العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مناقشة أطروحة دكتوراة بعنوان: "الاختيارات الفقهية للإمام ابن عطية الأندلسي من خلال المحرر المجيز"

إنضم
21 نوفمبر 2010
المشاركات
298
التخصص
الفقه المالكي وأصوله
المدينة
وهران
المذهب الفقهي
المالكي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشكره سبحانه على نعمه المتتاليات، فبشكر نعمته تزيد النعم وتتكاثر البركات، وبفضله ورحمته ومِنَّته على عباده تعرف الحسنات من السيئات، وتميز الخيرات من الموبقات، واللهم صل وسلم وبارك وأنعم على مبيّن الحلال من الحرام محمد أشرف المخلوقات، المحذر من الوقوع في المشتبهات، فضلا عن اقتراف المحرمات وعلى آله وصحبه أهل الفضل والمروءات، وعلى من تبعهم بإحسان في غابر الأزمنة والأوقات.
تمّ يوم 23 أبريل 2019 مناقشة أطروحة دكتوراة بعنوان: "الاختيارات الفقهية للإمام ابن عطية الأندلسي من خلال المحرر المجيز"، وقد قررت اللجنة الموقرة مناقشة أطروحتي، ومنحي درجة مشرف جدا. فالحمد لله أولا وآخرا ثم الشكر موصول لكل من شاركني هذا الجهد من قريب أو بعيد.
وها أنا أعرض على أحبتي مقدمة الأطروحة مع النتائج والتوصيات عسى أن ينفع الله بها طلاب العلم ممن يسعون إلى مستوى ما بعد التدرج، وطالبا النصح والتوجيه من أساتذتنا الكرام حتى تعم الفائدة، كما أسأله سبحانه العفو عني فيما أخطأت فيه، والتوفيق فيما عزمت عليه، وقد قيل: "لا يَزَال المرءُ في فسحةٍ من عقلِه ما لم يضَع كتابًا يَعرِض على النَّاس مكنونَ جهلِه، ويتصفَّح به إن أخطأ مبلغ عقلِه"، فما كان صوابا فبتوفيق من الله وحده، وما كان غير ذلك فمنّي وما اعتراني من النقصان، وما التبس عليّ من كيد الشيطان.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، سيد الثقلين من الأولين والآخرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
أما بعد:
فلا شك أنّ من نعم المولى ï»· على عبده أن يوفقه لطلب ما ينفعه من العلم، ولا ينفع العلم صاحبه إلا أن يكون به عاملا، ولذلك كان سيد الخلق r يستعيذ بالله من علم لا ينفع[1]، ولأنّ شرف العلم على قدر شرف المعلوم، كان فهم مراد الله ورسوله أشرف هذه العلوم على الإطلاق، فبكتاب الله وسنة نبيه r يُعرف الهدى من الضلال، والحلال من الحرام، ومن أجل ذلك أثنى رسول الله r على من تفقه في الدّين وسعى إليه، فقال r: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ))[2]، وليس غريبا أن نرى كثيرا ممن شحذوا الهمة في طلبه، وشمّروا على سواعد الجد في تحصيله، تنوعت تصانيفهم على حسب علومه، فمنهم من تعلق بالتفسير وعلوم القرآن، أو بعلم الكلام وفنونه، أو بالحديث وعلومه، أو بالفقه وأصوله، أو بالسير والرقائق، أو بغيرها من العلوم الشرعية الجليلة.
والفقه في الدّين منطلقه كتاب الله ï»· وسنة نبيه r، وفهم المراد لا يكون إلا على ما فهمه الصحابة والتابعون y من رسول الله r، فهم أهل السليقة، وعليهم نزل كتاب الله، وهم الذين عاشروا صاحب التنزيل، فكانوا أعرف النّاس بمراد الله منّا، وأخذ عن هؤلاء الصفوة كثيرٌ من أهل الفضل والعلم، ومن هؤلاء العلماء الأئمة الأربعة، أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم y، فتعددت أقوالهم بحسب تعدد أقوال من سبقهم، وأصبح لديهم من الأصحاب والأتباع ما انتشرت به أقوالهم الفقهية، فخلَّف هؤلاء الأعلام مصنفات ودواوين فقهية أثروا بها المكتبة الإسلامية.
وبتعدد أقوال السلف والخلف، ساغ للفقهاء من بعدهم في الأمصار والأعصار أن تكون لهم اختيارات فقهية، اختاروها وفق رؤية معلومة عندهم، فميّزوا به الصحيح من السقيم، والقوي من الضعيف، سواء كان هذا الاختيار في داخل المذهب الواحد أو اتسع نطاقه فيشمل المذاهب المعتمدة الأخرى، ولذا كان على الباحثين في حقل الشريعة إبراز ما جادت به جهود هؤلاء الأعلام الأفذاذ، والتعريف باختياراتهم الفقهية عسى أن يكون هذا العمل حلّا من الحلول لما سيستجدّ للنّاس من فروع ومعضلات فقهية معاصرة، فيتحقق بها صلاحية هذا التشريع لكل زمان ومكان.
والمعتاد في مثل هذه الدراسات الفقهية أن تكون من دواوين الفقه ومصنفاته، وبحثي هذا جاء على غير العادة، ذلك أني انتقيته من أحد أمهات التفاسير المعتبرة المفيدة المحررة، والتي وُصِف صاحبها بالمفسر المحدث الفقيه النحوي الأديب، وأعني بالذكر الإمام القاضي أبا محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، صاحب كتاب التفسير "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز".
وقد وقفت على بعض هذه الاختيارات من المسائل الفقهية للإمام ابن عطية /، فوقع في نفسي أن أخوض غمار هذا البحر، وأرد مورده لأنهل من معينه الصافي.
الإشكال المطروح
أمّا إشكال بحثي فهو كما يلي:
- كيف تعالج المسألة في الاختيارات الفقهية من حيث التأصيل والتقعيد.
