العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مقدمات في علم التخريج الفقهي

إنضم
24 ديسمبر 2007
المشاركات
339
الجنس
أنثى
التخصص
فقه
الدولة
السعودية
المدينة
الدمام
المذهب الفقهي
الحنبلي
التخريج الفقهي
هذه مقدمات مختصرة في علم التخريج الفقهي، قمت بجمعها عند قراءة بعض الكتب في هذا الموضوع، وفي الحقيقة لم أكن أتصور أن هذا العلم فيه ما وجدته من الفوائد، فهو علم حري بالقراءة فيه، وحري باطلاع طلبة العلم على كتبه المختصة، لا سيما من لهم عناية بالفقه الشرعي، وكثير مما أذ كره هنا استفدته من كتاب التخريج الفقهي للدكتور: يعقوب الباحسين، مع شيء من الاختصار والتهذيب والزيادات في بعض الأحيان، وأحببت أن يعم نفعه من أحبهم في الله من طلبة العلم، وجعلتها على جزئين فأقول وبالله التوفيق:
التخريج في اللغة:
قال ابن فارس: الخاء والراء والجيم أصلان، وقد يمكن الجمعُ بينهما، إلاّ أنّا سلكْنا الطّريقَ الواضح. فالأول: النّفاذُ عن الشَّيء. والثاني: اختلافُ لونَين.
فأمّا الأول فقولنا خَرَج يخرُج خُروجاً. والخُرَاج بالجسد. والخَراج والخَرْج: الإتاوة؛ لأنّه مالٌ يخرجه المعطِي. والخَارجيُّ: الرَّجل المسوَّد بنفْسه، من غير أن يكون له قديم، كأنّه خَرَجَ بنفسه.. وفلان خِرِّيجُ فلانٍ، إذا كان يتعلَّم منه، كأنّه هو الذي أخرجَه من حدِّ الجهل. وأمّا الأصل الآخر: فالخَرَجُ لونانِ بين سوادٍ وبياض( ).
والمعنى الأول هو المعنى المناسب لما نحن فيه، إذ التخريج الفقهي إخراج واستنباطها للأصول أو الفروع من غيرها فلا بد من مُخرَج عنه فيه، أشبه خراج الأرض وهو ما يخرج منها.
التخريج في الاصطلاح:
لفظ التخريج استعمل في جملة من العلوم فيختلف استعماله عند أهل الحديث عنه عند الفقهاء والأصوليين، وموضع بحثنا هو استخدامه عند أهل فن الفقه والأصول، وسنذكر هنا الاستعمالات التي لها تعلق بموضع علم التخريج، وإلا فهناك اطلاقات خاصة للتخريج عند بعض أهل العلم تجدها مسطورة في مفردات كتبهم فحاصل استعمالات لفظ التخريج المتعلقة بهذا العلم ثلاث استعمالات:
الأول: يطلق التخريج على التوصل إلى أصول الأئمة وقواعدهم الكلية التي بنوا عليهم فروعهم الفقهية وذلك عن طريق استقراء وتتبع ما ورد عن عنهم من الفروع الفقهية، وهذا هو ما يعبر عنه بتخريج الأصول على الفروع.
الثاني: يطلق التخريج على رد الخلافات الفروعية الفقهية إلى القواعد الأصولية الورادة عن الأئمة، بحيث يمكن الوصول إلى حكم ما لم يرد به النص عنهم عن طريق الرد إلى تلك القواعد والأصول، وهذا ما يعبر عنه بتخريج الفروع على الأصول.
الثالث: يطلق التخريج على التوصل إلى معرفة حكم الإمام في مسألة لم يرد بها النص عن طريق إلحاقها بما يشبهها من المسائل الفرعية التي ورد نص الإمام بها، أو عن طريق إلحاقها بمفهوم نصوص الإمام أو عموماتها، وهذا ما يعبر عنه بتخريج الفروع على الفروع.
ويتضح مما سبق أن الأنسب في تعريف التخريج الفقهي أن لا يصار فيه إلى تعريف مجمل لا يشمل جميع الأقسام السابقة، ولذا سنبحث في كل قسم من أقسامه بحثا مستقلا من جهة التعريف، وغيره.

