العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مناقشة"لو كان دين الله بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه"

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وبعد:
مقدمة
اشتهر عند المطلعين على أصول الفقه أن بعض من تكلم في هذا العلم قد نفى القياس، وتعلق ببعض ما ظنه أدلة توجب النفي، ومن هؤلاء النفاة النظَّام، وقد ذكر علماؤنا في كتب الأصول ما تعلق به، وأجابوا عليها.
ومنهم ابن حزم الأندلسي الظاهري، وغيرهم ممن تبعهم في هذه الهوسة من أهل هذا العصر.
ولا نريد ههنا التفصيل بذكر أدلتهم والرد عليها، ولكن نريد بيان الرد على بعض ما تمسكوا به ليكون مثالاً للدارسين على كيفية مناقشة إيراداتهم وتشكيكاتهم.
وقد احتج هؤلاء بما سمّوه معقولاً وهو غير معقول، بل العقل يضاده، ومبناه مجرد مغالطات معتمدة على إيهامات وأوهام. ومنها ما تعلقوا به من المنقول عن الصحابة وغيرهم من المتقدمين.
فأما الجواب العام عن كل ما تعلقوا به من كلام لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فأن نقول:
كل من لم تثبت عصمته، فلا حجَّة لمجرد قوله، ولم تثبت حجة لغير النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الصحابة ثبتت له العصمة.
وبناء على هذا القول الكلي، فلا حجَّةَ لكلِّ ما تمسكوا به من كلام غير النبي أصالة.
فمعلوم أن الكلام ينظر إليه في كونه حجة من جهتين: الأولى من حيث مصدره، والثانية من حيث دلالته.
فأما الجهة الأولى، فالمصدر المقصود هنا أي قائله، فإن كان القائل معصوماً فالحجة في كلامه واقعة ثابتة، وإلا فلا حجة فيه.
وكل أحد غير النبي إذا نُظِر إليه وحده، فلا حجة لقوله اتفاقاً بين جميع أهل السنة، وأما خلاف الشيعة في ادعائهم عصمة الإمام علي والأئمة الأحد عشر، فلا دليل عليه عندنا، أقصد أهل السنة، لانحصار الحجية في النبي لذاته، أي لنفس كونه نبياً.
وأما إذا لوحظ القول الصادر من غير النبي لصفة أخرى غير كونه غير نبي، فإما أن يكون صحابياً، وإما أن لا يكون صحابياً.
والقول الصادر من الصحابي إما أن يصدر منه فقط، ولا يقوله غيره، وإما أن يصدر منه ومن غيره بحيث لا يصل الأمر إلى إجماع، وإما أن يقول به جميع الصحابة، ولا يخالف أحد منهم ذلك القول، فيكون إجماعاً.
والقول الصادر من غير الصحابة فيه نفس التقسيم المذكور.
وعلى كل التقاسيم، فقول الصحابي إذا اعتبرناه من جهة كونه صحابياً، فالنظر فيه يكون : هل قول الصحابي حجة وحده، أم لا؟
فإن كان قول الصحابي لنفس كونه صحابياً حجة، فيكفي صدور القول من واحد من الصحابة ليكون حجة في الدين ومعتمَداً لنا لبناء الدين.
ولكن الصحيح عند العلماء هو أنه لا حجية في قول الصحابي من حيث هو صحابي، لعدم عصمته.
وبناء على ذلك فمجرد كونه قولاً لصحابي واحد لا يستلزم حجيته.
وأما إذا لوحظ كونه صادراً من أكثر من واحد من الصحابة، فإما أن يصل إلى حد الإجماع، فيكون حجة، أو لا يصل، فلا حجية فيه أيضاً، لنفس السبب الأول، لأن العصمة إنما ثبتت للأمة بشرط الإجماع.
والكلام على القول الصادر من غير الصحابي في نفس النظر السابق.
هذا بالنسبة للنظر في القول من حيث قائله، وإذا بحثنا هل تحقق الإجماع فعلاً على نفي العمل بالقياس من الصحابة، أم إن غاية الأمر إنما هو أقوال محتملة لذلك من بعضهم، فإننا نعلم أنه لا إجماع في ذلك.
وأما بالنظر للمستفاد من القول نفسه، أعني إن القول قد يحتوي على الدليل المفيد للمدَّعى، بحيث يكون في نفس القول استدلال على المطلوب، فاعتبار القول ههنا لا يكون بالنظر لقائله، بل بالنظر لما يحتوي عليه من دلائل ومعانٍ.
