العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحَمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلوَاته وسَلامه على سيّدنا محمّد خير خلقه وعلى سائرِ النبيّينَ، وعلى آل كلِّ وسائرِ الصالحينَ، وأشهدُ أنْ لا إِله إلا الله وحده لا شَريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وزاده شرفًا لديه.
أما بعد:
(محتوى الدِراسَة)
فقد بدأتُ هذا البحث ببيانِ الخلاف بين الفقهاء والمحدثين، وذكرتُ بداية وكيفية نشأة المذاهب الفقهية، وأن لهذه المذاهب جذورًا ممتدة منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم ثم التابعين وتابعيهم، وكيف تكوّنت مدرستا أهل الرأي وأهل الحديث، والعوامل التي ساعدت على نشأتهما وخصائص كلٍّ منهما، والخلاف الدائم بين المدرستين على مرِّ العصور؛ إذ إن هذا له علاقة بالبحث كتمهيدٍ وتوطئة له.
وأوضحتُ بعدُ موقف المحدثين من الإمام أبي حنيفة، وبيّنتُ أسباب تحامل بعض المحدثين عليه، ثم اخترتُ ثلاثة منهم لتجلية موقفهم منه، ثم ختمت هذا الباب بذكر ثناء جماهير المحدثين المتأخرين على أبي حنيفة، والاتفاق على جلالته وفضله. وأكثر كتاب استفدت منه في هذا الموضوع عمومًا -خاصة عناوين الفقرات الأول وغيرها-: هو كتاب الدكتور/ كيلاني محمد خليفة ((منهج الحنفية في نقد الحديث)) الباب الأول منه كاملاً [ص 29-89].
ثم أتبعتُ بعدَ هذا كله نقولًا مطولة مستفيضة، كملحق للموضوع في مشاركات تالية، إتمامًا للفائدة وحتى يكون جامعًا، استفدتها من كتابَيْ: ((قواعد في علوم الحديث)) -للعلاّمة ظفر أحمد التهانوي الحنفي رحمه الله، مع تعليقات الشيخ أبو غدّة-، و((الرَّفع والتكميل في الجرح والتعديل)) -للعلاّمة اللكنوي رحمه الله، مع تعليقات الشيخ عبدالفتاح أيضًا-.
نسأل الله التوفيق والسداد،،


(بَـيْنَ الفُقَـهَاءِ وَالمُحَـدِّثِينَ)

أَوَّلًا: نَشْأَةُ المّذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ
كان الصحابة -رضي الله عنهم- في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه أسوةً حسنة، ومرجعًا في جميع أمورهم، ومُرشدًا في كل شؤونهم، كانوا يترسمون خطواته، ويتّبعون إرشاداته، ويأخذون منه أحكام الله وآياته؛ امتثالًا لقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَاليَومَ الأَخِرَ} [الأحزاب: 21].
وكانوا إن نزلتْ بهم نازلة أو عرضتْ لهم مشكلة، يهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبينون منه حكم الله في ذلك؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ} [النساء: 59].
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتيهم ويُشرّع لهم ويبيّن لهم حكم الله في ذلك بآيات من القرآن العزيز ينزل عليه الوحي، أو بسنة من قولِ يبلغه لهم أو فعلٍ يفعله أمامهم فيقتدون به، أو يُقرّهم على ما فعلوا إن كان صوابًا؛ فالسنة تشمل ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
وأيًّا كان طريق البيان، فلا يخرج عن الوحي من الله -سبحانه وتعالى-؛ إذ إن الوحي تارة يكون قرآنًا وهو الوحي المتلو، وتارة يكون سنة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الوحي غير المتلوّ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] والحكمة هي السنة.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله- في الرسالة (ص78): "فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعتُ من أرضى أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يُشْبِه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكِرَ وأُتبِعَتهُ الحكمةُ، وذَكَرَ الله مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة [أي في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164)] فلم يجز -والله أعلم- أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". اهـ.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إن يتعرفوا حكم الله عن طريق كتاب أو سنة حتى يبادروا إلى الانصياع إلى أمر الله عن رضًا من غير تردد؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
هكذا كانت حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنهم ما كانوا يفزعون إلى السؤال إلا عند الحاجة القصوى المُلحّة إليه، فلم يكونوا يفترضون المسائل افتراضًا، ثم يسألون عنها؛ إذ كانت كثرة السؤال مما لا يُحمد عليه فاعله؛ بل قد ورد النهي عنه، والتشنيع على مرتكبه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وجاء فيما رواه البخاري (7289) ومسلم (6265): (إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرَّم على المسلمين فحرَّم عليهم من أجل مسألته). وجاء في صحيح مسلم (6259): (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). وفي البخاري (1477) ومسلم (4582): (إِن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال).