- كيف يمكن الوصول عن طريق استقراء المسائل الفقهية إلى حصرها وترتيبها بشكل سلس وميسّر، دون حشو وتوسّع يخل بالقصد، حتى يتأتى بيان مستند أحكام هذه المسائل، ومعرفة أنواع هذه الاختيارات؟
- محاولة معرفة منهج ابن عطية / وآليات الاستنباط عنده في تفسيره المحرر الوجيز، لبيان مكانته العلمية بين فقهاء المالكية على وجه الخصوص، وعند غيرهم على وجه العموم؟
فاقتضى الاشكال أن تكون أطروحتي موسومة بـ: "الاختيارات الفقهية للإمام ابن عطية من خلال المحرر الوجيز"، راجيا من الله أ أن يذلل ليَ الصعاب، ويحقق ليَ به من القرب والرضا ما أنال به العفو والغفران يوم الحساب، وأن يقرّ عين كل من أمّل فيّ التَعلُم والاجتهاد.
منهج البحث
اقتضى البحث أن أعتمد على المنهج التاريخي، وذلك من خلال تتبع مصطلح الاختيارات الفقهية. والثّاني: المنهج الاستقرائي، وذلك من خلال تتبع جميع المسائل الفقهية من المحرر الوجيز، ثم حصر المسائل التي أبدى فيها ابن عطية / اختياره تصريحا أو تلميحا، ثم محاولة ترتيب هذه المسائل الفقهية المختارة ترتيبا يسهل معه دراسة المادة المخرّجة. والثّالث: المنهج المقارن، وذلك بالمقارنة بين أقوال الفقهاء، وبيان محلّ النزاع فيها، مع التحليل والتعليق عليها، سواء كانت المسألة داخل المذهب أو خارجه.
إذن بعد استقراء المحرر الوجيز لابن عطية /، واستخراج أغلب المواضيع الفقهية التي تناولها الشيخ في كتابه، ظهر لي ترتيب مواضيعها على ثلاث مجموعات:
- ما كان الترجيح فيه ظاهرا سواء كان مدلّلا عليه أم غير مدلل.
- ما كان الترجيح فيه مفهوما غير مصرّح به سواء كان مدلّلا عليه أم غير مدلل.
- ما كان الترجيح فيه محتملا احتمالا ضئيلا أو ليس للشيخ فيه اختيارٌ البتة.
ثم بدأت بدراسة المجموعة الأولى والثانية، وعدلت عن المجموعة الثالثة لكونها لا تخدم موضوع الاختيارات الفقهية في نظري، أمّا عن المجموعتين المراد دراستهما فقد رتبتهما على حسب سبب الاختيار عند القاضي ابن عطية /، وهي طريقة الكليات التي اقترحها الدكتور النجيري في كتابه: "الاختيار الفقهي وإشكالية تجديد الفقه الإسلامي".
وبيانه أنّ الباحث حاول طرح تصور جديد للاختيارات الفقهية يختلف عن الطرح الذي عهدناه في الدراسات الأكاديمية السابقة، وذلك بعرض المسائل الفقهية على ترتيب الأبواب الفقهية، وذكر أنّ هذا التجديد لا يمكن أن يتحقق بدون معالجة الأزمة الفكرية التي تعاني منها الأمّة، وأنّ تجديد الفقه هو جزء من تجديد الفكر الإسلامي، ومن ثمّة أراد فتح الباب لصيغة مغايرة لدراسةٍ نظريةٍ تطبيقيةٍ عن الاختيارات الفقهية.
ومن ميزات هذه الدراسة عرضها على شكل كليات، كل كلية تندرج تحتها مجموعة من المسائل يجمعها نوع من أنواع الاختيار الجلي والخفي، وقد جعلها الباحث ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل: الاختيار بحسب سببه، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
• ما كان اختيارا بالنص )الكتاب والسنة، أو الترجيح عند التعارض بينها(.
• ما كان اختيارا لسبب مقاصدي.
• ما كان اختيارا بالرأي.
النوع الثاني: الاختيار بحسب وصف الدليل، وهي مصطلحات يوظفها المجتهد يعبّر من خلالها عن موقفه تجاه المسألة الفقهية، وقد يكون الاختيار:
• إمّا بين مسألتين يقطع بالحق في أحدهما ويردّ الأخرى.
• وإمّا بين مسألتين أو أكثر كلاهما جائزتين أو مباحتين، فيترجح الصواب منها.
النوع الثالث: الاختيار بحسب وضوح نسبته إلى من اختاره، فيكون منه ما هو جلي مصرّح به، ويكون منه ما هو خفي غير صريح به.
أمّا ما يخص منهجية دراسة المسائل فقد اعتمدت أولا على نصّ الإمام كمنطلق للدراسة قبل شرحه والتعليق عليه، فبمعرفة المسألة وحصر أقوال العلماء فيها وأدلتهم، ومعرفة اختيار الشيخ من ذلك كلّه، والقول الذي رجّحه إن كان ظاهرا منصوصا عليه أو مفهوما من مضامينه، قمت بترتيب هذه المسائل على ما هو موجود في الفصل التطبيقي، وعلى قدر ما يعرض في المسألة من أقوال وأدلة تكون الإضافة، فإذا ألمّ الشيخ بذكر جميع الأقوال والأدلة اكتفيت بها، وإلا أضفت عليها ما يخدم البحث دون الإطالة والحشو، فاتبعت الترتيب التالي:
- إذا ذكر الشيخ أقوال العلماء وأدلتهم، ورجّح قولا من الأقوال أو عمد إلى رأي مغاير، ذكرت هذه الأقوال مع نسبتها إلى أصحابها من الكتب المعتمد لكلّ مذهب ممن كان قبل زمن الشيخ ابن عطية / أو ممن عاصره، فإن تعسّر ذلك ذكرت أقوال من جاء بعده.