أولا: تخريج الفروع على الأصول:
1) تمهيد:
تعريفه: هو علم يبحث في الأصول والقواعد والعلل التي بنية عليها الأحكام الشرعية وذلك لأجل رد الفروع الفقهية التي لم يرد بها نص عن الأئمة إليها، أو لأجل بيان سبب الخلاف في المسائل الفرعية.
ويبحث هذا العلم في أمور عدة:
1- الأصول والقواعد المختلف فيها من جهة صحة بناء وإثبات الأحكام الفرعية عليها.
2- طرق استخراج واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، لا سيما الأدلة المختلف فيها.
3- شروط المخرج الذي يخرج على نصوص الأئمة وقواعدهم.
4- أسباب الاختلاف بين الفقهاء.
فائدته: لهذا العلم فوائد عدة منها:
1- معرفة آراء الأئمة في المسائل التي لم يرد عنهم نص فيها، أو في النوازل التي تطرأ على الأمة.
2- إثراء الملكة الفقهية عند الباحث بالإضافة إلى الدربة على الاستنباط والتفريع مع القدرة على الترجيح بين الأقوال.
3- الربط بين علم الأصول والفقه، وبيان الجانب العملي في علم أصول الفقه، خلافا لم يظن أن علم الأصول علم نظري فقط.
4- ترتيب الذهن والقدرة على الربط والإحاطة بعدد من المسائل المختلفة تحت إطار الأصل والقاعدة الواحدة التي بنيت عليها، مما يسهل حفظها والإلمام بها.
العلوم التي استمد منها: يمكن القول بأن علم تخريج الفروع على الأصول امستمد من أربعة علوم:
1- علم أصول الفقه وهو أساس هذا العلم.
2- علم اللغة العربية وذلك لتعلق كثير مباحث أصول الفقه باللغة العربية، كدلالات الألفاظ ونحوها.
3- علم الفقه إذ بتتبع الفروع الفقهية يصار إلى تقرير القواعد والأصول المذهبية.
4- علم الخلاف إذ أصل نشأة علم تخريج الفروع على الأصول هو رغبة أتباع الأئمة في بيان صحة فروعهم وأنها مستندة على أصول وقواعد فقهية صحيحة، فلازم ذلك صحة هذه الفروع.
2) نشأته وتطوره:
عند النظر في الكتب المصنفة في تعريفات العلوم وبيان حدودها لا نجد فيها ذكرا واضحا لهذا العلم من جهة اسمه الاصطلاحي ومعناه، ولكن نجد فيها إشارات إلى معناه في ضمن الحديث عن علم الخلاف، وذلك لما تقدم من اتصال نشأة هذا العلم بعلم الخلاف والمناظرات التي كانت تحصل بين أتباع المذاهب الفقهية.
قال ابن خلدون: (( أقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة، وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية، وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه، تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة، يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده وتمسك به....وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة، ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات، ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته.
وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه)) ( ).
وأيضا مما يشار إليه عند الكلام على نشأة هذا الفن أن المقصود من الكلام على نشأته هو من حيث قيام كتب مستقلة في الكلام عليه أو تآليف تخوض فيه على وجه من التمييز له دون غيره، وإلا فإن الناظر في فقه متقدمي أصحاب الأئمة بل في طبقة تلاميذ الأئمة يجد منهم استعمالا شائعا للتخريج على أقوال الأئمة، تجد أثرا واضحا من ذلك عند محمد بن الحسن وأبي يوسف من الحنفية، وعند عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب، وسحنون من المالكية، وعند المزني، والبويطي، والربيع بن سليمان من الشافعية، وكذلك عند عبد الله بن الإمام أحمد، وصالح بن الإمام أحمد، والمروزي وغيرهم من الحنابلة.
أما نشأة هذا العلم ككتب مستقلة فيه فبدأ في منتصف القرن الرابع الهجري، عند شيوع المناظرات والجدل بين علماء المذاهب، مما ألجأهم إلى البحث عن الأصول والقواعد والتعاليل التي دفعت بأئمة مذاهبهم إلى القول بأحكام معينة في مسائل الفروع، ومن أوائل ما ألف في هذا الباب كتاب: (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمرقندي المتوفى سنة: (373هـ) إلا أنه لم يمحض كتابه في الكلام على الأصول وما ينبني عليها من الفروع، وإنما ساق كثيرا من القواعد وا لضوابط الفقهية التي كانت هي الغالبة في الكتاب، فلم يذكر من القواعد الأصولية إلى القليل.