ولقد صوَّر لنا ولي الله الدهلوي في كتابيه ((حجة الله البالغة)) ص15 ، و((الإنصاف في بيان أسباب الخلاف)) ص140-141 صوَّر لنا حالتهم هذه تصويرًا دقيقًا؛ حيث قال: "اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونًا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل بحث هؤلاء الفقهاء؛ حيث يبنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب، كل شيء ممتاز عن الآخر بدليله، ويفرضون الصور من صنائعهم، ويتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدون ما يقبل الحدَّ، ويحصرون ما يقبل الحصر إلى غير ذلك، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتوضأ فيرى أصحابه وضوءه، فيأخذون به من غير أن يبين هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرَمَقَ الناس حجَّه ففعلوا كما فعل، وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة، حتى يحكم عليه بالصحة والفساد إلا ما شاء الله، وفلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
عن ابن عباس قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلهن في القرآن؛ منهن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [ البقرة: 217]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] قال: وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
قال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن. قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها، وتُنقِّرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.
عن عمرو بن إسحاق قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قومًا أيسر سيرة ولا أقل تشديدًا منهم.
وعن عبادة بن نُسَيِّ الكندي: سُئِل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي فقال: أدركت أقوامًا ما كانوا يشدِّدون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم. [أخرج هذه الآثار كلها الدارمي في سننه (1/ 62، 63)].
وكان صلى الله عليه وسلم يَستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم، وتُرفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه، أو منكرًا فينكر عليه، وما كل ما أفتى به مستفتيًا عنه، وقضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات". انتهى كلام الدهلوي.
وقد أوضح ابن القيم مراد ابن عباس في قوله: ((ما سألوه إلا ثلاث عشرة مسألة)) فقال -كما في إعلام الموقعين (1/ 71)، ط. دار الجيل-: "هي المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيَّن لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها؛ بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوه عنه فأجابهم". اهـ.
فهذه هي حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع واقتداء وعمل بكتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والكتاب والسنة هما المرجع للصحابة، وهما مصدرا الفقه والتشريع في عهده صلى الله عليه وسلم.
ثم انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولبَّى نداء ربه تاركًا لأمته شيئين ما إن تمسكوا بهما لن يضلوا بعده أبدًا: كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تركه محفوظًا في الصدور، ومكتوبًا جميعه على ما تيسر من وسائل الكتابة آنذاك، وسنته الشريفة محفوظة في صدور أصحابه، وإن كان قد كُتِبَ شيء منها -كما كتب عبدالله بن عمرو بن العاص الصحيفة الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة، راجع تفصيل ذلك في السنة قبل التدوين ( ص 348 ) وما بعدها-. مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلو ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه) - الموطأ (1628) .
ولكنه إلى جانب ذلك قد رك أصحابًا له عاشروه في حياته، وفي سفره وفي حضره، وشاهدوا أفعاله، واستمعوا إلى أقواله، وشاهدوا نزول الوحي، واطلعوا على أسبابه ومقتضياته، فحصل لهم بذلك ملكة فقهية يتعرفون بها حكم الله فيما يجدُّ من أمور، من خلال كتابه وسنة نبيه.
وكان عدد أولئك الصحابة الذين تخرجوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم كثيرًا، وإن كانوا يختلفون في الفقه والفتوى قلة وكثرة، والذين حُفِظَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباسَ، وعبدالله بن عمر، ويمكن أن يُجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبدالله، ومعاذ بن جبل؛ فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فُتيا كل واحد منهم جزء صغير.
والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك، ويمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والتحري؛ ومنهم: أبو الدرداءَ، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو ذر، والنعمان بن بشير، وأُبيّ بن كعب - وراجع: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (5/ 92)، وإعلام الموقعين (1/ 21) طبعة دار الجيل.