طبعا من المعلوم أنّ الشيخ ابن عطية / من وفيات منتصف القرن السادس، ولذا تجنبت ذكر أقوال الفقهاء المتأخرين الذين جاؤوا من بعده إلا بعض المشايخ من المالكية، كابن رشد الحفيد وابن عرفة وخليل بن إسحاق مثلا، والمراد من ذكر هؤلاء الأعلام كان أساسا لتمييز الأقوال المشهورة من الضعيفة في المسألة، أو لذكر سبب الخلاف فيها، وكذلك لبيان اختلاف الفقهاء في المسألة بين من جاء متقدما على ابن عطية / وبين من تأخر عنه.
- وإذا عدل المؤلف عن ذكر بعض الأقوال أو الأدلة، تمّمت المسألة بذكر الأقوال والأدلة من المذهب المالكي، والمذاهب المعتمدة الأخرى على حسب ما يخدم الموضوع.
- وإذا كان قول المتقدمين مخالفا لقول المتأخرين أشرت إليه، مع اعتماد الأقوال المشهورة لكلّ مذهب، وقد أذكر الأقوال الشاذة في المذهب المالكي على ما يخدم المسألة، دون إهمال الدّليل المعتمد، إضافة إلى ما استدل به الشيخ / في المسألة.
- أمّا عن طريقة العرض، فغالبا ما أترجم للمسألة بالآية خاصة إن كان محلّ الحكم يدور على معناها، فأذكر المعاني الواردة فيها والأقوال كما ذكرها الشيخ ابن عطية /، مع ذكر الحكم المترتب عن كلّ قول إن وجد.
- أمّا بالنسبة لعرض الأدلة، فمرة أذكرها من المنقول والمعقول على حسب ما هو متوفر. ومرة أذكر الأدلة مضمنةً في الأقوال، خاصة إذا اقتبستها من الكتب المعتمدة للمذاهب، وقد أذكرها بشيء من التصرف.
ولا يفوتني أن أشير إلى أن الترجيح سواء كان ظاهرا أم مفهوما قلت عند بيانه: "اختيار القاضي ابن عطية /"، ثم أذكر تعليقا أبيّن فيه محل الشيخ من الحكم، هل وافق المذهب في الخلاف أو خالفه، وهل أخذ بالمشهور من الأقوال أو بالشاذ منها أو انفرد بحكم مغاير، وربما أضفت شيئا من التعليق إن تطلب الأمر ذلك.
أسباب اختيار الموضوع
من الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع، أساسه ما أشار به عليّ أحد الأحبة من طلبة العلم، حيث دلني على كتاب المحرر الوجيز، وما يتميز به من ثروة علمية، واختيارات فقهية لصاحبه الإمام ابن عطية /، فما كان لي إلا أن تصفحت الكتاب عن قرب، وعندها وقفت على بعض اختياراته، ومن خلال ذلك اتضحت لي الرؤية واقتنعت بالموضوع، فاستخرت الله تعالى في ذلك، ثمّ توكلت على الله راجيا منه السداد والتوفيق فيما أرمي إليه.
فضلا عن ذلك بدا لي دراسة هذا الموضوع لأسباب أخرى منها:
- الخروج بالاختيارات الفقهية في ثوب جديد إلى مستوى يليق بها، من خلال التنويع في عرض مسائلها، وذكر سبب الاختيارات فيها، والتعليق عليها، وهذا بخلاف ما كانت عليه الاختيارات الفقهية سابقا.
- ندرة البحوث التي اعتنت بدراسة الاختيارات الفقهية من خلال كتب التفسير، ولا أقصد كتب الأحكام في القرآن الكريم، وإنّما قصدي كتب التفسير العامة.
- المكانة العلمية الرائدة التي تميّز بها كتاب "المحرر الوجيز" في أوساط أهل العلم، مما دفعني إلى إبراز هذه الاختيارات الفقهية، بحكم أنّ ابن عطية / معدود من أعيان الفقه في المذهب المالكي الأندلسي.
أهمية الموضوع
إنّ المطّلع على كتب الاختيارات الفقهية سواء كان المرجع فيها كتاب تفسير أو كتاب فقه، يجد أنّ الباحث فيها يعرض مواضيعه على ترتيب الأبواب الفقهية، ويسرد الاختيارات الفقهية للكتاب المختار من أوّل باب الطهارة إلى آخر باب من أبواب الفقه، ولا شك أنّ لهذه المنهجية إيجابياتها كما لها سلبياتها، فقد تأخذ من الباحث العمر الطويل في استقراء مباحثها، وخاصة إذا زاد على ذلك في بحثه المنهج المقارن في دراسة المسائل.
ولذا نجد كثيرا ممن تصدى للاختيارات الفقهية عند العلماء يتناول جانبا من جوانب الفقه، إمّا العبادات منها أو المعاملات، أو يتناول بابا من أبواب الفقه، كباب الأنكحة أو البيوع أو المواريث، فإن علت همّته استقرأ جميع الأبواب، وهذا الأمر قد يدفع بالقارئ الكريم للإعراض عن قراءة جميع مباحث الكتاب.
ولهذا بدا لي مراجعة طرح هذه البحوث بصيغة جديدة، تمكّن الباحث من معرفة الملكة الفقهية لصاحب الاختيارات ومنهجه فيها، بمعرفة طرقه في الاجتهاد والتخريج والترجيح، مع عرض المسائل الفقهية على شكل كليات تجنبنا التكرار والاجترار، كما يمكننا بعد الدراسة تصنيف صاحب الاختيارات في رتبة من مراتب الاجتهاد بحسب اجتهاده. وبهذا وغيره يكون الموضوع فيه من الإثراء والتميّز ما لم يكن موجودا في البحوث السابقة.
أمّا عن أهمية الموضوع فتكمن فيما يلي:
- إبراز الجانب الفقهي للإمام ابن عطية / من خلال كتابه المحرر الوجيز، ومنه استعراض آرائه الفقهية، وإلا فمكانته العلمية في التفسير ظاهرة بيّنة بشهادة أهل التفسير أنفسهم، ويكفيك أنّ الإمام القرطبي اعتمده في كتابه "الجامع لأحكام القرآن"، كما اعتمده الإمام أبو حيان في تفسيره "البحر المحيط"، وأصّله الإمام ابن جزي في اختصاره لأقوال المفسرين في كتابه "التسهيل لعلوم التنزيل"، كما اعتمده الإمام أبو زيد الثعالبي الجزائري ونقل جلّ مادته في تفسيره "الجواهر الحسان في تفسير القرآن".
