العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه [1].
ومن الأمور التي نادى بها الإسلام ، حرية الإنسان في التصرف بنفسه ، وقد وجعل الشارع الحكيم ذلك حقا لا يصح هدره إلا بموجب شرعي قامت عليه أدلة شرعية معتد بها. وحبس المتهم احتياطياً مسألة في غاية الخطورة، لأنها تمس الحرية التي كفلها الله سبحانه وتعالى للإنسان.
إلا أن موضوع الحبس الاحتياطي يساوره أمور ثلاثة :
الأول : مصلحة المجتمع في استتباب أمنه، وذلك من خلال الحد من انتشار الفعل الإجرامي.
والثاني : مصلحة المدعي في تحصيل حقه .
والثالث : مصلحة الفرد في حقه في العيش بحرية وأمان .
وعند إعطاء الحكم الشرعي لهذه المسألة ينبغي تغليب ما قويت بجانبها الأدلة، وعند التعارض تقدم المصلحة العامة على الخاصة كما هو معروف. ولا ينبغي إعطاء الحكم الشرعي لهذه المسألة بصورةٍ مطلقةٍ - منعًا أو جوازاً- ، بل ينبغي دراسة المسألة بما تحققه من مصلحة أو مفسدة، تلك التي وجد من أجلها الحكم الشرعي.

وبناءً عليه فقد اتفق الفقهاء على أن الأصل في الإنسان هو البراءة الأصلية : دليل ذلك : قال تعالى:( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )
[2]- أي براءة الذمة من الحقوق ، وبراءة الجسد من الحدود والقصاص والتعازير[3] - ، وهو اليقين الذى لا يزول بمجرد الشك والشبهة [4]، وإنما لا يزول إلا بيقين مثله ، مساو له فى القوة أو أعلى منه فى الدرجة، فلا تُهمة بلا ثبوت دليل، وكما قال أهل القانون "المتهم برئ حتى تثبت إدانته" ، بيد أن الإنسان قد تحوم حوله الشكوك والشبهات بارتكابه جرم معين ، فهل يُترك بناءً على أصل البراءة ، أم تقيد حريته ويحبس حتى تثبت براءته ؟ هذا ماسأبينه في المطلب التالي. يتبع


[1] - إعلام الموقعين ج 3 ص 3.

[2] - سوؤة النساء آية 112 .

[3] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ج2 ص 65 .

[4] - الأشباه والنظائر لابن نجيم ج 1 ص104.
 

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي

أقوال الفقهاء وأدلتهم
أولا ً : أجمع الصحابة ومن بعدهم على مشروعية الحبس كعقوبة ، وقد حبس الخلفاء الراشدون ، وابن الزبير والخلفاء والقضاة من بعدهم في جميع الأعصار والأمصار من غير إنكار ، فكان ذلك إجماعا . [1]
يقول الإمام الزيلعي عند استدلاله على مشروعية الحبس:" الإجماع فلأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم أجمعوا عليه" [2].وقال الشوكاني : " أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار والأمصار من دون إنكار " [3] ، فقد روي أن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قد طبقوا الحبس كعقوبة في أكثر من حادثة.
دليل ذلك : فقد روي أن عمر سجن الحطيئة الشاعر لما هجا الزبرقان [4] وسجن صبيغ بن عسل[5] لما تتبع مشكل القرآن الكريم ، وكان قد اشترى داراً من أمية بن خلف وجعلها سجناً ، وسجن عثمان رضي الله عنه صابئ بن حارث وكان من لصوص بني تميم وقتالهم حتى مات في الحبس ، وسجن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة ، وسجن عبد الله بن الزبير بمكة ، وسجن أيضا في سجن عارم[6] محمد بن الحنيفة[7] إذ امتنع من بيعته[8].
ثم إن الفقهاء –رحمهم الله- قد جعلوا الحبس من بين العقوبات التي يقضى بها في التعزير، فكان هذا إجماعاً على مشروعية الحبس [9].
كما اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز حبس المتهم المعروف بصلاحه وبره لمجرد التهمة ، واختلفوا في مشروعية حبس المتهم المعروف بالفجور أو المتهم المجهول الحال الذي لا يعرف ببر ولا بفجور حبساً احتياطياً على قولين :
القول الأول : وهو رأي جماهيير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة [10] فقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى جواز حبس المتهم إحتياطياً، واعتبروا هذا من السياسة العادلة ، والتصرف الحكيم ، واشترطوا لذلك تأييد التهمة بقرينة قوية، أو ظهور إمارة الريبة على المتهم أو عرف بالفجور" أي له سوابق في الانحراف والإجرام ، ونص الحنابلة على تعجيل حبسه للكشف والاستبراء [11].
القول الثاني: وهو قول شريح القاضي وأبو يوسف و محمد بن حزم الظاهري ، حيث ذهبوا إلى عدم جواز الحبس بالتهمة مطلقاً [12].