قال أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (ص17): "اعلم أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه كانوا فقهاء؛ وذلك أن طريق الفقه في حق الصحابة خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وما عقل منها؛ فخطاب الله عز وجل هو القرآن، وقد أنزل ذلك بلغتهم، على أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها، فعرفوها مسطورة ومفهومة، ومنطوقة ومعقولة؛ ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب المجاز لم يُنقل أن أحدًا في الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا بلغتهم، يعرفون معناه، ويفهمون منطوقه وفحواه، وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتكرر عليهم وتحرّوه". اهـ.
ولم يكن هناك خلاف في المسائل الفقهية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان هو المرجع لهم في أحكامهم وقضاياهم.
ولكن لم يكد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغون من دفنه في قبره المطهر، حتى رأوا أنفسهم أمام مسائل كثيرة لم يرد في الإجابة عنها نصٌّ صريح من كتاب أو سنة، ولقد كان في طليعة هذه المسائل والمشكلات قضية منصب إمامة المسلمين والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان الأنصار يرون أنفسهم أحق بالخلافة من غيرهم؛ لأنهم آووا الرسول ونصروه، وإليهم كانت هجرته، وفيهم كانت إقامته ووفاته.
وكان المهاجرون يرون أنفسهم أحق بها؛ لأنهم من قريش قوم النبي صلى الله عليه وسلم وعشيرته، وأوسط العرب دارًا، وأعربهم أحسابًا، وتمسكوا بحديث (الأئمة من قريش) -رواه النسائي في الكبرى (3/ 467)، وأحمد في مسنده (2/ 129، 183)، ومن طريقه أخرجه الضياء المقدسي في المختارة (4/ 408) من حديث أنس بن مالك، وقد جمع طرقه وشواهده الحافظ ابن حجر في جزء سماه ((لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش)) أشار إليه في فتح الباري (6/ 530) كما ذكر مقاصد هذا الكتاب في الفتح أيضًا (13/ 114)-. وكان أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرون أنهم أَوْلَى الناس بذلك لما لهم من القرابة والعصوبة -راجع صحيح البخاري (4240)، ومسلم (4679)-.
حتى حسم أبو بكر الخلاف وقام فيهم خطيبًا يوم السقيفة، وذكرهم بأحقية قريش بهذا الأمر، فقام عمر فبايعه وبايعه المهاجرون ثم الأنصار -راجع صحيح البخاري (6830)-.
ثم تتابعت المسائل مسألة تلو الأخرى، وكل مسألة تطلب الحل العاجل لها، فلم يكد أبو بكر يفرغ من مبايعة الناس له حتى واجه مسألة الردَّة، فرأى قومًا يمتنعون عن أداء الزكاة مع إقرارهم بالإسلام وإقامتهم الصلاة، فماذا يصنع بهم، وهل تجوز مقاتلتهم، فقال له عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عَصَمَ مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) فقال أبو بكر: والله لأُقاتلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو مَنَعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على مَنْعِهِ. فقال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق. - أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (133) .
وكذلك عُرضت فكرة جمع القرآن الكريم في صُحف لما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة، فخشى عمر أن يذهب شيء من القرآن فأشار على أبي بكر بجمع القرآن فشرح الله صدر أبي بكر لذلك، وأمر زيد بن ثابت بجمع القرآن، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، إلى غير ذلك من المشكلات والمسائل مما لم يرد جواب عنه في نص كتاب أو سنة -راجع البخاري (4986)-.
كان من جرَّاء ذلك أنهم لا بد من أن يستعملوا الاجتهاد والرأي ليتوصلوا إلى معرفة الحكم في هذه الأمور؛ فاللجوء إلى الاجتهاد والرأي ضرورة مُلحَّة لتبين الأحكام لهذه القضايا، ولقد نبغ في هذه الحقبة جملة من أصحاب الرأي، يحمل لواءهم عمر ابن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وممن اشتهر بالاجتهاد والرأي في الفتوى أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين.
