العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

د. خلود العتيبي

:: فريق طالبات العلم ::
إنضم
27 يونيو 2009
المشاركات
1,052
التخصص
أصول فقه
المدينة
... ... ...
المذهب الفقهي
... ... ...
تعددت المسائل الأصولية التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية, نحاول من خلال هذا الموضوع عرض بعض هذه المسائل, والوقوف عليها...

نبدأ بمسألة:
" خبر الواحد فيما تعم به البلوى "

المسألة للمدارسة:
نبدأ عرض هذه المسألة من خلال المحاور التالية:

* ما هي أقوال الأصوليين في " خبر الواحد فيما تعم به البلوى "؟
* ماهي أدلة كل فريق؟
* ما الراجح من هذه الأقوال؟
* ما هي الفروع الفقهية المترتبة على هذه المسألة؟
* ما أفضل الكتب الأصولية القديمة، أو المعاصرة في تحرير وعرض هذه المسألة؟

سنبدأ بهذه المحاور ويمكن إضافة محاور أخرى ...
بارك الله فيكم, وشكر لكم نطمح لمشاركتكم ومناقشاتكم...


*** *** ***​


ما تعم به البلوى: هو ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة تقتضي السؤال عنه، مع كثرة تكرره، وقضاء العادة بنقله متواتراً.
اختلف العلماء في وجوب العمل بخبر الواحد العدل فيما تعم به البلوى, كحديث بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" , وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في الوضوء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"...
شكر الله لكم ما أقوال العلماء في ذلك؟
 

صلاح الدين

:: متخصص ::
إنضم
6 ديسمبر 2008
المشاركات
713
الإقامة
القاهرة
الجنس
ذكر
الكنية
الدكتور. سيد عنتر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
مصر
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
المذهب الحنفي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

لي عودة لذكر بعض ما استدل به الحنفية على هذه المسألة بحول الله.
 
إنضم
10 مارس 2011
المشاركات
5
الكنية
أبوأسامة
التخصص
دعوة واختساب
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

السلام عليكم:
موضوع مفيد ومشكورر
 
إنضم
21 ديسمبر 2009
المشاركات
52
الجنس
ذكر
التخصص
شريعة وقانون
الدولة
الجزائر
المدينة
البويرة
المذهب الفقهي
المالكي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الطرح جيدجدا ولكن قد يحدث تكرار عند المتدخلين في المادة العلمية، وهو أمر نسأل الجميع الاسهام بما جادت به قرائحهم.
 

رشاد حمدي فرغلي

:: متابع ::
إنضم
13 يونيو 2010
المشاركات
8
التخصص
فقه
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
شافعي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

السلام عليكم ورحمة الله

موضوع جميل وشيق جزاك الله خيرا
وللدكتور البلتاجي رحمه الله مبحث في ذلك ، في كتابه بحوث مختارة في السنة ، فلعله يضيف جديدا

في ذلك 0

وجزاكم الله خيرا
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

السلام عليكم

اسمحوا لي بطرح شيئًا من التفصيل فيما يتعلق بمسألة ’’خَبَرُ الوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى‘‘ في هذه المشاركة، ونسأل الله التوفيق والسداد.

لقد ذهب عامة الحنفية إلى عدم قبول خبر الواحد إذا ورد فيما تعم به البلوى -أي فيما يحتاج إلى معرفته كل أحد حاجة متأكدة مع كثرة وقوعه. راجع: التقرير والتحبير (2/ 295)، والبحر المحيط (4/ 348)، وعموم البلوى ص(43)- ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به، وذهب المحدثون وجمهور الأصوليين إلى قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صحَّ سنده دون شرط آخر. ويرى الحنفية أن ورود خبر الواحد فيما تعم به البلوى أمارة على ضعفه أو نسخه، فالخبر إذا ورد فيما تعمُّ به البلوى ودعت إليه الحاجة فسبيله أن يكون نقله من طريق التواتر أو الاستفاضة، فإذا نُقل بطريق الآحاد دلَّ على أنه ضعيف أو منسوخ. وشرط قبول الحنفية للخبر فيما تعم به البلوى: أن يكون مشهورًا أو تلقته الأمة بالقبول، ولا تلازم بينهما؛ إذ قد يوجد اشتهار للشئ بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول، وقد تلقى الأمة الشئ بالقبول بلا رواية على سبيل الاشتهار، وتلقي الأمة بالقبول أقوى في إفادة العلم من مجرد الاشتهار بكثرة الطرق. وقد ذهب بعض الحنفية إلى رد خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى مُطلقًا؛ كالبزدوي والسرخسي وصدر الشريعة والنَّسفي، كما يدلُّ عليه ظاهر كلامهم، وقيَّد بعضهم ذلك بما إذا كان الخبر ورد بإثبات الوجوب أو الحظر، أما إذا دلَّ الخبر على الندب أو الإباحة؛ فلا مانع من العمل به، وممن صرح بذلك: أبو بكر الجصّاص والكمال ابن الهمّام ومحب الدين بن عبدالشكور، فلا يثبت هؤلاء الوجوب أو الحظر بخبر الواحد فيما تعم به البلوى، ويُمكن أن يثبت به الندب أو الإباحة -راجع: أصول السرخسي (1/ 368)، وكشف الأسرار (3/ 16)، والتقرير والتحبير (2/ 295)، والفصول في الأصول (3/ 114)، وفواتح الرحموت (2/ 129)، وشرح المنار (2/ 647)، والتوضيح على التلويح (2/ 17)، والكافي (3/ 1296)، والإحكام للآمدي (2/ 160)، والبحر المحيط (4/ 348)، وعموم البلوى ص(193)-. فمثلًا خبر الواحد المُفيد لغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء عند الشروع في الوضوء -أخرج النسائي (95) أن الحُسين بن عليٍّ قال: دعاني أبي عَليِ بوَضوء فقربته له فبدأ فغسل كفيه ثلاث مرات قبل أن يدخلها في وضوئه ثم مضمض ثلاثًا.. ثم قال: إني رأيت أباك النبي صلى الله عليه وسلم يصنع مثل ما رأيتني صنعت.-، وخبر الواحد في رفع اليدين عند الشروع في الصلاة -رُوي في ذلك أحاديث كثيرة جدًّا، والتمثيل بهذا الحديث لخبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ ليس بسديد، فالحديث في أقل أحواله مشهور إن لم يكن متواترًا، وستأتي بعض طرقه عند ذكر الأمثلة في ذلك-، كلاهما مما تعم به البلوى، ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته، ولم يُنقلا نقلًا متواترًا أو مشهورًا، ومع ذلك فقد قَبِلَ الحنفية الخبرين؛ لأن غسل اليدين ورفعهما ليسا من محل النزاع؛ فالحكم المترتب عليهما هو الندب وليس الوجوب، فلا تنافي. راجع: التقرير والتحبير (2/ 296)، ومسلم الثبوت (2/ 130).
قال الكمال ابن الهمّام: خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى -أي يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكراره-؛ لا يثبت به وجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة له بالقبول عند عامة الحنفية، والأكثر من الأصوليين والمحدثينَ يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى إذا صح سنده، دون اشتراط اشتهار ولا تلقي الأمة له بالقبول. اهـ.
ويتضح مما قاله الكمال أن محل النزاع ينحصر في إثبات الوجوب بخبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ لذا نجده يُعَرِّفُ ما يعم به البلوى بقوله: هو فعل او حال يكثر تكرره للكل سببًا للوجوب. فيُعلم لقضاء العادة بالاستعلام او بلزوم كثرته للشرع قطعًا. انظر: التقرير والتحبير (2/ 295- 297).
وقال أبو بكر الجصّاص في الفصول في الأصول (3/ 114، 122): وأما حكم خبر الواحد فيما تعم به البلوى؛ فإنما كان علة لرده من توقيف النبي صلى الله عليه وسلم الكافة على حكمه فيما كان فيه إيجاب أو حظر، فإنهم لا يصلون إلى علمه إلا بتوقيفه، وإذا أشاعه في الكافة ورد نقله بحسب استفاضته فيهم، فإذا لم نجده كذلك علمنا أنه لا يخلو من أن يكون منسوخًا أو غير صحيح في الأصل، ولا يجوز فيما كان هذا وصفه أن يختص بنقله الأفراد دون الجماعة.. وأما الأخبار الواردة في تبقية الشئ على إباحة الأصل، أو نفي حكم لم يكن واجبًا في الأصل أو في استحباب فعل، أو تفضيل بعض القرب على بعض؛ فإن هذا عندنا خارج عن الاعتبار الذي قدمنا؛ وذلك لأنه ليس على النبي صلى الله عليه وسلم بيان كل شئ مباح، ولا توقيف الناس عليه بنص يذكره؛ بل جائز له ترك الناس فيه على ما كان عليه حال الشئ من الإباحة قبل ورود الشرع. وكذلك ليس عليه تبيين منازل القرب ومراتبها بعد إقامة الدلالة على كونها قربًا، كما أن ليس عليه أن يبيين لنا مقادير ثواب الأعمال؛ فلذلك جاز ورود خبر خاص فيما كان هذا وصفه، وتوقيفه بعض الناس عليه دون جماعتهم، حسب ما يتفق من سؤال السائل عنه، أو وجود سبب يوجب ذكره، فيعرفه خواص من الناس وينقلوه دون كافتهم. اهـ.

