العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

معيار العمل بسد الذرائع

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي

معيار العمل بسد الذرائع

ملخص البحث

يهدف هذا البحث إلى تحرير مسألة سد الذرائع وتحديد ضابط العمل بها، وهو يسلك منهجا يختلف عن الطريقة النمطية لتناول هذا الموضوع، القائمة على عرض رأي القائلين بسدّ الذرائع، ورأي الرافضين للعمل بسدّ الذرائع، ثم مساندة فريق منهما، والرد على الفريق المخالف، وبيان أن الفريق المخالف قد عمل بما هو في حقيقته من باب سدّ الذرائع، ولكن دون تمسيته سدًّا للذرائع. وقد خلص البحث إلى أنه ينبغي العمل بسدّ الذرائع في مقام الإرشاد والفتوى؛ بمعنى توجيه الناس إلى تجنُّب التذرُّع بما هو مباح في أصله إلى ارتكاب المحظورات الشرعية وإسقاط الحقوق. كما أنه يجوز للسلطة الحاكمة أن تُصدر من الأوامر والقوانين ما يمنع الناس من التعسُّف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالآخرين، أو التذرُّع بالمباحات للتوصُّل إلى المحرمات، وذلك بقصد المحافظة على صلاح المجتمع. أما في مجال القضاء، فإنه لا يُعمل بمبدأ سدّ الذرائع؛ لأن القضاء يكون بالأدلة الظاهرة، لا بالأمور الباطنة أو الظنون والاحتمالات، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يُبْطَلُ تصرفُ شخص بسبب القصد السيء لأشخاص آخرين مهما كثروا.

اقرأ وحمِّل البحث من الرابط الآتي:
https://www.researchgate.net/publication/343078787_myar_alml_bsd_aldhray


مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

تُعدُّ مسألة سدّ الذرائع من الموضوعات التي كثرت الكتابات فيها؛ فهي حاضرة في كتب أصول الفقه قديمها وحديثها، وكُتِبت فيها كتب وبحوث مستقلة كثيرة جدا، وهي على الرغم من ذلك ما زالت في حاجة إلى مزيد من البحث، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك الطريقة الشائعة في دراستها.

الدراسات الموجودة حول الموضوع تدور حول عرض رأي القائلين بسدّ الذرائع، ورأي الرافضين للعمل بسدّ الذرائع، ثم مساندة فريق منهما، والرد على الفريق المخالف، وبيان أن الفريق المخالف قد عمل بما هو في حقيقته من باب سدّ الذرائع، ولكن دون تمسيته سدًّا للذرائع.

الهدف من هذه الدراسة الخروج من هذه النمطية في البحث، وتجاوزها إلى وضع معيار ضابط للعمل بالذرائع من خلال دراسة موضوعية للأدلة التي يوردها الطرفان المختلفان دون ترجيح هذا الطرف أو ذاك، ولكن يتم توجيه كل رأي إلى ما يناسبه من جوانب المعيار الضابط الذي توصل إليه الباحث.


وبناء على هذا الهدف، فإن الباحث يركز على تحرير مسألة سد الذرائع وتحديد ضابط العمل بها، ويتجاوز المسائل الواضحة التي استوفت حقها من البحث، ويعرض عن المسائل التي لا تخدم هذا الهدف؛ لأن بعضها ربما يكون من باب الاستطراد أو التخليط. ولن يعتني الباحث بالإطالة في التعريفات والتقسيمات والأمثلة والإكثار من ذكر المراجع. وسأبتعد عن الحشو والاستطراد، واقتصر في عرض أدلة الفريقين على أهمها.


إن هذا البحث يسجِّل خلاصة ما توصل إليه الباحث، ولذلك فإن ما أذكره من المراجع قليل جدا، يقتصر على النصوص التي أوردها في هذه الخلاصة. وخير الكلام ما قلّ ودلّ.

وقد قسمته إلى أربعة مطالب: المطلب الأول: مفهوم سَدّ الذرائع، المطلب الثاني: موقف العلماء من سَدّ الذرائع، المطلب الثالث: المعيار الضابط للعمل بسد الذرائع، المطلب الرابع: مناقشة أصحاب المذاهب في سدّ الذرائع.

المطلب الأول: مفهوم سَدّ الذرائع

الذريعة في اللغة


الذريعة في اللغة هي الوسيلة. يُقال: تذرّع فلان بذريعة، أي توسَّل، والجمع ذرائع. والذريعة السبب إلى الشيء. يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووُصلتي الذي أتسبَّب به إليك.[1] وبناء على المعنى اللغوي للذريعة يكون المعنى العام لها هو ما يُتَوَسَّل به إلى شيء، بغض النظر عن كون الوسيلة أو المتوسَّل إليه خيرا أو شرا، فيدخل في ذلك: التوسُّل بالمحرَّم إلى المحرَّم، والتوسُّل بالمحرَّم إلى المشروع، والتوسُّل بالمشروع إلى المشروع، والتوسُّل بالمشروع إلى المحرَّم.


الذريعة في الاصطلاح
المعنى المراد للعلماء عند حديثهم عن سَدّ الذرائع هو: الوسيلة التي أصلُها الإباحة، ولكن فعلها قد يؤدي إلى محظور شرعي. يقول ابن عاشور عن سَدّ الذرائع: "هذا المركَّب لَقَبٌ في اصطلاح الفقهاء لإبطال الأعمال التي تؤول إلى فساد مُعتبر، وهي في ذاتها لا مفسدة فيها."[2]

وبهذا يكون سد الذرائع بمعنى: منعُ الشخص من فعل الأشياء التي أصلُها مباح، ولكن يكون مآل فعلها إلى إيقاع مفسدة وارتكاب محظور شرعي. أما الوسائل التي نص الشارع على تحريمها، إما لكونها مفسدة في ذاتها أو لكونها تفضي إلى مفاسد معتبرة، فهي -وإن كان يصح في اللغة تسميتها ذريعة إلى الفساد، واعتبار تحريم الشارع لها سدا للذريعة- إلا أنه لما كان الشارع قد حكم عليها بالتحريم، فإن عملنا فيها هو تنفيذ ما حكم به الشارع، ولا يُعدُّ عملُنا فيها من باب سدّ الذريعة؛ لأن الشارع قد سدَّها وانتهى أمرها. وإنما الحديث في ما يمكن أن يمنعه المجتهد أو الحاكم من المباحات لكونه ذريعة إلى فعل المحظور شرعا، فهذا هو الذي يُصطلح عليه "سَدّ الذريعة".


ولا معنى للحديث عن فتح الذرائع؛ لأن الأصل في الذرائع أنها مفتوحة، والحديث عن فتحها مجرد تحصيل حاصل. وإذا كان الذين يتحدثون عن فتح الذرائع يشيرون إلى الرخص الشرعية في حالات الضرورة، فهذا قد فتحه الشارع ونصَّ على الترخيص فيه، وما يقوم به الإنسان -سواء أكان مجتهدا أم حاكما أم مكلَّفا- هو مجرد تطبيقٍ للحكم الشرعي لا فتحا للذرائع. هذا فضلا عن أن اصطلاح العلماء قد جرى على تسمية ذلك رخصة لا فتحا للذريعة، وإن كان لغة يصح تسميته فتحا للذريعة، إلا أن احترام الاصطلاحات أحرى بقطع طريق اللبس والتخليط في الكتابة والتأليف.


