العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مصادر أبي حيان الظاهري الفقهية

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
مصادر أبي حيان الظاهري الفقهية


كان أبو حيان هو الأخر صاحب اهتمام بالدراسات الفقهية ، ومهما غلب عليه تكوينه اللغوي فإن هذا لم يمنعه من التحصيل في الجانب الفقهي حتى عرف به ، حيث كان ينعت بأنه ظاهري المذهب ، وهو المذهب الذي نشأ عليه بالأندلس وفتن به ، فكان يروى عنه قوله : محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من عرفه .. ، وقد حمله ذلك على دراسة كتاب " المحلى " لابن حزم الظاهري ، ولما زاد إعجابه به وضع له مختصرا سماه " الأنوار المجلى في اختصار المحلى " كما كان ينقل بعضا من كلامه في غير من موضع في البحر المحيط ، من ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك يتوب الله عليهم وهو التواب الرحيم " البقرة : 158
حيث يقول : وقال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم القرطبي فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بم أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ، ويقرئه بقدر طاقته ، ويحققه ما أمكنه ، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ، ويدعو إليه في شوارع السابلة ، وينادي عليه في مجامع السيارة ، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ، ويعظم الأجعال للباحثين عنه ، صابرا في ذلك على المشقة والأذى ، لكان ذلك حظا جزيلا ، وعملا جيدا وسعدا كريما ، وإحياء للعلم ، وإلا فقد درس وطمس ، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة . )
ولما خرج إلى المشرق واستقر بالقاهرة قيل أنه استمر على مذهبه الأول ، وقيل أنه تحول إلى المذهب الشافعي ، وهو الأشهر والأظهر ، والدليل على ذلك أنه ألف هناك كتابا في الفقه الشافعي وهو " الوهاج في اختصار المنهاج " اختصر فيه كتاب " منهاج الطلاب " ، وهو مختصر كتاب " المحرر في فقه الشافعي " للإمام النووي . وهكذا جمع أبو حيان في تكوينه الفقهي بين المذهب الظاهري والمذهب الشافعي ، وقد تجلى هذا التكوين في المادة الفقهية التي دبج بها تفسيره البحر المحيط . كما يغلب الظن أيضا أن أبا حيان الأندلسي كان على اطلاع كاف على مصادر المذاهب الفقهية الأخرى ، السنية والشيعية وغيرها ، وقد أفاد منها بشكل مباشر كما يفهم من كتابه البحر المحيط ، فكان تارة يقتبس حرفيا مع التنصيص على ما نقله منها ، وتارة يحيل عليها بأسمائها ، مع إشارته إلى طريقة إفادته منها ، مما زاد في قيمة هذه المادة الفقهية التي اعتمدها ، وأقام عليها تفسير آيات الأحكام في كتابه البحر المحيط ، وهي مصادر كثيرة جدا مقارنة معا ما اعتمده الزمخشري في كشافه .
ويمكن تقسيم مصادر أبي حيان في تفسير آيات الأحكام إلى قسمين :
القسم الأول : مصادر أساسية
وهي التفاسير التي اعتمدها كمصادر أساسية في انتقاء وجمع تفسيره البحر المحيط في مختلف جوانبه بما فيها المادة الفقهية ، وهي تفسير الكشاف للزمخشري الحنفي ، والمحرر الوجيز لابن عطية المالكي ( ت: 543 هـ ) ، والتحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي التونسي ( ت : 440هـ ) ، والتحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير لابن النقيب أبي عبد الله محمد بن سليمان ، جمع فيه خمسين مصنفا من مصنفات التفسير في تسعين مجلدا .
القسم الثاني : مصادر ثانوية
وهي التفاسير التي انتقى منها تفسير آيات الأحكام ، ونذكر منها : الجامع لأحكام القرءان للقرطبي المالكي ( ت: 673هـ ) ، وأحكام القرءان لأبي بكر بن العـربي المالكي ( ت : 543هـ) وجامع البيان لمحمد بن جرير الطبري الشافعي ( ت : 310هـ ) ، وزاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج بن الجوزي الحنبلي ( ت : 597هـ ) والنكت والعيون في تأويل القرءان للماوردي الشافعي ( ت: 450هـ ) ومفاتيح الغيب للفخر الرازي الشافعي ( ت: 606هـ ) ومعالم التنزيل للحسين بن مسعود البغوي الشافعي ( ت : 516هـ ) وتفسير القرءان العظيم لابن كثير الشافعي ( ت : 774هـ ).