أدلة الحنفية:
1- احتج الحنفية بأن صاحب الشرع كان مأمورًا بأن يُبيين للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه مّنْ بعدهم، فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى: فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمهم، وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عُلم أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم، فلو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا، ولم ينفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته. ولهذا لم تُقبل شهادة الواحد من أهل المصر على رؤية هلال رمضان إذا لم يكن بالسماء علة؛ لأنه لو كان ما أخبر به صحيحًا لما جاز أن يختص هو برؤيته دون الكافة. وكذلك لو أخبر مُخبر عن فتنة وقعت في الجامع تفانى فيها الخلق؛ لم يجز قبول خبره دون نقل الكافة. وكذلك لو قال رجل للإمام يوم الجمعة بعد ما سلَّم: إنما صليتَ ركعةً واحدةً. ولم يُخبره غيرُه بذلك مع كثرة المصلين خلفه، لم يجز أن يلتفتَ إلى خبره. راجع: أصول السرخسي (1/ 368)، وكشف الأسرار (3/ 16)، والتقرير والتحبير (2/ 295)، والفصول في الأصول (3/ 114)، وعموم البلوى ص(193).
وأجاب الجمهور بأن الله لم يُكلف نبيه صلى الله عليه وسلم بإشاعة جميع الأحكام؛ بل كلفه إشاعة البعض وجوز له رَدَّ الخلق إلى خبر الواحد في البعض، فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملةِ ما تقتضي مصلحة الخلق أن يُرّدُّوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنًا فجيب تصديقه، وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها؛ بل علته التعبد والتكليف من الله. وأما ما استشهدوا به من الوقائع: فغير مُنَاظِرَةٍ لما نحن فيه؛ إذ الطباع مما تتوفر على إشاعتها عادة فانفراد الواحد يدل على كذبه. انظر: المستصفى (1/ 172)، والإحكام في أصول الأحكام (2/ 164)، وعموم البلوى ص(206).
2- وبأن ما تعم به البلوى لتكرره واشتداد الحاجة إليه: يكثر السؤال عنه من المكلفين لمعرفة حكمه، فيلزم من كثرة السؤال والجواب أن يشتهر هذا الحكم، فإذا لم ينقل عن طريق الاشتهار أو التواتر دلَّ على عدم ثبوته.
3- وبأن ما تعم به البلوى كواجبات وفرائض الصلاة وكنواقض الوضوء، إذا نُقل بطريق الآحاد يلزم منه بُطلان صلاة كثير من الأمة لعدم علمهم بها.
وأجاب الجمهور عن هذا اللازم بأنه غير مُسلَّم؛ لأن من لم يبلغه الخبر فالحكم غير ثابت في حقه، ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل. وانظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 163)، وعموم البلوى ص(207).
4- ومما يُستدل به على صحة هذا الاعتبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على خبر ذي اليدين في قوله: (أقصرت الصلاة أم نسيت). حتى سأل الناس فقال: (أصدق ذو اليدين؟ ). فقال الناس: نعم. -أخرجه البُخاري (714)- لأنه يُمتنع في العادة أن يختص هو بعلم ذلك من بين الجماعة.
5- وبأن الصحابة لم يقبلوا خبر الواحد فيما تعم به البلوى، فقد رد عمر حديث أبي موسى في الاستئذان ثلاثًا؛ لأنه مما تعم به البلوى، وهو في كتاب الله تعالى (لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتًا فَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا) [التوبة: 7]، فاستنكر عمر انفراد أبي موسى بمعرفة تحديد الثلاث دون الكافة مع عموم الحاجة إليه، رُوي عن بُسْرِ بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالسًا بالمدينة في مجلس الأنصار فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلىَّ أن آتشيَهُ فأتيت بابه فسلمت ثلاثًا فلم يرد عليَّ فرجعت فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثًا فلم يَرُدُّوا عليَّ فرجعت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع). فقال عمر: أَقِمْ عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أُبيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قُلت: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به. أخرجه البخاري (6245).
وأجاب الجمهور بأن الرد لم يكن مطلقًا؛ ولهذا عمل به لما تابعه أبو سعيد الخدري وخبرهما غير خارج عن الآحاد. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 163)، والمحصول (4/ 442)، وعموم البلوى ص(211).
فرد الجصّاص على ذلك في الفصول في الأصول (3/ 115، 117) فقال: وقبول عمر لم يقتصر على خبر أبي سعيد الخدري؛ لأن أبا سعيد أخبره عن نفسه وعن الأنصار، فصدَّق أبا سعيد على الأنصار في معرفتهم لصحة ما رواه أبو موسى، فصار كأن الأنصار شهدوا مع أبي سعيد عنده، فصار ذلك من أخبار الاستفاضة والتواتر فلذلك عمل به. اهـ.

أدلة الجمهور:
1- تمسك الجمهور أيضًا بعمل الصحابة؛ فإنهم عملوا به فيما يعم به البلوى، مثل: ما روي عن نافع: أن ابن عمر كان يُكْرِي مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية: أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي النبي صلى الله عليه وسلم. فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كِرَاءِ المزارع. فتركها ابن عمر بَعْدُ. وكان إذا سُئل عنها بَعْدُ قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. أخرجه البخاري (2343/ 2344).
2- وبأن خبر العدل في هذا الباب يُفيد غلبة الظن على صدقه، فوجب قبوله كخبره فيما لا تعم به البلوى، وإذا كان القياس يُقبل فيما تعم به البلوى مع أنه أعف من خبر الواحد؛ فقبول خبر الواحد فيه أَوْلَى. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 161)، وعموم البلوى ص(218).
وقد أجاب الحنفية بأن القياس يُوجب الظن بخلاف خبر الواحد، فإنه لا يوجب الظن فيما تعم به البلوى وتشتد الحاجة إليه إلا إذا اشتهر أو قبلوه، فأما إذا لم يشتهر فيغلب على الظن خطؤه، ويُمكن القول بمنع ثبوت حكم ما تعم به البلوى بالقياس لاقتضاء الدليل، وهو قضاء العادة بالاستعلام أو كثرة إعلام الشارع به. راجع: التقرير والتحبير (2/ 296)، وفواتح الرحموت (2/ 130).
3- وبأن الحنفية عملوا بخبر الواحد فيما تعم به البلوى في وقائع كثيرة، فيلزمهم العمل به في سائر الوقائع، ومن ذلك أنهم قبلوا الخبر الوارد في وجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة -أخرج الدارقطني (1/ 161) من طريق أبي الملِيحِ بن أسامة عن أبيه قال: بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل ضرير البصر فوقع في حفرة فضحكنا منه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء كاملًا وإعادة الصلاة من أولها. وساقه من طرق كثيرة وبيّن ضعفها وعللها فليُرجع إليه-، وقبلوا الخبر الوارد في وجوب الوضوء من الحجامة والقئ والرعاف -أخرج أبو داود (2381) من طريق مَعْدَانَ بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. فلقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق فقُلت: إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: صدق وأنا صببت له وَضوءه. وأخرج الدارقطني (1/ 157) من طريق يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد عن عمر بن عبدالعزيز قال: قال تميم الداري قال رسول الله صلى الله عليه وسلك: (الوضوء من كل دم سائل). قال الدارقطني: عمر بن عبدالعزيز لم يسمح من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد ويزيد بن محمد مجهولان. اهـ-. والخبر الوارد في وجوب المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة -أخرج البُخاري (259) عن أم المؤمنين ميمونة قالت: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلًا فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه، ثم أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ يَنْقُضْ بها.-. والخبر الوارد في وجوب الوتر -أخرج أبو داود (1418) عن خارجة بن حُذَافَةَ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله عز وجل قد أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حُمْرِ النِّعَمِ وهي الوتر، فجعلها لكن فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر).-. وخبر المشي خلف الجنازة -أخرج أبو داود (3184) عن أبي ماجدة عن ابن مسعود قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: (ما دون الخبب، إن يكن خيرًا تُعَجَّل إليه، وإن يكن غير ذلك فبُعدًا لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تَتْبَعُ، ليس معها من تقدمها). قال أبو داود: وهو ضعيف، وأبو ماجدة هذا لا يُعرف. اهـ-. وجميع الأمور السابقة مما تعمُّ بها البلوى. راجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 160)، والمحصول (4/ 442)، والمستصفى (1/ 171)، وعموم البلوى ص(221).
وقد أجاب الحنفية عن هذه الوقائع بأنها خارج محل النزاع؛ فالقهقهة في الصلاة، والحجامة والقئ والرعاف: أمور تقع نادرًا وليست مما تعمُّ به البلوى. راجع: التقرير والتحبير (2/ 297)، ومسلم الثبوت (2/ 130).
وأما وجوب المضمضة والاستنشاق في غُسل الجنابة ووجوب الوتر: فإنها من الأمور التي اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهاو أم بفعلها، فأما الوجوب فحكم آخر سوى الفعل، وذلك مما يجوز أن يوقف عليه بعض الخواص لينقلوه إلى غيرهم، فإنما قُبِلَ خبر الواحد في هذا الحكم، فأما أصل الفعل فإنما ثبت بالنقل المستفيض. راجع: أصول السرخسي (2/ 369)، والفصول في الأصول (3/ 116).
وأما خبر المشي خلف الجنازة؛ فهو محمول على الندب، وهذا خارجٌ أيضًا عن محل النزاع؛ لأنه لم يثبت به الوجوب. راجع: الفصول في الأصول (3/ 123).

ومن خلال ما سبق يظهر أن منشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور يرجع إلى الخلاف في العادة، هل تقضي نقل ما تعم بها البلوى نقلًا مستفيضًا أم لا؟
فيرى الحنفية أن العادة تقتضي إشاعة الشارع له بتبليغه لعدد يحصل به التواتر أو الاشتهار، كما أن العادة تقتضي استعلام المكلفين عن حكم ما تعم به البلوى مما يترتب عليه اشتهار هذا الحكم، فإذا نُقل بطريق الآحاد دلَّ على عدم ثبوته فلا يُقبل.
وأما الجمهور؛ فيرون ادة لا تستلزم إشاعة الشارع ما تعم به البلوى، فجائز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما اقتضت مصلحة الخلق أن يُرَدُّوا فيه إلى خبر الواحد، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنًا فيجب تصديقه وقبول خبره.
وقد ترتب على هذا الخلاف: قبول الجمهور جملةً من الأخبار لم يقبلها الحنفية، وهذا يوضح أن رد الحنفية لبعض أخبار الآحاد كان لعدم ثبوتها وفق منهجهم النقدي، وليس لمجرد الرأي كما يُشاع عنهم، وسوف يزداد ذلك وضوحًا بذكر بعض الأمثلة الفقهية التي احتج فيها الحنفية بهذه القاعدة.