العلاقة بين الذرائع والحيل
بين الاحتيال والتذرع تقارب في المعنى اللغوي، فالتذرُّع إلى الشيء التوصل إليه بوسيلة من الوسائل، والاحتيال التوصُّل إلى الشيء بطريق فيه حِذْق ودقة تصرف.
والفرق بينهما في الاستعمال الاصطلاحي أن سَدّ الذرائع يُنظَر فيه إلى جانب الأثر المترتب على الفعل بغض النظر عن قصد المكلَّف، فتجري الفتوى أو الحكم بالمنع من تصرف من التصرفات لكونه ذريعة إلى فعل المحظور. أما التحيُّل فيُنظَر إليه من جانب قصد الفاعل، حيث يقصد المكلَّف التحيُّل على إسقاط الأحكام الشرعية أو مضادَّة مقاصدها بأفعال ظاهرها الإباحة، فنقول فلان تحيَّل بكذا إلى كذا، وهذا الفعل حيلة لارتكاب محظور أو إسقاط واجب.

ويفصَّل محمد الطاهر ابن عاشور الفروق بين الذرائع والحيل في ثلاثة أوجه: أولها: العموم والخصوص، حيث إن الذرائع أعمُّ من الحيل. والثاني: القصد، حيث إنه في الحيل يكون الشخص قاصدا إلى التخلُّص من حقّ شرعي عليه بصورة ظاهرها المشروعية، أما الذرائع فهي ما يفضي إلى فساد، سواء قصد الناس بفعلها الإفضاء إلى الفساد أم لم يقصدوا. والثالث: أن الحيل -بمعناها الاصطلاحي- لا تكون إلا مُبطِلة لمقصد شرعي، أما الذرائع فقد تكون مُبطِلة لمقصد الشارع وقد لا تكون مُبطِلة.[3]




المطلب الثاني: موقف العلماء من سَدّ الذرائع

اختلفت أقوال العلماء في العمل بسدّ الذرائع بين قائل به وبين مُنْكِرٍ له. وقد حاول القرافي تلخيص موقف العلماء من سدّ الذرائع بقوله: "وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سَدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سَدِّه، ومنها ما اختلفوا فيه. فالـمُجْمَع على عدم سَدِّه كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، والتجاور في البيوت لأجل الزنى، فلم يُمْنَع شيءٌ من ذلك وإن كان وسيلة للمحرَّم. وما أُجْمِع على سَدِّه كالمنع من سَبِّ الأصنام عند من يُعْلَمُ أنه يسبُّ الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السُّمّ في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه كالنظر إلى المرأة لأنه ذريعة للزنا بها، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله."[4]

وقد تعقَّب العطار الشافعي كلام القرافي بقوله: "وأما قاعدة سدّ الذرائع فقد اشتهرت عند المالكية، وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية إلا من حيث زيادتهم فيها ... قال المصنف: وقد أطلق هذه القاعدة على أعمَّ منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، سنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكره أن الأمة أجمعت عليه ليس من مُسمَّى سَدِّ الذرائع في شيء."[5]

إذا دققنا النظر في ما ذكره القرافي نجد أنه خارح محلّ النقاش، وأن ما ذكره في الحقيقة ليس حديثا عن موقف العلماء من سدّ الذرائع (التي هي بمعنى القول بالمنع من فعلٍ مباح للتذرُّع به إلى المنهي عنه)، وإنما هو حديث عن منهج الشارع في تشريع الأحكام من حيث علاقتها بما تفضي إليه من المفاسد؛ فما يفضي دائما أو غالبا إلى المفاسد نهى عنه الشارع الحكيم، وما لا يفضي إلى المفاسد أو يفضي نادرا تركه على الإباحة، وقد يكون الفعل منهيا عنه في حال دون حال حسب أحوال الإفضاء إلى المفسدة.


والمسائل التي عدَّها القرافي من الذرائع المتفق على منعها، ليس الاتفاق عليها بسبب القول بمبدأ سدّ الذرائع، وإنما لكونها منصوص على تحريمها، فالاتفاق على المنع منها بسبب الدليل الشرعي الوارد فيها، وليس بسبب إعمال قاعدة سدّ الذرائع من طرف المجتهدين.


فالنهي عن سبِّ آلهة المشركين منصوص عليه في القرآن الكريم. وما ذكره من عدم جواز حفر البئر في طريق عام ليس من سد الذرائع، فلا يجوز أصلا للشخص حفر بئر في الطريق؛ لأن الطريق العام حق لجماعة المسلمين، وحفر بئر أو إحداث فيه ما يؤذي الناس حرام أصلا بغض النظر عن العلم أو الظن بوقوع أحد من الناس فيه، وبغض النظر عن تحقُّق ذلك الوقوع أو عدم تحقُّقه. ولا يُشترط في المنع من ذلك العلم بوقوع الناس فيه أو ظن ذلك، بل هو أمر ممنوع أصلا.


وكذلك إلقاء السُّمّ في الماء الذي يشرت منه الناس، أو الطعام الذي يأكلون منه، ليس من باب سد الذرائع؛ لأنه لا يجوز أصلا للشخص فعل هذا، وفعلُه من الفساد في الأرض الذي حرمه الله عز وجل. ولا يشترط في المنع من ذلك العلم باستعمال الناس لتلك الأطعمة والأشربة، أو ظن ذلك، بل هو أمرٌ ممنوع أصلا.


وليس من باب سَدّ الذرائع ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ."[6] لأن سَبَّ الناس ولعنهم مُحرَّم شرعا سواء أدى إلى الردّ بسبِّ والدي الجاني ولعنهما أم لم يؤدِّ إلى ذلك. وإنما عُدَّ هذا من أكبر الكبائر لما فيه من جُرم مضاعَف: سبُّ والدي الآخرين والتسبُّب في الرد بسبِّ والديه ولعنهما.


رأي المالكية في سَدّ الذرائع
اشتهر المالكية بالقول بسد الذرائع، وأشهر موضوع يقولون فيه بسد الذرائع هو منع بيوع الآجال التي يتذرع بها الناس -عادة- إلى الربا.
استدل المالكية على مشرعية العمل بسدّ الذرائع بنوعين من الأدلة: أولها: القياس على بعض النصوص الشرعية التي وردت بتحريم بعض الذرائع، والثاني: النصوص الشرعية التي تدعو إلى اجتناب الشبهات وما فيه ريبة.


أما النصوص الشرعية التي وردت بتحريم بعض الذرائع، فأهمها:

1- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104). قال الباجي: "وجه الدليل من الآية أنه -تعالى- نهى المؤمنين عن أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" لأن أهل الكفر كانوا إذا خاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أرادوا به سَبَّهُ، فمنع المؤمنين أن يخاطبوه بهذا اللفظ، وإن كان لا يصح أن يريد به مؤمن شيئا من ذلك. وهذا معنى الذريعة، وهو العقد الذي يريد الفاجر أن يتوصل به إلى الربا فيُمْنَعُ من ذلك الصالح، وإن كان لا يريد به ذلك."[7]

2- قوله تعالى:
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة: 163)، ذلك أنهم تذرعوا إلى صيدها بالحظر عليها يوم السبت بما يمنع رجوعها، ثم يتصيدونها يوم الأحد، فعاقبهم الله عز وجل على ذلك.[8]

3- قوله تعالى:
(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108).