ثم جاء بعد ذلك أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة (430هـ)، فألف كتابه: (تأسيس النظر) وهو في الجملة لا يختلف عن كتاب أبي الليث السمرقندي إلا في أصلٍ في آخره ذكر فيه بعض الأصول، وكذلك في أسلوب الصياغة.
ثم جاء بعد قرابة القرنين من الزمان شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي المتوفى سنة (656هـ) فألف كتابه (تخريج الفروع على الأصول) وهو من أوسع الكتب في هذا الباب.
ثم جاء في القرن الثامن جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي الشافعي، المتوفى سنة (772هـ) فألف كتابه ( التميهد في تخريج الفروع على الأصول) وهو في جله بحث في الخلافات داخل المذهب الشافعي ولم يتعرض لغيره من المذاهب الأخرى.
كما أن له كتابا آخر وهو (الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية).
ثم جاء بعد ذلك أبو الحسن علاء الدين بن علي بن عباس البعلي الحنبلي المعروف بابن اللحام المتوفى سنة (803هـ) وألف كتابه: (القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية) وعامة ما ذكره من الفروع فيه إنما هو على مذهب الإمام أحمد.
فهذه كتب خاصة في موضوع التخريج أفردته بالكتابه، وهناك كتابات أخرى في التخريج لكن لا على وجه الاستقلال.
فمنها كتابات تناولت موضوع التخريج في ضمن مواضيع أخرى كما في كتاب الأشباه والنظائر للسبكي.
ومنها بعض كتب أصول الفقه التي ذكرت جملة من الفروع الفقهية تحت القواعد الأصولية كما في كتب الحنفية في أصول الفقه، كأصول السرخسي، والشاشي وغيرهما.
ومنها كتب في الخلاف الفقهي المقارن تذكر أراء المذاهب وتدلل عليها بقواعد أصولية وتعليلات يتضح منها كيف بنيت الفروع على الأصول وما هي أسباب الخلاف، ومن مثالات ذلك كتاب: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد.

3
) أسباب اختلاف الفقهاء وعلاقتها بالتخريج:
تقدمت الإشارة إلى أن أصل ظهور علم التخريج الفقهي كعلم يؤلف فيه إنما كان في منتصف القرن الرابع عند شيوع المناظرات والجدل بين أصحاب المذاهب الفقية مما عزا بهم إلى البحث في أصول أئمتهم التي بنوا عليه الفروع وذلك لإثبات صحة هذه الفروع وأنها مبنية على أصول علمية صحيحة، وكان من لازم ذلك كلامهم على أسباب الخلاف لأن معرفة أسباب الخلاف مما يساعد على الربط بين الفروع الفقهية المختلفة، وبين هذه الفروع والأصول التي بنيت عليها، ومثل هذا مما يقوي ملكة الفقه والفهم والاستنباط عند الفقيه، ويقوي قدرته على إعادة الفروع إلى أصولها، والنظر في فروع النوازل بناء على ما تقدم من أصول الأئمة
4) حكم نسبة الآراء المخرجة على الأصول إلى الأئمة:
المقصود من هذا العنوان هو أن الناظر في أصول الإمام وقواعده الفقيهة عندما يخرج عليها حكما في مسألة لم يرد نص الإمام فيها هل له أن ينسب هذا الحكم إلى الإمام الفلاني بناء على أنه جار على أصوله وقواعده الفقيهة أم لا؟
فالذي عليه جمهور الحنفية جواز ذلك، ولكنهم نصوا على أن ذلك لا يكون لكل أحد وإنما هو في حق من: ( يكون له ملكة الاقتدار على استنباط أحكام الفروع المتجددة التي لا نقل فيها عن صاحب المذهب من الأصول التي مهدها صاحب المذهب وهو المسمى بالمجتهد في المذهب)( ).
كما أنه لا بد من أن تكون القاعدة أو الأصل صحيح النسبة إلى الإمام ، بحيث لا يوجد ما يصرفه من كلام الإمام، وبحيث لا يكون استنتاج القاعدة غير صحيح نظرا لخطأ المُخرِّج في استنباطها من كلام الإمام.