إلى جانب هذه الفئة من الصحابة ممن كان يستنجد بالاجتهاد والرأي إذا أعوزها وجود الحكم في نص من كتاب أو سنة، كانت فئة أخرى تمتنع عن الإفتاء بالرأي تورعًا وإنما تقتصر في فتواها على ما رأته أو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمة هذه الفئة كان عبدالله بن عمر بن الخطاب؛ فقد روى الدارمي في سننه (1/ 70) عن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفتِ إلا بقرآنٍ ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.
وكان يُسأل عن المسألة فيجيب بما رآه أو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الترمذي في سننه (1588) -وقال: حسن صحيح- عن جبلة بن سُحَيْمٍ: أن رجلاً سأل ابن عمر عن الأضحية أَواجبة هي؟ قال: ضَحى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فأعادها فقال: أَتُعقل؟ ضحى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
وروى الترمذي في سننه أيضًا (871) -وقال: حسن صحيح- عن الزبير بن عربي أن رجلاً سأل ابن عمر عن استلام الحجر فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويُقبله. فقال الرجل: أرأيت إن غُلبت عليه أرأيت إن زُوحمت. فقال ابن عمر: اجعل أرأيت باليمن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.
وفي مسند الإمام أحمد (2/ 60) عن زياد بن جبير: أن رجلًا سأل ابن عمر عن رجل نَذَر أن يصوم يومًا فوافق يومئذٍ عيد أضحى أو يوم فطر؟ فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم.
وروى أبو داود (2885)، وابن ماجه (54) عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة).
ومع وجود هذين الاتجاهين وضعتُ بذرة مدرسة الرأي ومدرسة الحديث اللتين نَمَتا وترعرعتا فيما بعد، وأصبح لكل مدرسة خصائص ومميزات وأتباع.
لقد كان الفقه زمن الصحابة يدور في البحث عن أحكامه على الكتاب ثم السنة، ثم إعمال الرأي إن لم يوجد في المسألة نص من كتاب وسنة.
ولقد كان المفتون في ذلك العصر على طرائق قدد؛ فمنهم من كان يتوسع في الرأي، ويتعرف المصالح فيبني الأحكام عليها؛ كعمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، ومنهم من كان يحمله التورع والاحتياط على الوقوف عند النصوص، والتمسك بالآثار، كعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص.
فلمَّا تفرَّق الصحابة في الأمصارِ قضاةً ومفتين ومعلمين، ورَّثو علمهم وطرائقهم في البحث والاستنباط من خلفهم، ممن حمل لواء العلم.
فكان من التابعين وتابعيهم من يتحاشى القو بالرأي والاجتهاد، فرُوي عن ابن سيرين أنه كان لا يقول برأيه إلا شيئًا سمعه.
وذُكر عن عطاء: أنه سُئِل عن شيء فقال: لا أدري. فقيل له: أَلا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.
وذُكر عن الشعبي قال: إياكم والمقايسة، والذي نفسي بيده لَئِن أخذتم بالمقايسة لتحلّن الحرام، ولتحرّمن الحلال، ولكن ما بلغكم عمن حفظ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاعملوا به.
ونُقل عن الشعبي أيضًا أنه قال: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به، وما قالوه برأيهم فألقه في الحشِّ - روى هذه الآثار كلها الدارمي في سننه (1/ 60، 78) .
كما كان منهم من اشتهر بالقول بالرأي؛ كربيعة الرأي وعلقمة بن قيس النخعي وإبراهيم بن يزيد النخعي، فكان هذا وذاك أول نبتة لِما جاء فيما بعد من اختلاف المدارس الفقهية - راجع: دراسة تاريخية للفقه وأصوله (ص 26-29)، والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 310).

***


ثَانِيًا: مَدْرَسَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ
علمنا فيما سبق كيف كانت النزعة الحديثية أو الفقهية لدى بعض الصحابة رضي الله عنهم وانتقال ذلك إلى مَن بعدهم من التابعين، ومع استمرار الزمن أخذ الخلاف يتعمق بين الاتجاهين، حتى ظهر إثر ذلك ما يسمى بمدرسة الحديث ومدرسة الرأي، ونَمَتْ كل واحدة منهما نماءً ظاهرًا، وآتَتْ ثمارها وخيراتها، وأضحى لكل مدرسة من هاتين المدرستين مميزات وخصائص معينة.