أمثلة خبر الواحد فيما تعم به البلوى:

المثال الأول/ الوضوء من مس الذكر.
يرى الشافعية والمالكية وهو رواية عند الحنابلة: أن مسَّ فرج الآدمي حدث يُنقض الوضوء. ويرى الحنفية وهو رواية أخرى عند الحنابلة: أن مس الفرج لا يُعتبر من الإحداث، فلا يُنقض الوضوء. راجع: المبسوط (1/ 66)، والتمهيد (17/ 202)، والمجموع (2/ 47)، والمغني (1/ 116)، والاعتبار ص(82).
-أدلة الشافعية والمالكية:
1- أخرج مالك في الموطأ (89)، وأبو داود (181)، والنسائي (163) من طريقه عن عبدالله بن أبي بكر ابن مُحمد بن عمرو بن حزم. والترمذي (82)، وابن ماجه (497) من طريق هشام بن عروة. كلاهما عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: ومِنْ مس الذكر. فقال عروة: ما علمت ذلك. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مسَّ ذكره فليتوضأ).
وفي رواية للنسائي في سُننه (164): قال عروة: فلم أزل أُمَارِي مروان حتى دعا رجلًا مِن حرسه فأرسله إلى بسرة فسألها عما حدثت مروان فأرسلت إليه بمثل الذي حدثني عنها مروان.
وفي رواية لابن حبان في صحيحه (3/ 397)، والدارقطني في سُننه (1/ 146)، والحكام في مُستدركه (1/ 231): قال عروة: فسألت بسرة فصدقته.
قال الترمذي في سُننه (82): حديث حسن صحيح. وقال مُحمد بن إسماعيل: حديث بسرة أصح شئ في هذا الباب. اهـ. وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. راجع: التمهيد (17/ 191)، والمغني (1/ 117).
وقد طعن الطحاوي في حديث بسرة بعدة أمور يُمكن تلخيصها فيما يلي -راجع: شرح معاني الآثار (1/ 72، 73)-:
الأمر الأول: أن عبدالله بن أبي بكر ليس حديثه عندهم بالمُتقن. وروي عن سُفيان بن عيينة أنه قال: كناإذا رأينا الرجل يكتب الحديث عند واحد -من نفر سماهم، منهم: عبدالله بن أبي بكر- سخرنا منه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث. والمحدثون يُضعفون ما هو مثل هذا بأقل من كلام مثل ابن عيينة.
ويُجاب بأنهم اتفقوا على جلالته وإتقانه، وممن وثقه: مالك وأحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن سعد والعجلي، فلا يضره من تكلم فيه بعدهم. راجع: تهذيب الكمال (14/ 349)، وتهذيب التهذيب (2/ 133).
الأمر الثاني: أن عروة يروي الحديث عن مروان عن بسرة أو عن الشرطي عن بسرة، وكلاهما ممن لا يُقبل خبره، فمروان حاله معروف -راجع: تهذيب الكمال (27/ 387)، وتهذيب التهذيب (10/ 92)، وميزان الاعتدال (4/ 89)-، والشرطي مجهول.
وأُجيب بأن الحديث ثبت من رواية عروة عن بسرة مباشرة كما سبق. قال الحاكم في المُستدرك على الصحيحين (1/ 230): فظن جماعة ممن لم ينعم النظر في هذا الاختلاف أن الخبر واهٍ لطعن أئمة الحديث على مروان، فنظرنا فوجدنا جماعة من الثقات الحفاظ رووا هذا عن هشام عن أبيه عن مروان عن بسرة، ثم ذكروا في رواياتهم أن عروة قال: ثم لقيت بعد ذلك بسرة فحدثتني بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثني مروان عنها. فدلنا ذلك على صحة الحديث وثبوته على شرط الشيخين وزال عنه الخلاف والشبهة وثبت سماع عروة من بسرة. اهـ. وقد ذكر في الصفحة التالية مناظرة لطيفة بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني بخصوص مسألة انتقاض الوضوء بمس الذكر، فلتنظر هناك.
وقال ابن حبان في صحيحه (3/ 397): وعائذ بالله أن نحتج بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شئ من كتبنا، فإن عروة سمعه من مروان عن بسرة، فلم يُقْنِعْه ذلك حتى بعث مروان شرطيًّا له إلى بسرة فسألها، ثم آتاهم فأخبرهم بمثل ما قالت بسرة، ثم لم يقنعه ذل حتى ذهب عروة إلى بسرة فسمع منها؛ فالخبر عن عروة عن بسرة متصل ليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد. اهـ.
الأمر الثالث: أن هشام بن عروة لم يسمع هذا من أبيه، وإنما أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فدلَّس به عن أبيه فرجع الحديث إلى أبي بكر أيضًا.
ويُجاب عنه بتصريح عروة بالسماع من أبيه، كما عند أحمد في مُسنده (6/ 406)، والترمذي في سُننه (82) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام عن عروة قال: حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته.
ويُحتمل أن يكون هشام سمعه عن أبيه مُباشرة، وسمعه عن أبيه بواسطة أبي بكر ابن محمد، فكان يُحدث به على الوجهين، فيكون من المزيد في متصل الأسانيد، وعلى فرض صحة ما ذكره فالحديث صحيح أيضًا؛ لأن أبا بكر ثقة عابد. راجع: تهذيب الكمال (33/ 137)، وتهذيب التهذيب (12/ 40).
2- وأخرج ابن ماجه (481) من طريق العلاء بن الحارث عن مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ).
قال أحمد بن حنبل: حديث حسن ثابت. اهـ. انظر: المغني (1/ 116)، والتمهيد (17/ 191). وقال أبو زرعة: حديث أم حبيبة في هذا الباب صحيح. وقال الباخري: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، وروى مكحول عن رجل عن عنبسة غير هذا الحديث. وكأنه لم ير هذا الحديث صحيحًا. اهـ. راجع: سنن الترمذي (48).
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75): هذا منقطع أيضًا. ثم أُسند عن أبي مسهر عبدالأعلى بن مسهر أنه قال: لم يسمع مكحول من عنبسة شيئًا. اهـ. وقال ذلك أيضًا النسائي. راجع: تهذيب الكمال (28/ 470)، وتهذيب التهذيب (10/ 258).
3- وأخرج ابن حبان في صحيحه (3/ 401) من طريق يزيد بن عبدالملك -يزيد بن عبدالملك النوفلي ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم، وقال البخاري: أحاديثه شبه لا شئ، وضعفه جدًّا. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان ممن ساء حفظه حتى كان يروي المقلوبات عن الثقات، ويأتي بالمناكير عن أقوام مشاهير، فلما كثر ذلك في أخباره بطل الاحتجاج بآثاره. راجع: تهذيب الكمال (32/ 197)، والمجروحين (3/ 102)، وميزان الاعتدال (4/ 433)-، ونافع بن أبي نُعيم القارئ -نافع بن أبي نُعيم القارئ: أحد القُرَّاء السبعة ومُقرئ أهل المدينة، وثقه يحيى بن معين، وقال علي بن المديني: كان عندنا لا بأس به. وقال أحمد بن حنبل: كان يؤخذ عنه القرآن، وليس بشئ في الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. راجع: ميزان الاعتدال (4/ 242)، ولسان الميزان (7/ 408)-، عن المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ). قال أبو حاتم: واحتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نُعيم دون يزيد بن عبدالملك النوفلي؛ لأنا تبرأنا من عهدته في كتاب الضعفاء. اهـ. والحديث رواه الحاكم في المُستدرك (1/ 233) من طريق نافع وصححه.
وأخرجه أحمد في المُسند (2/ 33)، والدارقطني في السُنن (1/ 147)، والبيهقي في السُنن الكبرى (1/ 133) من طريق يزيد ولفظه: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة).
قال البيهقي: ويزيد بن عبدالملك تكلموا فيه. اهـ. ثم أسند عن أحمد بن حنبل أنه سُئِل عنه فقال: شيخ من أهل المدينة ليس به بأس. ثم رواه عن أبي هريرة موقوفًا.
4- وأخرج ابن ماجه (482) أيضًا عن إسحاق بن أبي فروة عن الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالقاري عن أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ). وإسحاق بن عبدالله بن أبي فروة: متروك بالاتفاق -إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة قال عنه البخاري: تركوه ونهى أحمد عن حديثه. وقال أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه. وقال يحيى بن معين: حديثه ليس بذاك ليس بشئ. وقال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (2/ 446)، وميزانت الاعتدال (1/ 193)-.
5- وأخرج ابن ماجه (480) أيضًا عن عبدالله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن عُقبة بن عبدالرحمن عن مُحمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مس أحدكم ذكره فعليه الوضوء).
وقد أعلّه الطحاوي بأن الحفاظ رَوَوْهُ عن ابن أبي ذئب مُرسلًا ولم يذكروا فيه جابرصا، فرجع الحديث إلى الإرسال، والمحدثون لا يحتجون بالمراسيل. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 75).
6- وروى أحمد في مُسنده (2/ 223) من طريق بقية بن الوليد: حدثني مُحمد بن الوليد الزبيدي -مُحمد بن الوليد الزبيدي متَّفقٌ على توثيقه، وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو زرعة والنسائي والعجلي ومُحمد بن سعد. راجع: تهذيب الكمال (26/ 586)- حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيّما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ). قال الحازمي في الاعتبار ص(89): هذا إسناد صحيح. اهـ.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 75) من طريق عبدالله بن المؤمّل/ والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 132) من طريق عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه، كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه البيهقي من طريق المثنى بن الصباح فخالفهم في إسناده فرواه عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن بُسرة. والمثنى بن الصباح ضعيف -المثنى بن الصباح قال عنه أحمد: لا يُسوى حديثه شيئًا، مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف، يُكتب حديثه ولا يُترك. وقال أبو زُرعة وأبو حاتم: ليّن الحديث. وقال التّرمذي: يَضعف في الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (27/ 203)، وميزان الاعتدال (3/ 435)-؛ فروايته منكرة لمُخالفتها رواية الثقات.
7- وأخرج الدارقطني في سُننه (1/ 147) من طريق إسحاق بن مُحمد الفروي عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة).
وعبدالله العمري في حفظه شئ -عبدالله بن عمر العمر قال عنه أحمد: صالح لا بأس به. وفي موضع ىخر: كان يزيد في الأسانيد ويُخالف، وكان رجلًا صالحًا. وقال يحيى بن معين: صويلح. وفي رواية: ليس به بأس يُكتب حديثه. وقال علي بن المديني والنسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (15/ 327)، وميزان الاعتدال (2/ 465)-، وله طريقان آخران عند الطحاوي؛ أحدهما: عن صدقة بن عبدالله عن هشام بن زيد عن نافع عن ابن عمر. وصدقة؛ ضعيف -صدقة بن عبدالله قال عنه أحمد: ضعيف ليس حديثه يسوي شيئصا. وضعفه يحيى بن معين وأبو زُرعة والبُخاري والنسائي والدارقطني. وقال مُسلم: مُنكر الحديث. وقال أبو حاتم: محله الصدق وأُنكر عليه القدر فقط. راجع: تهذيب الكمال (13/ 133)، وميزان الاعتدال (2/ 310)-. والثاني: عن العلاء بن سيليمان عن الزهري عن سالم عن أبيه. والعلاء ضعيف أيضًا -العلاء بن سليمان الرقي قال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: مثنكر الحديث يأتي بمتون وأسانيد لا يُتابع عليها. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 101)، ولسان الميزان (4/ 184)، والجرح والتعديل (6/ 356)-.
8- وأخرج أحمد في مُسنده (5/ 194) من طريق ابن إسحاق حدثني مُحمد بن مُسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن زيد بن خالد الجهني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس فرجه فليتوضأ).
وأخرجه الطحاوي وأوضح أنه غلط؛ لأن عُروة أنكر على مروان حديثه عن بُسرة ولم يقنع بروايته ولا برواية الشرطي، وكان ذلك بعد موت زيد بن خالد بما شاء الله، فلو كان حديث زيد ثابتًا عنده ما أنكر على مروان حديث بُسرة. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 73).
9- أخرج الداقطني في سُننه (1/ 147) من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن حفص العمري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون). قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء؟ قال: (إذا مست إحداكن غرجها فلتتوضأ للصلاة). وعبدالرحمن: متروك -عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر العمري قال عنه أحمد: كان كذابًا. وقال النسائي وأبو حاتم وأبو زُرعة: متروك. زاد أبو حاتم: وكان يكذب. راجع: تهذيب الكمال (17/ 234)، وميزان الاعتدال (2/ 571)-.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 74) من طريق عمر بن شريح عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مرفوعًا: (من مس فرجه فليتوضأ). وعمر بن شريح لين لا يُحتج به -عمر بن شريح قال الذهبي: هو عمر بن سعيد بن سريج بسين مُهملة لا بشين مُعجمة. ليّن تكلم فيه ابن حبان وابن عدي وضعفه الدارقطني. ميزان الاعتدال (3/ 200، 204)، ولسان الميزان (309، 311)-.
وأعلّه الطحاوي أيضًا بأنه مُنكر؛ لأن عُروة لما أخبره مروان عن بُسرة بما أخبره به من ذلك، لم يكن عرفه قبل ذلك، لا عن عائشة ولا عن غيرها.
ويُتلخص مما سبق أن أغلب طرق حديث الوضوء من مس الذكر مُتكلم في أسانيدها، وأصحها -كما قال البُخاري- حديث بًسرة، ويُقاربه حديث أم حبيبة لولا الانقطاع بين مكحول وعنبسة، وإسناد حديث أبي هريرة وعمرو بن شعيب: إسناد حسن.
-أدلة الحنفية:
1- أخرج أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165) عن ملازم بن عمرو -ملازم بن عمرو وثقه أحمد وابن معين وابن المديني وأبو زُرعة والنسائي. وقال أحمد في رواية: حاله مُقارب. وقال أبو حاتم: لا بأس به صدوق. وقال أبو داود: ليس به بأس. راجع: تهذيب الكمال (29/ 188)- عن عبدالله بن بدر عن قيس بن طلق -قيس بن طلق وثقه العجلي، ويحيى بن معين في رواية، وضعفه أحمد وابن معين في رواية أخرى. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: ليس ممن تقوم به حجة. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنًا لا صحيحًا. راجع: تهذيب الكمال (24/ 56)، وميزان الاعتدال (3/ 397)- بن علي عن أبيه قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. فقال: (هل هو إلا بضعة منك).
قال أبو عيسى الترمذي: هذا الحديث أحسن شئ يُروى في هذا الباب. اهـ.
وأخرجه الطحاوي من هذا الطريق ثم قال: هذا حديث صحيح مُستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه. ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: حديث ملازم ابن عمرو: أحسن من حديث بُسرة. راجع: شرح معاني الآثار (1/ 76).
وأخرجه ابن ماجه في سُننه (483) من طريق مُحمد بن جابر عن قيس بن طلق به. ومُحمد بن جابر اليمامي: ضعيف -مُحمد بن جابر اليمامي قال عنه الفلاس: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشئ. وقال البُخاري: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (24/ 564)، وميزان الاعتدال (3/ 496)-. وأخرجه أحمد في مُسنده (4/ 22) من طريق أيوب بن عُتبة عن قيس بن طلق به. وأيوب بن عتبة اليمامي؛ ضعيف أيضًا -أيوب بن عتبة اليمامي ضعفه أحمد وابن المديني والفلاس والجوزجاني ومُسلم. وقال ابن معين: ليس بشئ. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. وقال البُخاري: هو عندهم ليّن. وقال أبو حاتم: فيه لين. وقال النسائي: مضطرب الحديث. راجع: تذهيب الكمال (3/ 484)، وميزان الاعتدال (1/ 290)-.
2- وأخرج ابن ماجه في سُننه (484) من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مَسسْتُ ذكري وأنا أُصلي؟ فقال: (إنما هو جزء منك).
وجعفر بن الزبير؛ متروك الحديث -جعفر بن الزبير قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة. وفي رواية: ليس بشئ. وقال الفلاس وأبو حاتم والبخاري والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (5/ 32)، وميزان الاعتدال (1/ 406)-.
3- أخرج الدارقطي في السُنن (1/ 149) من طريق الفضل بن المُختار عن عبيدالله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي وكان من الصحابة أن رجلًا قال: يا رسول الله إني احتككت في الصلاة فأصابت يدي فرجي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أفعل ذلك).
والفضل بن المختار: متروك الحديث -الفضل بن المختار قال عنه أبو حاتم: أحاديثه مُنكرة يُحدث بالأباطيل. وقال الأزدي: مُنكر الحديث جدًّا. وقال ابن عدي: أحاديثه مُنكرة، عامتها لا يُتابع عليها. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 358)، ولسان الميزان (4/ 449)-. ويتخلص من ذلك أن حديث طلق بن علي من طريق ملازم بن عمرو هو أحسن شئ في هذا الباب كما قال الترمذي.
وأمام هذا التعارض بين حديثيْ بُسرة وطلق: يرى الحنفية أن حديث طلق أصح؛ فيُقدَّم، أو يُجمع بينهما بجعل مس الذكر في حديث بُسرة: كناية عما يخرج منه.
قال الكمال ابن الهمام بعد ذكره للحديثين في فتح القدير (1/ 56): الحق أنهما لا ينزلان عن درجة الحسن، لكن يترجح حديث طلق: بأن حديث الرجال أقوى؛ لأنهم احفظ للعلم وأضبط؛ ولهذا جُعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل.. ومما يدل على انقطاع حديث بُسرة باطنًا: أن أمر النواقض مما يحتاج الخاص والعام إليه.. وإن سلكنا طريق الجمع: جُعل مس الذكر كناية عما يخرج منه، وهو من أسرار البلاغة؛ يسكتون عن ذكر الشئ ويرمزون عليه بذكر ما هو من روادفه، فلما كان مس الذكر غالبًا يُرادف خروج الحدث منه ويلازمه: عُبِّر به عنه كما عبر الله تعالى بالمجئ من الغائظ عما يُقصد الغائط لأجله ويُحل فيه، فيتطابق طريقا الكتاب والسنة في التعبير، فيُصار إلى هذا لدفع التعارض. اهـ.
وقال السرخسي في المبسوط (1/ 66): وما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم، وإنما قاله بين يدي بُسرة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، ولو ثبت فتأويله: من بال، فجعل مس الذكر عن البول؛ لأن من يبول يمس ذكره عادة كقوله تعالى: (أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِنْ الْغَآئِطِ) ر[النساء: 43]، والغائط هو المطمئن من الأرض كُنِّيَ به عن الحدث. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 31).
بينما يرى الجمهور أن حديث طلق منسوخ بأحاديث الوضوء من مس الذكر؛ لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنة من سني الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم رجع إلى بلده بعد قدمته تلك، ثم لا يُعلم له رجوع إلى المدينة بعد ذلك، وأبو هريرة ممن روى إيجاب الوضوء من مس الذكر، وكان إسلامه سنة سبع من الهجرة، فكان خبر أبي هريرة بعد خبر طلق لسبع سنين. راجع: السنن الكبرى (1/ 135)، وصحيح ابن حبان (3/ 405)، والاعتبار ص(93).
ومما يؤيد حكم النسخ: ما رواه الطبراني في المُعجم الكبير (8/ 334) من طريق حماد بن مُحمد الحنفي -حمّاد بن محمد: ضُعِّف كما في الميزان (1/ 599)، وشيخه أيوب بن عُتبة: ضعيف أيضًا، وسبقت ترجمته قريبًا- عن أيوب بن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ).
قال الطبراني: ويُشتبه أن يكون طلق سَمِعَ الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا بَعْدُ فوافق حديث بُسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وزيد بن خالدٍ وغيرهم، ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع الناسخ والمنسوخ. اهـ.
والنظر الحديثي يُرجّح بلا شك حديث بُسرة، فقد رواه جماعة من الصحابة غيرها بعضها بأسانيد حِسَان كما سبق تفصيله، وكثرة الرواة مؤثرة في الترجيح، وأما حديث الرخصة: فإنه لا يُحفظ من طريق توازي هذه الطرق أو تُقاربها، إلا من حديث طلق بن علي اليمامي وهو حديث فرد في الباب.
وتمسك الحنفية بأن خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يثبت به إيجاب، فلم يقبلوا حديث بسرة لإثباته وجوب الوضوء من مس الذكر، وهو أمر تعم به البلوى.