5) أمثلة على تخريج الفروع على الأصول:
قال الدبوسي: ((الأصل عند أصحابنا أن القدرة على الأصل أي المبدل قبل استيفاء المقصود بالبدل ينتقل الحكم إلى المبدل كالمعتدة بالشهور إذا حاضت أو المعتدة بالحيض إذا أيست.
عند أبي عبد الله لا يبطل وعلى هذا مسائل منها: إن المتيمم إذا وجد الماء خلال الصلاة تفسد صلاته عندنا وعند أبي عبدالله لا تفسد، وأن العاري إذا وجد ثوبا في خلال صلاته تفسد صلاته عندنا وعند أبي عبدالله لا تفسد صلاته ))( ).
قال ابن اللحام: (( الزيادة على الواجب إن تميزت كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات فهي ندب بالاتفاق، وإن لم تتميز فهل هي واجبة أم لا؟ حكى أبو محمد التميمي: الثاني قول أحمد، واختاره أبو الخطاب، واختاره القاضي في موضع من كلامه، واختار الكرخي الحنفي الأول، واختاره القاضي في موضع من كلامه أيضا.
إذا علمت ذلك فيتفر ع على المسألة فروع:
منها إذا وجب عليه شاة فذبح بدلها بدنه، فهل كلها واجبة أو سبعها؟
في المسألة وجهان: أحدهما: الجميع واجب، اختاره ابن عقيل، قال: كما لو اختار الأعلى من خصال الكفارة.
والثاني: السبع واجب.
وينبني على الوجهين: هل يجوز له الأكل مما عدا السُّبع أم لا؟ إن قلنا: الجميع واجب لم يجز، وإلا جاز، أشار إلى ذلك أبو محمد المقدسي وغيره.
قلت: وينبغي أن ينبني على ذلك أيضا زيادة الثواب فإن ثواب الواجب أعظم من ثواب التطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: (وما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم) )) ( ).
ثانيا: تخريج الفروع على الفروع:
1) تميهد:
تعريفه: هو علم يتوصل به إلى معرفة رأي الأئمة في الفروع الفقهية التي لم يرد بها نص عنه وذلك عن طريق إلحاقها بما يشابهها من المسائل في الحكم أو في علة الحكم، أو عن طريق عمومات نصوص الإمام.
وفائدته: معرفة أحكام المسائل الفرعية التي لم يرد عن الإمام نص فيها أو التي لم تكن في زمن الإمام.
2) مصادر تخريج الفروع على الفروع:
أ‌) نص الإمام وما يجري مجراه
أما نص الإمام فيشمل ما نص عليه الإمام سواء كان نصه عليه نصا صريحا، وهو ما يعبر عنه بصريح المنطوق بحيث يدل على حكم المسألة مطابقة أو تضمنا، ومن مثال ذلك، قول الإمام أحمد بوجوب النكاح على من أمره أبواه بذلك كوجوبه على من خاف العنت: ((قال الإمام أحمد رحمه الله , في رواية صالح , وأبي داود : إن كان له أبوان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج , أو كان شابا يخاف على نفسه العنت : أمرته أن يتزوج)) ( ).
أو كان المنطوق منطوقا غير صريح بحيث يكون لفظه دلا على حكم المسألة لا عن طريق المطابقة والتضمن، وإنما هو دال عليه بطريق اللزوم فهو ليس نصا في المسألة وإنما هو جار مجراه في الدلالة على رأي الإمام فيدخل في مثل هذا دلالات الاقتضاء و الإيماء و الإشارة والتنبيه.
ومن هذا الباب ما نسب إلى الإمام أحمد من عدم اعتداده بإجماع غير الصحابه:قال أبو الخطاب: ((لا يعتد بإجماع غير الصحابة، وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي داود: الاتباع أن يتبع ماجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وهو بعد في التابعين مخير ))( ).
فمثل هذا النقل يفهم منه عدم اعتداده بإجماع غير الصحابة، لكن ذلك ليس من سبيل المنطوق الصريح، وإنما هو من سبيل غير الصريح.
وهذا القسم أعني المنطوق غير الصريح لا يصار إلى القول بلازمه دائما ولذا ترى أصحاب الأئمة يختلفون فيما هذا منزعه هل يصح نسبته للإمام أم لا، وذلك لما فيه من الاحتمال من جهة الدلالة.