وعليه فإن النظر في قول صدر من الصحابة يدَّعى فيه بطلان القول بالقياس، إذا لم يحمل معه دليلاً ومعنى موجباً لنفي العمل بالقياس، أو حمل معنى ولكنه غير مفيد ولا تام لذلك المطلوب المدَّعَى، فإننا نجزم ببطلان الاحتجاج بذلك القول.
وإذا تم ذلك فإن القول تبطل حجيته من الجهتين السابقتين، فلا يبقى فيه احتجاج مطلقا لانحصار أوجه الاحتجاج في هاتين الجهتين.
القول المنقول عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه:
لقد استند بعض المنكرين كون القياس حجةً في الشريعة على قول منقول عن الإمام علي عليه السلام، في موضوع مسح الخفين، وهذا القول مشهور بين الناس ويستدل به كثيرون منهم على بطلان الرأي أو القياس.
وها نحن نذكر الروايات التي ورد فيها هذا القول.
أولا: ما ورد في سنن البيهقي الكبرى (1/ 292)، برقم [1293] وأخبرنا أبو الحسن بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي، ثنا إبراهيم بن زياد، أنا حفص بن غياث فذكره بإسناده قال: قال علي : (لو كان دين الله بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح هكذا بأصابعه).
ثانياً: ومنها ما رواه البيهقي في سننه الكبرى (1/292)، برقم[1294] وأخبرنا أبو علي الروذباري، ثنا أبو بكر بن داسةـ ثنا أبو داود، ثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش هذا الحديث قال: (ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح على ظهر خفيه).
ورواه أبو داود في سننه (1/42)، برقم[163] قال: حدثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم قال: ثنا يزيد بن عبد العزيز، عن الأعمش بإسناده بهذا الحديث قال: (ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح على ظهر خفيه).
وروى أيضا في السنن (1/42)،رقم[164] قال: حدثنا محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش بهذا الحديث قال: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم، على ظهر خفيه).
ورواه وكيع عن الأعمش بإسناده قال: (كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما)، قال وكيع: يعني الخفين.
ورواه عيسى بن يونس عن الأعمش كما رواه وكيع ورواه أبو السوداء عن بن عبد خير عن أبيه قال: (رأيت عليا توضأ فغسل ظاهر قدميه وقال لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) وساق الحديث.
ثالثاً: ومنها ما رواه أبو داود في سننه (1/42)، برقم [162] حدثنا محمد بن العلاء، ثنا حفص -يعني بن غياث-، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح على ظاهر خفيه).
رابعاً: ومنا ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/292)، برقم[1295] قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو الطيب محمد بن عبد الله الشعيري، ثنا محمش بن عصام، ثنا حفص بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن عبد خير الخيواني، عن علي بن أبي طالب قال: (كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه).
قال البيهقي: وفي كل هذه الروايات المقيدات بالخفين دلالة على اختصار وقع فيما أخبرنا أبو علي الروذباري، ثنا أبو محمد بن شوذب المقرئ بواسط، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا أبو نعيم، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عبد خير قال: (رأيت عليا توضأ ومسح. ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر القدمين لرأيت أن أسفلهما أو باطنهما أحق بذلك).
وكذلك رواه أبو السوداء، عن بن عبد خير، عن أبيه، وعبد خير لم يحتج به صاحبا الصحيح، فهذا وما روي في معناه إنما أريد به قدما الخف بدليل ما مضى، وبدليل ما روينا عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي في وصفه وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً.
خامساً: قال الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (4/192): (وقول أبي الزناد إن السنن لتأتى كثيراً على خلاف الرأي، كأنه يشير إلى قول على: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه)، أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني، ورجال إسناده ثقات، ونظائر ذلك في الشرعيات كثير) اهـ.
سادساً: ومنها ما قاله ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (1/20) ناقلاً عن أحدهم: (وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كان هذا الدين بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره)اهـ.
فهذه نبذة كافية بإذن الله تعالى في تبيين رأي الإمام علي وغيره في نحو هذا القول، وجهة القياس.
وعلينا أن ننظر في هذا القول لنرى هل فيه معنى هو دليل على نفي العمل بالقياس؟ وهل ما يدلُّ عليه هذا القول يدلُّ على ذلك، حتى يجوز لمن يستند إليه نفي العمل بالقياس، ونفي اعتباره حجة؟
هذا هو أصل البحث، وندعو الله تعالى أن يوفقنا في النظر إلى الصواب.