المثال الثاني/ الوضوء مما مسته النار.
روى مُسلم (814، 815، 816) عن عائشة وزيد بن ثابت وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضؤوا مما مست النار). ورواه أبو داود في سُننه (195) عن أم حبيبة.
ورواه الترمذي في سُننه (79) بذكر قصة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط). قال: فقال: له ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا سمعت حديثًُا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلًا.
وروى مُسلم في صحيحه (817) عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ثم روى نحوه عن عدة من الصحابة. وروى أبو داود في سُننه (817) عن جابر بن عبدالله قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت الناس.
قال الترمذي في سُننه عقب الحديث (80): والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل سُفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق رأوا ترك الوضوء مما مست النار. وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار. اهـ.
وقال الحازمي في الاعتبار ص(97): ذهب أكثر فقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، ورأوه آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن لم ير منه وضوءًا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. ومالك بن أنس وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأهل الحجاز عامتهم، وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة، وابن المبارك وأحمد وإسحاق. اهـ. وراجع: الأوسط (1/ 213)، والمبسوط (1/ 80)، وبدائع الصنائع (1/ 32)، وشرح معاني الآثار (1/ 67)، والمنتقى (1/ 67)، والمجموع (2/ 66)، والمغني (1/ 267)، والمحلى (1/ 226).
وقد وقع الخلاف في الوضوء مما مسته النار في زمان الصحابة والتابعين، ثم وقع الإجماع على تركه. قال ابن المنذر في الأوسط (1/ 224): ولا أعلم اليوم بين أهل العلم اختلافًا في ترك الوضوء مما مست النار إلا الوضوء من لحوم الإبل. اهـ.
ويتضح مما سبق أن ترك العمل بحديث الوضوء مما مست النار لأجل أنه منسوخ، وهذا يؤيد وجهة نظر الحنفية: أن الخبر فيما تعم به البلوى إذا لم يُنقل بطريق التواتر أو الاشتهار، دلّ على عدم ثبوته أو نسخه.