[1] - المبسوط للسرخسي ج 20 ص 87 ، نيل الأوطار ح2 ص 207 وما بعدها ، ج7 ص 328 ، الموسوعة الفقهية الكويتية ج 16 ص 286.
[2] - تبيين الحقائق ج 4 ص 180.
[3] - نيل الأوطار ج 9 ص 218.
[4] - الزّبرقانُ: واسمه حصين بن بدر بن خلف بن بهدلة. وكان يقال له: " قمرُ نجدٍ " . وهو من الصحابة، ويكنى أبا عباس بابنه، وأبا شذرة ببنته. وعقبه بالبادية كثير. واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه.الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ج 1 ص114
[5] - صبيغُ بن عسل من بني تميم الذي كان يسأل عن متشابه القرآن فضربه عمر رضي الله عنه ؛ خشية أن يكون قصد بمسألته ضعفاء المسلمين في العلم ليوقع في قلوبهم التشكيك والتضليل بتحريف القرآن عن نهج التنزيل ، وصرفه عن صواب القول فيه إلى فاسد التأويل - الفقيه والمتفقه جزء 2 صفحة 19.
[6] - نسبة إلى غلام مصعب بن عبد الرحمن ، وكان اسمه زيد ، ولقبه عارم ، فحبس فيه ومات فيه لذا سمى سجن عارم – تاريخ الطبري ج 3 ص 274 .
[7] - هو أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، وأمه خولة بنت جعفر الحنفية، فينسب إليها تمييزاً عن أخويه الحسن والحسين، يكنى أبا القاسم .
[8] - تبصرة الحكام ج 2 ص 233 ، التمهيد لابن عبد البر ج 10 ص 92، فتح الباري ج 5 ص 76، تغليق التعليق ج 3 ص 327 .
[9] - بدائع الصنائع ج 7 ص 53، المدونة الكبرى ج 16 ص 288 ، المغني ج 7 ص 102 التشريع الجنائي في الإسلام ج 2 ص 649.
[10] - شرح فتح القدير ج 7 ص 277 ، التاج والإكليل لمختصر خليل ج 5، ص 48 ، إعلام الموقعين ج 3 ص 185 ، ج 4 ص 373.
[11] - الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراءج 1 ص 258 .
[12] - شرح فتح القدير – ج7، ص179.المحلى ج11 ص 132.
 

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي

الأدلة والمناقشة والترجيح
استدل أصحاب القول الأول على ماذهبوا إليه من جواز الحبس الاحتياطي للمتهم بالكتاب ، والسنة ، والأثر، والقياس ، والمعقول .
أولاً : دليل الكتاب
أ- قال تعالى : ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [1].
وجه الاستدلال : قالوا : المراد بالنفي المذكور بقوله تعالى : (أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ) هو حبسه حيث يرى الإمام ، وهوقول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، وأحد قولي الشافعي وهو أيضاً للمالكية إلا أنهم قالوا يسجن في البلد الذي نفي إليه. [2] وفي هذا دليل على مشروعية الحبس في الإسلام ، وإن كان الدليل فيمن ثبتت عليه التهمة إلا أنه ليس فيه مايمنع حبس المتهم حتى تثبت براءته أو إدانته .
2- قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) [3].
وجه الاستدلال: أن الجمهور متفقون على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه [4]، ولا شك أن حبس يوسف عليه السلام كان ظلماً، ولكن القرآن قص ذلك علينا دون أن يرد في شرعنا ما ينسخ شرعية السجن في التهمة ، فدلت الآية على مشروعية سجن المتهم احتياطياً حتى تثبت براءته أو إدانته .


[1] - سورة المائدة آية 33 .