مناقشة الروايات السابقة من حيث دلالتها
وإبطال احتجاج المبطلين للقياس بها​

أولاً: قول الإمام علي كرم الله تعالى وجهة ورضي عنه: (ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالمسح، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه)، دليلٌ صريح على القول بالرأي، وأن هذا من الشريعة ما لم يخالف النص.
وبيان هذا كالتالي:
أسلوب الحصر معناه: كنتُ أرى الأحقَّ بالمسح هو أسفل الخف، من أعلاه، وأجزم بذلك، والجزم مأخوذ من أسلوب الحصر، أي كان الإمام علي لا يرى أي احتمال آخر غير ما ذكره، وهو أن المسح من أسفل الخف لا من أعلاه، والمقصود: أن الكافي في الإجزاء هو أسفل الخف لا أعلاه. وسوف نبين هذا التوجيه لاحقاً.
ومعلوم أن الإمام علياً أسند هذا الحكم وهو المسح على أسفل الخف، إلى مجرد رأيه، (كنت أرى)، وإلى مجرِّد أنه ليس عنده نص بذلك، واستمر عدم النص في حقه حتى رأى النبي يمسح على أعلاه، فحينذاك أبطل العمل بالرأي، وأجرى الحكم المأخوذ من عمل النبي.
فهل يجوز لأحد أن يقول إن هذا دليل على إبطال القياس مطلقاً!؟
لا يحق هذا لأحد، بل غاية ما يمكن أن يقال إنما هو: إن العمل بالرأي إن كان مخالفاً للحكم المقطوع به المستمد من الشارع، إمَّا من نصه عليه، أو من عمله، فلا يصح التمسك بمجرد الرأي.
وعلة عمد جواز التمسك بالرأي ههنا ليس هو فساد الرأي من أصله، بل هو معارضة ما تحصَّلَ بالرأي لما ثبت عن الشارع.
ومعلوم أن هذا الشرط يقول به جميع الفقهاء.
والحاصل من هذا أن أصل العمل بالرأي، هو المنصوص عليه في قول الإمام علي رضي الله تعالى عنه هنا، وأيضاً فالمنصوص عليه في قوله، أن الواجب ترك العمل بالرأي إذا كان مخالفاً لحكم الشارع.
فتبين لك أيها القارئ الكريم أنَّه لا دلالة في قول الإمام علي رضي الله تعالى عنه على وجوب ترك العمل بالرأي على الإطلاق.
وقول الإمام : (ما كنت أرى...)إلخ دليلٌ صريح على أنه كان يعمل برأيه قبل رؤيته للنبي عليه السلام يمسح أعلى الخف، وهو دليل على العمل بالرأي كما قلنا.

ثانياً: قد يقول قائل: قول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح على ظاهر خفيه) يدلُّ على أن الدين لا يؤخذ بالرأي مطلقاً.
أي يدل على العموم على بطلان إعمال الرأي في أحكام الدين.
نقول: ما وجه الدلالة على ما تراه؟
فإن قال: قد أبطل الإمام العمل بالرأي في عموم الأحكام الدينية، لأن اللام في قوله: (الدين) دالة على العموم.
نقول: ما الدليل على العموم ههنا؟
فإن قال: قد بين الإمام علي أن الرأي ههنا خالف ما قرره الشارع، فهذا دليل على أن كل رأي فلا يجوز الاعتماد عليه في الأحكام الشرعية.
نقول: ههنا قضيتان: الأولى الدين لا يؤخذ بالرأي. والثانية: اعتماده إلى قياسه الذي ارتآه هو أن المسح على أسفل الخف أولى.
ولا يثبت المدعى ههنا إلا أن يثبت أمران:
الأول: صدق القول بأن قوله (الدين) يراد به العموم، أي عموم الأحكام الشرعية.
والثاني: أنه لا يتصور رأي آخر ههنا في هذه المسألة، أعني المسح على الخفين.
وكلتا المقدمتين غير مسلمتين.
فأما الأول، وهو ادعاء أن المراد ههنا بالدين عموم الأحكام الجزئية،. فهو غير مسلم لما ثبت عن النبي عليه السلام من تجويزه لعمل الصحابة برأيهم وفهمهم، وتعليمهم النظر في الأحكام الشرعية، كقياس الحج على الدين ، وللأدلة التي تمسك بها القائلون بالقياس من الروايات عن النبي وعن الصحابة من عملهم برأيهم في الأحكام الدينية وغيرها.