المثال الثالث/ الوضوء من حمل الجنازة.
روى أحمد في مُسنده (2/ 454)، وأبو داود (3161)، والترمذي (1009) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غَسَّل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ). وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه (3/ 435)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 301). وقال الترمذي: حديث حسن. وقد رُوي عن أبي هريرة موقوفًا. وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 396): الأشبه موقوف. وقال الترمذي في العلل الكبير (1/ 142): سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني قالا: لا يصح في هذا الباب شئ. وقال ابن المنذر في الأوسط (1/ 180): ليس في الباب حديث يُثبت. وقال الحافظ في تلخيص الحبير (1/ 137): وفي جملة الحديث لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا.
وظاهر الحديث يدلُّ على وجوب الغسل من غسل الميت والوضوء من حمله، وقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب سعيد بن المسيب وابن سيرين والزهري إلى وجوبه. وذهب مالك والشافعي إلى الاستحباب وصرفوا الأمر من الوجوب إلى الندب بأدلة أخرى. وقال أحمد وأبو حنيفة: لا يجب ولا يُستحب، لضعف الحديث وتأولوه. راجع: نيل الأوطار (1/ 297)، والمنتقى (1/ 65)، والمجموع (5/ 144)، والمغنى (1/ 134).
قال السرخسي في المبسوط (1/ 82): ولا يجب عليه بتغميض الميت وغسله وحمله وضوء ولا غسل، إلا أن يصيب يده وجسده شئ فيغسله، لقول ابن عباس: الوضوء مما خرج -أخرجه البيهقي في السُنن الكبرى (1/ 116)-؛ ولأن الميت المُسلم طاهر ومس الطاهر ليس بحدث، ولو كان نجسًا؛ فمس النجس ليس بحدث أيضًا، والذي رُوي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غمض ميتًا فليتوضأ، ومن غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمل جنازة فليتوضأ): ضعيف، قد ردَّه ابن عباس فقال: أيلزمنا الوضوء بمس عيدان يابسة -وأخرج الأثرم كما في المغني (1/ 134) أنه ذُكر لعائشة قول أبي هريرة (ومن حمله فليتوضأ) قالت: وهل هي إلا أعواد حملها-، ولو ثبت من قوله: (من غمض ميتًا فليتوضأ): غسل اليد؛ لأن ذلك لا يخلو عن قذارة عادة، وقوله: (من غسل ميتًا فليغتسل) إذا أصابته الغسالات النجسة. وقوله: (من حمل جنازة فليتوضأ) إذا كان مُحدثًا ليتمكن من أداء الصلاة عليه. اهـ. وراجع: بدائع الصنائع (1/ 32)، وفتح القدير (2/ 133)، ونصب الراية (2/ 329).
وذكر الجصّاص في أحكام القرآن (3/ 456) عدة أحاديث؛ ومنها حديث الوضوء من حمل الجنازة ثم قال: هذه من أحاديث أبي هريرة التي تُرد لمُخالفتها الأصول، وكلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها. اهـ.
وهذا المثال أيضًا يعضد رأي الحنفية في حكمهم بعدم ثبوت الخبر فيما تعم به البلوى إذا لم يُنقل نقلًا متواترًا أو مشهورًا، فاتفق في هذا الحديث أنه لم يثبت من جهة السند، ومن جهة انقطاعه باطنًا؛ لأنه خبر واحد فيما تعم به البلوى.

المثال الرابع/ الجهر بالبسملة.
-اختلف أهل العلم في الجهر بالبسملة عند القراء في الصلاة على ثلاثة أقوالٍ:
القول الأول: استحباب الجهر بالبسملة؛ حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعصا فلها في الجهر حكم باقي الفاتحة والسورة، وإليه ذهب الشافعية، وحكوه عن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء والقراء، فمن الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعمار بن ياسر وأُبي بن كعب وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس، ومن التابعين ابن مسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وابن جبير وابن سيرين وعكرمة. راجع: المجموع (3/ 298).
القول الثاني: الإسرار بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة، وإليه ذهب الحنفية والحنابلة، وحكاه الترمذي في سُننه عقب الحديث (245)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 200) عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -ويُلاحظ أن الخُلفاء الأربعة ذُكروا ضمن القائلين بالقول الأول، مما يدل على اختلاف النقل عنهم في ذلك-. وحُكي عن عبدالله بن مسعود وعبدالله بن الزبير، وبه يقول الحكم وحمّاد والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق. وراجع: المغني (1/ 258)، وأحكام (1/ 21)، والمبسوط (1/ 15).
القول الثالث: عدم القراءة البسملة لا سرًّا ولا جهرًا، وبه قالت المالكية. قال مالك كما في المدونة (1/ 162): وهي السنة وعليها أدركت الناس. اهـ.
-أدلة الشافعية:
1- روى النسائي في سُننه (905)، والدارقطني في سُننه (1/ 305) عن نُعيم بن عبدالله المُجْمِر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1] ثم قرأ بأُمِّ القرآن.. وإذا سلَّم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الدارقطني: صحيح ورواته كلهم ثقات.
ويؤيده ما رواه أحمد في مُسنده (2/ 273)، وأبو داود في سُننه (797) عن عطاء بن أبي رباح أن أبا هريرة قال: في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفي علينا أخفينا عليكم.
ورواه الدارقطني في سُننه (1/ 306) بلفظ أصرح منه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1] قال أبو هريرة: هي آية من كتاب الله، اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب فإنها الآية السابعة.
واعتبر الحنفية حديث نُعيم عن أبي هريرة من أحاديث الآحاد الشاذة؛ لأنه أثبت الجهر بالبسملة في الصلاة وهو أمر يحتاج إلى معرفته كل المسلمين، فلو كان ثابتًا لورد النقل به مستفيضًا متواترًا كوروده في سائر القراءة، فلما لم يرد كذلك دلَّ على أنه غير ثابت، وعارضوه بحديث آخر عن أبي هريرة ينفي الجهر.
روى مُسلم في صحيحه (1384) عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ) [الفاتحة: 2] ولم يسكت.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 200): ففي هذا دليل أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ليست من فاتحة الكتاب، ولو كانت من فاتحة الكتاب لقرأ بها في الثانية كما قرأ فاتحة الكتاب، والذين استحبوا الجهر بها في الركعة الأولى -لأنها عندهم من فاتحة الكتاب- استحبوا ذلك أيضًا في الثانية، فلما انتفى بحديث أبي هريرة هذا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها في الثانية، انتفى به أيضًا أن يكون قرأ بها في الأولى، فعارض هذا الحديث حديث نُعيم بن المجمر، وكان هذا أولى منه لاستقامة طريقه، وفضل صحة مجيئه على مجئ حديث نُعيم. اهـ.
2- روى أحمد في المُسند (6/ 302)، وأبو داود (4001)، والترمذي (3177) عن أم سلمة: أنها سُئِلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ).
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 201) بلفظ آخر عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلي في بيتها فيقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ). ثم طعن فيه بالاختلاف الوارد في ألفاظه، وفسر الحديث بأن أم سلمة كانت تنعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر القرآن وليس في الصلاة. وقال ابن قدامة في المغني (1/ 258): ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بها. اهـ.
3- روى الترمذي (246) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بـ(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك. اهـ.
-أدلة الحنفية:
1- روى مُسلم في صحيحه (1138) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ).
2- وروى البُخاري (743)، ومُسلم (918) في صحيحيهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ). وزاد في لفظ مُسلم: لا يذكرون: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). وفي رواية لمُسلم أيضًا (916) قال أنس: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وفي لفظ للنسائي (907)، وأحمد في مُسنده (3/ 176، 373): فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وأجاب الشافعية عن حديث عائشة وأنس: بأن معناه أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم لا يقرؤون: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وأما الروايات الأخرى لحديث أنس فهي رواية للفظ الأول بالمعنى الذي فهمه الراوي، عبذر عنه على قدر فهمه فأخطأ، ولو بلغ الحديث بلفظه الأول لأصاب، فإن اللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ. اهـ. راجع: سُنن الترمذي عقب الحديث (247)، والمجموع (3/ 298).
وحكم الشافعية على حديث أنس بالاضطراب، بسبب هذا الاختلاف الواقع في ألفاظه، وذكره السيوطي في تدريب الراوي كمثال لعلة المتن، وذكر للحديث تسع علل قادحة في ثبوته. راجع: تدريب الراوي (1/ 254). كما صنَّف ابن حجر الهيتمي كتابًا في بيان وجوه الاضطراب في حديث أنس سماه: "إلصاق عُرَر الهوى والهوس المضللة بمن غوى عن غرر الهدى حتى لم يفهم الاضطراب عن أنس في حديث البسملة" -هذا الكتاب لم يُطبع ويجود منه نُسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم (445) حديث-.
3- وروى الترمذي (245) عن ابن عبدالله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال لي: أي بني مُحدث إياك والحدث -قال: ولم أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحديث في الإسلام يعني منه- قال: وقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها إذا أنت صليت. قال الترمذي: حديث حسن.
4- وروى مُسلم (904) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ) قال الله تعالى: حمدني عبدي) وذكر الحديث. وهذا يدل على أنه لم يذكر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ولم يجهر بها.
وللمسألة تعلق بكون البسملة من القرآن، فقال مالك: إن البسملة ليست من القرآن وبناءً عليه كَرِه قراءتها في الصلاة سرًّا وجهرًا. وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة، وعليه أوجب قراءتها في الصلاة وجوب الفاتحة، واستحب الجهر بها لرجحان أدلته عنده. وقال أبو حنيفة وأحمد: إنها من القرآن حيث كُتبت، وإنها مع ذلك ليست من السور بل كُتبت آية في كل سورة، وذهبا إلى استحباب قراءتها في الصلاة، ولكن يُسن الإسرار بها لرجحان الأدلة بذلك. راجع: نصب الراية (1/ 445)، والمنتقى (1/ 151)، والمجموع (3/ 300).
قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 21): ولو تساوتْ الأخبار في الجهر والإخفاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإخفاء أَوْلَى من وجهين: أحدهما/ ظهور عمل السلف بالإخفاء دون الجهر؛ إذ كان متى رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران متضادان وظهر عمل السلف بأحدهما: كان الذي ظهر عمل السلف به أَوْلَى بالإثبات. والوجه الآخر: أن الجهر بها لو كان ثابتًا لورد النقل به مستفيضًا متواترًا كوروده في سائر القراءة؛ فلما لم يرد النقل به من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت؛ إذ الحاجة إلى معرفة مسنون الجهر بها كهي إلى معرفة مسنون الجهر في سائر فاتحة الكتاب. اهـ. وانظر: المبسوط (1/ 15)، وفتح القدير (1/ 291).