[2] - أحكام القرآن للجصاص ج 4 ص 58، شرح فتح القدير ج 7 ص 277، المبسوط السرخسي ج 20 ص 88 ، أحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 99 ، تفسير البغوي ج 2 ص 33 ومابعدها .

[3] - سورة يوسف من آية 33- 35 .

[4] - التبصرة ج 1 ص 285 . نواسخ القرآن ج 1 ص 57، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ج 1 ص 462.
 

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي

3- وقال سبحانه تعالى:( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ )[1].
وجه الدلالة : في هذه الآية دليل ظاهر على جواز الحبس في التهمة ؛ وذلك بحمل العذاب في الآية على الحبس لقوة التهمة في حقها ؛ بامتناعها من اللعان
[2].
قال أبو حنيفة ، وأحمد : لا حد عليها بنكولها عن الشهادات
[3]، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد [4].
ثانياً : دليل السنة
أ- روى أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد حسن: عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حبَسَ رجُلًا في تُهمَةٍ ثمَّ خلَّى عنه
[5].
وجه الدلالة : حبسه النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم صدق الدعوى بالبينة ، ثم لما لم يقم البينة خلى سبيله ، وهذا يدل على أن الحبس – في التهمة - من أحكام الشرع
[6] ، وثبت بهذا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجن وإن لم يكن ذلك في سجن متخذ لذلك [7].
قال صاحب عون المعبود : " والحبس للتهمة جائز وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حبس رجلا في تهمة"
[8]
رُد : لايصح الاستدلال بهذا الحديث ؛ لأن بهز بن حكيم ليس بالقوي
[9].
أُجيب : بهز بن حكيم صدوق مشهور ، وثقه غير واحد ، ولينه بعضهم وقال ابن عدي لم أر له حديثا منكرا
[10] ، وأدخله البخاري في كتاب الوضوء فدل على أنه معروف [11]وعليه فإن الحديث حجة في محل النزاع .
[1] - سورة النور آية 8 .
[2] - الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ج 1 ص 258.
[3] - واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرؤه عنها شهاداتها الأربع، فقال بعضهم أنه الحد ، وقال آخرون: بل ذلك الحبس، وقالوا: الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع، والتعانه: الحبس دون الحدّ. لأن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته ; لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها .- تفسير الطبري ج 18 ص 85 ، تبيين الحقائق ج 3 ص 16 ، الشرح الكبير لابن قدامة ج 9 ص 39 .
[4] - تفسير العز بن عبد السلام ج 2 ص 390
[5] - اللفظ للترمذي في السنن ، كتاب الحدود ، باب ماجاء في الحبس في التهمة برقم 1417
[6] - تحفة الأحوذي ج 4 ص 563 .
[7] - الفروق مع هوامشه ج 4 ص183.
[8] - عون المعبود ج 12 ص 32.
[9] - المحلى ج11 ص 132 .
[10] - ذكر من تكلم فيه وهو موثق ج1 ص55.
[11] - التراتيب الإدارية ( نظام الحكومة النبوية ) ج1 ص 296.
 

سما الأزهر

:: متخصص ::
إنضم
1 سبتمبر 2010
المشاركات
518
التخصص
الشريعة الإسلامية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: مدى مشروعية الحبس الاحتياطي للمتهم وضماناته في الفقه الإسلامي