وأيضاً لا نسلِّم أنَّ نفي العمل بالرأي في كل حكم من أحكام الدين بالرأي هو المستفاد من هذه العبارة، لأن الإمام علياً قال: (لو كان الدين بالرأي، لكان المسح من أسفل)، وتكملة الكلام: ولكن المسح من أسفل خلاف عمل الشارع، إذن: الدين لا يؤخذ بالرأي.
فقوله الدين: إن أريد بها كل حكم من أحكام الدين، فلا يصح استدلاله على ذلك بفساد هذا الرأي ههنا؛ لأن الكلية العامة لا يستدل عليها بجزئية، وخطأ المسح على أسفل الخف أمر جزئي، ولا يكون الجزئي دالاً على كلي.
ولكن لا نسلم أنَّ هذا مراده، فلم لا يكون مراده، أي تكملة استدلاله كما يلي:
لو كان كل حكم شرعي جزئي يؤخذ بالرأي، لكان المسح من أسفل أولى، ولكن المسح من أسفل ليس بأولى بدليل فعل الشارع المسح من أعلى، ويستحيل أن يعارض فعل الشارع الأولى: إذن النتيجة: أنه ليس كل حكم جزئي يؤخذ بالرأي.
وهذه النتيجة إنما هي نفي للكلية، وليس نفياً كلياً، وهو ما يعبِّر عنه الأصوليون والمناطقة بنفي العموم، وليس عموم النفي.
أي: هذا معناه أنه ليس كل الأحكام يجوز العمل فيها بالرأي، بل بعضها يؤخذ بالرأي وبعضها لا يؤخذ بالرأي.
وهذا هو المقصود من أقوال الأصوليين عندما قالوا: إن القياس يعمل به بعض أجناس الأحكام دون بعض، وخلافهم في ذلك مشهور معلوم في مواضعه.
وهذا الاستدلال من الإمام علي صحيح على هذا الوجه، ومطابق للقواعد الأصولية والمنطقية، ولما اطَّرد من أقوال الشارع المشار إليها، وعمل المجتهدين بالرأي.
فيكون حمل كلام الإمام على هذا المعنى واجباً، لأنه لو حُمِل على الذي ذكروه للزم التناقض مع كل ما ذكرناه من القواعد.
وأما الثاني: وهو أنه لا يتصور ههنا قياس آخر ولا رأي آخر يتوافق مع ما عمله النبي من المسح على الخفين من أعلى.
فإنما أوقفنا صحة استدلاله على بيان ذلك، لأنه لو وجد رأي وقياس آخر يوافق الشارع، لما أمكن الاحتجاج بكلامه على بطلان العمل بالرأي على وجه العموم، بل يكون غاية الاستدلال به بيان أن الرأي المخالف للشارع باطل، وأما غيره فلا.
أي لو قلنا: إن القياس لا ينتج بالضرورة أن المسح يجب أن يكون من أسفل، بل قد يكون نتيجة القياس أن المسح يجزئ من أعلى، فإذا أنتج قياس آخر هذا الحكم، فليكن هذا القياس هو الموافق للشارع، وليكن القياس الأول هو المخالف للشارع، فيكون النتيجة: أن بعض الأقيسة قد تكون مخالفة، وبعضها قد تكون موافقة، فيوخذ بالموافق ويترك المخالف.
وهذا واضح بيِّن، وأما بيان وجود قياس آخر يُنتِجُ نفس حكم الشارع ويوافق عمله، فسوف نبينه لاحقا، إن شاء الله تعالى.
مناقشة قياس الإمام علي رضي الله تعالى عنه
إن أحداً من الذين تكلموا على قياس الإمام علي رضي الله تعالى عنه، لم يتعرض لمناقشته في نفس العملية القياسية، واعتبروا قياسه من حيث الأساس، صحيحاً، واعتبروا أنهم لو قاسوا لنتج عندهم ما نتج عنده.