4- قوله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا، فَبَاعُوهَا."[9] قال الباجي: "فلما باعوها وأكلوا أثمانها كان ذلك بمنزلة أكلها. وكذلك من باع عشرة دراهم بدينار ابتاعه من مبتاعه بعشرين درهما كمن باع عشرة دراهم بعشرين درهما."[10]


أما النصوص التي تدعو إلى اجتناب الشبهات وما فيه ريبة، فأهمها:

1- قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ."[11] قال الباجي: "وهذا نهي عن ترك ما يريب، وليس في الريبة أعظم مما ذكرناه".[12]

2- قوله صلى الله عليه وسلم: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ."[13] قال الباجي: "لا خلاف بين المسلمين أنه يجب على الإنسان أن يفعل ما هو أبرأ لدينه."[14] وقال تعقيبا على مَثَل الحِمَى: "وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يترك ما يضارع الحرام ويتوصل به إليه."[15]


وأبرز مسألة قال فيها المالكية بسدّ الذرائع هي المنع من بيوع الآجال التي يتذرع بها الناس عادة إلى الربا. وقد اختلف علماؤهم في سبب المنع: فذهب بعضهم إلى أن سبب ذلك هو كونها أكثر معاملات أهل الربا. وعلى هذا الرأي، يكون الحكم تبعا لعادة الشخص، فمن عُلِم من عادته استعمال تلك العقود للتحيُّل على الربا، حُمِل عقده على ذلك وفُسِخ. ومن لم يُعْهَد عليه ذلك، أُمضي عقده. وذهب بعضهم إلى أن السبب هو سدّ ذرائع الربا، وعلى ذلك يُمنع الكل، بغض النظر عن القصد إلى الربا أو عدم القصد إليه.[16] وذكر ابن عاشور أن سبب اعتداد مالك بالتهمة فيها هو أن قصد الناس إلى فعلها أفضى إلى شيوعها وانتشارها، فحصلت بها المفسدة التي لأجلها حُرِّم الربا، فسبب اعتداد مالك بالتُّهمة فيها هو شيوعها حتى صار الناس يتحيَّلون بها على ما مُنِع عليهم، فلا يكون معيار المنع هو قصد الشخص، وإنما هو شيوع التذرُّع بها إلى المحظور.[17]


رأي ابن حزم في سدّ الذرائع
يرفض ابن حزم تحريم شيء بالظن أو بالشبهة أو الاحتياط، ويرى أن الحرام هو ما حرمه الشرع صراحة، وما لم يحرمه الشرع صراحة فهو على الإباحة. كما يرى أن اجتناب الشبهات والتزام الورع مُرَغَّب فيهما، ولكنهما غير واجبين، ولا يجوز لأحد أن يلزم الناس بهما. وفي ذلك يقول: "ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيُحَرِّم ما لم يُحرِّم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفتريا في الدين، والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض. فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى، ونص على اسمه وصفته بتحريمه. وفَرْضٌ علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا، إلا ما نص على تحريمه، وألا نزيد في الدين شيئا لم يأذن به الله تعالى، فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأتى بأعظم الكبائر."[18]

ويقول: "فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره، أو بشيء خَوْفَ ذريعةٍ إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنُّب للحق."[19]


ويمكن تلخيص الأسس التي أقام عليه ابن حزم مذهبه في الآتي:

1- الأصل في ما خلق الله تعالى أنه حلال، بدليل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29)، ولا يحرم منه إلا ما نص الشارع على تحريمه، بدليل قوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (الأنعام: 119). وبناء على ذلك فإن تحريم ما لم ينص الشارع على تحريمه هو من باب الافتراء على الله، بدليل قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) (النحل: 116) ويبطل بهذه النصوص أن يُحرِّم أحدٌ شيئا باحتياط أو خوف تذرُّع.[20]

2- القاعدة أن "ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبطل الحكم باحتياط."[21] ويستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من توهَّم أنه أحدث في الصلاة أن لا يلتفت إلى ذلك وأن يتمادى في صلاته، إلا إذا سمع صوتا أو وجد ريحا.[22]


3- المشبهات ليست داخلة في دائرة الحرام، ولا يجوز تحريمها وإلزام الناس بتركها. فقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" يُسْتَفَاد من ألفاظ رواياته المتعددة أن "هذا حَضٌّ منه صلى الله عليه وسلم على الورع، ونَصٌّ جليٌّ على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فُصِّل من الحرام، فهي على حكم الحلال."[23]


ويقول عن اجتناب المشتبهات: "هذا إنما هو مُسْتَحَبٌّ للمرء، خاصة فيما أشكل عليه، وأنَّ حُكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك."[24] ويقول: "ومن حَرَّم المشتبه، وأفتى بذلك، وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى."[25] ويقول عن الذين يقولون بسدّ الذرائع: "ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم -ولعله لا يقع فيه- قد أوقعهم يقينا في مواقعتهم يقين الحرام، لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ومُحرِّمُ الحلال كمُحَلِّل الحرام ولا فرق."[26]


4- يفسر ابن حزم حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس" بأن ذلك حّضٌّ على الورع لا إيجابا للترك.[27]

ويلخص ابن حزم موقفه من الشبهات بقوله: "فنحن نحضُّ الناس على الورع كما حضَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ونَدَبَهُم إليه، ونشير عليهم باجتناب ما حاك عليهم في النفس، ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام، كما لم يقض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد."[28]

5- يرد ابن حزم الاستدلال بقوله تعالى: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) بأن علة النهي لم ينص عليها القرآن الكريم ولا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قول الصحابي ولا حجة في قول الصحابي، ولزم الوقوف على ظاهر النص دون بحث عن العلة.[29]

رأي الشافعي في سدّ الذرائع
ذهب الإمام الشافعي إلى رفض القول بسد الذرائع، واحتج على ذلك بكون الأحكام في الإسلام تُبْنَى على الظاهر فقط، حيث يقول: "الأحكام على الظاهر والله ولي المغيَّب. ومن حكم على الناس بالإزْكَان ]أي الظن[ جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسولُه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيَّب؛ لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه، وكلَّف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة، كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم."[30]

واستدل على هذا المبدأ بأدلة، أهمها ما يأتي:

1- أن الله تعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بحقيقة المنافقين، وأنهم إنما يُعلنون أيمانهم ليكون ذلك مانعا من قتلهم (سورة المنافقين: 1-2). ولكن مع كفرهم واتخاذهم إعلان الإيمان جُنَّة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّهم يتناكحون ويتوارثون، ويُسْهم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم بأحكام المسلمين.[31]

2- قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ."[32] يقول الشافعي: "فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله على الباطن، وأن قضاءه لا يُحِلُّ للمقضي له ما حرَّم الله تعالى عليه إذا علمه حراما."[33]

3- قوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّهَا النَّاسُ قد آن لكم أن تَنْتَهُوا عن مَحَارِمِ الله تعالى. مَنْ أصَابَ مِنْكُم مِنْ هذه القاذورات شيئا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ الله، فإنَّه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله."[34] فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدون من أنفسهم، وأنهم إذا أبدوا ما فيه الحقُّ عليهم أُخِذُوا بذلك.[35]

4- قصة الملاعنة بين هلال بن أمية وزوجته، عندما اتهمها بالزنا مع شريك بن سحماء، وأنها حملت من ذلك الزنا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ"، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ." [36] يقول الشافعي: "ولم يستعمل عليهما الدلالة البيِّنة التي لا تكون دلالة أَبْيَن منها، وذلك خبرُهُ أن يكون الولد، ثم جاء الولد على ما قال."[37]

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإن ذلك يدل على بطلان ما هو أضعف منها من الذرائع؛ لأن إبطال الأقوى يدل على بطلان ما هو أضعف منه.[38]