- عرض نظرة جديدة لمفهوم الاختيارات الفقهية، خاصة إذا اعتمد الباحث فيها المنهج المقارن، مع بيان طرق الاجتهاد في الاختيارات الواردة لصاحبها.
- إثراء الموسوعة الفقهية بضم أقوال ابن عطية / إلى أقوال من سبقوه من فقهاء المالكية أو أصحاب المذاهب الأخرى.
أهداف الموضوع
أمّا الأهداف المرجوة من دراسة كتاب ابن عطية من جهة اختياراته الفقهية فكالآتي:
- اكتساب الملكة الفقهية من خلال عرض الأقوال المختلف فيها سواء كانت داخل المذهب أم خارجه، والمقارنة بينها بغية الوصول إلى القول الراجح منها.
- تسليط الضوء على ما انفرد به الإمام ابن عطية / من اختيارات فقهية، سواء خالف فيها المشهور من المذهب أو خرج عنه، مع بيان التنوع في الاختيار، وإن كان من المعلوم مسبقا أنّ المحرر الوجيز يعدّ مصنف تفسير لا فقه.
- بيان القول الراجح والمرجوح من الأقوال المختلف فيها خدمة للتشريع الإسلامي، من خلال عرض دراسة مقارنة تتضمن اختيارات فقهية لعالم من أعلام الإسلام.
- الوصول إلى معرفة درجة الاجتهاد عند الإمام ابن عطية / ولو بالتقريب، من خلال تتبع طرق استنباطه واجتهاده في المسائل الفقهية، مع محاولة تحديد هذه الرتبة إن أمكن.
- إثراء المكتبة الإسلامية بنوع من أنواع العلوم الشرعية التي قلّ فيها البحث الأكاديمي، وهو فن الاختيارات الفقهية، بصيغة جديدة تختلف عن سابقاتها شكلا ومضمونا.
الدراسات السابقة
بعدما حدّدت موضوع هذه الأطروحة، بدأت بجمع ما تناثر من البحوث التي خصّت الجانب النظري بالدراسة، أي ما تناول موضوع الاختيارات الفقهية من حيث الضوابط والأسس وغيرها، كما أني حاولت الاطلاع على ما يخدم الجانب التطبيقي، والمواضيع التي تناولت الإمام عبد الحق ابن عطية / بالدراسة، ومن خلال ذلك وقفت على مجموعة منها في التفسير وعلوم القرآن، وقد تنوعت هذه البحوث بين منهجية التفسير عند الإمام والاستنباط وعرض القراءات والتفسير الفقهي والمقارنة بين تفاسير أخرى.
أمّا ما يمتّ بصلة بالفقه بصفة مباشرة فلم أعثر إلا على باب في فقه الأحوال الشخصية، وللتعرُّف على مضامين هذه الدراسات أكثر سأعرض شيئا منها:
1/ "الاختيارات الفقهية أسسها ضوابطها ومناهجها"، لأحمد محمد معبوط.
تعرض الباحث في هذه الأطروحة إلى الجانب النظري للاختيارات الفقهية من حيث التأصيل والتقعيد في جزئين، وجملة ما خلص إليه أنّ الاختيار الفقهي يعدّ رديف الاجتهاد، فبيّن مفهومه ومشروعيته وأهميته، وبما أنّ الباحث ذهب من منطلق أنّ الاجتهاد ركن الاختيار الفقهي، وأنّ الثاني رديف الأوّل، ساغ له الكلام على الاجتهاد وأنواعه وشروطه ومراتبه وأحكامه. كما تعرض الباحث إلى المسالك الاجتهادية للاختيار الفقهي في المذاهب الفقهية المعتبرة، ومنها: مسلك التخريج والترجيح.
وفائدة هذا المرجع هو ضبط مفهوم الاختيار الفقهي، من ذكر شروطه وأسسه وضوابطه مما يمتّ بصلة مباشرة لما أودّ طرحه بإذن الله، كما يعدّ موضوع الباحث أحمد معبوط سابقة في هذا الفن من حيث التنظير، كطرح متكامل متجانس، فجزاه الله عنا كل خير.
وتمثلت الزيادة على هذا الطرح بذكر بعض أنواع الاختيارات الفقهية التي لم يذكرها الباحث أو ربما لم يرها من الاختيارات الفقهية أصلا، كما أني سأبرز علاقة المصطلحات ذات الصلة بمصطلح الاختيار الفقهي نفسه، مع ترجمة ذلك كله بمسائل فقهية.
2/ "التفسير الفقهي عند الإمام ابن عطية"، لعبد السلام محمد أبو سعيد.
بعد قراءة الكتاب كاملا، وهو من جزئين تبيّن أنّ الأطروحة تحدثت عن مصادر الفقه عند ابن عطية، ومنهجه في تفسير آيات الأحكام، واستنباط الأحكام الفقهية، ثم كيفية عرض المسائل الفقهية في تفسيره، ومدى تأثر وتأثير ابن عطية / في المفسرين ممن جاؤوا قبله أو بعده، والقيمة العلمية في تفسيره الفقهي.
وفائدة هذا الكتاب تكمن في الجانب المنهجي عند ابن عطية /، ففضلا على استقراءه لجميع المسائل الفقهية، ذكر منهجه في عرض هذه المسائل. ولو تمكنت من الكتاب في أوّل عملي لبدأت من حيث انتهى إليه الباحث عبد السلام أبو سعيد، ولكن الأقدار شاءت أن أبدأ العمل من أوّله.
أمّا عملي في الرسالة، فتمثل في عرض هذه المسائل على شكل كليات، تحاشيت من خلالها الوقوع في التكرار والحشو، كما تمّ عرض دراسة مقارنة للمسائل الفقهية المختارة، مع التعليق على كل مسألة بما يخدم موضوع الاختيارات الفقهية.