ب- وعن أبي هُريْرَةَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حبَسَ في تُهْمةٍ يوْمًا ولَيْلَةً اسْتظْهَارًا وطَلَبًا لَإظْهَارِ الْحقِّ بالاعْتِرَافِ [1].
وجه الدلالة : في هذا الحديث دليل جلي على أن حبس المتهم مشروع قبل أن تقام البينة [2] ولو لم يكن مشروعاً لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشوكاني : " وفيه دليل على أن الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في غير حق ، بل لينكشف به بعض ما وراءه " [3].
رُد : في سند هذا الحديث إبراهيم بن خيثم وهو ضعيف لا تجوز الرواية عنه [4].
أجيب : مع أن في سنده إبراهيم بن خيثم، وفيه مقال، إلا أنه قد جاء في رواية أخرى للحديث عند أبو داود بإسناد حسن عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حَبَسَ رَجُلاً في تُهْمَةٍ ساعةً مِنْ نَهارٍ ثُمَّ خَلَّى عنه" [5].
د_ عن عراك بن مالك [6] أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "حبس رجلا من بني غفار ببعيرين اتَّهم بهما بعضُ بني غطفان بعضَ بني غفار، فلم يك إلا يسيرا حتى أحضر الغفاري الآخر البعيرين، فقال للمحبوس: " استغفر لي"، قال: غفر الله لك يارسول الله، قال: " ولك وقتلك في سبيله" ، قال: فقتل باليمامة" [7] .
وجه الدلالة : في هذا الحديث حبس النبي صلى الله عليه وسلم أحد الغفاريين بتهمة سرقة بعيرين ثم أطلقه بعد ظهور براءته ، وهذا دليل جلي على جواز حبس المتهم احتياطياً حتى تثبت إدانته أو براءته .
رُد: حديث عراك مرسل [8] ، ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس ؛ لاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك . [9]
أجيب : من وجهين :
الأول : أما دعوى الإرسال فمردودة ؛ لأن المراسيل حجة عند الحنفية والمالكية والشافعية والصحيح من مذهب أحمد إذا كانت من ثقة عدل ، وهذا المرسل من طريق عراك بن مالك وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم من علماء الجرح والتعديل [10] فبطل اعتراض ابن حزم من هذا الوجه .
الثاني : أما قوله أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم يدل على المنع من حبس المتهم فتعليله هذا يقتضي: أنه عليه الصلاة والسلام استغفر من معصية فعلها وأنه خالف الشرع بحبسه ، وهذا ما لم يجرؤ على قوله أحد؛ لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك [11]، وإنما أقصى ما يدل عليه هو تطييب نفس المتهم بعد ظهور برائته ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم في غاية اللطف ، ولذا أردف من أجاز الحبس في التهمة بناءً على ظهور براءة المتهم مسائل عدة منها : تعويض المتهم ، إما تعويضاً أدبياً وهو مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما تعويضاً مادياً نظراً لعظم الضرر الذي وقع على الشخص بسبب اتهامه وحبسه .
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجن في المدينة في تهمة دم رواه عبد الرزاق والنسائي في مصنفيهما [12] .
ثالثاً : الأثر
أ- عن أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيُّ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْكَلَاعِيِّينَ [13] سُرِقَ لَهُمْ مَتَاعٌ ، فَاتَّهَمُوا أُنَاسًا مِنْ الْحَاكَةِ [14]، فَأَتَوْا النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَبَسَهُمْ أَيَّامًا ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ ، فَأَتَوْا النُّعْمَانَ فَقَالُوا : خَلَّيْتَ سَبِيلَهُمْ بِغَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا امْتِحَانٍ ؟! فَقَالَ النُّعْمَانُ : مَا شِئْتُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَضْرِبَهُمْ فَإِنْ خَرَجَ مَتَاعُكُمْ فَذَاكَ وَإِلَّا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَ مَا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِهِمْ ، فَقَالُوا : هَذَا حُكْمُكَ ؟ فَقَالَ : هَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحُكْمُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [15] .
وجه الدلالة : يدل الحديث على جواز حبس المتهم احتياطيا ًحتى يتبين حاله ، ولو لم يكن جائزاً لما أقدم عليه النعمان رضي الله عنه ولا قضى بأنه حكم الله ورسوله .
ب- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قال : كَتَبَ عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ بن عبد اللَّهِ كِتَابًا قَرَأْته: إذَا وُجِدَ الْمَتَاعُ مع الرَّجُلِ الْمُتَّهَمِ فقال : ابْتَعْته فَاشْدُدْهُ في السِّجْنِ وَثَاقًا وَلاَ تَحُلُّهُ بِكِتَابِ أَحَدٍ حتى يَأْتِيَهُ فيه أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى [16] . وذلك إذا جرت العادة أن لا يتحصّل ذلك المتاع لمثل هذا المتّهم‏.‏ وإذا قامت القرائن وشواهد الحال على أنّ المتّهم بسرقة - مثلا - كان ذا عيارة - كثير التّطواف والمجيء والذّهاب - أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقّب، قويت التّهمة وسجن‏.‏
رُد : قال ابن جريج ذكرت ذلك لعطاء فأنكره [17] وإنكار عطاء يدل على عدم جواز الحبس الاحتياطي للتهمة .
أجيب : إنكار عطاء ليس بحجة ؛ إذ الحجة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت الحبس في التهمة في حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه وغيره .

