سماع دعواها، فاعتبار الأصل هنا مفوت لمصالح حقيقية مقابل مصلحة متوهمة، وحتى لو اعتبر جهلها بما باعته في الأصل، فإن العلم يحصل بأن يوصف لها المبيع. .
وعلى هذا فتحمل المرأة على علمها بالمبيع وصفته نظرا إلى أن الغالب كما قرر الفقهاء هو أنه لا يُحمل الناس في أحكامهم إلا على المعرفة، وما يرد دعواها أيضا أن الوثيقة تضمنت وصف المبيع وقدره، ولو كان المشتري عالما بجهل المرأة لسمعت دعواها مع اليمين، ولذلك تعلق مناط الفتوى بالذريعة بوثيقة البيع، إذ بها قام الدليل على أن المرأة ما أرادت من دعواها الجهل إلا الفرار من العقد، وهو ما احتال به المفتون، وعلى هذا فإن هذه المسألة من باب تعارض الأصل والغالب، لأن الأصل الجهل، والغالب في عرف الفقهاء العلم، فغَلَّبَ أئمتنا الغالب على الأصل سدا لذريعة فساد العقود وذهاب الأموال.


 
أعلى