3/ "الاختيار الفقهي وإشكالية تجديد الفقه الإسلامي"، (مع دراسة في اختيارات ابن قيم الجوزية)، للباحث محمود النجيري.
وهذا الموضوع جاء ضمن مواضيع أخرى قامت بنشرها مجلة الروافد الكويتية الداعية لمشروع فكري وثقافي وأدبي، وقد حوى المقال كثيرا من الأفكار والمقترحات التي تليق بأن تكون رسالات أكاديمية بامتياز، فممّا نوّه إليه الباحث أنّ مصطلح الاختيار الفقهي كان موجودا عند أسلافنا في أذهانهم، ولكنهم لم يعتنوا به من حيث الدراسة المصطلحية كما هي عادتهم في ضبط مصطلحات العلوم، وأنّ من تبعات هذا الإهمال -إن صحّ التعبير- استعماله في غير محلّه من بعض المعاصرين المتخصصين في الشريعة.
كما اجتهد الباحث في وضع تعريف جامع للاختيار الفقهي بعد بيان مفهومه، وأبان أيضا على أنواع الاختيارات الفقهية، والمجال الذي تظهر فيه اختيارات المجتهد، مثل التخريج والترجيح والتمذهب والتخيير والتوقف، وهي كما لا يخفى مصطلحات لها علاقة بالاختيار الفقهي خاصة، وبالاجتهاد عامة.
ومحاولتي بعد هذا الطرح تطوير مصطلح الاختيار الفقهي والمصطلحات الأخرى ذات الصلة من حيث التأصيل والتقعيد، خاصة أن الباحث قصد -فيما بدا لي- جمع حيثيات هذه المصطلحات لا غير.
والفائدة من هذا المؤلَف أني حاولت السير على هذا التصور، وترجمته عمليا من خلال استخراج الاختيارات الفقهية للإمام ابن عطية / على هذه الكليات، مع إضافة بعض التعديلات التي بدت لي مطلوبة، والله الموفق للصواب.
4/ "فقه الأحوال الشخصية عند القاضي ابن عطية الأندلسي من خلال كتابه المحرر الوجيز"، (الزواج والطلاق نموذجا)، للباحث علي صبري.
اهتم الباحث علي صبري في هذه الرسالة ببعض قضايا ما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية، وما يتعلق بها من مباحث كأحكام الزواج والطلاق، من خلال دراسة كتاب المحرر الوجيز، حيث أبرز جهود العلامة ابن عطية / المفسر الفقيه اللغوي الأديب في قضايا الأسرة، وطول باعه في معرفة أحكامها.
وفائدتي من هذه الرسالة كانت في معرفة منهجية الباحث في التعامل مع المسائل الفقهية، وكيفية عرض الأقوال الفقهية المقارنة فيها، وأهمّ من ذلك معرفة رأي القاضي ابن عطية / في المسائل المدروسة واختياره فيها، حتى أتفادى استنساخ عمل من سبقني.
ومرادي في هذه الأطروحة دراسة مختلف المباحث الفقهية في تفسير ابن عطية /، وعدم الاقتصار على مبحث الأحوال الشخصية فقط، فضلا أني ختمت كل مسألة فقهية بتعليق أذكر فيه مذهب الفقيه في المسألة، ومستنده في الحكم ونوع الاختيار الفقهي فيه، وربما ذكرت نكت تتعلق بالمسألة.
5/ "الاستنباط عند الإمام ابن عطية الأندلسي في تفسيره المحرر الوجيز"، (دراسة نظرية تطبيقية)، لعواطف أمين يوسف البساطي.
في دراستها أبانت الباحثة عن استنباطات الإمام ابن عطية / في القرآن الكريم، وما شدّني إلى البحث تلك الاستنباطات المتعلقة بالفقه وأصوله والقواعد الفقهية خاصة، والتي تمتّ بصلة لهذه الأطروحة.
6/ "الترجيح في التفسير عند الإمامين ابن عطية والشنقيطي من خلال تفسيريهما المحرر الوجيز وأضواء البيان" (عرض وموازنة)، لشوقي هشام.
وفائدته كانت أيضا في الرجوع إلى بعض آيات الأحكام التي أبدى فيها الإمام ابن عطية / اختياراته.
صعوبات البحث
الأكيد أنّه لا يخلو بحث من البحوث إلا وتعتريه مصاعب وعقبات تحول بين الباحث وبين ما يصبو إليه، ولعل أهمّ هذه العقبات تكمن فيما يلي:
- بعد منّ الله تعالى علي وتوفيقه إياي في الامتحان التأهيلي لخوض غمار الدكتوراه، بدأت تحضير عنوان مناسب لذلك، والحق أني طرحت بعض العناوين للاختبار، غير أنّ صاحب المشروع الدكتور أحسن زقور -حفظه الله- رأى رأيا مغايرا يخدم به المشروع أكثر، وكانت المدة المتاحة لاختيار الموضوع محدودة جداً، فأصابني نوع من الارتباك والقلق.
- قلّة المراجع التي تناولت موضوع الاختيارات الفقهية من حيث التأصيل والتقعيد، وكما لا يخفى أنّ الدراسات السابقة للاختيارات الفقهية عند الفقهاء كانت تعرض آراءهم دون التطرق لمعنى الاختيارات الفقهية من حيث مفهومها وأسسها وضوابطها ومناهجها، وأحمد الله على ما وجدته عند الدكتور معبوط من مادة علمية فتحت ليّ الباب على البحث والتقنيب، دون الانتقاص من كتاب ضوابط الاختيار الفقهي عند النوازل اصدار لدار الافتاء المصرية، أو كتاب الدكتور النجيري الذي يعدّ بمثابة الشعلة الأولى التي أنارت طريقي في هذا البحث.
- كما واجهت صعوبة في اقتناء كتاب التفسير الفقهي عند ابن عطية للدكتور عبد السلام محمد أبو سعيد، واستغرق وقت البحث مدة تزيد على السنتين حتى منّ الله علي به، ومنه قارنت بحثي بما توصل إليه صاحب الكتاب.