ومن مثالات ذلك ما تقدم من القول بعدم اعتداد الإمام أحمد بإجماع غير الصحابه فإن القاضي تأول هذا النقل وقال هو محمول على آحاد التابعين فلا بئس من ترك بعض ما قالوا به، أما إجماع منهم فلا يقال بتركه.
ب‌) مفهوم نص الإمام
مفهوم نص الإمام إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة، أما ما كان من مفهوم الموافقة فلا إشكال في كونه من الطرق الصحيحة في معرفة مذهب الأئمة، إذ عامة أهل العلم على اعتبار مفهوم الموافقة في نصوص الشريعة فضلا عن نصوص الإمام.
وأما كان من مفهوم المخالفة فقد وقع الخلاف في اعتباره في تحصيل قول الإمام، ومثل هذا الخلاف ليس بغريب، إذ الخلاف واقع في اعتبار مفهوم المخالفة في نصوص الشارع بين الجمهور والحنفية.
والحاصل أن جمهور الحنفية قالوا باعتبار مفهوم المخالفة في نصوص الإمام وإن كانوا لا يقولون به في نصوص الشارع، وكذلك قال باعتباره الحنابلة على الصحيح من مذهبهم، قال ابن حمدان: (( ومفهوم كلامه مذهبه في أحد الوجهين، اختاره الخرقي وابن حامد وإبراهيم الحربي ))( ). وذلك بناء على أن القيود الواردة في الكلام الأصل فيها أنها معتبرة.
وذهب جماعة من المالكية والشافعية، وهو الوجه الثاني عند الحنابلة إلى عدم اعتباره وأن القيود في الكلام قد تكون غير مراده إما لكونها خرجت مخرج الغالب، أو لكونها سيقت في قضية عين أو غير ذلك من الاحتمالات التي تضعف اعتبار مفهومها.
قال الدكتور يعقوب الباحسين: ((والذي يظهر والله أعلم أن استنباط مذاهب الأئمة عن طريق مفهوم كلامهم المخالف فيه نوع من المجازفة ، وإن كان يحتمل الصواب، ولكن إن قامت علامات وقرائن على أن القيد لم تكن له فائدة إلا نفي الحكم فيما عداه، صح التخريج وصحت النسبة........وعلى الرغم من قبول كثير من العلماء مبدأ التخريج من مفاهيم نصوص الأئمة لكننا قلما نجد لهم تصريحا بأن ما خرجوه كان بناء على المفهوم، فالأمثلة التي هي من هذا القبيل قليلة جدا ))( ).
مثال للتخريج عن طريق مفهوم نص الإمام:
ما نص عليه الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور: ((كل من لم يكن له شيء يفعله فى طريق المسلمين ففعله فأصاب شيئا فهو ضامن، فإن المفهوم منه انتفاء الضمان بما ينشأ عن الفعل المباح )) ( ).
ج) أفعال الإمام:
اختلف أهل العلم فيما يفعله الإمام وفيما يتركه إن لم يقترن ما يدل على الجواز أو عدمه فهل مثل هذا الفعل أو الترك المجرد يصح أن ينسب للإمام كمذهب، بحيث ينسب إليه القول بجواز ما فعله أم لا؟
فذهب طائفة من أهل العلم وهو أحد الوجهين عند الحنابلة إلى أن فعل الإمام يعد مذهبا له، ويصح نسبته إليه، قال في شرح الكوكب المنير: ((ومفهوم كلامه وجهان للأصحاب أحدهما : أن كلا من فعله ومفهوم كلامه مذهب له، قال في شرح التحرير : وهو الصحيح من المذهب قال ابن حامد في تهذيب الأجوبة : عامة أصحابنا يقولون : إن فعله مذهب له وقدمه ، ورد غيره ))( ).
وهذا القول هو أيضا أحد الوجهين عند الشافعية كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فإنهم لما رأوا نص الشافعي انه لا يجوز بيع الباقلا الأخضر ثم انه اشتراه في مرضه فاختلف أصحابه هل يخرج له في ذلك مذهب على وجهين، وقد ذكروا مثل هذا في إقامة جمعتين في مكان واحد لما دخل بغداد.