رابعاً : القياس: فمن وجهين :
الأول : - قال تعالى: ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ [18] فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ).[19]
وجه الدلالة : إذا كان ذلك كذلك فلا مانع من القياس على هذه الحالة ؛ وذلك بسجن كل من لم يعرف فيه الحكم الشرعي، حتى يعرف فيه فينفذ، وعلة القياس الاحتياط في كل.
قال ابن تيمية : " قد يستدل بذلك على أن المذنب إذا لم يعرف فيه حكم الشرع فإنه يمسك ويحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه " [20] وهذا هو مفهوم الحبس الاحتياطي .
ورد ابن حزم هذا الاستدلال بقوله : هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة [21] نسخته آية الحدود [22]: ï´؟ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ï´¾ [23] وبحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " [24] رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
أجيب من وجهين :
الأول : على القول بأنها منسوخة، فإن السجن وإن كان منسوخاً كحد للزناة إلا أنه باقي على مشروعيته باعتباره عقوبة لغير الزناة، أو على حبس الزاني أو الزانية حتى يثبت براءتهما أو إدانتهما.
الثاني : أن سجن الزاني البكر منصوص عليه في حديث عبادة بن الصامت ، حيث فسر بعض العلماء النفي الوارد فيه بالحبس ، وإذا جاز الحبس كاعقوبة ثانية للزاني البكر ، فمن باب أولى يجوز كإجراء إحترازي واحتياطي للكشف عن حال المتهم ، وسرعة الإجراءات ، والمحافظة على حق المجني عليه .
الوجه الثاني من القياس: قاسَ القائلون بجواز حبس المتهم احتياطياً على جواز تعويق المدعى عليه في خصومة إذا كان الحاكم مشغولا عن تعجيل الفصل بين المتخاصمين ، وقالو ا إذا جاز ذلك في المدعى عليه فجوازه في المتهم أولى [25] .
قال ابن قيم مؤيداً قول الجمهور: إن الفقهاء اتفقوا على وجوب إحضار المدعى عليه، فإذا كان الحاكم مشغولاً ببعض القضايا فيتأخر عن النظر في أمره فيكون المطلوب محبوساً من وقت الطلب إلى أن يفصل بينه وبين المدعى، وهذا حبس بدون تهمة، ففي التهمة أولى [26] .

خامساً: المصلحة
فالمصلحة تقتضي حجز المتهم؛ لأن كثيرًا من الأفعال العدوانية قد يتعذر إقامة البينة عليها في غالب الأحوال، فلو تُرك المتهمون - لانعدام البينات – لترتب على ذلك فساد كبير بين الخلق، ولضاعت حقوق كان يمكن الحفاظ عليها .
وفي بعض هذا يقول الشوكاني : " وفيه من المصالح ما لا يخفى ، لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم ، الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولا قصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد ، فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الإضرار بهم إلى كل غاية ، وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره " [27].
وقال أحد المعاصرين في الحبس الاحتياطي : " إجراء شاذ إذ يُعتدى به على حرية الفرد قبل أن تثبت إدانته ، ولكن تبرره مصلحة التحقيق " [28].
ومن المصالح التي يحققها الحبس الاحتياطي فضلاً عما سبق :
1- يجعل المتهم دائماً في متناول يد المحقق ، فيمكنه في أي وقت استجوابه ومواجهته بمختلف الشهود ،[29]
3- وهو أيضاً تضييق لدائرة الجريمة وإمساك بأسبابها ومحاولة التوصل إلى الجاني الحقيقي حتى ينال جزاءه " [30].
4- وهو إجراء تحقيق يستهدف الحيلولة بين المتهم وبين الهرب أو تشويه أدلة الاتهام " [31] إما بطمسها ، أو التأثير على الشهود .
سادساً : دليل المعقول .
فإنه إذا قبض على أحد من الناس بتهمة اقترافه محرماً أو اعتدائه على حق أحد فليس أمامنا تجاهه لقاء هذه التهمة الموجهة إليه إلا واحد من أمور ثلاثة :
الأمر الأول: أن نجبره على تأدية الحق الذي اتهم بالاعتداء عليه ، أو معاقبته على الجريمة التي اتهم باقترافها، وهذا محض الخطأ إذ لا يقول به عاقل، فربما كان بريئاً مما اتهم به فيكون مظلوماً والظلم محرم شرعاً.
الأمر الثاني: أن نقبض عليه فإذا أنكر نتركه مباشرة دون طول سؤال أو محاورة، أو تثبت، وهذا أيضاً محض الضرر فإنه ربما كان مجرماً حقاً فنترك له فرصة الإفلات والعياث في الأرض فساداً وهذا أمر لا يقره عقل.
الأمر الثالث: وهو أن نحبسه في سجن أو يوكل به من يلازمه ويمنعه من الهرب والاختفاء حتى نتثبت من صحة نسبة التهمة إليه، فإن ظهرت إدانته بما نسب إليه أقيم عليه الجزاء الرادع، وإن ظهرت براءته مما نسب إليه أطلق دون أن يصاب بأذى، وهذا ما يميل إليه العقل السليم.