المثالث الخامس/ رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.
ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وهو رواية عن مالك: إلى أن رفع اليدين عند تكبيرة الركوع وعند الرفع منه سُنة ثابتة، فيرفع يديه إلى حذو منكبيه كفعله عند تكبيرة الإحرام، لتضافر الأحاديث الصحيحة الصريحة على ذلك.
وقال الحنفية والثوري وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي وهو المشهور عن مالك: إن المُصلي لا يرفع يديه إلا لتكبيرة الإحرام. راجع: المبسوط (1/ 14)، وفتح القدير (1/ 310)، ونصب الراية (1/ 520)، وبدائع الصنائع (1/ 207)، والفصول في الأصول (2/ 309)، ومُختصر اختلاف الفقهاء (1/ 199)، والمدونة (1/ 165)، والمنتقى (1/ 142)، والأم (1/ 126)، واختلاف مالك والشافعي (7/ 211)، ومُختصر الخلافيات (2/ 69)، والمغني (1/ 294).
ولكثرة أدلة المسألة واحتدام الخلاف فيها بين المُحدثين والحنفية: صنَّف البُخاري كتابه "رفع اليدين" وأخرج فيه أحاديث وآثار المسألة مستوعبًا طرقها وعللها، وكذلك فعل البيهقي في كتابه "رفع اليدين" فضمنه كتاب البخاري وزاد عليه فوائد حسنة.
وإدراج بعض الحنفية؛ كالسرخسي في أصوله (1/ 369)، والجصاص في الفصول في الأصول (3/ 115) هذه المسألة تحت قاعدة رد خبر الواحد فيما عم به البلوى: فيه نظر؛ لأن أحاديث رفع اليدين عند الركوع والرفع منه بلغت مرتبة التواتر المعنوي -ممن حكم بتواتره: السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص(26، 27)، والكتاني في نُظم المتناثر ص(85) حديث(67)-؛ فقد ذكر البُخاري في كتابه أن سبعة عشر نفسصا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رووا حديث رفع اليدين، وهذا يكفي للحكم بتواتره. وراجع: فتح الباري (2/ 220)، وفتح المغيث للسخاوي (4/ 18).
ورَدَّ بعض الحنفية؛ كالطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 222)، والجصاص في الفصول في الأصول (3/ 201) بعض أحاديث رفع اليدين بقاعدة عمل الراوي بخلاف ما رواه؛ حيث يستدلون بذلك على نسخ الحديث، ولا شك أن هذا الصنيع أصح بالنسبة للصنيع الأول.
والأَوْلَى من هذين: إدراجها تحت أصل ثالث؛ وهو الترجيح بفقه الراوي، كما ورد عن أبي حنيفة نفسه في حكايته المشهور مع الأوزاعي في هذه المسألة -سأُدرج هذه الحكاية في اقتباس مع كلام في الترجيح بفقه الراوي-، ويُمكن القول بأن رد أحاديث رفع اليدين كان من أجل هذه القواعد الثلاثة مجتمعة.
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- أخرج أبو داود في سُننه (750) من طريق شُريك عن يزيد ابن أبي زياد -يزيد ابن أبي زياد القرشي الهاشمي قال عنه أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ. وفي موضع آخر: ليس بذاك. وقال يحيى بن معين: لا يُحتج بحديثه. ومرة: ليس بالقوي. وقال العجلي: جائز الحديث وكان بأخرة يُلَقَّنُ. وقال ابن المبارك: ارم به. وقال أبو زرعة: لين، يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال أبو داود: لا أعلم أحدًا ترك حديثه، وغيره أحب إليَّ منه. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (32/ 135)، وتهذيب التهذيب (11/ 288)، وميزان الاعتدال (4/ 423)- عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنية ثم لا يعود. ومعنا عندهم: لا يعود إلى رفع اليدين حتى ينصرف من صلاته.
وهذه اللفظة ليست محفوظة في الحديث، فقد رواه جماعة من الحفاظ المتقنين عن يزيد ابن أبي زياد بدون هذه اللفظة، فقال أبو داود عقيب روايته للحديث: وروى هذا الحديث هُشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد لم يذكروا ثم لا يعود. اهـ.
ومن هؤلاء سُفيان بن عيينة وكان يُصرح بأن يزيد كان يرويه بمكة بدونها، ثم لما ذهب الكوفة وساء حفظه تلقنها وأدرجها في الحديث، وألحقها في كتابه بين السطرين.
روى الحميدي في مُسنده (2/ 316) عن سفيان قال: حدثنا يزيد ابن أبي زياد بمكة عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه. قال سُفيان: وقدم الكوفة فسمعته يُحدث به فزاد فيه ثم لا يعود، فظننت أنهم لقنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيت بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه أو ساء حفظه. وانظر: السُنن الكبرى للبيهقي (2/ 76).
وحكى ابن عبدالبر في التمهيد (9/ 220) كلام ابن عيينة وزاد في آخره: فنظرته فإذا ملحق بين سطرين.
وقال الحافظ ابن حجر في تخليص الحبير (1/ 221): اتفق الحفاظ على أن قوله: ثم لم يعد. مُدرج في الخبر من قول يزيد ابن أبي زياد، ورواه عنه بدونها شُعبة وسُفيان الثوري وخالد الطحان وزُهير.. وغيرهم. وقال أحمد بن حنبل: لا يصح. وكذا ضعفه البُخاري. اهـ. وانظر: الفصل للوصل المدرج في النقل (1/ 373).
وقال النووي في المجموع (3/ 367): وهو حديث ضعيف باتفاقهم؛ ممن نصَّ على تضعيفه: سُفيان بن عيينة والشافعي والحميدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو سعيد الدارمي والبخاري، وغيرهم من المتقدمين، وهؤلاء أركان الحديث وأئمة الإسلام فيه. ولو صحَّ: وجب تأويله على أن معناه/ لا يعود إلى الرفع في ابتداء استفتاحه ولا في أوائل باقي ركعات الصلاة الواحدة. وتعين تأويله جمعًا بين الأحاديث. اهـ.
وقال البيهقي في السُنن الكبرى (2/ 77): وروى هذا الحديث: مُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى -مُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى قال عنه أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال شعبة: ما رأيت أحدًا أسوأ حفظًا منه. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيئ الحفظ، شُغل بالقضاء فساء حفظه، لا يُتهم بشئ من الكذب، إنما يُنكر عليه كثرة الخطأ، يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (25/ 622)، وميزان الاعتدال (3/ 613)- عن أخيه عيسى عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن البراء قال فيه: ثم لا يعود. ومُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى لا يُحتج بحديثه، وهو أسوأ حالًا عند أهل المعرفة بالحديث من يزيد. اهـ.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 368): حدثني أبي عن محمد بن عبدالله بن نمير قال: نظرت في كتاب ابن أبي ليلى فإذا هو يرويه عن يزيد بن أبي زياد. اهـ.
2- أخرج أبو داود (748)، والترمذي (258) وقال: حديث حسن. والنسائي (1058) من طريق وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبدالله بن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فصلى؛ فلم يرفع يديه إلا مرة.
قال أبو داود: هذا مُختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ. اهـ.
والحديث الطويل الذي يُشير إليه أخرجه هو (747)، والنسائي (1031) من طريق ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبدالله علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة؛ فكبَّر ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه. قال: فلما بلغ ذلك سعدًا قال: صدق أخي؛ قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا يعني الإمساك على الركبتين.
فهذا أصل الحديث ليس فيه ما يُفيد أن الرفع مرة واحدة، أو أنه لم يَعُدْ للرفع مرة أخرى، وقد اعتبر العلماء ذلك علة في رواية الثوري، وحكموا بخطأ روايته؛ حيث اختصر الحديث ورواه بالمعنى، وقد أشار البخاري إلى هذه العلة بعد روايته للحديث في جزء رفع اليدين في الصلاة ص(79) حديث(70) وقال: قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبدالله بن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه: ثم لم يعد. اهـ. وانظر: العلل ومعرفة الرجال لأحمد (1/ 369).
وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/ 96): سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبدالرحمن بن الأسود عن عَلقمة عن عبدالله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر فرفع يديه ثم لم يعد. فقال أبي: هذا خطأ، يُقال: وَهمِ الثوري، فقد رواه جماعة عن عاصم.. ولم يقل أحد ما روى الثوري. اهـ.
قال عبدالله بن أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 369) عن أبيه: كان وكيع يقول هذا من قبل نفسه. يعني ثم لا يعود. اهـ.
والحاصل/ أن الحفاظ اتفقوا على أن لفظة: ثم لا يعود. من خطأ الراوي، فيرى أحمد بن حنبل أن الوهم من وكيع، بينهما يرى أبو حاتم الرازي أنه من شيخه سفيان الثوري.
قال النووي في خلاصة الأحكام (1/ 354): اتفقوا على تضعيف هذا الحديث وأنكروا على الترمذي تحسينه. اهـ.
وقال ابن حبان فيما نقله عنه ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 222): هذا أحسن خبر رُوِي لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شئ يُعوَّل عليه؛ لأن به عللًا تبطله. اهـ.
وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه أول مرة ثم لم يرفع. وقد ثبت عندي حديث رفع اليدين؛ ذكره عبيدالله ومالك ومعمر وابن أبي حفصة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرفع يديه في الصلاة لكثرة الأحاديث وجودة الأسانيد. أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في السنن الكبرى (2/ 79)، وبنحوه: الدارقطني في سننه (2/ 293)، والترمذي بلفظ مختصر عقب حديث (257).
طريق أخرى: ورواه الدارقطني في سننه (1/ 295)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 79) من طريق مُحمد بن جابر -محمد بن جابر اليمامي قال عنه الفلاس: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشئ. وقال الباخري: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف. راجع: تهذيب الكمال (24/ 564)، وميزان الاعتدال (3/ 496)- عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر؛ فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة.
قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفًا عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا عن عبدالله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو الصواب. اهـ.
وقال ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/ 335): يجوز أن يكون علقمة لم يضبط، أو ابن مسعود قد خفي عليه هذا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خفي عليه غيره مثل نسخ التطبيق. اهـ. وراجع: نصب الراية (1/ 527).
وقال الإمام أبو بكر ابن إسحاق الفقه فيما نقله عنه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 81)، والنووي في المجموع (3/ 367): قد صح رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الخلفاء الراشدين ثم عن الصحابة والتابعين، وليس في نسيان عبدالله بن مسعود رفع اليدين ما يوجب أن هؤلاء الصحابة لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وقد نسى ابن مسعود كيفية قيام الاثنين خلف الإمام، وَنَسِي نسخ التطبيق في الركوع وغير ذلك، فإذا نَسِي هذا كيف لا يَنْسى رفع اليدين؟!. اهـ.
