العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مقتطفات بحثية في تصحيح مناهج الدعوة : مبحث في: معرفة الإسلام الذي ندعوا الناس إليه

إنضم
14 نوفمبر 2009
المشاركات
350
التخصص
الفقه والأصول والبحث القرآني
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الحنفي
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وبعد..

فتلك مقتطفات بحثية قمت بانتقائها من كتابة بحثية مطولة حول تصحيح مناهج الدعوة إلى الله تعالى .. وقد انشغلت ببيان هذا الباب فترة من الزمن على سبيل التفرغ أو ما يشابه.. فالحمد لله أولا وآخرا..

* * * * *
... إن عقيدة الأنبياء جميعا واحدة؛ هي الإسلام، وإنما تختلف الشرائع، ولكنها من لدن آدم تنبثق عن أصل واحد لم يتبدل لا بالجملة ولا بالتفصيل .. الإسلام..

o o o

قضية الإسلام هي (العبودية)(4) والتي تعني كل ما يمكن أن يحتويه هذا المصطلح من حياة الإنسان، فكما أنها تعني (الحب) كأصل من أصولها، فإنها كذلك تعني (الخضوع) و (الذل) و (الانقياد). فعلاقة العبودية هي علاقة واضحة فطرية التصور، وما تكون الحصريات العلمية إلا ضبطا لتلك العلاقة فطرية التصور، يسيرة الاستحضار. فهي علاقة بين الخالق ومخلوقاته، علاقة بين السيد والعبد، علاقة بين الجهة السفلى والجهة العليا. ويكفي في تصور العقيدة الإسلامية قراءة القرآن بعين المنصف المتجرد، ومن لم تجرده رغبته في معرفة الحق، فلن يجردها كثير تنظير علمي، وبحوث كلامية (5) مستقصية.
إن من أراد أن يدرك العقيدة الإسلامية، وعلاقته مع ربه، فليقرأ القرآن بعين الباحث عن الحق، فهو النص الذي تحقق به التوحيد في خير جيل حقق التوحيد؛ الصحابة رضي الله عنهم، ولم يحتاجوا إلى غيره حينما نظروا فيه بفطرة سليمة، وحينما تجردوا عن الهوى في البحث عن الحق.

o o o

إن العبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب العبودية : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. (6)
ويقول في بيان حقيقة الإسلام : وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره فالمستسلم له ولغيره مشرك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر..
ويقول: والدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال دنته فدان أى أذللته فذل ويقال يدين الله ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.
ويقول مبينا من هو العبد: وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبّد الذي عبّده الله فذلّله ودبّره وصرّفه.
فدل على أن أصل العبودية هي الذل من العبد لمن يدبر ويصرف، وذلك مع المحبة.
ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضحا شمولية معنى العبادة: فالدين كله داخل في العبادة وقد ثبت في " الصحيح " أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث : " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين.
ويقول: ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم..»
وفي بيان بعض صور العبادة يقول: ومن عبادته وطاعته : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به رافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قدر الله " وفي الحديث : " إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض " . فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة.
ولما كانت (المحبة) هي من أصول العبادة، ننقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية بيان صورة أساس محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يتضمن ـ أي هذا الأساس ـ كمال محبة الله، فيقول: بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به وكمال بغض ما نهى الله عنه ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه [54 المائدة]: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}.
فهذا هو أساس وكمال محبة الله تعالى.. الجهاد في سبيل الله، والجهاد هنا هو في ظاهره تحرك وتسليح وتخطيط وفعاليات حرب، فكلها من (المعقولات) و (المدركات) و (المحسوسات) فتختلف عن طبيعة الشعائر الخاصة كالصلاة والمناسك. وهذا كله في مجموعه عبادة لله تعالى.
من النقولات عن شيخ الإسلام ابن تيمية نتعرف على حقيقة العبودية، كما نتعرف على شمولية هذا المبدأ لكل ما يدخل في إطار النشاط الإنساني. (7)
وهذه العبودية هي التي ينبغي على الداعية أن يدعو الناس إليها، فهذا هو التوحيد، وتلك هي العقيدة الإسلامية في معناها الحقيقي. الخضوع والذل والطاعة المطلقة، في كل شيء؛ الصلاة والنسك والمحيا والممات!
وحين يمارس الإنسان العبودية الشاملة، فإنه يكون بذلك مستقيما على (الدين) .