ويضاف إلى ذلك بعض الكتب الفقهية المشهورة مثل المدونة الكبرى في الفقه المالكي ، والمنتقى في شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي ( ت: 474هـ ) ، والأنوار الأجلى في مختصر المحلى من تأليفه ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
والذي يرجع إلى البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي يلحظ لأول وهلة أنه استفاد بشكل واسع من هذه التفاسير في تفسيره لآيات الأحكام ، فلا يمر بآية من هذه الآيات حتى يفيض في نقل آراء المفسرين والأئمة المجتهدين من مختلف المذاهب ، سواء كانت تلك المذاهب الأربعة المشهورة ، أو تلك المذاهب التي ظهرت حينا ثم اندثرت ، كمذهب الليث بن سعد والأوزاعي ، وداود الظاهري وغيرها ، كما ينقل آراء فقهاء الصحابة والتابعين من أمثال الخلفاء الراشدين وابن عباس ومعاد بن جبل وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري وغيرهم ، فنجد مثلا في تفسير قوله تعالى " فإن لم يصبها وابل فطل " ينقل عن الزمخشري والماوردي وابن عطية وابن الجوزي في موضع واحد من البحر المحيط ، وكذا في تفسير قوله تعالى " إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .. " نجده ينقل عن عدد من المفسرين كالطبري والقاضي أبي يعلى والقرطبي وابن العربي وغيرهم ، حيث كان ينقل أقوال الفقهاء من هذه المصنفات إلى جانب نقوله عن كتب الفقه التي سبقت الإشارة إليها ، والأمثلة الآتية توضح ذلك :
في تفسير قوله تعالى " : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .. " سورة المائدة : 43
تحدث أبو حيان عن حكم تصرفات من كـان سكران هل هي نافذة أم لا ، فقال :
( .. ومعنى " حتى تعلموا ما تقولون " حتى تصحوا فتعلموا ، جعل غاية السبب والمراد السبب ، لأنه مادام سكران لا يعلم ما يقول ، وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول ، ولذلك ذهب عثمان وابن عباس وطاووس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق ، واختاره الطبري وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس .. وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين أن طلاقه نافذ عليه ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، قال أبو حنيفة أفعاله كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه ، وقال يوسف سكون مرتدا في حال سكره ، وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه ، واختلف قوله في الطلاق ، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح ولم يلزمه النكاح والبيع . قال الماوردي : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه .
واختلفوا في السكر فقيل هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة ، قاله جماعة من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ، ويدل عليه قوله " حتى تعلموا ما تقولون " فظاهره يدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول .. وقال أحمد : إذا تغير عقله في حال الصحة فهو سكران ، وحكي عن مالك نحوه . )
وفي تفسير قوله تعالى : " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " سورة المائدة : 56
تحدث عن الردة وما يترتب عليها من أحكام في الدنيا والآخرة كما يفهم من الآية ، ناقلا في ذلك أقوال الفقهاء والمجتهدين فقال : ( وقيل حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم ، فلا يحصلون من ذلك على شيء ، لأن الله قد أعز دينه بأنصاره ، وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر لا على مجرد الارتداد ، وهذا مذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي ، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ، " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يفعلون" ، " لئن أشركت ليحبطن عملك " ، والخطاب في المعنى لأمته ، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما ، يعني أنه يحبط عمله بنفس الردة دون الموافاة عليها وإن راجع الإسلام ، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم ، فقال مالك يلزمه الحج ، وقال الشافعي لا يلزمه الحج .. وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد ، ولم تتعرض الآية إلا لحبوط العمل ، وأما حكمه بالنسبة إلى القتل فذهب النخعي والثوري إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا ، وذهب طاووس والحسن ـ على خلاف عنه ـ وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والشافعي في أحد قوليه إلى أنه يقتل من غير استتابة ، وروي نحو هذا عن أبي موسى ومعاد ، وقال جماعة من أهل العلم يستتاب ، وهل يستتاب في الوقت أو في ساعة واحدة أو شهر ؟ روي هذا عن علي ، أو ثلاثة أيام ، روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم ، وقول أحمد وإسحاق الشافعي في أحد قوليه ، وأصحاب الرأي ، أو مائة مرة وهو قول الحسن .. وقال أبو حنيفة يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فيؤجل ثلاثة أيام ، والمشهور عنه وعن أصحابه أنه لا يقتل حتى يستتاب ، والزنديق عندهم والمرتد سواء ، وقال مالك تقتل الزنادقة من غير استتابة .. )