أ- مدرسة الحديث وعوامل نشأتها:
ظهرتْ مدرسة الحديث أول ما ظهرت في الحجاز، واتخذت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم موطنًا لها، وكان واضع الحجر الأساس لهذه المدرسة -كما سبق- عبدالله بن عمر وأمثاله، ثم ساهم برفع هذا الأساس مَن أَتى بعد ذلك من التابعين؛ كسعيد بن المسيب، وعُروة بن الزبير، والقاسم بن محمد.. وغيرهم، ثم اكتمل بُنيانها وبلغتْ ذروتها في عصر الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة.
وكان من أهم أسباب وعوامل نشأة مدرسة أهل الحديث واستمرارها:
1- وفرة ما بأيدي أهل المدينة من الأحاديث والآثار وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.
2- قِلَّةُ مَا يُعرَضُ عليهم من الحوادثِ التي لم يكن لها مثيل في عهد مَن سبقهم.
3- عدمُ اتِّساعِ مظاهر الحضارة عندهم وقربهم من حياة البداوة.
_ خصائص مدرسة الحديث:
لقد كان لمدرسة الحديث خصائص يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولاً: اتجاه فقهاء هذه المدرسة إلى حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة، ووقوفهم في الفتوى عند الرواية، وعدم استعمالهم الرأي في الأحكام غالبًا.
ثانيًا: قلة تفريعهم الفروع، وكراهيتهم السؤال عن مسائل لم تقع بعد.
ثالثًا: صِحَّة ما يروونه من الحديث لاستيثاقهم منها؛ ولذلك يرون أن الأحاديث التي يروونها هم تُقدم على الأحاديث التي يرويها علماء العراق والشام.
وكان الإمام مالك يُسمى العراق "بدار الضرب" يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها كما يخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، قال منصور بن سلمة: كنت عند مالك فقال له رجل: يا أبا عبدالله أقمتُ على بابك يومًا حتى كتبت ستين حديثًا. فقال: ستون حديثًا وجعل يستكثرها، فقال الرجل: ربما كتبت بالكوفة أو بالعراق في المجلس الواحد ستين حديثًا. فقال: وكيف بالعراق دار الضرب يُضرب بالليل وينفق بالنهار. ورد في ((سير أعلام النبلاء)) [8/ 114].
وقال ابن شهاب الزهري: يا أهل العراق يخرج الحديث من عندنا شبرًا ويصير عندكم ذراعًا - المرجع السابق (5/ 344) . وزاد ابن سعد في الطبقات الكبرى، القسم المتمم (1/ 171): وأشار بيده إذا وغل الحديث هناك فرويدًا به.
وسبب ذلك أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ وختم في الحجاز، وقد كانت المدينة منبع الحديث ومجتمع الصحابة، ومنها انطلقوا إلى سائر أقطار الأرض، فيتعذر وقوع الوضع في الحديث بها، وليس الشأن كذلك في العراق، فبُعدُهُ عن الحجاز يجعل اصطناع القول ممكنًا، إضافةً إلى أن أخلاط المسلمين من الأمم المختلفة كانوا في العراق أكثر منهم في الحجاز، وفيهم من لم يصل الإيمان إلى أعماق نفسه، فلا يتحرج من اختلاق حديث ما دام يرفع من شأنه ويؤيد دعواه! .
وعامل آخر هو ظهور المذاهب المختلفة في العراق، من معتزلة ومرجئة وأصناف من المتكلمين، وفي كل صنف مِن هؤلاء مَن رأى تأييد بدعته ورأيه بتأويل آيات القرآن واختلاق الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: وقوفهم عند ظواهر النصوص، من غير بحث عن عللها في الأعم الأغلب، ومن هنا قال سعيد بن المسيب لربيعة في سؤاله عن الحكمة، عندما سأله عن عقل أصابع المرأة، ما عقل الأصبع الواحدة؟ قال: عشرة من الإبل. قال: فأصبعان؟ قال: عشرون. قال: فثلاث؟ قال: ثلاثون. قال: فأربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: فعندما عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقيٌّ أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: يا ابن أخي إنها السنة - الموطأ (1571)، وراجع: السنن الكبرى للبيهقي (8/ 96)، ومصنف ابن أبي شيبة (5/ 412)، ومصنف عبدالرزاق (9/ 394). وراجع كذلك "دراسة تاريخية للفقه وأصوله" (ص 49-53)، والفكر السامي (1/ 315، 319).