- ولا يخفى أيضا أنّ تفسير المحرر الوجيز هو خلاصة جهد الإمام طوال حياته العلمية، وليس من السهل استيعاب جميع مضامينه العلمية اللغوية والشرعية، وعليه كنت أتحفظ في نقل المعلومة حتى أني أكررها مرارا بغية إدراك مرادها عنده، مخافة أن أنسب إليه ما ليس له، وبالأخص تلك الاختيارات الفقهية غير الصريحة، والتي يتردد المرء في نسبتها إلى صاحبها.
خطة البحث التفصيلية: مكونة من مقدمة وفصل تمهيدي وثلاثة فصول رئيسة وخاتمة.
مقدمة: صدرتها بالحمد والثناء على الله، ثم ثنيتها بتوطئة يحسن من خلالها الولوج إلى موضوع الاختيارات الفقهية، وبعدها عرضت الإشكال المطروح، ومنهجي في البحث، ثم الدوافع في اختيار الموضوع وأهميته وأهدافه، دون إهمال الدراسات السابقة، وما يرد عليها من إضافات، وذكر الصعوبات التي واجهتني في البحث، ثم ختمتها بخطة تفصيلية.
الفصل التمهيدي: ترجمة الإمام ابن عطية / ومؤلفه
قيدت هذا الفصل بمبحثين، الأوّل قسمته إلى مطلبين، صدرت أوّله بالحديث عن حياة ابن عطية الشخصية بذكر نسبه ومولده وأسرته ووفاته، أمّا الثاني فبعرض الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية من عصر الإمام /، والمبحث الثاني وهو من مطلبين أيضا، خصصت أوّله للحياة العلمية من مشايخ وتلاميذ ومؤلفات الشيخ ومهامه، أمّا المطلب الثاني فتحدثت فيه عن منهج الإمام / في المحرر الوجيز والمصادر التي اعتمدها في كتابه.
الفصل الأوّل: الاختيارات الفقهية من حيث التأصيل والتقعيد
قسمت هذا الفصل أيضا إلى مبحثين: الأوّل ضبطت فيه مصطلح الاختيار الفقهي بمفهومه الخاص، وألحقت به مصطلح التخيير لاشتراكهما في المبنى والمعنى، مع ذكر ما يتعلق باللفظين من حيث اللغة والاصطلاح، وضوابط الاختيار وأنواعه وغيرها، والعلاقة بينه وبين التخيير، وكل هذا في مطلبين.
ثم المبحث الثاني ضبطت فيه المصلحات ذات العلاقة بالاختيار الفقهي، وهي على التوالي: التخريج، الترجيح، التمذهب، التوقف، الاجتهاد، واتبعت فيها ما اتبعته في مصطلح التخيير، والعلاقة بينها وبين مصطلح الاختيار الفقهي، وكل هذا في خمسة مطالب.
الفصل الثاني: الاختيارات الفقهية الموافقة للمشهور
وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأوّل يتعرض للاختيارات الفقهية بحسب سبب الاختيار، وهو ما كان الاختيار فيه بالقرآن أو السنة أو الترجيح عند تعارض نصين، أو ما كان الاختيار فيه بمقاصد الشريعة، أو ما كان بحسب الرأي كالاستحسان أو سد الذريعة أو العرف أو الاحتياط، وغيرها من الأدلة العقلية المختلف فيها، وكل هذا في ثلاثة مطالب. وأمّا المبحث الثاني ففيما تعرض له صاحب الاختيار الفقهي بحسب وصف الدليل، وهذا بذكر مصطلحات يدرك منها الترجيح والاختيار، سواء كانت بصيغة التفعيل (أفعل)، أو من دون ذلك، وجاء هذا في مطلبين. وأمّا المبحث الثالث فجاء الاختيار فيه بحسب وضوح نسبته إلى من اختاره، وقد تعددت أنواع هذا الاختيار، فجعلتها في مطلبين: أحدها فيما استدل به الإمام / بالمنقول، والآخر فيما كان دليله المعقول.
الفصل الثالث: الاختيارات الفقهية المخالفة للمشهور والمذهب
وفيه مبحثان: المبحث الأوّل في المسائل التي استند فيها ابن عطية / على الأدلة الأصلية. والمبحث الثاني في المسائل التي استند فيها على الأدلة الفرعية.
خاتمة: وقد تضمّنت أهم النتائج المتوصل إليها، مع بعض التوصيات المراد تحقيقها.
- هذا وقد عزوت الآيات القرآنية بذكر اسم السورة، ورقم الآية، إن كانت الآية كاملة، أمّا إن ذكرت طرفا منها فقط، أضفت كلمة "الآية" خلف البيانات، حتى يفهم أنها غير كاملة.
- كما خرّجت الأحاديث التي ذكرت في ثنايا البحث، غير ما جاء في الأمثلة المقتبسة من المحرر الوجيز من الفصل التمهيدي والنظري.
- وطريقة التخريج جاءت بذكر الكتاب والباب ورقم الحديث، ورقم المجلد والصفحة، فإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بعزو الحديث إليهما أو إلى أحدهما، فإن لم يكن فيهما بحثت في باقي الكتب الستة، وهي السنن (أبي داود، النسائي، الترمذي، ابن ماجه،)، فإن لم أجد فيها بحثت في باقي الكتب التسع، (موطأ مالك، مسند أحمد بن حنبل، سنن الدارمي)، فإن لم أجد بحثت في باقي كتب الحديث.
- اعتمدت الطبعة القطرية في تفسير ابن عطية "المحرر الوجيز"، فإذا استدللت على أمر من الطبعات الأخرى أشرت إليه.
- عزوت الأقوال الفقهية والتفسيرية إلى أصحابها من مصادرها الأصلية، وغالبا ما أذكر أكثر من مرجع في المذهب الواحد لتأكيد نسبة القول.
- شرحت بعض المصطلحات والألفاظ الغريبة التي وردت في متن ابن عطية /.