5- روى الشافعي أن رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طلق امرأته سُهَيْمَةَ الْمُزَنِيَّةَ الْبَتَّةَ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، وَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ: «وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟» فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[39]

والملاحظ أن الشافعي قد فَسَّر الظاهر في هذه الواقعة بالمعنى المتيقَّن، فجعل إيقاع الطلاق ظاهرا، أي متيَقَّنا، وجعل لفظ البتة محتملا، غير متيقَّن في كونه ثلاثا، ولذلك قُبِلَ فيه قول صاحبه بأنه إنما قصد الطلاق مرة واحدة. وفي ذلك يقول: "والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته: أنت طالق البتة أنه يعقل أنه قد أوقع الطلاق بقوله: طالق، وأن البتة إرادة شيء غير الأول؛ أنه أراد الإبتات بثلاث، ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بظاهر الطلاق وذلك واحدة."[40] ويقول: "ويبطل مثله من قول الرجل لامرأته "أنت طالق البتة"؛ لأن "طالق" إيقاع طلاق ظاهر، و"البتة" تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة، فعليه الظاهر. والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، حتى لا يُحكَم عليه أبدا إلا بظاهر، ويُجعل القول قولُه في غير الظاهر."[41]

عند النظر في ما ذكره الشافعي من أدلة نلاحظ أن الأدلة الأربعة الأولى ظاهرة في الحكم بالظاهر، وليست محلّ خلاف، أما الدليل الخامس -قصة ركانة- فهو دليل على اعتبار القصد في الحكم وعدم الاكتفاء بالظاهر؛ لأن الظاهر يدل على الطلاق الثلاث، والدليل على ذلك أن ركانة نفسه كان يُدرك ذلك، ولذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتج أن قصده خلاف ظاهر لفظه، فظاهر اللفظ الطلاق البات، ولكنه قصد واحدة فقط، وبعد أن استوثق النبي صلى الله عليه وسلم من قصده، جعل الطلاق رجعيا ورد عليه زوجته، وهذا دليل على الحكم بالقصد لا بظاهر اللفظ.


وبناء على قاعدة الحكم بالظاهر التي دلت عليها النصوص الشرعية، يرفض الشافعي الحكم على الناس بالظن، كما يرفض إبطال العقود بالقصد الفاسد، ويرى أن العقود لا يُبْطِلُها إلا ما ورد النص عليه في لفظها. يقول بعد ذكر الأدلة السابقة: "كلها تُبطل حكم الإزكان
]الظن[ من الذرائع في البيوع وغيرها من حكم الإزكان، فأعظم ما فيما وصفتُ من الحكم بالإزكان خلاف ما أمر الله عز وجل به أن يُحْكَمَ بين عباده من الظاهر، وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم".[42]

ويقول: "وهذا يدل على أنه لا يفسد عقدٌ أبدا إلا بالعقد نفسه. لا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهُّم ولا بالأغلب. وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن يقول: هذه ذريعة، وهذه نيَّةُ سوء. ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يُقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، كان أن يكون اليقين في البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يُردَّ به من الظن. ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان الشراء حلالا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع. قال: وكذلك لو باع البائع سيفا من رجل يراه أنه يقتل به رجلا كان هكذا... فإذا دلّ الكتاب، ثم السُّنة، ثم عامة حُكم الإسلام على أن العقود إنما تثبتُ بظاهرِ عقدِها، لا يُفسِدُها نيّة العاقدين، كانت العقود إذا عُقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهُّم غير عاقدها على عاقدها، ثم سيَّما إذا كان توهُّما ضعيفا."[43]




المطلب الثالث: المعيار الضابط للعمل بسد الذرائع

بعد النظر في مفهوم سدّ الذرائع، وفي أدلة القائلين بها والمانعين منها، تبيَّن لي أن المعيار الضابط للمسألة هو النظر إليها من خلال ثلاث مقامات: مقام الإرشاد، ومقام الحكم والقضاء، ومقام السياسة الشرعية.


أولا: مقام الإرشاد
هذا المقام هو مقام تعليم الناس أحكام الدين، وإرشادهم إلى طريق الخير والصلاح، وتنفيرهم من طريق الشر والفساد، وتعليمهم محاسن الأخلاق ومعالي الأمور وطريق التقوى. وهو يشمل: تعليم الناس الحلال البيِّن والحرام البيِّن، وبيان مقاطع الحقوق، وتعليمهم طريق الورع واتقاء الشبهات، وتعليمهم تحمُّل مسؤولية تصرفاتهم؛ كما يشمل تنمية الوازع الداخلي في نفوس الناس طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ."[44] ويشمل هذا المقام الفتوى التي تكون توجيها للناس وإرشادا، والأصل في الفتوى عدم الإلزام، ولا تصير لازمة إلا إذا تحوَّلت إلى حكم قضائي أو قانون تسُنُّه الدولة.

ومما لا شك فيه أنه في هذا المقام ينبغي على العالم أن يرشد الناس إلى طريق الخير والتقوى والصلاح، ويأمرهم بفعل الواجبات واجتناب المحرمات، ويرغبهم في تجنُّب الشبهات وذرائع الفساد طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ."[45] وبناء على ذلك فلا ينبغي لمسلم أن يُفتي غيره بالشبهات ويرشدهم إلى الوقوع فيها، ولا يجوز لعالم -بدعوى التيسير وإيجاد المخارج- أن يشير على الناس بالاحتيال على الأحكام الشرعية، ولا أن يعلمهم طرق ذلك الاحتيال، مثل التذرع إلى الربا بعقود ومعاملات صورية، وإرجاع المطلقة البائن بنكاح التحليل، وإسقاط الكفارات والواجبات بالاحتيال عليها؛ لأن ذلك إفساد لدين الناس وأخلاقهم.


ثانيا: مقام الحكم والقضاء
من المعلوم أن القاضي لا يعلم الغيب ولا يدرك حقائق الأمور، وإنما يقضي بناء على الأدلة الظاهرة التي يقدمها الخصوم. وخطأ القاضي في الحكم لا يُحِلُّ حراما، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا."[46]

والقاعدة في الإسلام أن الحكم يكون على الظواهر، أما السرائر فهي موكولة إلى ضمائر أصحابها، والله تعالى يتولى أمرها يوم القيامة، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ."[47]
وفي قصة الملاعنة -التي سبق ذكرها- لم يعاقب الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من أطرافها؛ لأن الزوج أقسم على صدقه في الاتهام، والزوجة أقسمت على كذب الزوج في اتهامه إياها، والمتَّهم بالزنا بالمرأة أنكر، ولم يوجد شهود عليه. وقال صلى الله عليه وسلم بعد التفريق بينهما: "انْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ، فَلاَ أُرَاهُ إِلَّا قَدْ كَذَبَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلاَ أَحْسِبُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا"، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَمْرِ الـمَكْرُوهِ."[48] وبظهور تلك العلامة ظهر كذب المرأة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُغيِّر الحكم، ولم يُعاقبها، لأن الله عز وجل قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (النور: 8)، فاكتفى في إسقاط العقاب بالإتيان بالشهادة كاملة، بغض النظر عن الصدق والكذب في تلك الشهادة.