وفي تفسير قوله تعالى : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة .. " سورة البقرة : 282
نقل أبو حيان أقوال أهل العلم في صحة قبض الرهن وشروطه فقال : ( وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله ، وأما قبض عدل يوضع الرهن على يديه فقال الجمهور به ، وقال عطاء وقتادة والحكم وابن أبي ليلى ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ولم يقع القبض فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلا بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلا بالقبض ، واختلفوا في استمراره ، فقال مالك إذا رده بعارية أو غيرها بطل ، وقال أبو حنيفة إن رده بعارية أو وديعة لم يبطل ، وقال الشافعي يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقا . والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومة ، يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية ، فقال الجمهور لا يجوز رهن ما في الذمة ، وقالت المالكية يجوز ، وقال الجمهور لا يصح رهن الغرر مثل العبد الآبق ، والبعير الشارد والأجنة في بطون أمهاتها والسمك في الماء والثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال مالك لا بأس بذلك ، واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك والشافعي يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم ، وقال أبو حنيفة لا يصح مطلقا . )
وفي تفسير قوله تعالى : " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله .. " سورة البقرة : 233
قال أبو حيان : ( وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها فقال عمر والجمهور لا يتأبد التحريم ، وقال مالك وابن القاسم في المدونة ويكون خاطبا من الخطاب ، وإن عقد عليها في العدة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم لا يتأبد والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدة ودخل بها في العدة فقال عمر ومالك وأصحابه والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وغيرهم يتأبد التحريم ، وقال مالك والليث ولا تحل له لملك اليمين ، وقال أبو حنيفة والشافعي وعبد العزيز بن سلمة وجماعة لا يتأبد بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ويكون خاطبا من الخطاب ، وقال الحسن وأبو حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق والمدنيون ـ غير مالك ـ تعتد من الأول ، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر ، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري عدة واحدة تكفيها جميعا سواء كانت بالحمل أم بالإقراء أم بالأشهر . )
ولما كان أبو حيان يعتد بفقه أهل الظاهر وينقل الخلاف عنهم ، فإنه يرى بأن موافقتهم لرأي الجمهور شرط في انعقاد الإجماع ، فإذا نقل خلافهم لجمهور الفقهاء كانت دعوى الإجماع مردودة على من قال بها ، وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى : " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. " سورة البقرة:172
حيث نقل أبو حيان خلاف داود الظاهري لجمهور الفقهاء في حكم شحم الخنزير وهو قوله بإباحتها ، ثم اعترض على ابن عطية في قوله بإجماع الأمة على تحريمه فقال : ( وقوله أجمعت الأمة على تحريم شحمه ليس كما ذكر ، ألا ترى أن داود الظاهري لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى ، وهو اللحم دون الشحم ، إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني من أنه لا يعتد في الإحماع بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعا ، وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد قبل أن يخلق الجويني بأزمان بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم كما نقلوا أقاويل الأئمة كالأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد ، ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد خمل هذا المذهب .)
وهو إذ ينقل من هذه التفاسير يحيل عليها بدقة متناهية ، فنجده مثلا وهو ينقل عن المحرر المحرر لابن عطية يقول : ( وفي النسخة التي وقفنا عليها من تفسير ابن عطية ما نصه .. ) ففي هذه العبارة ما يدل على بالغ حيطته وأمانته فيما ينقله من الآراء والأقوال .
وفي مواضع قليلة من تفسيره نراه يستطرد لنقل الآراء الفقهية لمختلف الفرق الكلامية ثم يكر عليها فيفندها ، ولكن من غير ذكر للمصادر التي نقل عنها أقوالهم وآراءهم ، وإنما يستطرد في مثل هذه المواطن لما كان يراه من ضرورة تزييف هذه الآراء السقيمة التي كانت تصدر عن خلفيات مذهبية فاسدة ، وقد تركت آثارها البالغة في تاريخ الأمة الإسلامية ، مع عرض رأي أهل السنة والحديث في الموضوع .