ولكن الذي يظهر لي غير ذلك، فإن القياس إذا كان مخالفاً للنص، لزمنا أن نجزم، أن العملية القياسية ليست تنتج لذاتها من حيث هي قياس، تلك النتيجة، بل إن إنتاج تلك النتيجة التي كانت خلاف النص، إنما نتجت لأن بعض المقدمات التي اعتمد عليها ليس مسلمة، لأن القياس إذا كان دليلاً على الإجمال، وصححنا القياس في حكم من الأحكام، أو في حادثة من الحوادث، فإن علينا أن نجزم أن القياس لو كان جميع مقدماته صحيحة، لاستحال أن يُنتج غير الحكم الذي دل عليه الشارع.
وذلك لما هو معلوم على سبيل القطع من أن الأدلة لا يجوز تعارضها، وإنما التعارض في الظنيات إذ حصل، فيجب أن نجزم أن بعضها مصيب وبعضها مخطئ، ولكن العمل بالجميع على رأي المجتهدين لأنه لم نتبين أيها المصيب وأيها المخطئ، فبقي احتمال الصواب في الجميع ولو في رأي المجتهد، ولذلك صحَّ العمل بجميعها.
ولكن في هذه الحالة، فإننا نجزم أن هذا الرأي القياسي، خطأ لأنه خالف النص، ونجزم أن القياس لو ساغ في هذا المحل، لاستحال أن تكون جميع نتائجه باطلة، وإلا فإن هذا يعود بالحكم على جوازه هنا بالبطلان.
ولذلك فنقول:
إما أن يكون أصل القياس جائز التطبيق والإجراء في حادثة المسح على الخفين، أو لا يجوز:
فإن لم يجز القياس في هذا الحكم، لعلة كون الحكم تعبدياً غير معقول المعنى مثلاً، فلا يصح ادعاء أن قياسا ههنا أجري، وأنتج ما يخالف النصَّ، وأنه يستحيل وجود قياس في هذا المحل إلا ونتيجته تخالف النصًّ؛ لأنَّ القياس إن صح فلا بد أن يوجد ولو إجراء قياسي واحد موافق للحكم الصحيح، وإلا لو كانت جميع الاحتمالات القياسية الممكنة في حادثة معينة مخالفة للحكم الوارد بالنص، لصار هذا دليلاً على بطلان القياس في هذا المحل كما تقدم.
وبناء على ذلك النظر العام، فإن علينا أن نبرز ههنا إجراء قياسياً آخر في حكم المسح، بحيث يكون منتجاً للحكم الوارد بالنص، وأن نبين وجه الخطأ في القياس المنقول عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه.
وليعلم أن قولنا أن هناك خطأ في القياس الذي أجراه الإمام علي رضي الله عنه، لا يستلزم إنقاص مرتبة الإمام، وذلك لأنه هو عينه صرح بوجود الخطأ في الحكم الذي قال إنه مقتضى القياس، وإنما نحن نحاول في هذا التحليل، بيان العلة التي اعتمد عليها الإمام علي في إنتاج الحكم المذكور، وبيان أن هناك علة أخرى لو اعتمدناها معرِّفةً للحكم، لما نتج عندنا إلا نفس الحكم الذي صرح به الشارع.
قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح على ظاهر خفيه).
وقال: (كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ظهر قدميه على خفيه).
ههنا عندنا الحادثة: وهي المسح على الخفين، والمطلوب حكمها.
فالإمام علي رضي الله تعالى عنه، يقول: إن الرأي أن الأولى بالمسح هو باطن الخفين لا ظاهرهما.
وهذا الرأي إما أن يكون رأياً ابتدائياً، بلا قياس على حكم آخر، وإما أن يكون قياساً على حكم آخر ثبت بنص الشارع قبل.
فإن كان الحكم بلا علة، فهو قول بالرأي المذموم، الذي لا مستند له من الشريعة، والذي يبطل القول به عند جميع العلماء.
ولكن هذا الأمر لو كان هو المقصود عند الإمام علي، لما جاز لأحد أن يخالفه فيه، لأن القول في الدين بلا دليل مطلقاً، قول مردود.
ولو كان هذا هو المراد من قوله رضي الله تعالى عنه، لما جاز لنفاة القياس الاستناد إلى قول الإمام علي رضي الله عنه، لأن القياس ليس قولاً بلا دليل وليس قولاً بالتشهي.
إذن نفاة القياس يجب أن يقولوا: إن هذا الحكم الذي افترضه الإمام إنما توصل إليه بالقياس، وبناء على ذلك فالمراد بالرأي ههنا إنما هو القياس لا مطلق الرأي.
والذي يبدو لي أن الإمام علياً ما قصد القياس مطلقاً، بل قصد مطلق الرأي، لما سنراه لاحقا.