o o o

لقد وقع (تقليص) شديد في فهم معنى (الدين) .. ورغم كل ما وقع من محاولات تغريب، وتشويه، ومسخ لمفهوم الدين عند المسلمين، ورغم أن تلك المحاولات كانت عنيفة بالفعل، وكان تأثيرها كبيرا جدا على عموم الأمة إلا من رحم الله، ورغم أن هذه المحاولات والخطط اتسمت بطول النفس والصبر على تحقيق أهدافها، والتي حققتها بالفعل.. أقول: رغم كل ذلك إلا أني أرى السبب الرئيس في ذلك إلى خلل التلقي عند المسلمين لمفاهيمهم الرئيسية ولعقيدتهم من القرآن العظيم، وهو الكتاب الذي نشرب المرّ في أزماننا المتأخرة نتيجة هجرنا له؛ كمصدر للتلقي وللاعتقاد ولكافة التصورات التي يتصورها المسلم وينظر إلى العالم بها.
إن كلمة (دين) تساوي عند قطاع كبير من الناس (الاعتقاد القلبي أو الذهني) وهي عند من يرقون عنهم بعض الشيء (الاعتقاد والشعائر) أي عقيدتنا الداخلية، وما نقوم به من شعائر يطلق عليها في اللغة الفروعية – الفقهية – (عبادات توقيفية) وهي العبادات غير معقولة المعنى، كالصلاة ومناسك الحج.
وهذا تقليص أحدث تشويها لمعنى كلمة الدين، وليس هو المعنى الأصلي الذي نعرفه من القرآن، وعرفه المسلمون الأوائل، بل عرفه الأنبياء كافة، وساروا عليه.
وحقيقة فإن وقوع الغلط في المصطلحات عامة هو آفة عصرية في كافة التخصصات والعلوم، بل في أدق التخصصات يقع الغلط والتقصير في فهم معاني المصطلحات على وجهها الصحيح، مما يؤدي إلى نتائج سلبية. وذات الشيء قد وقع في القضية الرئيسية للإسلام، بل التي هي الإسلام ذاته، قضية (الدين) وما يدل عليه هذا المصطلح في أصله الصحيح الذي لا يعلمه أغلب المسلمين اليوم.
ومن المناسب جدا أن نقف هنا وقفة متوسطة نتدارك بها هذه القضية، ونتعرف بها معنى (الدين) من القرآن، ولعله يتبين بعدها للقارئ المسلم أن كثيرا من المعاني والاصطلاحات هي من الأمور التي بيّنها القرآن، ولكننا لم ندركها لقصور تلقينا من القرآن على الاعتراف النظري الذي لا يخرج به الإنسان من الإسلام! رغم أن جمهورنا يقرأه كاملا مرة على الأقل بالعام الواحد، وبعضنا يقرأه إلى خمس مرات في - شهر رمضان – وبعضنا يداوم عليه بورده الثابت. فلعل ذلك يدفعنا بعدها إلى أن نعود إلى القرآن لنقرأه قراءة واعية، هي قراءة التلقي لأول مرة، قراءة تكوين المفاهيم العقيدية في النفس، ثم تفعيل هذه المفاهيم واقعيا. والله تعالى يلهمنا السداد.
يقول الله تعالى في القرآن عن نبيه يوسف عليه السلام:
﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ [سورة يوسف. آية 76]
دين الملك .. فما هو دين الملك؟ .. القصة أنتم تعرفونها وهي مشهورة، وهي قصة صواع الملك الذي أخرج من أمتعة أخي يوسف عليه السلام، فكان حكم يوسف عليه السلام أن يأخذ أخاه.. في دين الملك.
قال المفسرون: دين الملك هو حكمه وقضاؤه، أو هو سلطانه. أي أن المعنى في الآية: إن يوسف ما كان يستطيع أن يأخذ أخاه في حكم الملك وقضائه إلا أن يشاء الله، لأن من حكم الملك وقضائه – الذي هو دينه – أن من سرق فإنه يضاعف عليه الغرم، ولكن يوسف وهو في حكم الملك وقضائه، أقام شريعة يعقوب وبنيه وهو استرقاق السارق. أو المعنى في الآية هو: ما كان يوسف يستطيع أن يأخذ أخاه في سلطان الملك، لأن الأصل في سلطان الملك أن يحاكم السارق بحكم الملك وقضائه. لذا فالمعنى قريب كما قال الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله ورضي عنه – في معرض كلامه على الآية من تفسيره.
ويقول الإمام ابن جرير في معنى الدين: وأصل الدين : الطاعة (8)
تأمل هنا – في القرآن – معنى الدين، وحاول أن تقارن بينه وبين المعنى الخطأ السائد في مفهومنا اليوم.
ويقول تعالى في القرآن:
﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
ما معنى الدين الذي نأخذه من القرآن هنا؟
يقول ابن جرير الطبري في تفسيره ضمن ما قاله في تأويل هذه الآية عن السديّ، في قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله.
. . .
عن قتادة، قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليلالحلال، وتحريم الحرام
. . .
وعنى بقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض، كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله:( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ). (9)
ولا يتناسب هنا أن أتتبع آي القرآن في بيان معنى الدين، فهو واسع جدا، وسيخرج بذلك هذا الكتاب عن طبيعته ككتاب يعني بوضع قواعد ومنطلقات الدعوة، ولكني أهيب بالقارئ أن يتتبع مصطلح (الدين) من كتاب الله تعالى، ومن كتب المفسرين من أهل السنة، كابن جرير وابن كثير والقرطبي، وليعمل على تصحيح عقيدته قبل أن يتحرك لدعوة الناس إلى العقيدة. (10)
إذا .. فالدين هو (الطاعة) وهو (الحكم والقضاء) وهو (السلطان) على من يطيعون.. فمن يطاع فيما يشرعه للناس، فهو المعبود الذين يدين بشريعته وحكمه وقضائه وسلطانه من رضوا حكمه وقضاءه وسلطانه.
ويجمع ابن كثير بين كل تلك المعاني فيقول في تفسيره: { فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته. (11)
ومن هنا نعلم (شمولية) معنى الدين.. فلو قصدنا إلى بيانه بقسمة ثنائية سهلة التصور، فنقول: الدين يشمل الاعتقاد في الله سبحانه، كما يشمل ما يترتب على هذا الاعتقاد من الجانب العملي الذي شمل الشعائر والشرائع.
ولو قصدنا إلى قسمة ثلاثية أكثر تفصيلا، فنقول: الدين يشمل الاعتقاد في الله سبحانه، كما يشمل الشعائر التعبدية، كمل يشمل التنظيم والقانون للحياة البشرية.
وفي الحقيقة فإن القرآن لا يعرف هذه التقسيمة التي نستعملها - فقط – لتقريب الصورة في أزماننا التي بعدنا فيها عن فهم القرآن بسلوكه الذي لا يقسم هذا التقسيم، فهي عقيدة في الله تعالى، يلزم منها طاعة شاملة كاملة، فيما نسميه العبادات كالصلاة والمناسك، وفي كل أمر من أمورنا.. فكلها دين، والدين لا يعرف (عبادات) و(أنظمة) و(سلوك) و(اجتماعيات) .. إلخ؛ الدين يعرف شيئا واحدا فقط هو (حكم الله) وتندمج فيه كافة العناصر التي نقوم نحن بتبويبها وتقسيمها لعوامل فكرية لا تمثل الأصل في التلقي.
ثم لو نظرنا إلى حالات الرسل مع من يدعونهم لا نجد أن الإشكالية التي تشغل حيزا كبيرا من الخلاف القديم بينهم وبين المشركين هي تتعلق بذات الله تعالى، نعم هي تتعلق به سبحانه في مواطن، كجعلهم لله الولد أو البنات أو نسبة غل اليد إليه سبحانه – غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء – ولكنها لا تقتصر على هذا الجانب؛ بل لقد وقع الشرك في رفض المشركين لما يلزم من اعتقادهم في ذات الله سبحانه، من أنه هو الرب الخالق البارئ المتصرف في هذا الكون؛ فرغم إدراك المشركين لتلك الحقيقة – كما هي كثيرة جدا في القرآن – إلا أنهم صرفوا (الدين) لغير الله، وهنا كان أغلب صراع الرسل مع المعاندين.. إنها قضية (الطاعة) في التشريع..
﴿ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [سورة آل عمران: 50]
﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّيلَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) ﴾
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) ﴾ [الشعراء:150 – 152]
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [هود: 59]
وغير تلك الآيات الكريمات كثير جدا في القرآن..