3- روى الطبراني في المُعجم الكبير (11/ 385) من طريق ابن أبي ليلى -محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى سبق ذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه- عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُرفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقف مع الناس عشية عرفة، ويجمع، والمقامين حين يرمي الجمرة). قال الهيثمي في مُجمع الزوائد (2/ 102): رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد ابن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه وقد وثق. وزاد في (3/ 238): وحديثه حسن إن شاء الله تعالى.
قال البخاري في كتاب رفع اليدين حديث (145): وقال شعبة: إن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث؛ ليس فيها هذا الحديث، وليس هذا من المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وانظر: مقدمة الجرح والتعديل ص(13)، والعلل لأحمد (1/ 192).
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 72) من طريق ابن جُريج قال حُدِّثْتُ عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: (ترفع الأيدي في الصلاة.. ). وهو منقطع؛ فابن جريج لم يسمع من مقسم.
طريق أخرى: وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 452) من طريق ورقاء عن عطاء بن السائب -عطاء بن السائي: ثقة؛ إلا أنه تغير بأَخَرَةٍ وساء حفظه، حُكي ذلك عن أحمد وابن معين وأبي حاتم والنسائي وغيرهم. فمن سمع منه قديمًا مثل شعبة والسفيانين والحمادين: فحديثه صحيح. ومن سمع منه بعد الاختلاط: فلا يُحتج بحديثه. راجع: تهذيب الكمال (20/ 86)، وميزان الاعتدال (3/ 70)، والكواكب النيّرات ص(61)- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السجود على سبعة أعضاء: اليدين والقدمين والركبتين والجبهة، ورفع الأيدي: إذا رأيت البيت، وعلى الصفاء والمروة، وبعرفة، وعند رمي الجمار، وإذا قمت إلى الصلاة). وعطاء بن السائب: ثقة؛ لكنه اختلط. قال الهيثمي في المجمع (3/ 238): عطاء بن السائب قد اختلط.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مُصنفه (1/ 214) عن ابن فضيل عن عطاء به موقوفًا بلفظ: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن. وفي موضع آخر (3/ 436): ترفع الأيدي في سبعةِ مواطنٍ.
ومحل الشاهد في الحديث/ حصر مواطن الرفع في المواطن السبعة المذكورة، ويُعكّر عليه لفظ الروايات الأخرى: "ترفع الأيدي"؛ فلم يحصرها في عدد معين، وهو ما يجعل الحديث يتسع لاستعمال الأحاديث كلها الواردة في رفع الأيدي والجمع بينها؛ لأن المواطن التي ورد فيها رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تنحصر في هذه السبعة؛ بل تزيد عليها، فقد ثبتت الأخبار بالرفع في الاستسقاء والدعاء والقنوت وغيرها من المواطن. راجع: نصب الراية (1/ 389).
4- أخرج مسلم في صحيحه (996) عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؛ اسكنوا في الصلاة).
وفي رواية له (998): كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. وأشار بيده إلى الجانبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علَام تُومِئُون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؛ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله.
قال النووي في شرحه على مُسلم (4/ 152): "شمس" بسكون الميم وضمها، وهي التي لا تستقر، بل تضطرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها، والمُراد بالرفع المنهي عنه هنا/ رفعهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الثانية. اهـ.
وهذا الحديث ليس فيه محل النزاع كما ظهر بوضوح من سياق رواياته، وممن استدل به السرخسي في المبسوط (1/ 15)، ولم يُدخله الطحاوي في مسألة رفع اليدين مع شدة الاحتياج إليه، وقد اشتد إنكار المحدثين على من استدل بهذا الحديث من الحنفية في مسألة رفع اليدين، حتى قال البخاري كما في رفع اليديت في الصلاة فقرة (79) ص(90): ولا يحتج بمثل هذا من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه، ولو كان ذهب إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبيرة، وأيضًا تكبيرات صلاة العيد منهيًّا عنها؛ لأنه لم يستثنَ رفعًا دون رفع. اهـ.
وقال النووي في شرحه على مسلم (3/ 403): واحتجاجهم بحديث جابر من أعجب الأشياء وأقبح أنواع الجهالة بالسنة؛ لأن الحديث لم يرد في رفع الأيدي في الركوع والرفع منه ولكنهم كانوا يرفعون أيديهم في حالة السلام من الصلاة ويشيرون بها إلى الجانبين يريدون بذلك السلاة على من على الجانبين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الحديث ومن له أدنى اختلاط بالحديث. اهـ.
-أدلة الجمهور:
لقد تكاثرت الأحاديث المثبتة لرفع اليدين عند الركوع والرفع منه حتى بلغت مرتبة التواتر المعنوي، فقد قال البخاري في رفع اليدين ص(22) فقرة (9): وكذلك يُروى عن سبعة عشر نفسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع. اهـ. وقد خرّجها محقق الكتاب وزاد عليها: حتى بلغت ستة وعشرين صحابيًّا. ثم ذكر أسماءهم وأخرج أغلب أحاديثهم في كتابه.
وقال الحاكم: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة ثم العشرة المبشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه السنة. اهـ. راجع: نصب الراية (1/ 417)، وفتح المغيث للسخاوي (4/ 18)، والتقييد والإيضاح ص(230).
وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 416): وقد رُوِّينا رفع اليدين عند الركوع والرفع منه عن أكثر من عشرين نفسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وجمع العراقي رواته كما في فتح المغيث (4/ 8)؛ فبلغوا الخمسين. وانظر: فتح المغيث للسخاوي (4/ 18).
ولهذا كله أدخل السيوطي حديث رفع اليدين في كتابه "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" وذكره من حديث أربعة وعشرين صحابيًّا.
وسأذكر هُنا جملة من أحاديث رفع اليدين لا سيّما ما كان محل نقد للسادة الحنفية.
1- أخرج البخاري (735)، ومسلم (887) من طريق سالم عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وعارض الحنفية هذا الحديث بما رُوي من عمل ابن عمر خلاف ما رُوي، والقاعدة عندهم: أن الحديث الذي يعمل الراوي بخلافه، وكان ذلك بعد روايته للحديث يدل على نسخ الحديث.
رُوي عن أبي بكر ابن عياش -أبو بكر ابن عياش: ثقة؛ إلا أنه لمّا كبر ساء حفظه، قاله ابن حجر في تقريب التهذيب (7985). وراجع: تهذيب الكمال (33/ 129)، وميزان الاعتدال (4/ 499)، والاغتباط ص(26)، والكواكب النيرات ص(87)- عن حصين عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر؛ فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبير الأولى من الصلاة. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 214)، وشرح معاني الآثار (1/ 225)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 428).
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم ترك هو الرفع، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقامت الحجة عليه بذلك. اهـ.
وأجاب البخاري بأنه غير محفوظ لمخالفته رواية الثقات عن ابن عمر، وبأنه لو صح لكان محمولًا على السهور من ابن عمر كما يقع السهو من الرجل في صلاته. راجع: رفع اليدين في الصلاة ص(54) فقرة (37).
وروى البخاري في كتاب رفع اليدين ص(53) فقرة(36) -وأخرجه أيضًا الحميدي في مُسنده (2/ 277)، وابن عبدالبر في التمهيد (9/ 224)، والدارقطني في سننه (1/ 289)- عن نافع: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. فكيف يترك ابن عمر شيئًا يأمر به غيره وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
ونُقلِ عن ابن معين قوله: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم منه لا أصل له. انظر: رفع اليدين ص(55) فقرة(38).
وروي أيضًا عن طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وابن الزبير جميعًا عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه.
ثم قال فيه ص(74) الفقرة (63): ولو تحقق حديث مجاهد أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه لكان حديث هؤلاء حين رأو أَوْلَى؛ لأن ابن عمر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما رواه أهل العلم من أهل مكة والمدينة واليمن والعراق أنه كان يرفع يديه. اهـ.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (2/ 429): وهذا الحديث في القديم كان يرويه أبو بكر ابن عياش عن حُصين عن إبراهيم عن ابن مسعود مرسلًا موقوفًا، ثم اختلط عليه حين ساء حفظه فروى ما قد خولف فيه، فكيف يجوز دعوى النسخ في حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف؟!. اهـ. وانظر: الاغتباط ص(26).
ومما يدلُّ على اختلاط أبي بكر ابن عياش في هذا الحديث أن الثوري وابن ‘ثيينة خالفاه فروياه عن حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود -رواه عبدالرزاق في مصنفه (2/ 71)، ورواه محمد بن الحسن في الموطأ ص(74) من رواية الثوري وحده-. وهما أعلى مرتبة في الضبط والإتقان.
ومما يُضعفه أيضًا: ما رواه البخاري في كتابه رفع اليدين ص(150) فقرة(171) عن مجاهد: أنه كان يرفع يديه.
فتحصل مما سبق أن حديث أبي بكر ابن عياش مُخالف؛ لأمور: الأول/ مُخالفته لما رواه ابن عمر مرفوعًا. الثاني/ مخالفته لما رواه أصحاب ابن عمر من فعل ابن عمر موقوفًا. الثالث/ مخالفته لرواية الثوري وابن عيينة عن حصين. الرابع/ مخالفته للمعروف عن مجاهد. فإذا انضمت هذه المخالفات كلها دلَّت على أن حديث أبي بكر ابن عياش لا أصل له كما قال يحيى بن معين.
وإذا انضم ما رواه الشيخان عن ابن عمر مرفوعًا، إلى ما رواه طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وابن الزبير عن ابن عمر موقوفًا، دلّ دِلالة قوية على عدم مخالفة ابن عمر لما رواه، وأن حديث ابن عمر لا يرد عليه اعتراض صحيح.
2- أخرج أبو داود (744)، والترمذي (3751) من طريق الأعرج عن عبيدالله بن أبي رافع عن عليِّ ابن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر.
وطعن الحنفية في حديث علي ابن أبي طالب بمثل ما طعنوا في حديث ابن عمر، فذكروا ما رُوي من عمل علي بخلاف الحديث، واستدلوا بذلك على نسخ الحديث؛ لأن الصحابي لا يترك العمل بما روي إلا وقد ثبت لديه نسخ للحديث.
رُوي عن أبي بكر النهشلي -أبو بكر النهشلي وثقه أحمد وابن معين والعجلي وأبو داود، وزاد الأخير: كوفي مُرجئ. وقال أبو حاتم: شيخ صالح يُكتب حديثه. راجع: تهذيب الكمال (33/ 156)- عن عاصم بن كليب عن أبيه: أن علي ابن أبي طالب رفع يديه في أول التكبير ثم لم يعد بعد. انظر: الموطأ رواية محمد بن الحسن ص(90)، وشرح معاني الآثار (1/ 225).
قال عبدالله بن أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال (1/ 374)، ومسائل عبدالله لأحمد ص(75): قال أبي: لم يروه عن عاصم غير أبي بكر النهشلي أعلمه. كأنه أنكره.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): فإن عليًّا لم يكن ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم يترك هو الرفع بعده إلا وقد ثبن عنده نسخ الرفع؛ فحديث علي إذا صح ففيه أكثر الحجة لقول من لا يرى الرفع. اهـ.
