أخي الحبيب أبا حازم، جزاك الله خيرا، أوافقك بأن الرازي مضطرب في قطعية الأدلة السمعية، وله مسائل أخرى من هذا القبيل. أما أنه أول من قال بورود هذه الاحتمالات على الأدلة اللفظية، فهذا محتمل، لكنه لما نسب في المحصول القول بها إلى غيره، وارتضى في النهاية دفع هذا القول باشتراط توفر القرائن (المشاهدة أو المتواترة)، كان الظاهر أن القول ليس له وإنما هو ناقل، والقول بأن عادته أن ينسب أقواله إلى غيره، فهذا محتمل أيضا لكنه يحتاج إلى إثبات. والقائل بأن الرازي ناقل لهذه المسألة لا مخترع لها متمسكٌ بالظاهر، وعلى من خالف الظاهر البيِّنة.
أما استقراء من ذكرتهم من فضلاء العلماء فهو يثير الظن نعم، لكنه لا يرقى إلى الظن الغالب الذي يُطمَأن إليه، وقد يكون الرازي جامعا لهذه "الموانع العشرة" من كتب متفرقة، أي أنها قيل بها قبله لكن على نحو متفرق، كما فهمته من ردود الأخ عروبي، فهذا محتمل ولكنه يحتاج إلى تدليل. وقد يكون الرازي تلقفها عن كتب بعض المعتزلة، وقد فقد أكثرها، ولم يقف عليها من بعده، والله أعلم بحقيقة الأمر. وعلى أية حال فإن إثارة الجدل حول هذا الشأن والأخذ والرد فيه ليس ذا جدوى كما سبق أن أشرت مرارا.
أما قولك، أحسن الله إليك:
قد وافق الحنفية كثير من الأصوليين كأبي يعلى وابن قدامة والطوفي وابن القيم من الحنابلة والتفتازاني والغزالي في المنخول من الشافعية والقرافي من المالكية وقد سبق كلامه وقال ابن جزي الغرناطي : ( أكثر فقهاء الزمان يقولون النص في المحتمل وغيره ) تقريب الوصول ( ص 161 ) وتعريف كثير من الجمهور للنص ليس فيه نفي الاحتمال بل ينص بعضهم على أنه الصريح كما صنع أبو الخطاب أو أنه ما ارتفع بيانه إلى أعلى غاياته كما ذكر الباجي بل هذا هو المنقول عن الشافعي ، والغزالي في المستصفى لم يرجع عن قوله في المنخول وإنما ذكر ثلاثة معان للنص وقال الأولى أن يقال في النص ما لا يحتمل غيره لرفع الالتباس مع الظاهر وقال إطلاقه على المعان الثلاثة جائز
فإن المسألة ليست فيما هو حدُّ النص، ففي هذا أقوال كثيرة: ذكر منها الغزالي ثلاثة، والقرافي أربعة، والزركشي خمسة، ووصلت معي في بحث خاص (تجده هنا) إلى عشرة، لا يسلم منها بعد التمحيص في الاستعمال الأصولي إلا ثلاثة، هي:
1. النص بمعنى الخطاب الشرعي كتابا أو سنة .
2. النص بمعنى اللفظ واضِح الدلالة على معناه قطعيا كان أو ظنيا .
3. النص بمعنى اللفظ القاطع .
والخلاف في هذا كله، وإن كنت أرى بأنه ليس محمودا، فهو هيِّن لأنه لا يخرج عن مبدأ "لا مُشَاحَّة في الاصطلاح"، ولا تترتب عليه آثار عَمَلية.
وإنما الخلاف المعتبر والذي كانت له آثار عميقة في الخلاف بين منهج الجمهور ومنهج الحنفية، فهو في معنى القطع، أو بعبارة أخرى، في سبب القطع بدلالة خطاب ما، فبينما يقول الجمهور بأن القطع سببه عدم احتمال اللفظ لغةً للتأويل (كألفاظ الأعداد، وأكثر الأعلام)، فإن الحنفية يقولون بأنه حتى اللفظ المحتمل (كالعام والأمر والمطلق والحقيقة التي تحتمل المجاز) هو قاطع إذا لم يقترن به ما يُؤَوِّله، ونشوء القطع إنما جاء من عدم تجويزهم تأخر البيان عن وقت ورود الخطاب. فما دام الشارع أطلق اللفظ ولم يقرن به فوراً ما يصرفه عن معناه الظني (=الظاهر) فاللفظ إذن قاطع، ولا يجوز ادِّعاء تأويله بدليلٍ متأخِّر. ومن هنا قالوا بأن الزيادة على النص نسخ، ولم يقبلوا تخصيص عمومات القرآن ولا تقييد مطلقاته إلا بدليل مقارن، فإن تأخر فهو ناسخ، ويُشترط في الناسخ، كما هو معلوم، أن يكافئ المنسوخ من حيث الثبوت، وعليه لا يجوزون تخصيص القرآن أو تقييده بآحاديث الآحاد إلا أن تبلغ مبلغ الشهرة التي تفيد علم الطمأنينة عندهم، ومع هذا فهم لا يسمون هذا تخصيصا بل نسخا ، (وهذا كله أظنه معلوم لفضيلتكم، ولكني أحببت بيانه للقراء).
وأنت، أخي الحبيب، استدللت بتعدد معاني القطع عند الأصوليين، على أن تعريف الرازي للنص بأنه ما كان قاطعا في معناه، ليس بالضرورة دالا على أنه يؤمن بإمكان استفادة القطع من الأدلة اللفظية. لأن القطع يطلق على ما يحتمل وعلى ما لا يحتمل.
واعتراضي على تقريرك هذا هو أن الرازي لا يقول بالقطع إلا فيما لا يحتمل تمشيا مع مذهب الجمهور لا مع مذهب الحنفية، فكان إيرادك في غير محله. والله أعلم وأحكم.
د. أيمن صالح