وبما أنهم يفترضون أنه اعتمد على القياس فلنحاول النظر في القياس الذي أجراه، ولنتأمل في علته التي علَّق بها الحكم الشرعي.
قلنا: إن الحادثة هي المسح على الخفين، والمطلوب معرفة محل المسح، هل هو أعلى الخف أم أسفله؟
فالذي قاله الإمام علي أنه الأعلى، والظاهر أنه افترض أن المطلوب من المسح إنما هو التنظّف، والخف إنما يتسخ من أسفل أكثر من اتساخه من أعلى، ولذلك إذا مسحنا فإنما يجب المسح من أسفل لإزالة الوساخة الحاصلة من المشي عليهما.
ولا يوجد معنى سائغ يظهر لي أن الإمام اعتمد عليه في استنباط الحكم المذكور إلا هذا المعنى، وهو أن المراد من المسح على الخفين إنما هو النظافة.
ولا بدَّ أن يكون هناك أصل قاس الإمام علي المسح على الخفين عليه، وهذا الأصل الأشبه أن يكون هو الوضوء وغسل القدمين منه على التحديد، لأن المسح على الخفين إنما جاءت رخصة من الشارع بدل الوضوء، أي غسل القدمين من الوضوء، فيلزم على ذلك أن تكون علة الوضوء عند الإمام علي إنما هي النظافة وليست تعبدية محضة، فإذا كانت النظافة فالمحل الذي يتسخ هو الأسفل فيجب مسحه.
هذه هي الصورة القياسية التي نتعقلها للرأي الذي يقرره الإمام علي.
فلننظر فيها.
إن الأصل في الوضوء أنه عبادة لله تعالى، وأنه أمر به الناس جميعاً عند الصلاة.
واختلف الفقهاء المحققون في علة الوضوء هل هي النظافة أو أنها تعبدية محضة ؟
وينبني على كونها تعبدية محضة، أي أن التنظف يجيء في طريق الوضوء مثلاً، وليس مقصوداً منه أصالة، أن الإنسان لو توضأ مثلاً، ثم اتسخت ثيابه أو أعضاؤه، ولم يحدث، فلا يجب عليه الوضوء، ويجزئه الصلاة على حالته.
وعلى كل حال، فإننا سوف نناقش الكلام ههنا على الاحتمالين.
ولو تفكرنا في الوضوء مثلاً، لعلمنا أن الشارع الحكيم أمر بوضوء الأعضاء المنكشفة التي تواجه القبلة، وتنكشف عليها، في الوجه وجزء من الرأس، واليدين والقدمين، كلها أعضاء يواجه بها الإنسان القبلةَ أثناء صلاته، فكأن المقصود هو غسل الأعضاء المنكشفة المواجهة للقبلة بالماء، في حال الوضوء أو بغيره كالتراب في التيمم.
والوضوء يكون فيه غسل القدمين من أعلى ومن أسفل، وفي حال الخف يكون المسح على القدمين.
والقياس بينهما أن يقال:
إذا كان المقصود بالوضوء النظافة: فهل الأليق أن يكون المسح من أسفل أو الأليق أن يكون المسح من أعلى؟
نقول: لو كان المقصود النظافة، لما كفى المسح فيها، والمسح ما دام لا يكفي عقلاً للنظافة، فلا يمكن أن يضعه الشارع وسيلة للنظافة، وهو لا يفي بها. بل ربما يكون المسح مع عدم كفايته لقلة الماء على اليد، سبباً في التلوث إذا تم مسح الخف من أسفل، وقد أشار إلى ذلك الرافعي في شرح الوجيز (1/282): (وقوله: "إلا أن يكون على أسفله نجاسة" استثناء لم يذكره في الوسيط، ولا تعرض له الأكثرون، وفيه إشعار بالعفو عن النجاسة التي تكون على الخف، ولا شك أنه إن كان عند المسح على أسفل خفه نجاسة فلا يمسح عليه، لأن المسح يزيد فيها، وأما إشعاره بالعفو والقول في أنه كيف يصلي فيه، أيتعين إزالة النجاسة عنه بالماء كما في سائر المواضع، أم يكفي دلكه بالأرض فسيأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى) اهـ.
وإذا كان المسح لا يكفي للنظافة، فيستحيل أن يكون الشارع قد وضع أمراً بشيء وهو لا يفضي إليه، إذن فالمسح على الخفين مجرد تعبد من الشارع كما في الوضوء.