- أمّا ترجمة الأعلام الواردة في البحث، فحرصت ألا أترجم إلا للأعلام غير المشهورين من الفقهاء وخاصة المالكية منهم، وعدلت عن ترجمة الصحابة والتابعين ن، وكبار الفقهاء أصحاب المذاهب الأخرى، وأهل الحديث والسير والتراجم وأهل اللغة وغيرهم، وجعلت هذه الترجمة في آخر البحث.
- أمّا عن توثيق المصادر والمراجع فاكتفيت بذكر الكتاب وصاحبه بصفة مختصرة، وربما اقتصرت على ذكر اسم الكتاب فقط إذا كان معروفا به، وتركت التفصيل في الفهرس.
وفي الختام ذيلت البحث بفهارس مفصلّة وهي كالآتي:
فهرس للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والآثار، وجعلت فهرس للأعلام المترجم لهم، وآخر للأماكن والبلدان، وقائمة للمصادر والمراجع، وفهرس للموضوعات.
وأمّا عن أهم النتائج المتوصل إليها في هذا البحث، والتي أجملتها في مجوعتين جاءت على النحو التّالي:
المجموعة الأوّلى: ما تعلق بالاختيارات الفقهية، وهي في نقاط:
1- اختلف الباحثون في تحديد مجال الاختيارات الفقهية، فمنهم من حصره في معرفة الحكم الشرعي الصحيح من أقوال أئمة المذاهب، سواء كان الاختيار موافقا للمذهب أو مخالفا له، لأنّ الموافقة أو المخالفة إنّما تكون عن بحث واستدلال، ومنهم من توسع فيه بإدخال كل اجتهاد استنباطي في الاختيار، والذي اهتدى إليه النظر أنّ الاختيار: "هو اجتهاد الفقيه في معرفة الحكم الشرعي المختلف فيه على أحد وجوه الانتقاء".
2- التخيير الفقهي هو قرين الاختيار الفقهي كونه يتمّ بين الأقوال المقبولة، والفارق بينهما أنّ الانتقاء في التخيير لا يكون إلاّ بين الأقوال داخل المذهب، أمّا الانتقاء في الاختيار الفقهي فلا يلزم ذلك، بل يمكن أن يكون بين الأقوال داخل وخارج المذهب. كما يكون التخيير غالبا بالتفويض إلى المشيئة، ومستبعد عند كثير من العلماء أن يكون بين الأقوال المتعارضة، أمّا الخيار بين الأقوال المقبولة فلا ينكره الشرع، وهو ما اختاره الإمام ابن عطية بقوله: "وتخيير الحكام باقٍ، وهذا هو الأظهر إن شاء الله".
3- أمّا الحاصل في استثمار الأحكام الفقهية من طريق التخريج فيمكن أن يكون من طريق تخريج الفروع من الأصول، أو من طريق تخريج الفروع على الفروع، أو من طريق التخريج على الأوصاف الكلية، وقد ذكرت نماذج عن هذا النوع من التخريج عند الإمام ابن عطية /. وقد كشفت الدراسة أنّه إذا تمّ تخريج قول على أصول وقواعد المذهب، ويكون هذا القول المخرج مخالفا لقول الإمام عدّ ذلك من الاختيارات الفقهية.
4- إنّ التوقّف عند تعارض الأدلة من كل وجه إذا تحقق ولم يجد المجتهد من القرائن والمزايا ما تمكنه من ترجيح قول على آخر يعدّ ذلك من التوقف السّلبي، بخلاف ما إذا وجد المجتهد من القرائن والمزايا ما تمكّنه من الميل إلى الترجيح بين تلك الأقوال، فإنّ ذلك يعدّ من التوقف الإيجابي.
5- إنّ مصطلح الاجتهاد هو الأوسع والأعم فيما ذكر من المصطلحات السابقة، وهو أوسع من الاختيار الفقهي باعتبار ما يشمل من طرق استنباط الأحكام أو تخريجها أو الترجيح بين الأقوال أو التخيير بينها.
المجموعة الثانية: ما تعلق بالإمام ابن عطية واختياراته.
1- شغف ابن عطية / لطلب العلم منذ نعومة أظافره، مع توفر البيئة الثقافية الملائمة، والأسرة العلمية المحفزة، والملكة العقلية الفائقة، والمؤهلات الشخصية القوية، مما ساعده على النبوغ والتميز. كما تردّد / على ثلة من العلماء والمشايخ المتميزين، ونهله من علمهم ومؤلفاتهم، مكّنه من استيعاب جملة من العلوم والفنون، حيث كان لها التأثير البارز على مؤلَّفه المحرر الوجيز والذي يعدّ ثمرةَ عمرٍ كاملٍ من الجهد والتحصيل.
2- العلم والقضاء والجهاد هي أبرز محطات ابن عطية /، ولا ريب أن يكون المحرر الوجيز المرآة العاكسة لها، فالناظر في مؤلَّف الإمام يُدرِك القيمة العلمية التي تميز بها، والمتصفّح لآيات الجهاد يَلمَس خبرته لأمور وخبايا القتال، والدارس لفتاواه واختياراته الفقهية يُعجَب بحنكته في القضاء، وحسن توظيفه واستغلاله لهذه المؤهلات.
3- كما كشفت الدراسة على طول باع ابن عطية / في المسائل الفقهية، خاصة ما يسمى بالفقه المقارن، مما مكنّه من ضبط أقوال الفقهاء واختياراتهم من داخل وخارج المذهب، وبحكم اطلاعه وإدراكه لكثير من هذه الخلافات الفقهية بانت قدرته على انتقاء أحسن الأقوال، مراعيا في ذلك قوة الدليل من جهة، وحال المكلفين وحيثيات الواقعة من جهة أخرى.