ضرورة التفريق بين مقام الإرشاد وبين مقام القضاء
في نصوص الشرع أدلة كثيرة تدل على التفريق بين مقام الإرشاد والفتوى وبين مقام الحكم والقضاء، من أبرزها: قصة ابن وليدة زمعة، حيث حكم النبي صلى الله عليه وسلم قضاءً بالبيِّنة الظاهرة، ولكن لما وُجِدَت أمارات على أن الحكم القضائي يخالف الواقع، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل بما يوافق ذلك الواقع. والقصة كالآتي: أخرج مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي. فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي. وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. ابْنُ أَخِي. قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي. وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي. وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: "احْتَجِبِي مِنْهُ"، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَتْ: فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ."[49]

فالرسول صلى الله عليه وسلم حكم بالولد لمن وُلد على فراشه، لأن تلك بيِّنة ظاهرة على أن الولد له، ولكنه لما رأى أن الولد يُشبه المدعي، أرشد المرأة -التي هي تعتبر قضاء أختا لذلك الولد- بأن تعامله معاملة الأجنبي وتحتجب عنه. فالقضاء هنا كان بالظاهر، والفتوى والإرشاد كانتا بناء على ما بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه حقيقة الأمر.


كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ..." دليل صريح على التفريق بين مقام الحكم والقضاء وبين مقام الفتوى والإرشاد؛ فقد يحكم القضاء بحكم مخالف للواقع بناء على ما يُعْرَض عليه من البيِّنات والحجج، ولكن الفتوى تكون بوجوب عمل طرفي النزاع بما هو موافق لحقيقة الأمر، حتى لو كان ذلك مخالفا للحكم القضائي؛ لأن الحكم بالظاهر لا يُحِلُّ حراما ولا يُحَرِّمُ حلالا.


ثالثا: مقام السياسة الشرعية
المراد به أن تتخذ السلطة الحاكمة قرارا بمنع بعض التصرفات والمعاملات التي ظاهرها الجواز حفظا للمصالح الخاصة والعامة. ويكون ذلك عندما يظهر استعمال الناس تلك التصرفات والمعاملات للتوصل إلى فعل المحظور، أو يحصل بسبب فعلها ضرر بجماعة المسلمين أو بآحادهم.

وهذا التصرف من السلطة الحاكمة لا يدخل في باب التحريم، وإنما هو من باب حق السلطة الحاكمة في تقييد التصرف المباح، ومنع التعسف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، ومنع التحايل على الأحكام الشرعية.


ولتقييد المباح ومنع التعسُّف في استعمال الحق سوابق في فعل الخلفاء الراشدين. ومن ذلك ما فعله عمر بن الخطاب في الزواج من الكتابيات؛ فالقرآن أباح الزواج من محصنات أهل الكتاب، ولكن لما خشي عمر بن الخطاب من سوء استخدام ذلك المباح، وما ينتج عنه من تعنيسٍ وفتنةٍ للمؤمنات، وخطر على أسرار الدولة وخططها إذا تزوج القادة من الكتابيات، نهى عن ذلك الزواج دون تحريم له. ففي السنن الكبرى للبيهقي أنه لما
تزوج حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يهودية، كتب إليه عمر أن يفارقها، فقال: إني أخشى أن تَدَعُوا المسلمات وتنكحوا المومسات. وفي رواية أخرى: أن حذيفة كتب إليه: أَحَرَامٌ هي؟ فقال عمر: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن."[50]

فعمر بن الخطاب نهى عن الزواج بالكتابيات للأسباب التي ذكرها، ولكنه لم يدَّع أنه يُحرِّم ذلك الزواج، بل يبقى حكم الإباحة جاريا عند تحقُّق مناطه بوجود حاجة ملجئة، أو وجود مصلحة راجحة في ذلك الزواج.


ومنها امتناع عمر بن الخطاب عن تقسيم الأراضي المفتوحة في العراق والشام على المجاهدين، على اعتبار أنه كان يرى أن تقسيم الأرض بين الفاتحين من باب المباح لا من باب الواجب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أحيانا كما هو في خيبر، وامتنع عن ذلك أحيانا أخرى كما في فتح مكة.[51]


ومن ذلك فسخ النكاح الذي يتم في العدة ومنعهما من الزواج أبدا إذا كان قد دخل بها، زجرا عن انتهاك حرمات الله تعالى. ففي موطأ مالك "أَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، فَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا؛ فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا. فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ. ثُمَّ كَانَ الْآخَرُ خَاطِباً مِنَ الْخُطَّابِ. وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الْآخَرِ، ثُمَّ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَداً."[52]


ومن ذلك حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوريث المطلقة ثلاثا في مرض الموت. ففي موطأ مالك "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بن عَفَّانَ مِنْهُ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا."[53] فالطلاق مباح للزوج في كل وقت، ومنه وقت المرض، ولكن عثمان قيَّد آثار الطلاق الواقع في مرض الموت، ولم يرتب عليه المنع من الميراث؛ لأن الطلاق في هذا الوقت مظنة التعسُّف لمنع الزوجة من حقها في الميراث.


وحق السلطة الحاكمة في تقييد المباح وتنظيم الأمور بما يدفع الضرر عن الأفراد والجماعات أصبح من المسلَّمات في الدولة المعاصرة، وهو من وظائفها الأساسية.




المطلب الرابع: مناقشة أصحاب المذاهب في سدّ الذرائع

بعد عرض الأقوال المختلفة في قاعدة سد الذرائع، وبيان المعيار الضابط الذي ينبغي اعتماده في العمل بهذه القاعدة، نعود إلى مناقشة تلك الأقوال وما استدل به أصحابها لتوجيهه في ضوء المعيار الضابط الذي ذكرناه.


أولا: مناقشة رأي الشافعي
الواقع أن ما ذكره الإمام الشافعي من الأدلة لا يرتبط بمقامي الإرشاد والسياسة الشرعية، بل يرتبط كله بمقام الحكم والقضاء، وينبغي حمله على ذلك.
ففي مثال المنافقين، نجد القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم يحذران باستمرار من النفاق، ويقرعان أصحابه، ويتوعدانهم بأشد العذاب، ولكن الحكم عليهم في الدنيا يجري على ما يظهرونه، لا على ما يبطنونه. وهكذا العالم، يجب أن يحذر الناس من التذرع بما ظاهره الإباحة لارتكاب المحرمات، ويرشدهم إلى تجنُّب الاحتيال على الأحكام الشرعية وهدم مقاصدها، فإذا جاء مقام الحكم والقضاء، حكم على الناس بما هو ظاهر، وأوكل الحكم على الباطن إلى الله تعالى.


وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" الأمر في غاية الوضوح بأن الالتزام بالظاهر من الحجج والشواهد إنما هو في جانب الحكم القضائي، ولكن هذا الحكم القضائي لا يُحِلُّ حراما. وقد قال الشافعي نفسه في التعليق على هذا الحديث: "فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله على الباطن، وأن قضاءَهُ لا يُحِلُّ للمقضيّ له ما حرَّم اللهُ تعالى عليه إذا عَلِمَهُ حراما." فالمكلَّف يجب عليه أن يتبع حقائق الأمور وينظر إلى قصده وما في نفسه، وليحذر من الوقوع في الحرام الذي يقوده إلى عذاب النار، ولا يَغُرُّه جهل الناس بحقيقة فعله وسوء قصده، فحتى لو بَرَّأَهُ الناس وحكموا له بالاستحقاق والصحة، فإن ذلك لا ينفعه ولا يحل له الحرام. وهكذا العالم، يجب أن يدعو الناس إلى حسن القصد وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ولا يقول لهم إن أفعالكم صحيحة مادام الظاهر الذي تبدونه مستوفيا للشروط. فإذا جاء الأمر إلى الحكم والقضاء قضى بينهم بالظاهر من الحجج والبراهين.


وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّهَا النَّاسُ قد آن لكم أن تَنْتَهُوا عن مَحَارِمِ الله تعالى. مَنْ أصَابَ مِنْكُم مِنْ هذه القاذورات شيئا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ الله، فإنَّه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله"، بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن إقامة العقوبات الحدية على مرتكبي الجرائم المتعلقة بحقوق الله تعالى إنما تكون على من جاهر بذلك، أما من أخفى ذلك ولم يجاهر به فالأصل فيه الحفاظ على الستر، وترك أمره إلى الله تعالى، لعله يتوب فيتوب الله عليه. ولكن النبي صلى الله بدأ أولا بتحذير الناس من المحرمات وأمرهم باجتنابها، قبل أن يبيَّن مبدأ الستر والحكم بالظاهر. وهكذا العالم، ينبغي أن يرشد الناس إلى تجنب مخالفة الأحكام الشرعية في السِّرِّ والعلن، فإذا جاء الأمر إلى الحكم والقضاء، قضى بالظاهر. ولا يمكن لأحد أن يكتفي بالقول: لا يهمّ قصدُكم ولا ما تُسِرُّون من السُّوء والاحتيال على الأحكام الشرعية، ولكن المهم أن ظواهر تصرفاتكم لا تكون مخالفة للشروط الشرعية.


وفي قصة الملاعنة، نجد النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بوعظ الزوجين ودعوتها إلى الحق، فقال: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ". وتم إيقاف الزوجة بعد الرابعة وتحذيرها من أن الخامسة ملزمة (فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ)، أي موجبة لما وصف الله تعالى من الغضب. ولكن بعد استكمال إجراءات الملاعنة سقطت العقوبة عن الطرفين. وعلى الرغم من ظهور قرينة تدل على كذب المرأة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل تلك القرينة موجبة للعقوبة؛ لأن القرآن نص على أن استكمال إجراءت الملاعنة يدفع عن أطرافها العقوبة الدنيوية.


وهكذا العالم، يقول إن عدم توفُّر شروط إقامة العقوبة يُسقطها، وأن الحدود تُدْرَأُ بالشبهات، ولكنه لا يقول للناس لا يهم أن ترتكبوا المحرمات، وإنما المهم أن تخفوها، وتَحُفُّوها بالشبهات، وتطمسوا الدلائل عليها! ولكن يفتيهم بوجوب ترك المحرمات ويرشدهم إلى السلوك الحسن، فإن وقع اتهام شخص بجريمة، فإنه لا يُقضَى عليه بالعقوبة إلا إذا وُجِدت الدلائل الظاهرة على ذلك.


الخلاصة أنه مع مراعاة القضاء بالظواهر، وإهمال الأمور الباطنة التي لا تدل عليها قرائن ظاهرة، إلا أنه ينبغي أن يُبيَّن للناس أن حكم القضاء بالظاهر لا يعني إعفائهم من المسؤولية الدينية والخلقية عن قصودهم السيئة واحتيالهم على الوقوع في المحظورات. فإذا طلق رجل زوجته بلفظ كناية وقصد الطلاق، صارت زوجته طالقا. فإذا زعم عند القاضي أنه لم يقصد الطلاق، وحَكَم القاضي بعدم وقوع الطلاق، فإن حُكم القاضي لا يلغي آثار الطلاق ولا يُحلّ له الحرام. وإذا وقع الاتفاق على نكاح التحليل سِرًّا دون التصريح بذلك في صيغة العقد، وحكم القاضي بصحة النكاح، فإن ذلك لا يُعفي الطرفين من الدخول في ما روي عن علي أنه قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ."[54]


ثانيا: مناقشة رأي المالكية
ما ذهب إليه المالكية في سدّ الذرائع ينبغي أن يُحمل على مقام الإرشاد ومقام السياسة الشرعية، وليس على مقام الحكم والقضاء.
في مقام الفتوى والإرشاد، يُقال للناس: إن التذرُّع بأمر ظاهره الإباحة للوصول إلى ما هو محظور شرعا تصرُّفٌ باطل، والتذرُّع ببيوع الآجال للتوصل إلى الربا محرَّم وباطل. والبطلان هنا بمعناه الشرعي لا القضائي، أي بمعنى أن الفعل منهيٌّ عنه شرعا ويأثم صاحبه، أما البطلان بمعناه القضائي بأن يُحكم بفسخ العقد وعدم ترتب آثاره عليه فهذا شيء آخر، يُنْظَر فيه إلى شكليات العقد وحيثياته.


والتفريق بين الصحة والبطلان قضاءً وبين الصحة والبطلان شرعا ثابت في الشرع، ففي آيات اللعان -مثلا- نجد هذا التفريق ظاهرا، حيث نص القرآن الكريم على أن دعوى الزوج الذي يقذف زوجته بالزنا صحيحة قضاءً إذا شهد خمس شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ولكنه إن كان في حقيقة الأمر كاذبا فدعواه باطلة وهو من الملعونين، وفي اللعن غاية الدلالة على البطلان شرعا وترتُّب العقوبة الشرعية، وإن كانت العقوبة القضائية قد سقطت. وكذلك الزوجة، إنكارها صحيح قضاءً إذا شهدت خمس شهادات بالله أن زوجها كاذب، ولكنها إن كانت كاذبة في حقيقة الأمر فإنكارها باطل شرعا، وعليها غضب الله تعالى، وبذلك تستحق العقوبة الشرعية، وإن كانت العقوبة القضائية قد سقطت عنها.


كما أن من المبادئ الثابتة شرعا أن كلَّ شخص يُعامَلُ بقصده، ولا يؤثِّرُ القصدُ السيِّءُ لبعض الناس -مهما كثُرَ عددهم- في تصرُّف من كان قصدُه حسنا إذا أتى بالتصرُّف على الوجه المقبول شرعا.


وفي مقام السياسة الشرعية يكون المعيار الذي ذكره المالكية -من كَثْرَة القصد إلى المحظور وندرته- مناسبا لصدور قرار (قانون) من السلطة الحاكمة بمنع التصرفات التي ينتشر بين الناس التحيُّل بها على المحرمات، وإن كانت تلك التصرفات في أصلها مباحة. ويكون المنع منها بناء على ما تفضي إليه من مفاسد شرعية وانتهاك لحقوق الناس. والمنع هنا لا يعني بالضرورة التحريم الشرعي؛ لأن التحريم من حقّ الشارع الحكيم، ولكن يكون من باب تقييد المباح الذي يُستعمل للتوصل إلى المفاسد، أو من باب منع التعسف في استعمال الحق للإضرار بالآخرين، أو من باب المنع من الشبهات التي تؤدي إلى إفساد أخلاق الناس والتجرؤ على حدود الله تعالى.


أما في مقام الحكم والقضاء، فإن الحكم يكون على أساس الحُجَجِ والبيِّنات الظاهرة، وليس على أساس الظنّ والتُّهمة والاحتياط. فإذا صدر قرار من السلطة الحاكمة (قانون) بمنع بعض التصرفات لما تؤول إليه من فساد في المجتمع، جاز صدور الحكم القضائي بإبطالها لمخالفتها القانون المعمول به، بناء على ما سبق ذكره من حقّ السلطة الحاكمة في تقييد المباح، ومنع التعسُّف في استعمال الحق، وتدبير شؤون الجماعة المسلمة بما يدفع عنها الفساد في أمور الدين والدنيا.