ب- مدرسة الرأي وعوامل نشأتها:
لقد بدأَ ظهور بذرة الرأي في عهد الصحابة كما سبق، فكان منهم من يستعمل الرأي والاجتهاد حيث لا نص، وكان حامل لواء الرأي والاجتهاد عمر بن الخطاب، وكان عبدالله بن مسعود من أبرز تلاميذ عمر في الرأي.
يقول ابن مسعود: لو سلك الناس واديًا وشعبًا وسلك عمر واديًا وشعبًا لسلكت وادي عمر وشعبه. وقال محمد بن جرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله. وقال الشعبي: كان عبدالله لا يقنت، وقال: لو قنت عمر لقنت عبدالله. راجع: إعلام الموقعين (1/ 20).
ويعدُّ عبدالله بن مسعود مؤسس مدرسة الرأي في الكوفة، منذ أن أرسله عمر إليها معلمًا، وقد كتب لهم: إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبدالله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاسمعوا، وقد جعلت عبدالله بن مسعود على بيت مالكم، فاسمعوا فتعلموا منهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبدالله بن مسعود على نفسي -أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 438)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه-.
فقد عُني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة ونشر علمه فيها فكان ذلك أول بذرة لمدرسة الرأي في الكوفة، ثم نمتْ هذه البذرة عندما انتقل إلى العراق في عهد الإمام علي ابن أبي طالب جملة من الصحابة؛ كسعد ابن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، وكثير من فقهاء الصحابة، ثم انتقل علي ابن أبي طالب إلى الكوفة وجعلها عاصمة الخلافة وتولى تفقيه الصحابة، ثم انتقل علي بن أبي طالب إلى الكوفة وجعلها عاصمة الخلافة وتولى تفقيه أهلها، حتى أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين في كثرة فقهائها، لكثرة مَن انتقل إليها من فقهاء الصحابة. راجع: فقه أهل العراق وحديثهم [ص 52].
وكان عَلْقمة بن قيس النخعي من أبرز تلاميذ عبدالله بن مسعود، وعن علقمة أخذ إبراهيم بن يزيد النخعي الذي رُوي عنه أنه كان لا يعدل بقول عمر وابن مسعود إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبدالله أعجب إليه؛ لأنه ألطف. انظر: إعلام الموقعين (1/ 17).
ومن إبراهيم أخذ الفقه حماد بن أبي سليمان، وعن حماد أخذ الفقه الإمام أبو حنيفة النعمان، وبه تُوجت مدرسة الرأي.
وهكذا نرى أن العراق هو المهد الذي تربت فيه مدرسة الرأي، ونمتْ وترعرعتْ وآتتْ تمراتها وخيراتها.
ويمكن أن نجعل العوامل التي ساعدت في نمو مدرسة الرأي بالعراق فيما يلي:
1- تأثرهم بمؤسِّس هذه المدرسة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود الذي كان يعتمد كثيرًا على الرأي والاجتهاد في فتاواه.
2- قلة الحديث في العراق؛ قال ابن خلدون في ((مقدمته)) [2/ 127-129]: "وكان الحديث قليلًا في أهل العراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه؛ فلذلك قيل أهل الرأي، وكان أهل الحجاز أكثر روايةً للحديث من أهل العراق؛ لأن المدينة دار الهجرة ومَأْوى الصحابة، ومَن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر، والإمام أبو حنيفة إنما قلَّتْ روايته للحديث لما شدد في شروط الرواية والتحمل". انتهى.
3- كثرة المسائل التي يُحتاج إلى معرفة أحكامها؛ إذ إن بيئة العراق تختلف كُليًّا عن بيئة الحجاز؛ لأن دولة الفُرس قد خلَّفت في العراق أنواعًا من المعاملات والعادات والنُظُم مما لا يُعهد مثله في الحجاز.
4- شيوع وضع الحديث لظهور المبتدعة ووقوع الفتن، وقد كان هذا من أسباب قلة حديث أهل الرأي؛ لأن ذلك دعاهم إلى التشدد في قبول الأخبار، والتوقف عن الأخذ بها ولزوم إعمال الرأي.