4- بُعد ابن عطيّة / عن التعصب المذهبي مع أنّ المذهب المالكي كان هو السائد في جزيرة الأندلس، فكان يورد الأقوال من المذهب وخارجه، مع التعليق والتعقيب بالمناقشة والردّ عليها، فمن اختياراته ما يأخذ بقول المخالف ولو من خارج المذهب، ومنها ما يردّه ولو كان من المذهب إذا جانب الصواب، وقصده في هذا كلّه توخي الحق وتحري الصدق في الطرح والدقة في النقل والسير مع الدليل.
5- ميله إلى الفقه الافتراضي أحيانا، ومحاولة إيجاد الحلول لما قد يستجد من المعضلات من حياة الناس، وهذا على خلاف ما كان عليه إمام المذهب مالك /، كما كان يعدد الاعتبار في المسألة الفقهية الواحدة، فتتعدد الأحكام بتعدد هذه الاعتبارات، وكما قيل تعدد الاعتبار يولد الاعتذار.
6- من ذلك مراعاة ابن عطية / لحال الأشخاص وزمان ومكان الواقعة عند إصدار الأحكام، وهو ما يعرف بفقه الحال والمآل، وهو بهذا يؤمن بتغيير الفتوى الشرعية بحسب مقتضيات الأحوال، وأنّ من الأحكام ما تصلح لشخص دون شخص آخر، ولبلد دون بلد آخر، ولزمن دون زمن آخر، وأن مراعاة هذه المقتضيات تعطي التشريع الإسلامي مرونة فيما ما يستجد للناس من أمور.
7- الواضح من تدخلات ابن عطية / والردود والاختيارات الفقهية التي أوردها في كتابه المحرر الوجيز أنّه كان يلتزم الأدب مع المخالف، فعباراته كانت توحي على حسن الخلق والتأدب مع العلماء، فلا يشنع أو ينقص أو يبالغ في ردّ قول المخالفين، وأقصى ما يرد منه من عبارات الرفض قوله: "قوّله ما لم يقل"، "وهذا قول ضعيف يرده النظر"، "أخطأ"، "وهم"، "غلط"، "هذا قول خلف".
8- الاستناد إلى الأدلة المختلف فيها؛ ومن ذلك قول الصحابي، وشرع من قبلنا، واقتران الحكم بالمصلحة أو المفسدة، ورفع الحرج، والعرف، وسد الذرائع، والاستحسان، والاحتياط ومراعاة فساد الناس. كما استطراد القول في بعض المسائل الأصولية وأبدى الرأيّ فيها بما يراه صوابا ومناسبا لقناعاته، كالتكليف بما لا يطاق، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، واعتبار فقه الحال والمآل في استنباط الأحكام.
9- اجتنابه ذكر رأي الظاهرية في الغالب الأعمّ، ومتى ما ذكرهم ردّ قولهم ولم يرتضه، مثل ردّه قول داود الظاهري في جواز التيمم لكل من عمّه لفظ المرض، قائلا /: وهذا قول خلف، ولعل مردّ ذلك ما كان بين المالكية وابن حزم الظاهري من خلاف في زمن ابن عطيّة، إلا أنّه لم يهجوهم بعبارات قاسية كما فعل بعض معاصريه.
10- علو كعب ابن عطية / بين أهل التفسير ووصفه بالفقيه والمحدث والأديب والشاعر، فثناء العلماء عليه وعلى مؤلَفه دليل على إمامته وسمو منزلته بينهم، كما هو دليل على رفعة كتاب المحرر بين كتب التفاسير.
11- مرّ معنا أنّ للإمام ابن عطيّة له بعض التخريجات من نوع التخريج على الأوصاف الكليّة، وإن كان التخريج هو من عمل طبقة أصحاب الوجوه، إلى أنّ هذه المحاولات لا تجعل من إمامنا أن يكون منهم، ذلك أنّ العمل النادر لا حكم له، وإنّما العبرة بالأغلب، وبعكس ذلك لاحظنا أنّه يكثر من الترجيحات، ويقرّر ويحرّر وينتصر لكثير من الآراء والأقوال، فضلا أنّه حافظٌ لمذهب إمامه، عارفٌ بأدلته، والظاهر أنّه أرقى مرتبة ممن يفتي وينقل من مسطورات المذهب، ومنصوصاته وتفريعات أصحابه المجتهدين وتخريجاتهم، ولدى يبدو لي أنّه أنسب لهذه الطبقة من غيرها، وهي طبقة مجتهدِي الترجيح أو مجتهدِي الفتيا، والله تعالى أعلى وأعلم.
التوصيات المقترحة من خلال هذا البحث:
يعدّ كتاب المحرر الوجيز لابن عطية / من أمهات كتب التفسير، ذلك أنّه يضمّ بين دفتيه كثيرا من فنون العلم الشرعية، والدارس له يدرك الثروة العلمية الموجودة فيه، ففضلا عن احتوائه شتّى علوم التفسير، فإنّه يحتوي من علوم اللغة والعقيدة والأصول والفقه والحديث والأدب، والتي تستحق أن تكون محل بحث ودراسة، ومما يمكن اقتراحه في اعتقادي ما يلي:
1- كثيرا ما يذكر ابن عطية / في المسائل الفقهية التي عرضها مصطلحات تتعلق بأصول الفقه، كمصطلح العموم والخصوص في الكتاب والسنة، ومسائل الأمر والنهي، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، ومصطلح الإجماع، وسد الذرائع، والاستحسان، وفقه الحال، وغيرها مما يمكن أن يكون موضوع دراسة أصولية فقهية.
2- كما أنّ كثيرا من هذه المسائل الفقهية كان المستند فيها أحاديث نبوية، أو قواعد نحوية ولغوية أو أبيات شعرية، وفي تقديري أنّه يمكن لباحث ما جمع هذه المادة العلمية ودراستها من حيث التخريج والتوثيق وبيان مدى تأثيرها على الأحكام الفقهية.
هذا وقد تمّ - والحمد لله - الغرض المقصود، وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود، فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين له بإحسان إلى يوم الدين.


[1]/ رواه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، رقم: 73، 4/2088.

[2]/ رواه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، رقم: 71، 1/25؛ صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم: 100، 2/719.
 
أعلى