ثالثا: مناقشة رأي ابن حزم
قول ابن حزم: "فنحن نحضُّ الناس على الورع كما حضَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ونَدَبَهُم إليه، ونشير عليهم باجتناب ما حاك عليهم في النفس، ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام، كما لم يقض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد."[55] كلام سليم، وهو يوافق ما ذكرنا من أن مقام التوجيه والإرشاد يقتضي إرشاد الناس إلى اجتناب ذرائع الفساد ومواطن الشبهات، وحتى إذا صدرت من شخص فتوى فيما يتعلق بسدّ الذرائع فالأصل فيها الإرشاد لا الإلزام. كما أن القضاء يكون بالحجج والبيّنات الظاهرة، ولا يكون بالتهمة والشكّ والاحتياط.

قول ابن حزم: "ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيُحَرِّم ما لم يُحرِّم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفتريا في الدين، والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض. فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى، ونص على اسمه وصفته بتحريمه. وفَرْضٌ علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا، إلا ما نص على تحريمه."[56]


هذا الكلام -من حيث المبدأ- محلُّ اتفاق؛ لأن التحليل والتحريم من حق الشارع الحكيم وحده. ولكن قد يقع الاختلاف في التطبيق؛ ففي قوله: "ونص على اسمه وصفته بتحريمه" نجد أن ما نص الشاع على تحريمه بـ"اسمه" يكون محلَّ اتفاق، أما ما نص الشارع على تحريمه بـ"صفته"، فإن تحقيق تلك الصفة في الواقع قد يكون محلّ اختلاف بين العلماء، وهنا يدخل مجال دلالة الألفاظ وفيها كثير من الخلاف، كما يدخل القياس وهو محلّ اختلاف بين الظاهرية والجمهور. ومما لا شكّ فيه أنه يجب الاحتياط في إطلاق التحريم على ما لم يرد في الشرع دليل ظاهر على تحريمه، وهو منهج علماء السلف، كما أشار إليه ابن وهب في قوله: "سمعت مالك بن أنس يقول: أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل: أكره هذا ولا أحبُّه، ولا يقول حلال وحرام."[57] ولكن لا ينبغي المجازفة بالمسارعة إلى اتهام من يُحرِّم شيئا بناء على القياس وما يعتقد أن الشارع حرمه بوصفه بأنه يحكم بالكذب والباطل ويفتري على الله تعالى، فهذه مجازفة خطيرة لا تصدر عن الراسخين في العلم.


قول ابن حزم: "... وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فُصِّل من الحرام، فهي على حكم الحلال."[58] هذه الدعوى قد تُقلب عليه بالقول: "المشبهات ليست بيقين من الحلال، وإذا لم تكن من الحلال بيقين، فهي على حكم الحرام". ولا شك دعوى ابن حزم والدعوى المضادة كلاهما غير دقيق.


صحيح أن المشبَّهات ليست من الحرام البيِّن، ولكنها أيضا ليست من الحلال البيِّن، وقد جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بين مرتبتي الحلال البيِّن والحرام البيِّن، بمعنى أنها يُحتمل أن تكون من الحلال، ويُحتمل أن تكون من الحرام. وليس الكلام هنا عمَّن استبان له الأمر بكونها حلالا أو حراما، فهذا لا كلام عليه؛ لأنه يتبع ما استبان له، ولا يبقى في دائرة المتشابهات. إنما الكلام عمّن اشتبهت عليه، ولم يَدْرِ أحلال هي أم حرام؟ فما حكمه؟


ظاهر الحديث أن من اشتبهت عليه لا يمكنه الجزم بتحريمها، كما لا يمكنه الجزم بتحليلها، ولذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بترجيح تركها على إتيانها، وهو دليل على خطأ قول ابن حزم: "إنها على حكم الحلال"؛ لأن القول بكونها من الحلال يعني الجزم بجواز فعلها، وهو خلاف ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم. وادعاء ابن حزم أن المشبَّهات باقية على الإباحة ترجيح من غير مرجِّح؛ لأن الحديث جعلها بين المرتبتين، وهذا يعني أنها يُحتمل أن تكون من الحرام، ويُحتمل أن تكون من المباح، ولا معنى لكونها متشابهة إلا هذا الاحتمال. ومن استبان له حكمُها اتبع ما تبيَّن له، ومن اشتبه عليه حكمُها أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم باجتنابها؛ لأنه إن فعلها وكانت في حقيقتها من الحرام، كان مواقعا للحرام، أما إذا تركها: فإن كانت من الحرام فقد فاز باجتناب الحرام، وإن كانت من المباح فلم يخسر شيئا سوى فوات متاع من متاع الدنيا يمكن تعويضه فيما بعد.


أما مسألة الظن التي يكثر ابن حزم الحديث عنها،[59] فهي لا تخلو من التحكم والمغالطة، فهو من جهة، يصف رأيه واجتهاده -دوما- بأنه اليقين والحق الذي لا يجوز غيره، ويتهم الآراء المخالفة له بالفساد والظن المذموم. انظر مثلا إلى قوله: "ومن حَرَّم المشتبه، وأفتى بذلك، وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى."[60] انظر كيف يجزم أن من حرَّم شيئا بناء على سدِّ الذرائع قد زاد في الدين، مع أن المسألة ظنية وقابلة للاجتهاد والاختلاف!


وانظر إلى قوله: "ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم -ولعله لا يقع فيه- قد أوقعهم يقينا في مواقعتهم يقين الحرام، لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ومُحرِّمُ الحلال كمُحَلِّل الحرام ولا فرق."[61] انظر كيف يصف رأيه باليقين، وكيف يدعي أن القائلين بسد الذرائع -دون تحفظ أو استثناء- قد وقعوا في عين الحرام يقينا بتحريم ما أحلّ الله تعالى، مع أن المسألة ظنية وأن أدلة القائلين بسد الدرائع في بعض المسائل في غاية القوة!


ومن جهة أخرى، يقتطع الآيات التي تذُمُّ الظنّ وأهلَه عن سياقها، ويُحمِّلها التهمة التي يريدها لمخالفيه. ومن البديهي أن الظن أنواع ومراتب: منه ما هو مذموم باتفاق، ومنه ما لا مندوحة من قبوله لعدم إمكان تحقيق اليقين في موضعه، وبينهما مراتب وأنواع قد تكون محلّ اتفاق وقد تكون اختلاف حسب قربها أو بعدها من أحد الطرفين. ولا خلاف بين المسلمين في مشروعية الاجتهاد، وهو في مُجمله قائم على الظن، وإذا ادعى أحدٌ أن اجتهاداته كلها قطعيَّة فهو لا يعدو أن يكون مُكابرا لا يستحق الحديث معه في هذا الموضوع. ومشروعية الاجتهاد -المتَّفَق عليها بين المسلمين- أقوى دليل على مشروعية العمل بالظن الراجح الذي يستند إلى أدلة وأمارات مقبولة.


وإذا نظرنا في السياق الكامل لآيات الظن التي يوردها ابن حزم لاتهام المخالفين له في القياس وغيره من المسائل الخلافية، نرى أنها في وصف الكفار الذين يتبعون الظن الفاسد الذي هو خلاف الواقع وخلاف الأدلة الظاهرة. وفيما يأتي النص الكامل للآيات ليتضح نوع الظن المراد فيها، وينقطع التشغيب بها:

- (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) (الحج: 12).
- (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية: 32).
- (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (*) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (النجم: 27- 28).
- (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (يونس: 66).