روى البيهقي في السنن الكبرى (2/ 80)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 421) عن عثمان بن سعيد الدارمي تعليقًا على رواية النهشلي: قد رُوي من هذا الطريق الواهي عن علي، وقد روى الأعرج عن عبيدالله ابن أبي رافع عن عليٍّ: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع. فليس الظن بعلي ان يختار فعله على فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو تثبت به سنة لم يأتِ بها غيره. اهـ.
قال الشافعي: ولا يثبت عن علي وابن مسعود ما رُوي عنهما: أنهما كانا لا يرفعان أيديهما في غير تكبيرة الافتتاح. ولو كان ثابتًا لأشبه أن يكون الراوي رآهما مرة أغفلا ذلك. ولو قال قائل: ذهب عنهما حفظ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه ابن عمر لكانت له الحجة. اهـ. انظر: السنن الكبرى (2/ 80)، والمجموع للنووي (3/ 367).
قال البخاري في رفع اليدين ص(46- 49) فقرة(30- 32): وحديث عبيدالله أصح مع أن حديث كليب هذا لم يحفظ رفع الأيدي، وحديث عبيدالله هو شاهد، فإذا روى رجلان عن محدث قال أحدهما: رأيته فعل، وقال الآخر: لم أره يفعل، فالذي قال: قد رأيته فعل/ هو شاهد، والذي قال: لم يفعل/ فليس هو بشاهد؛ لأنه لم يحفظ الفعل. وقال عبدالرحمن بن مهدي: ذ1كرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره. اهـ.
3- أخرج أبو داود في سُننه (730)، والترمذي (305) من طريق عبدالحميد بن جعفر -عبدالحميد بن جعفر وثقه أحمد وابن معين، وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال يحيى بن سعيد: كان سفيان يُضعفه من أجل القدر. راجع: تهذيب الكمال (16/ 416)- عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فَلِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعًا ولا أقدمنا له صحبة. قال: بلى. قالوا: فاعرض. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذي بهما منكبيه. فذكر الحديث وفيه: رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. إلى أن قالوا: صدقت هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البخاري في كتاب رفع اليدين ص(40) فقرة(23)، وأبو داود (734)، وابن ماجه (863) من طريق عباس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة؛ فذكروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قام فكبر فرفع يديه، ثم رفع يديه حين كبر للركوع، ثم ركع فوضع يديه على ركبته.
روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 227، 259) من طريق عطاف بن خالد قال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلوسًا.. فذكر الحديث.
وأعلّ الطحاوي حديث أبي حميد بأمرين؛ الأول: أن المحدثين يضعفون عبدالحميد بن جعفر، وليس كذلك؛ فقد وثقه أكثر العلماء، ولم يُتكلم فيه بجرح يوجب رد حديثه. راجع: نصب الراية (1/ 344)، ومعرفة السنن والآثار (2/ 430). الأمر الثاني: أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع الحديث من أبي حميد؛ لأن بينهما رجل مجهول كما جاء في رواية عطاف بن خالد. وليس كذلك؛ فقد حكم البخاري كما في التاريخ الكبير (1/ 189) في التاريخ بأنه سمع أبا حميد وأبا قتادة وابن عباس. وراجع: معرفة السنن والآثار (2/ 430).
4- روى مسلم (923) عن وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر -وصف همام: حيال أذنيه- ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنة على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه.
وأجاب الطحاوي عن هذا بأن عبدالله أقدم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأفهم بأفعاله من وائل بن حجر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون ليحفظوا عنه.
ورَوى عن المغيرة أنه سأل إبراهيم النخعي عن حديث وائل فقال إبراهيم: إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك، فقد رآه عبدالله خمسين مرة لا يفعل ذلك. انظر: شرح معاني الآثار (1/ 224، 226).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 294): لا ننكر فضل ابن مسعود؛ لكن بحيث يُقدم على أميري المؤمنين عمر وعلي فلا، مع أن ابن مسعود قد تُرك قوله في الصلاة في أشياء؛ منها أنه كان يطبق في الركوع -يضع يديه بين ركبتيه-؛ فلم يؤخذ بفعله وأُخذ برواية غيره في وضع اليدين على الركبتين، وتُركت قراءته وأُخذ بقراءة زيد بن ثابت، وكان لا يرى التيمم للجنب؛ فتُرك ذلك برواية من هو أقل من رواة أحاديثنا وادنى منهم فضلًا، فهاهنا أَوْلَى. اهـ.
5- أخرج مسلم أيضًا (891) وكذا البخاري في كتاب رفع اليدين ص(41) فقرة(25) عن مالك بن الحويرث قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبّر رفع يديه حتى يُحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لم حمده فعل مثل ذلك.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225) ولم يتعرض له بالنقد كما تعرض لبقية أدلة الجمهور.
6- أخرج البخاري في كتاب رفع اليدين ص(42) فقرة(26)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 213) عن أنس قال: كان رسول لاله صلى الله عليه وسلم يرفع عند الركوع.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225): وأما حديث أنس بن مالك فهم يزعمون أنه خطأ وأنه لم يرفعه أحد إلا عبدالوهاب الثقفي خاصة، والحفاظ يوقفونه على أنس بن مالك. اهـ.
قال الدارقطني في سننه (1/ 290): لم يروه عن حميد مرفوعًا غير عبدالوهاب؛ والصواب من فعل أنس. اهـ.
7- وأخرج البخاري في كتاب رفع اليدين ص(114) فقرة(110) من طريق إسماعيل بن عياش -إسماعيل بن عياش: ثقة في روايته عن أهل الشام، مُخلط في غيرهم، صرح بذلك أحمد وابن معين وابن المديني والبخاري والفلاس.. وغيرهم. راجع: تهذيب الكمال (3/ 163)، وميزان الاعتدال (1/ 240)- عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر يفتتح الصلاة وحين يركع.
وأعله الطحاوي كما في شرح معاني الآثار (1/ 225) بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين وليست حجة، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج بمثله عليهم لم يسوغوه إياه؟!.
لكن للحديث طرق أخرى: منها ما أخرجه أبو داود في سننه (738) من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أببي بكر ابن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه ابن عبدالبر كما في التمهيد (6/ 108) من طريق سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
وأكتفي بهذا القدر من أدلة الجمهور؛ ففي المسألة -كما قلتُ آنفًا- أحاديث كثيرة، ولعل هذا القدر من الأدلة يوضح أن المسألة لا تصلح أن تكون مثالًا لخبر الواحد فيما تعم به البلوى، وإنما هي ألصق بقاعدة عمل الراوي بخلاف ما رُوي، وقاعدة الترجيح بفقه الراوي، كما ظهر واضحًا من خلال المناقشات السابقة حول الأدلة، والتي تعطينا تصورًا أشمل لكيفية نقد علماء الحنفية للأخبار.
وأختم هذا المثال وذاك الرد بحكايتين طريفتين تتعلقان بمسألة رفع اليدين:
رُوي عن وكيع قال: صليتُ في مسجد الكوفة فإذا أبو حنيفة قائم يُصلي وعبدالله بن المبارك إلى حنبه، فإذا ابن المبارك يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع وأبو حنيفة لا يرفع، فلما فرغوا من الصلاة، قال أبو حنيفة لابن المبارك: يا أبا عبدالرحمن رأيتُك تُكثر رفع اليدين؛ أردت أن تطير. قال له ابن المبارك: يا أبا حنيفة قد رأيتُك ترفع يديك حيت افتتحتَ الصلاة؛ فأردتَ أن تطير. فسكت أبو حنيفة. قال وكيع: رحمة الله على ابن المبارك؛ كان حاضر الجواب. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 28)، وتاريخ بغداد للخطيب (13/ 406)، والثقات لابن حبان (8/ 45)، وكتاب رفع اليدين للبخاري ص(107) فقرة(100).
ورُوي عن سفيان بن عيينة قال: اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى، فقال الأوزاعي للثوري: لِمَ لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال: حدثنا يزيد ابن أبي زياد. فقال الأوزاعي: أَروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارضني بيزيد ابن أبي زياد؟ ويزيد رجل ضعيف، وحديثه مخالف للسنة. فاحْمَرَّ وجه الثوري، فقال الأوزاعي: كأنك كرهتَ ما قلتُ؟ قال الثوري: نعم. فقال الأوزاعي: قم بنا إلى المقام نلتعن أيان على الحق. فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 82).
كما وأعزو في الختام إلى هذه المُشاركة:
http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=2921&p=100854&viewfull=1#post100854
وأقتبس منها ما يلي:
..
(الترجيح بفقه الراوي)..
وهي أن أبا حنيفة يعتبر فقه الراوي من وجوه الترجيح بين الأحاديث المُتعارضة، فيُقدّم خبر الفقيه على غيره، ولعل هذا من وجوه الترجيح بين الأحاديث المُتعارضة، فيُقدِّم خبر الفقيه على غيره، ولعل هذا من الأسباب التي دعت البعض إلى القول بأن أبا حنيفة يشترط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس، أو أن أبا حنيفة يرد خبر الواحد إذا خالف القياس.
اجتمع أبو حنيفة مع الأوزاعي بمكة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون عن الركوع والرفع منه. فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شئ. فقال الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: حدثنا حمّاد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشئ من ذلك. فقال الأوزاعي: أُحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه؛ وتقول حدثني حمّاد عن إبراهيم؟ فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزُّهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون من ابن عمر في الفقه، وإن كان لابن عمر صحبة وله فضل صحبة؛ فالأسود له فضل كثير، وعبدُ الله: عبدُ الله. ذكر هذه المُناظرة الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 311)، والسرخسي في المبسوط (1/ 14)، والسيد مُحمد مرتضى الزبيدي في كتابه عقود الجواهر المنيفة (1/ 58) نقلًا عن الحارثي في مُسنده.
..

وأنصح بالإطلاع العام على كتاب: "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة. وخصوصًا الصفحات من (198) إلى (219) مبحث: خبر الواحد فيما تعم به البلوى.

وأعتذر عن الإطالة،،

والله ولي التوفيق.
 

ريماس

:: متابع ::
إنضم
31 يوليو 2017
المشاركات
4
الكنية
الريماس
التخصص
لغة
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
السنة
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

جزاكم الله خيرا
 
إنضم
3 مارس 2018
المشاركات
3
الكنية
أبو جعفر
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
باماكو
المذهب الفقهي
مالكي
رد: مدارسة أصولية لبعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية.

ما شاء الله عرض ممتاز بارك الله فيكم
 
أعلى