إذا فالدين هو الطاعة، وهو الاتباع في الأمر.. وأختم هذا البيان الذي لا أملك المضي فيه أكثر من ذلك – حيث يحكمني موضوع الكتاب - بتوضيح حقيقة (ألوهية فرعون) فإن تصور هذه الحقيقة التي تناولها القرآن يجعل قضية (الدين) أشد ما تكون من الوضوح للقارئ..
لقد قال فرعون – عليه لعائن الله – لموسى عليه السلام، كما حكى الله تعالى عنه:
﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]
وقال مثله لملئه، وحكاه الله عنه:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]
فالسؤال هنا:
هل كان فرعون يقول عن نفسه إنه هو الإله بمعنى أنه الخالق مجري السحاب منزل المطر الذي يعلم ما في الأرحام والذي يرزق من يشاء بالبنين والبنات ويجعل من يشاء عقيما؟
الجواب البديهي أن لا.. بل الذي قد يستغربه القارئ أن فرعون نفسه له آلهة وهو في ذات الوقت يقول أنا الآله.
ألا ترون أن ملأ فرعون قالوا له، فيما حكاه الله عنهم:
﴿ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127]
إذا ففرعون له آلهة يعبدها.. لأن آثار دعوة يوسف عليه السلام التي كانت في مصر كانت باقية.. فكيف يقول فرعون لملئه ما علمت لكم من إله غيري! .. وكيف يهدد موسى لئن اتخذت إلها غيري..!
إن المعنى هنا أنه الإله الذي (يطاع) فهو الذي يعبده قومه بطاعتهم المطلقة له، فعلى الرغم من أن لفرعون آلهة يتعبد لها، وعلى الرغم من أن المصريين ما كانوا يعتقدون أن فرعون هو الذي خلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يؤثر في الكون بقدره، ورغم أن من عباده من شهد ولادته طفلا رضيعا، ورغم أن من عباده من كان يلهو معه في طفولته، إلا أنهم الآن يعبدونه من خلال طاعتهم له فيما يشرعه لهم من النظام.
يدل على ذلك أنه لما آمن السحرة بالله وسجدوا له، ماذا قال لهم فرعون؟
قال لهم غاضبا عليهم:
﴿ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ﴾ [ ]
فيظهر هنا أن ليس المقصود هو الإيمان بالاعتقاد البحت في ذات الإله الواحد، لأن هذا لا يتصور أن يأذن لهم فيه :
أولا؛ لأنه لا يتصور أن يكون الذي آمنوا به إلها في ذاته وهم لم يؤمنوا به إلا بإذن من فرعون، فهذا يقتضي أن يكون فرعون إلها، وهذا يناقض إيمانهم بالإله.. وهكذا يبطل هذا التفسير.
وثانيا؛ لأنه لا يتصور الإذن في مجرد الاعتقاد القلبي، كأن آذن لشخص في تصديق شيء أو لا آذن له، فإن هذا خارج حتى عن قدرة المرء الذي يقع منه التصديق، بل الذي يحدده ويجبره هو المدخلات بالحواس، فبطل هذا التفسير بذلك الوجه أيضا.
فكان إنكاره عليهم هو أن يستسلموا للطاعة واتباع حكم الله سبحانه وما يشرعه للمؤمنين.
ويدل على ذلك – أيضا - نوع الخوف الذي يخافه فرعون وآله من دعوة موسى، إنه ما كان يخاف من اعتقاد قلبي ذهني صرف، بحيث لا يؤثر في نظامهم الحياتي الذي شرعه لهم فرعون ليعبدوه من خلال امتثالهم له..
﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾
﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بطرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾
فهذا هو ما يخشاه فرعون وآله من دعوة موسى.. إنه شيء نظامي عملي له وجود في خارج الذهن، إنه الإخراج من الأرض حينما لا يقبل نظام موسى ما يمليه نظام فرعون؛ أي حينما لا يتزاحم دين الله الذي أتى به موسى، مع الدين الذي شرعه فرعون لعبيده. إنهم يخشون من ذهاب (طريقتهم) المثلى، وهي التشريع الذي شرعه لهم فرعون.
وبهذا العرض - غير المستقصي – آمل أن تكون قضية (الدين) قد وضحت، أو على أقل تقدير يكون قد تولد الحافز في نفس القارئ، حتى يذهب ويتلقاها من كتاب الله تعالى.. من القرآن العظيم.. والحمد لله رب العالمين.