[1] - نيل الأوطار ج 9 ص 218 .
[2] - تحفة الأحوذي ج 4 ص 563 .
[3] - نيل الأوطار ج 7 ص 330.
[4] - الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 2 ص 95 ، المحلي ج8 ص 120 ه.
[5] - قال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ولم يضعفه أبو داود وعلقه البخاري - فيض القدير ج5 ص 400.
[6] - عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني ثقة فاضل من الثالثة مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة . تقريب التهذيب ج1 ص388 .
[7] - الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 2، ص 95 .
[8] - المرسل لغة : من أرسلت الشيء إذا أطلقته " لسان العرب ج11 ص281 .
واصطلاحاً : ما رواه التابعي كبيراً أو صغيراً - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً أو تقريراً ، وهذا هو المشهور . مقدمة ابن الصالح ص : 130 - 132 .
[9] - المحلى ج 11 ص 132.
[10] - التعديل والجرح ج3 ص 1040 .
[11] - الحجز المؤقت د. علي محمد الحسين الموسى " الصوا" ص 55 ، دراسات الجامعة الأردنية 1986 م .
[12] لم أقف عليه ، وأورده القرافي في الفروق ، الفروق مع هوامشه ج 4 ص 183 .
[13] - قبيلة من اليمن - عون المعبود ج 12 ص31.
[14] - حاك الثوب يَحُوكه حَوْكاً و حِياكاً و حِياكة : نسجه - لسان العرب ج10 ص418 .
[15] - اللفظ لأبو داود في السنن ، كتاب الحدود ، باب في الامتحان بالضرب برقم 4382 ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن -بدائع الفوائد ج 4 ص 819.
[16] - مصنف ابن أبي شيبة جزء 5 صفحة 555 كتاب الحدود ، باب في الرجل المتهم يوجد معه المتاع برقم 28923 .
[17] - المصنف لابن أبي شيبة– ج 5، ص 555 كتاب الحدود ، باب في الرجل المتهم يوجد معه المتاع برقم 28923 . المصنف لعبد الرزاق، ج 10 ، ص 217، المحلى ج11 ص 132
[18] - واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد؟ على قولين .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 1 ص220، شرح معاني الآثار ج 3 ص 139، الناسخ والمنسوخ للنحاس ج1 ص 309 .
[19] - سورة النساء آية 15 .
[20] - الفتاوى الكبرى ج 4 ص598 .
[21] - المحلى ج 11 ص 133.
[22] - الرسالة ج 1 ص 129.
[23] - سورة النور آية 2 .
[24] - اللفظ لمسلم في صحيحه ، كتاب الحدود ، باب حد الزنى برقم 1690 .
[25] - مجموع الفتاوى ج 35 ص 398، الطرق الحكمية، ص 148. .
[26] الطرق الحكمية ص 102 .
[27] - نيل الأوطار ج 9 ص 218 ، 219 ..
[28] - شرح قانون الإجراءات الجنائية ، محمود محمود مصطفى ، ط العاشرة " دار النهضة العربية " ص 310 .
[29] - الحبس الاحتياطي ، دراسة لنصوص التشريع المصري الفرنسي ، إبراهيم حامد طنطاوي ، الاسكندرية ، دار الفكر العربي ص 4 .
[30] - أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام ، حسن عبد الغني أبو غدة ، الطبعة الأولى ، الكويت ، مكتبة المنار 1407هـ ، ص 98 .
[31] - معجم القانون ص 312 .
 
التعديل الأخير:
أعلى