وممن انتصر لهذا القول الشاطبي حيث قال: ((ثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر، وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين:
أحدهما: أنه وارث وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا فكذلك الوارث، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله.
والثاني: أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال )) ( ).
ومما استدلوا به أيضا أن الأئمة الأربعة على جانب من التقوى والورع الذي يمنعهم عن فعل المحرم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((اختلف أصحابنا في فعل الإمام احمد هل يؤخذ منه مذهبه على وجهين:............
والثاني: بل يؤخذ منه مذهبه لما عرف من تقوى أبي عبد الله وورعه وزهده فإنه كان من أبعد الناس عن تعمد الذنب وان لم ندع فيه العصمة، لكن الظاهر والغالب أن عمله موافق لعلمه فيكون الظاهر فيما عمله أنه مذهبه، وهكذا القول فيمن يغلب عليه التقوى والورع، وبعضهم أشد من بعض فكل ما كان الرجل اتقى لله واخشي له كان ذلك أقوى فيه، وأبو عبد الله من اتقى الأمة وأعظمهم زهدا وورعا بل هو في ذلك سابق ومقدم كما تشهد به سيرته وسيرة غيره المعروفة عند الخاص والعام )) ( ).
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن فعل الإمام المجرد لا يعد مذهبا له، وهذا هو الوجه الثاني عند الشافعية والحنابلة، واستدلوا بأدلة منها:
أن الأئمة بشر غير معصومين والذنب والخطأ ممكن منهم، ولا يقاسون على النبي صلى الله عليه وسلم لوجود الوحي المنبه على الخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم بخلافهم، ثم إن فعل الإمام محتمل أن يكون فعله على وجه بيان الجواز، ويحتمل أن يكون فعله خطأ أو نسيانا، أو احتياطا لتعارض الأدلة لديه إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا يتأتى معها نسبة القول إليه على سبيل الجزم.
مثال على التخريج عن طريق فعل الإمام:
قال ابن قدامة: ((واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس . فعنه أنه مكروه..... وروي عنه: لا يكره ذلك لكن تركه أفضل . قال حنبل : كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا , وكان هو يأخذ رأسه بالجَلَمَين –يعني المقراض- ولا يحفيه ويأخذه وسطا )) ( ).
د) تقريرات الإمام:
اختلف أهل العلم في تقريرات الإمام هل يؤخذ منها مذهبه أم لا، فلو فُعل شيء بحضرته فلم ينكره، أو لم ينكر فتوى غيره من أهل العلم هل يؤخذ من هذا الإقرار مذهبه أم لا؟
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تقريرات الأئمة تعد مذهبا لهم، ويصح نسبتها إليهم، وإلى هذا ذهب الشاطبي، فإنه قال: ((وأما الإقرار فراجع إلى الفعل لأن الكف فعل وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال )) ( ) .
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا يعد مذهبا وهو قول أكثر الحنابلة، ومقتضى مذهب الشافعي، فقد نقل عنه أنه (لا ينسب لساكت قول)، ومما استدلوا به أن السكوت لا يكون على كل حال دليلا على الرضا فقد يكون السكوت لعارض ما، كتعارض الأدلة، أو عدم تبين المسألة للإمام، أو الخوف من الإنكار، أو اعتقاد أن كل مجتهد مصيب إلى غير ذلك من الاحتمالات، وقد ورد عن الصحابة السكوت عن بعض الأقوال مع عدم القول بها، فهذا ابن عباس سكت عن مسألة العول زمن عمر، فلما مات عمر خالف فيها.
مثال على التخريج عن طريق الإقرار:
من ذلك ما خرجه القاضي من أن المطلقة قبل الدخول إن لم يفرض لها فإن المتعة في حقها مقدرة بنصف مهر المثل: ((قال القاضي : وظاهر هذا : أنها غير مقدرة , وأنها معتبرة بيساره وإعساره . وقد حكى –يعني الإمام أحمد- قول غيره : أنه قدرها بنصف مهر المثل , ولم ينكره . فظاهر هذا : أنه مذهب له . انتهى))( ).

هـ) الحديث الصحيح:
ورد عن الأئمة الأربعة القول بأن الحديث إذا صح فهو مذهبهم على سبيل التصريح كما ورد عن الشافعي من قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. أو من حيث المعنى كما نقل عن غيره من الأئمة، كأبي حنيفة وغيره.