o o o

إن الإسلام الذي هو قضية الدعوة ليس هو الاعتراف بمجرد (وجود) الله سبحانه، كما يفهمه كثير من الناس، وبعض الدعاة؛ حين يفهمون أن من يرفض أن يقول "لا إله إلا الله" أنه يرفض الاعتراف بـ (وجود الله) أو أنه لا يعترف أن الله هو الذي خلق هذا الكون. إن هذا الفهم غير صحيح على الإطلاق، بل إن ظاهر القرآن يبيّن خطأ ذلك الفهم :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْس َوَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت : 61 ]
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [لقمان : 25 ]
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ﴾
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾
ويبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية أن مجرد المعرفة بالله - أنه هو الرب والخالق وأنه مفتقر إليه ومحتاج إليه - لا تكفي للعبودية التي تفرّق بين أهل الجنة وأهل النار، فيقول في كتاب (العبودية) : فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله وهذا العبد يسأل ربه ويتضرع إليه ويتوكل عليه لكن قد يطيع أمره وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك وقد يعبد الشيطان والأصنام ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار ولا يصير بها الرجل مؤمنا كما قال الله تعالى [ 160 يوسف ] : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره قال تعالى [ 25 لقمان ] : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال تعالى [ 84-89 المؤمنون ] { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } . (12)

إذا، هم لا يكذبون بوجود الله وأنه الخالق، وإنما يكذبون بالرسالة، أو يعاندون الرسالة التي يوقنون هم من صحتها وصدقها، فهم يكذبون الرسالة ويعاندونها، لأنها تأمرهم بشيء لا يعترفون هم به لله وحده – رغم اعترافهم بوجود الله وقدره وصفة الخلق – هو العبودية.. (13)
تلك هي القضية بين الإسلام وبين أية ملة أخرى، وتلك هي قضية الإسلام الدعوية.. العبودية.. لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للناس – كما يفهم من لا يدركون الواقع – : صدقوا بوجود الله، صدقوا أن الله هو الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض.. لم تكن هذه هي قضية الدعوة؛ فقد كان العرب مقيمين على تلك الحقيقة بالفعل، كانوا مقرين بأنه الرب الخالق.. فلم تصلح أن تكون (قضية دعوة) ولكنها تصلح أن تكون (حجة الدعوة) كما كانت بالفعل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي أن تكون عليه في كل دعوة من بعده. فالعلم بوجود الله وأنه الخالق ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم (إليه) وإنما كان يحتج (به) عليهم في تحقيق القضية الحقيقية للرسالة، وهي العبودية.. التي هي اللازم الاعتقادي والعملي من العلم بوجود الله ومن صفة الخلق والتدبير. ونماذج هذا الاقتران في القرآن كثيرة جدا تكاد تكون هي محور الدعوة القرآنية.
فكان مقتضى الدعوة الإسلامية لكفار مكة، أنه طالما أنكم تؤمنون بأن الله موجود وأنه هو الخالق وأنه هو المدبر، فكيف بعد أن علمت ذلك تصرفون العبادة في شتى صورها لغير الله سبحانه؟! كيف تذبحون للأصنام؟ كيف تدعونهم؟ كيف تتقربون لله تعالى بعبادة غيره؟! كيف تتحاكمون إلى غير الله؟! نعم، إنهم كفروا لأنهم توجهوا بالعبادة القلبية والعملية لغير الله تعالى، لا لأنهم يكذبون بوجود الله أو أنه هو الخالق المدبر – مع اعتقادهم كذلك في الله ما لا يليق به كبنوة البنات -. تلك من الثوابت في تاريخ الدعوة الإسلامية.
أما الإسلام، الذي هو الاستسلام، فهو شريعة الله تعالى التي شرعها لعباده ليعبدوه، ضرورة استحقاقه سبحانه العبادة وقد اتصف بصفات يعترف أغلب البشر بأكثرها..
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾.
يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره بعد أن أورد الروايات في تأويل هذه الآية: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
. . .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَافَّةً } يعني جل ثناؤه " كافة" عامة جميعًا. (14)
ثم سرد رحمه الله أسانيده إلى من قالوا بما قال.
ويقول الألوسي: أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا ، فأنكر ذلك عليهم المسلمون ، فقالوا : إنا نقوى على هذا وهذا ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب ، والسلم بمعنى الإسلام.. (15)
فلو تأملت في كلام الألوسي رحمه الله تدرك أن الإسلام هو الشرائع العملية، لأن الرواية عن ابن عباس فيها العمل بشرائع الإسلام وشرائع موسى عليه السلام، ثم يفسر الألوسي – الذي أورد الرواية – السّلم بأنه الإسلام. تأمل.
فلا انتقاء من الإسلام - الذي هو الاستسلام - وليس في الإسلام أن يقبل المرء هذا ويرفض ذاك، أو يؤجل قبوله.
وأصرح من كلام الألوسي ما قاله البيضاوي رحمه الله : والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا والخطاب للمنافقين أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره والخطاب لمؤمني أهل الكتاب فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعا والخطاب لأهل الكتاب أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالتفرق والتفريق { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة.. (16)
فتأمل قول البيضاوي: (شعب الإسلام وأحكامه كلها فلا تخلّوا بشيء)..
ويقول ابن كثير في تفسيره حول تلك الآية: قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسُّدّي، وابن زيد، في قوله: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني: الإسلام.
وقال الضحاك، عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيعُ بن أنس: { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني: الطاعة. وقال قتادة أيضًا: الموادعة. (17)
فالتفسير بالإسلام أو الطاعة أو الموادعة كله يؤدي المعنى؛ حيث لا تقبل تلك المواد الاعتقادية تدريجا ولا خطوات مرحلية.