ختاما نقول: صحيح أنه لا يحق للفقيه أن يحكم على الناس بالظن، وليس له سلطة إبطال تصرفاتهم بالظنون، ولكن السؤال: هل يجوز للإنسان أن يقصد إلى التذرُّع بما ظاهره الإباحة لارتكاب المحظورات الشرعية؟ وهل يجوز له أن يحتال على إسقاط الواجبات وارتكاب المحرَّمات بتصرفات شكلية غير مقصودة لذاتها؟ وإذا فعل ذلك هل تكون أفعاله تلك صحيحة شرعا أم باطلة؟ ولا شكَّ أن الشخص الذي يفعل هذه الأشياء يعلم يقينا ما في نفسه، وإذا حكم على تصرفات نفسه، فهو لا يبني حكمه على الظنون والتوهمات والاحتياط، بل يبنيها على اليقين.

وبناء على ذلك نقول: لا يمكن للفقيه أن يُطلق القول بحرمة أو بطلان التصرُّف لمجرد ظنّ أن بعض الناس (سواء كثُرَ ذلك البعض أم قلَّ) يتخذه ذريعة للمحظور، ولكن يمكنه أن يقول: إن الشخص الذي يقصد -وهو أدرى بما في نفسه- إلى التذرُّع بشيء ظاهرُه الإباحة إلى محظور، دون أن يكون لذلك مبرِّرٌ شرعي، ففعله باطل شرعا، بمعنى أنه أتى شيئا لا يجوز له فعله؛ لأن نتيجة فعله هي ارتكاب المحظور دون عذر شرعي.

أما صدور قرار من السلطة الحاكمة (قانون) بمنع ما يتعسف الناس في استعماله للإضرار بغيرهم، أو ما يتذرعون به لإسقاط الواجبات وارتكاب المحرمات، أو ما يؤدي إلى إفساد أخلاق الناس وإحداث الفوضى في المجتمع، فهذا من السياسة الشرعية التي فعلها الخلفاء الراشدون، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب. ولا شك أن الخلفاء الراشدين أفْقَهُ من ابن حزم وأدرى منه بما يوافق أحكام الشرع.


خاتمة
خلاصة هذا البحث أن الشارع قد راعى سدّ الذرائع في تقرير تشريعاته، وأن ما شرعه الشارع طبقا لقاعدة سدّ الذرائع مُتفَّق على العمل به بين جميع المسلمين، ولكن وقع الخلاف في مشروعية العمل بمبدأ سدّ الذرائع في ما هو من باب الاجتهاد. وعند التدقيق في المسألة نجد أنه ينبغي العمل بسدّ الذرائع في مقام الإرشاد والفتوى؛ بمعنى توجيه الناس إلى تجنُّب التذرُّع بما هو مباح في أصله إلى ارتكاب المحظورات الشرعية وإسقاط الحقوق. كما أنه يجوز للسلطة الحاكمة أن تُصدر من الأوامر والقوانين ما يمنع الناس من التعسُّف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالآخرين أو التذرُّع بالمباحات للتوصُّل إلى المحرمات، وذلك بقصد المحافظة على صلاح المجتمع. وإذا صدرت مثل هذه الأوامر والقوانين، فإنه يحق للقضاء الحكم ببطلان تلك التصرفات التي يتعسَّف الناس في استعمالها أو يتذرعون بها إلى المحظورات بغض النظر عن قصد أصحابها أو وقوع التذرع بها؛ ولا يُعدُّ ذلك الإبطال تحريما شرعيا، ولكن يُعدُّ من باب حق السلطة الحاكمة في تقييد المباح بقصد المحافظة على صلاح المجتمع. أما في مجال القضاء، فإنه لا يُعمل بمبدأ سدّ الذرائع؛ لأن القضاء يكون بالأدلة الظاهرة، لا بالأمور الباطنة أو الظنون والاحتمالات، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يُبْطَلُ تصرُّفُ شخص بسبب القصد السيء لأشخاص آخرين مهما كثروا.


[1]ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، ط1، 1410هـ/ 1990) ص1498.
[2]محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م) ص268.
[3]ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص268.
[4]شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، الفروق، تحقيق عمر حسن القيام (بيروت: مؤسسة الرسالة ناشرون، 1424هـ/ 2003م) ج3، ص405.
[5]حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي، حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت) ج2، ص399.
[6]صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه.
[7]أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، 1415هـ/ 1995م) ج2، ص696.
[8]الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ج2، ص696-697.
[9]صحيح البخاري، كتاب:أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر من بني إسرائيل.
[10]الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ج2، ص697.
[11]سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقاق والورع.
[12]الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ج2، ص697.
[13]صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه.
[14]الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ج2، ص698.
[15]الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ج2، ص698.
[16]القرافي، الفروق، ج3، ص411.
[17]ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص270.
[18]علي بن أحمد ىن سعيد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ضبطه وتعليق محمود حامد عثمان (القاهرة: دار الحديث، 1426هـ/ 2005م) ص792-793.
[19]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص795.
[20]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص794.
[21]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص795.
[22]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص794.
[23]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص786.
[24]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص786.
[25]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص790.
[26]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص792.
[27]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص787.
[28]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص790.
[29]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص790-791.
[30]الشافعي، الأم، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب (المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر والوزيع، 1422هـ/ 2001م) ج5، ص245.
[31]الشافعي، الأم، ج5، ص245.
[32]موطأ مالك، كتاب: الأقضية، باب: الترغيب في القضاء بالحق.
[33]الشافعي، الأم، ج5، ص246.
[34]موطأ مالك، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في من اعترف على نفسه بالزنا.
[35]الشافعي، الأم، ج5، ص246-247.
[36]تمام القصة أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ". فَقَالَ هِلاَلٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) (النور: 6) فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 9). فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟" ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَوْمِ، فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ"، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ." (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات...).
[37]الشافعي، الأم، ج5، ص247.
[38]الشافعي، الأم، كتاب إبطال الاستحسان، ج9، ص66.
[39]مسند الشافعي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1400ه) ج1، ص268.
[40]الشافعي، الأم، كتاب إبطال الاستحسان، ج9، ص64-65.
[41]الشافعي، الأم، كتاب إبطال الاستحسان، ج9، ص66.
[42]الشافعي، الأم، ج5، ص247.
[43]الشافعي، الأم، كتاب إبطال الاستحسان، ج9، ص66-67.
[44]صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة والأدب، باب: تفسير البر والإثم.
[45]صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه.
[46]صحيح مسلم، كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.
[47]صحيح مسلم، كتابك: الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
[48]صحيح البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم.بين
[49]موطأ مالك، كتاب: الأقضة، باب: القضاء بإلحاق الولد بأبيه.
[50]أبو بكر البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط3، 1424 هـ - 2003 م) ج7، ص280.
[51]أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى، جمع عبد الرحمن القاسم (الرياض: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، 1386هـ) ج20، ص312.
[52]موطأ مالك، كتاب: النكاح، باب: جامع ما لا يجوز من النكاح.
[53]موطأ مالك، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المريض.
[54]سنن ابن ماجة، كتاب: النكاح، باب: المحلِّل والمحلَّل له.
[55]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص790.
[56]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص792-793.
[57] ابن رجب، جامع العلوم والحكم، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر، ط2، 1424هـ) ص822-823.
[58]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص786.
[59]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص795.
[60]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص790.
[61]ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، ص792.

 
التعديل الأخير:
أعلى