ومن هنا اختلف أهل العلم في الحديث إن صح هل ينسب القول بمقتضاه إلى الإمام فيكون مذهبا له أم لا؟
أما إن كان قول الإمام موافقا لمقتضى الحديث فلا إشكال في النسبة، ولكن محل الإشكال فيما إذا كان القول المروي عن الإمام مخالفا لمتقضى الحديث، فهنا اختلف أهل العلم:
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يعمل بالحديث ويكون مذهبا للإمام، وبه قال جماعة من الشافعية، قال النووي: ((صح عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي , وروي عنه : إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي , أو قال : فهو مذهبي , وروي هذا المعنى بألفاظ مختلفة، وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما , مما هو معروف في كتب المذهب، وقد حكى المصنف ذلك عن الأصحاب فيهما، وممن حكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الداركي , وممن نص عليه أبو الحسن إلكيا الطبري في كتابه في أصول الفقه , وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون , وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث , ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث , وأفتوا به قائلين : مذهب الشافعي ما وافق الحديث , ولم يتفق ذلك إلا نادرا , ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث.
وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثا صحيحا قال : هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره , وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه , وشرطه : أن يغلب على ظنه أن الشافعي - رحمه الله - لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته , وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قل من يتصف به )) ( ).
وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه في هذه الحالة لا تصح نسبة القول بمقتضى الحديث للأئمة وأن ذلك مذهبهم، وذلك لأن الأصل أن الساكت لا ينسب له قول، فضلا عن أن ينسب إليه ما صرح بخلافه، ثم إن الإمام قد يكون قال بما يخلاف مقتضى الحديث الصحيح لمعارض عنده، ككون الحديث منسوخا، أو مخصصا أو غير ذلك، وقد روي عن الإمام مالك أن رجلا سأله: لم رويت حديث (البيعان بالخيار) في الموطأ ولم تعمل به؟ فقال مالك: ليعلم جاهل مثلك أني على علم تركته.
ولم يعمل الشافعي بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) مع صحة الحديث عنده، ولذلك لوجود المعارض عنده وهو كونه منسوخا عنده، ولذا أنكر الشافعية على أبي الوليد موسى بن أبي الجارود –وهو من فقهاء الشافعية- حين قال: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم), فأقول : قال الشافعي : أفطر الحاجم والمحجوم( ).
مثال على تخريج الفروع على الحديث الصحيح:
تخريج القول بأن الصلاة الوسطى صلاة العصر، مع أن منصوص قول الشافعي أنها الصبح، ((قال صاحب الحاوي : نص الشافعي رحمه الله أنها الصبح وصحت الأحاديث أنها العصر , ومذهبه اتباع الحديث , فصار مذهبه أنها العصر , قال : ولا يكون في المسألة قولان كما وهم بعض أصحابنا))( ).

وفي الجزء الثاني إن شاء الله، سنتعرض لطرق تخريج الفروع على الفروع، وإلى القسم الثالث والرابع من أقسام التخريج، وهما تخريج الأصول على الفروع، وتخريج الأصول على الأصول.
 

أحمد بن فخري الرفاعي

:: مشرف سابق ::
إنضم
12 يناير 2008
المشاركات
1,432
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
باحث اسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
شافعي
جزاكم الله خيرا ، ونفع بكم
واصل ، وصلكم الله بوصله
 
إنضم
4 يناير 2008
المشاركات
1,323
التخصص
طبيب تخدير
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
ما وافق الدليل
جزاكم الله خيرا على جهدكم المبارك يسر الله لكم إتمامه ونفع الجميع به
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,134
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
افتقدناك كثيرأ أخي محب الفقه؛ فلا تهجر أحبابك طويلاً
سهل الله لك أمرك
وجزاك الله خيراً على مشاركتك بعد غيابك
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك
ونحن بانتظار الجزء الثاني
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,134
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: مقدمات في علم التخريج الفقهي

هل هناك جزء ثاني
 
إنضم
28 أكتوبر 2014
المشاركات
43
الإقامة
الجزائر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد المنعم
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
البليدة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: مقدمات في علم التخريج الفقهي

أفدتنا؛ حفظك الله
 
أعلى