o o o

بقي أن نقرر أن هذه المعاني للعبودية هي ـ كما نراها وكما نفهمها في عقيدتنا ـ لا تقبل التجزئة؛ فلا يمكن أن يكون بعضها لله وبعضها لغيره. كذلك لا يمكن أن توزن في كفتين، حتى إن كان أغلبها لله كان الإسلام صحيحا، وإن كان الغالب لغير الله ـ كائنا ما كان ـ كان هو الكفر!.. هذه الخاصية لا تصلح في الأمور الكلية التي لا تقبل التجزئة، وعبى رأسها مبدأ (العبودية). بل إن رفض العبودية في جزئية واحدة مهما رآها الرائي صغيرة، هو رفض لكامل العبودية؛ فتلك هي طبيعة الأشياء التي لا تقبل التجزئة، إما الكل، وإما لا شيء.
فالأمر هنا ليس هو قضية المعصية في كبيرة أو صغيرة تحدث تحت إطار العبودية وباستزلال الشيطان أو ضعف النفس؛ وإنما هو رفض العبودية ذاتها، وهنا، في هذا الباب، لا كبير ولا صغير، بل كله كبير، ورفض ما يظهر أنه صغير هو كرفض الكبير سواء بسواء، فهو رفض لكل العبودية.
ومن هنا ندرك الخطأ والخطر حينما ينخدع أحدهم بكون (الشريعة الإسلامية) هي المعمول بها ـ مثلا ـ في الأحوال الشخصية، كقضايا الميراث والزواج، فيظن أن هذا هو الإسلام المطبق.. إذا تصورنا حقيقة العبودية وأن لا تقبل التجزئة، علمنا أن من يقبلها في أجزاء وينفيها في أجزاء، هو يقبل الإسلام في أمور ويرفضوه في أمور أخرى، والإسلام الذي هو الاستسلام لا يقبل أن يتجزأ، لذلك فهم يعلنون الديمقراطية أو الاشتراكية، فنجد البلاد التي تعلن تطبيق الإسلام في الأحوال الشخصية، نجدها قد ملئت بمحلات الخمور وبيع الخنزير والمراقص.. ونجدها من أكبر مستوردي لحوم الخنزير.. وتحصل هذه الفواحش (المشروعة) على حقها القانوني، فالقانون الذي جعل الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية، هو الذي أعطى الفواحش الشابقة حقها كذلك. ولابد أن نفهم معنى الإسلام ومعنى العبودية – في شمولهما - حتى نفهم تلك الأمور.

