ثم بعد أن انتهى البخاري من ذكر تفاصيل حكم الإسبال إن كان بخيلاء وإن كان بغير خيلاء وتفاصيل الهيئة المشروعة للبس أورد هنا بابا عنوانه:
( ما أسفل من الكعبين فهو في النار)
وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار. )
قال أبو فراس:
ونريد أن نعرف مقصود البخاري من هذا الباب والذي تتطابق ترجمته مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد استدل بعضهم بهذا التبويب: على أن البخاري يقصد منه ترجيح تحريم الإسبال بإطلاق ولو كان من غير خيلاء.
وهذا والله أعلم لا يبدو لأن البخاري سبق أن عقد أبوابا مفصلة وفرق فيها بتراجمه بين ما كان خيلاء وبين ما كان غير خيلاء لاسيما وقد أورد في صدر كتاب اللباس من الآثار ما يدل على اعتباره إناطة التحريم بباب اللباس بما كان إسرافا أو خيلاء وهذا من حيث الأصل، والترجيح بالأصل معتبروهو ظاهر هنا وقريب، كيف وقد فرق هو نفسه أعني البخاري بما كان خيلاء وما كان خيلاء في عين هذه المسألة.
ولكن يرد السؤال ؟
ما مناسبة هذا الباب إذن، إذا كان البخاري يعتبر التفريق؟
والجواب والله أعلم: أن البخاري رحمه الله التزم في تبويبه لفظ الحديث وهو إطلاق ( ما كان تحت الكعبين من الإزار ففي النار.) كما أطلق الحديث
وفي الالتزام باللفظ النبوي فائدة أخرى وهو التزام منهجه عليه الصلاة والسلام في التعامل مع هذه المسألة فهو وإن جاءت النصوص المفيدة لتقييد نصوص الوعيد بما كان خيلاء إلا أنه عليه الصلاة والسلام أطلق التحريم في جملة من النصوص، فكان من المناسب أن يعقد البخاري باباً يلتزم فيه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم مما يحقق التزام منهجه عليه الصلاة والسلام في إطلاق التحريم في بعض الأحيان.
وهنا يرد سؤال آخر:
ما دام أنكم قررتم أن نصوص الوعيد مقيدة بما كان خيلاء فلماذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم التحريم في جملة من النصوص من غير تعليق الحكم بالخيلاء؟
ويقوم هذا السؤال حتى على فرض حملكم النصوص المطلقة على المقيدة؟
والجواب:
نقول أولاً: إن هذا الإطلاق هو أقوى مآخذ من أطلق تحريم الإسبال ولو من غير خيلاء
وفي هذا يقول الصنعاني في رسالته المختصة بهذه المسألة:
وهل أوضح من قول الشارع: "ما زاد على الكعبين ففي النار" دلالة على إطلاق التحريم وشدة الوعيد"
ويقول أيضاً:
"ولو جاز لغير المخيلة لما أن يطلق صلى الله عليه وآله وسلم النهي فإن المقام مقام بيان ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة وأي حاجة أشد من مقام النهي."
والجواب والله أعلم:
أنه يمكن أن يقال: وأيضاً أنتم يرد عليكم ما أوردتموه علينا فما تقولون في قصة أبي بكر رضي الله عنه لما قال له عليه الصلاة والسلام: "إنك لست ممن يصنعه خيلاء"
وما دمتم تطلقون التحريم في الإسبال عموما ما كان منه بخيلاء وما كان بغير خيلاء ولا يجوز عندكم تأخير البيان عن وقت الحاجة فلماذا لم يقل لأبي بكر: إنك لست ممن يصنعه خيلاء وإن كان الإسبال كله محرما.
ألا يمكن أن يفهم من حديث أبي بكر كما فهم منه عامة أهل العلم ومنهم البخاري أن النهي مختص بالخيلاء.
وهذا من باب جواب الاعتراض بالاعتراض، وهو أنه إن كان يرد على قولنا فإنه يرد على قولكم أيضاً وليس قولكم بسالم مما أوردتموه علينا فليتساقط الإيرادان إذن.
وهذه طريقة جدلية مفحمة للخصم ولا تحصل اليقين في المسألة ولكن تفيد دفع الشغب والإيرادات
ومع هذا فسنحاول الجواب عن السؤال السابق:
وهو قولكم وأنتم تلزمون من قيد نصوص الوعيد بما إذا كان خيلاء:
لماذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم التحريم في جملة من النصوص من غير تعليق الحكم بالخيلاء؟
والجواب والله أعلم: لأن الإسبال مذموم من حيث الأصل وهو مخالف لحد أزرة المؤمن التي هي ما بين الكعبين إلى نصف الساق، ثم هو - وهذا هو السبب الرئيسي والعلم عند الله - : مفضي غالباً إلى الخيلاء وهذا ما يفسره الحديث الآخر الذي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي جرى وفيه:
( وارفع إزارك إلى نصف الساق فان أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة . )
ثم إن واقع مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وغالب المجتمعات أيضاً أن الإسبال وجر الثياب هو صنيع أهل الفخر والكبر والخيلاء، ولما كان هذا الأمر غالباً جاز الإطلاق فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم التحريم في عدة مواضع وهو إطلاق صحيح سببه غلبة اقتران السبب بمحله أعني اقتران الخيلاء بالإسبال
ولما كان الإسبال هو مظنة الخيلاء ناسب أن يعلق الحكم في بعض الأحيان بالمحل المفضي إليه وإن كانت النصوص المفصلة حسمت الوجه الجائز منه من الوجه المحرم.
من أوجه ترجيح اختصاص نصوص الوعيد بما كان خيلاء هو أن الوعيد الشديد الذي جاء في المسألة يناسبه أن يكون نازلا على ما صاحبه الخيلاء لا على ما تجرد منه ونصوص الكتاب والسنة متظافرة على شدة الوعيد على أهل الكبر والخيلاء.
ولهذا قال ابن حجر:
وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق وأما مجرد الإسبال فسيأتي البحث فيه.