ومن الظاهر أن القياس المذكور في كلام الإمام علي، مبني على أن العلة للوضوء إنما هي النظافة، بدليل أنه قال إن الأولى أن يكون المسح من الأسفل لا الأعلى.
وقد عرفنا نحن أن العلة عند بعض الفقهاء للوضوء ليست هي النظافة أصالة، فإذا عرفنا احتمال وجود علة أخرى للوضوء غير النظافة، فيلزم إمكان جراء قياس آخر غير القياس المذكور في كلام الإمام.
ونقول أيضاً: ولو افترضنا أن العلة النظافة، ولاحظنا أن المسح لا يفي للنظافة، وتأكدنا أن المقصود المسح على الخفين، وهذا يفيد عدم استغراق الخفين بالمسح، بل المسح على بعضهما، فيبقى النظر في أن أي الأجزاء أولى بالمسح، الأعلى أو الأسفل، والنظافة لا تحصل بالمحس على الأسفل، لكثرة الوسخ مقارنة مع الأعلى، ولكنها يمكن أن تحصل على الأعلى لقلة الأوساخ، فهذا يفيد أن يكون المسح من أعلى حتى لو كانت العلة هي النظافة.
فهذا قياس أجريناه مع التسليم بعلة التنظّف، ولكنه ينتج حكماً موافقاً لفعل الشارع.
فغايته أن يقال: سلمنا أن العلة التنظف، ولكن لا نسلم أن الحكم بناء على ذلك هو المسح من أسفل، بل يكون الحكم المستفاد منها هو المسح على الخف من أعلى، وهو الموافق للشارع.
وإذا كان تعبديا، فما هو الأوجه للمسح ؟
إننا لو قسنا على الوضوء لعرفنا أن الوضوء إنما مسح فيه ما واجه القبلة كما مرَّ، وإذا نظرنا إلى الخف ما الذي يواجه منه القبلة هل هو الأسفل أو الأعلى، لعرفنا قطعاً أنه الأعلى، فيلزم أن المسح أولى أن يكون على أعلى الخف.
هذا قياس آخر نراه مطّرداً ومنسجماً مع الأصل، ومتفقاً مع حكمة الشارع، ومؤدياً للغرض المترتب على الحكم، فيكون أولى.
إذن تحصل لدينا أن هناك علتين محتملتين، الأولى أن يكون المسح تعبدياً، والثاني أن يكون المسح للتنظف.
فعلى الأول: يوجد قياسان، الأول ينتج حكما موافقا للشارع، والثاني ينتج حكما مخالفاً.
وعلى الثاني: وهو كون العلة التعبد، فالقياس ينتج أن المسح على أعلى الخف وهو الموافق للشارع أيضاً.
فيكون الحاصل أن القياسات الموافقة لحكم الشارع أكثر وأقوى من القياس المخالف لحكم الشارع.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يدعى أن هذه الصورة دليل واضح على بطلان العمل بالقياس ؟!
غايته، أن العمل بالقياس إذا خالف النص باطل كما قدمنا، وهو الصحيح.
وقد أشار إلى ذلك ابن نجيم في البحر الرائق (1/363) ناقلاً عن صاحب (غاية البيان) تعليقاً على كلام الإمام علي رضي الله تعالى عنه الذي نقلناه: (أراد أن أصول الشريعة لم تثبت بالقياس وإنما طريقها التوقيف وغير جائز استعمال القياس في ردِّ التوقيف، وكان القياس أن يكون باطن الخف أولى بالمسح لأنه يلاقي الأرض بما عليها من الطين وتراب وقذر ولا يلاقيها ظاهره، إلا أنه لم يستعمل القياس لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخف دون باطته، وهذا يدل على أن مراده كان نفي القياس مع النص كذا نقله الجصاص في أصوله) اهـ.

الخاتمة

بهذا البيان الموجز الذي نرجو أن يكون كافياً، يتضح لنا أن الاحتجاج بقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه، على بطلان العمل بالقياس أصلاً، استدلالٌ غير صحيح، فلا يمكن أن يستدل به إلا على بطلان العمل بالقياس في معارضة النص، وغيره مما ذكرناه.
أما أن يجعل هذا القول ناقضاً للعمل بالقياس بالكلية فكلام لا يقوم على حجة.
والله تعالى الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا غاية.
سعيد فودة
2004
 
أعلى