_ خصائص مدرسة الرأي:
تميزت مدرسة الرأي على مدرسة الحديث بخصائص نُجملها فيما يلي:
أولاً: كثرة تفريعهم الفروع حتى ما يندر حدوثه منها.
ثانيًا: قلة روايتهم للحديث بسبب اشتراطهم فيه شروطًا لا يسلم معها إلا القليل.
ثالثًا: عنايتهم بالبحث عن العلل والمقاصد في الفقه والتشريع، وعن معقولية كل حكم من الأحكام.
وفي هذه الخصوصية يقول الشاطبي -كما في الموافقات (4/ 230)-: "فأصحاب الرأي جرَّدوا الرأي جردوا المعاني، فنظروا في الشريعة بها، واطَّرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جرّدوا الألفاظ، فنظروا في الشريعة بها، واطَّرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت به الأخرى، بناءً على كل ما اعتمدته في فهم الشريعة". اهـ.
ومما يحسُن الإشارة إليه أنه ليس معنى هذا الانقسام بين المدرستين أن مدرسة الحديث لا يصدرون في الفقه عن الاجتهاد بالرأي مطلقًا، وأن أهل الرأي لا يصدرون في اجتهادهم وفقههم عن الحديث مطلقًا؛ بل معنى ذلك أن أهل الرأي أمعنوا النظر في مقاصد الشريعة، وفي الأُسس التي بُني التشريع عليها، فتبين لهم أن الأحكام الشرعية معقولة المعنى، ومقصود بها مصلحة الناس، وأنها بُنيت على علل ضابطة، فكانوا يستحثون عقولهم بحثًا عن تلك العلل التي شُرِعت الأحكام على وقفها، ويجعلون الحكم دائرًا عليها وجودًا وعدمًا، وربما ردوا بعض الأحاديث لمخالفتها هذه العلل، بينما نرى أهل الحديث قد عُنوا بحفظ الحديث وفتاوى الصحابة، واتجهوا في فقههم إلى فهم الآثار حسبما تدل عليه عباراتها، ولا يلجأون إلى استعمال الرأي إلا عند اشتداد الحاجة إلى ذلك. وراجع: دراسة تاريخية للفقه وأصوله (74/ 80)، والفكر السامي (ص 318).

جـ- الشافعي ومدرسة الحديث ومدرسة الرأي:
تفقَّه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث، من علماء مكة؛ كمسلم بن خالد الزنجي وسفيانَ بن عُيَيْنَةَ، ثم ذهبَ إلى إمامِ أهل الحديث مالك بن أنس في المدينة المنورة، فأقام بها إلى أن تُوفي مالك بن أنس.
وقد رحل الشافعي إلى العراق سنة أربع وثمانين ومائة، لما تولى ولاية في اليمن فاتُّهم بالتشيع لشيعة العلويين زمن الرشيد فأُشخص إلى العراق، ثم عفا عنه الرشيد لبراءته، فاختلط بمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، واطَّلع على كتب الحنفية وفقههم بعد ما كان منه من الاطلاع على فقه مالك وحفظه لموطئه، فوقعت مناظرات بينه وبين محمد بن الحسن مذكورة في كتب الشافعي وتناقلها رواة الأخبار، كان في معظمها يرفع من شأن الاعتماد على الآثار، ويضعف من شأن الاعتماد على القياس. راجع: الشافعي لأبي زهرة (ص 23)، ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 107)، ومناقب الشافعي للرازي (ص246).
ورأى الشافعي تحامل أهل الرأي على أهل الحديث، وبخاصة على أستاذه مالك وعلى مذهبه، فكان بديهًا أن يدافع الشافعي عن أستاذه وعن مذهبه.
فذكر ابن عبدالبر (المالكي) في التمهيد (1/ 57) عن محمد بن الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم -يعني أبا حنيفة ومالكًا- وما كان على صاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت. قال: فغضبت وقلت: نشدتك الله، من كان أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أو أبو حنيفة؟ قال: مالك، لكن صاحبنا أقيس. فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أَوْلَى بالكلام. [وذكرها الرازي في مناقب الشافعي (ص 246) بألفاظٍ مختلفة].