ومن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وإذ ابتلـى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " سورة البقرة: 123
وهي الآية التي سبق أن وقف عندها الزمخشري ، وحملها من رؤيته المذهبية ما لا تحتمله ، كما قد تعلقت بها مختلف الفرق للتدليل بها على آرائها السياسية في الإمامة ، فاستطرد لذلك قائلا :
( وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى وإن كان موضوعها أصول الدين فهناك ذكرها ، ولكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال ، فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة أن نصب الإمام فرض خلافا لفرقة من الخوارج وهو أصحاب نجدة الحروري ، زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع ، واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل خلافا للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقـلا ،
ويكون الإمام من صميم قريش خلافا لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها خلافا لمن خص ذلك بنسل علي أو العباس ، إما منصوصا عليه وإما باجتهاد ، ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد خلافا للكرامية ، إذ أجازوا ذلك وزعموا أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل خلافا للإمامية ، ومعناها أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماما مستورا ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة ، وليس من شرط الإمام العصمة خلافا للرافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرا وعلنا ، وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها خلافا للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدي إليه اجتهاده ، وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب خلافا لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم . )
ويستند أبو حيان في تعامله مع هذه المصادر المختلفة إلى حاسته النقدية القوية ، حيث نجده يقف أمام الأقوال الكثيرة في الآية الواحدة ، فيناقشها ويفحصها ، فما كان من الأقوال يدعمه الدليل قدمه وأخذ به ، وما كان يفتقر إلى البرهان رده ، أو توقف في قبوله على الأقل ، ولا يغتر بكثرة من قال برأي معين ، حتى وإن كان ذلك من أوليات الفقه الإسلامي ، إذا كان عاريا عن الدليل الواضح ، فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا .. " سورة البقرة : 226
حيث نجد أبا حيان ينقل آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين في صفة الرجعة بعد الطلاق الرجعي فيقول : ( واختلفوا فيما به الرد ، فقال سعيد والحسن وابن سيرين وعطاء وطاووس والزهري والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة : إذا جامعها فقد راجعها ويشهد ، وقال الليث وطائفة من أصحاب مالك : إن وطاه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ، وقال مالك إن وطئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد . وقال الشافعي : ولا تصح الرجعة إلا بالقول ، وقال أبو حنيفة والثوري إن لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة ، وينبغي أن يشهد في قول مالك والشافعي .. )
ثم قال أبو حيان بعد هذا الكلام وغيره : ( قالوا ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي، وعن رضاها ، وعن تسمية مهر ، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح ، ويسقط بالرجعة بقية العدة ، ويحل جماعها في الحال . ويحتاج في إثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع ، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل عن الرجل ، فلا تجوز له أن ترجع إليه إلا بنكاح ثان ، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها ، فإما أن يبقى شيء من عدتها أو لا يبقى ، إن بقي شيء من عدتها ، فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح ، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك ، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزويجها ، وأما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح ، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه ، فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع قلنا به ، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا ، وأن ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها . )
ويبدو أن هذه من المواضع التي طغت فيها النزعة الظاهرية على أبي حيان الأندلسي ، فخالف ما يشبه الإجماع في هذه المسألة ، لأن الله تعالى إنما اشترط الإشهاد لا غير في الرجعة كما جاء في سورة الطلاق " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. " الطلاق : 2 فمن زاد عن هذا الشرط من الشروط هو الذي يطالب بالدليل ، كما أنه لم ينقل في السنة النبوية عن أحد من الصحابة أنه صدر منه طلاق فأمره النبي ـ ص ـ بإعادة الخطبة والعقد ، ولكن كان يأمرهم بالمراجعة ..
إلا أن هذه النزعة الظاهرية التي طغت على أبي حيان في مواضع قليلة من تفسيره البحر المحيط ، مغتفرة إلى جانب محاسنه الأخرى في تعامله مع مصادره الفقهية من حسن تخيره للآراء الفقهية ما كان أكثر صوابا ، وأقرب إلى مدلول النص القرءاني ، كما أن أمانته العلمية في النقل والاقتباس ، وقلة تأثره بالأفكار والآراء السياسية في توجيه آيات الأحكام جعله أكثر موضوعية وأقل تعصبا وأحسن صنيعا من مما فعله الزمخشري في تعامله مع مصادره الفقهية .​

مبحث من رسالة دكتوراه بعنوان :" موازنة بين الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي.
 
أعلى