o o o

وبناء على كل ما سبق، فحينما يدعو الداعية المسلم غيره إلى تحقيق مبدأ العبودية، فهو يدعوه أن يكون كل شيء يحبه الله ويرضاه من قول أو عمل باطن أو ظاهر، هو يفعل استجابة و(طاعة) لرب العالمين، وهنا يمكننا أن ندرك (المبدأ).. فالقضية هي قضية مبدأ للعبودية عام؛ شامل لكل ما يقع تحت وصف العبودية، قبل النظر في الواجبات والنوافل أو المكروهات.
ربما هذه العبادات ـ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ـ يكون فيها ما هو من النوافل، أي مما لا يجب أن يفعله أو يقوله المسلم، كالسنن أو النوافل أو الأذكار، إلا أن (مبدأ العبودية) في ذاته قائم، فلو فعل المسلم فعلا واحدا من أفعال النوافل أو قال قولا واحدا منها ـ كالأذكار ـ عبودية أو خضوعا أو توجها بالعيادة إلى غير الله، فقد خرج من الإسلام. فالداعية يدعو الناس إلى أن تكون حياتهم كلها لله، بما تحويه من شعائر، أو أنظمة اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، داخلة وخارجية، وما تحويه من الأخلاق والقيم، كل ما يصدق عليه أنه يتعلق بالإنسان وحياته. الواجبات والنوافل من كل تلك الأمور، أو هي الأوصاف الحكمية لتلك الأمور.
فعلينا أن نعرف أولا ما ندعوا إليه، ثم نبدأ في ممارسة الدعوة إلى ما أدركناه..
فأرجو بتلك الكلمات أن يكون الداعية قد عرف أولا دينه الإسلام، الذي لا نجاة له إلا به، ويكون قد عرف ثانيا ما يدعو الناس إليه، والذي لا تصح دعوته إلا به. والحمد لله رب العالمين.
وختاما.. وفي سبيل التعرف على حقيقة الإسلام، وأركان العقيدة الإسلامية، كنت أود أن أقول للقارئ: عليك بالقرآن لتتلقى منه عقيدتك كاملة وعلى طريقة القرآن كما كان سلفنا الصالح. إلا أنه لا يسعني تغافل الواقع، وأن لو قدمت مثل ذلك التوجيه في وقتنا الرهان، وبأحوالنا تلك، فإنه يتلقى على الصورة الوعظية المعهودة، والتي لا تتعدى كونها نصيحة جميلة تزيّن بها خطب المنابر. من هنا فلابد – في نظري – من تدخل همزات الوصل بين إدراكاتنا البشرية المعاصرة وبين أسلوب القرآن في عرض العقيدة، من هنا فإنني أنصح بشدة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله التي أرسلها إلى أقطار مبينا بها عقيدة أهل السنة – كالتدمرية والواسطية – وتتميز كتبه رحمه الله بالتقعيد العميق من كتاب الله تعالى.
كما أنصح بمصنفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سواء التي صنفها ابتداء أو التي هي رسائل أرسل بها إلى بعضهم يعرض حقيقة عقيدته، ففيها خير كثير، وفيها يتجلى التوحيد. وتتميز الرسائل خاصة بأنها كتبت في وقائع عينية حادثة، ولك تكن تقعيدا للتوحيد مجردا، فكانت الرسائل تعرض إصلاحا واقعيا حيا لقضايا العقيدة، وهذا له مزيته كما لا يخفى.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
 
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
من أعظم المصائب التي اصيب بها اصحاب العمل الإسلامي -كما يقول بعض اهل الرأي- :

-الخلل في المنهج.
-الخلل في ترتيب الأولويات.
-العيش في اللفية الثالثة بعقل العصر العباسي.
-فشو الغلو والتشدد بزعم هذا هو الحق وبزعم محاربة التميع وبزعم وبزعم...

وأشكرك من قلبي على الموضوع الجاد.
 
أعلى