ثم إن الشافعي عاد إلى مكة واختلط بعلمائها ومن يفد إليها من علماء الأقطار للحج، وفي سنة خمس وتسعين ومائة عاد إلى العراق، فأخذ عنه فيها أحمد بن حنبل وغيره من علمائها، وهناك صنَّفَ كتابه القديم وسماه كتاب ((الحجة)) وأقام هناك سنتين، وكان خلالها كثير الرد على مذهب أهل الرأي، قريبًا من مذهب أهل الحديث، حتى سُمِّيَ ببغداد "ناصر الحديث" ثم رجع إلى الحجاز.
ثم في سنة ثمان وتسعين ومائة عاد إلى العراق وبقي بعض أشهر، ومنها توجَّه إلى مصر وأقام بها وصنَّف فيها كتابه الجديد إلى أن مات سنة أربع ومائتين. وراجع: الشافعي حياته وعصره لأبي زهرة (23-27)، ومناقب الشافعي للرازي (ص39، 40)، والفكر السامي (1/ 396، 397).
روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/ 68) عن أبي الفضل الزجّاج قال: لما قَدِمَ الإمام الشافعي إلى بغداد، وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة أو خمسون حلقة، فما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة، ويقول لهم: قال الله وقال الرسول. وهم يقولون: قال أصحابنا. حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره. وراجع: تهذيب الكمال (24/ 375).
ورُوي عن أحمد بن حنبل أنه قال: ما أحدٌ مسَّ محبرةً ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منَّة. وقال كلمته العجيبة: كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن. وانظر: سير أعلام النبلاء (10/ 479)، وتهذيب الكمال (24/ 371).
وقال الحُميدي: كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي فلا نحسن حتى جاءنا الشافعي ففتح لنا. وقال البويطي: ما عرفنا قدر الشافعي حتى رأيت أهل العراق يذكرونه ويصفونه ما نحسن نصفه، فقد كان حذاق العراق بالفقه والنظر وكل صنف من أهل الحديث وأهل العربية والنظار يقولون: إنهم لم يروا مثل الشافعي. وانظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 81).
وقال أحمد: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشافعي فبيَّنها لهم.
وقال الحسين بن علي الكرابيسي: رحمة الله على الشافعي ما فهمنا أكثر السنن إلا بتعليم الشافعي أبي عبدالله إيَّانا. انظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 299).
قال الربيع بن سليمان: إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم. انظر: الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء (ص 129).
ولقد أوضح الرازي سبب محبة أهل الحديث للشافعي فقال في مناقب الشافعي (ص 62، 63): "الناس كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي؛ أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً بقوا في أيديهم عاجزين متحيرين؛ وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن معرفة الآثار والسنن.
وأما الشافعي فكان عارفًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطًا بقوانينها، وكان عارفًا بآداب النظر والجدل قويًّا فيه، وكان فصيح الكلام، قادرًا على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذًا في نصرة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث، وسقط رفعهم، وتخلص بسببه أصحاب الحديث عن شبهات أصحاب الرأي؛ فلهذا انطلقت الألسنة بمدحه والثناء عليه، وانقاد له علماء الدين وأكابر السلف". اهـ.
ولقد أتاح للشافعي مقامه في بغداد النظر في كتب أهل الرأي، والتأمل فيها بعمق بعد اطلاعه على مذهب مالك، فكان هذا مدعاة أن يسير في طريق وسط بين أهل الرأي وأهل الحديث، حينما وضع مذهبه الجديد في مصر، فأخذ بالحديث ولم يشترط فيه إلا الصحة، وقال قولته المشهورة: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ولم يأخذ بتلك القواعد التي تُرِدُّ بها الأحاديث؛ كعمل أهل المدينة عند المالكية وعموم البلوى عند الحنفية، وأخذ بالقياس حيث لا نص، فكان بذلك جامعًا بين المدرستين، فالتلفَّ حوله أهل الحديث وأهل الرأي جميعًا.
قال ابن خلدون في مقدمته (2/ 130): "ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس الشافعي، رحل إلى العراق من بعد مالك، ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختصَّ بمذهب، وخالف مالكًا في كثيرٍ من مذهبه". انتهى. وراجع: الفكر السامي (1/ 401)، ودراسة تاريخية للفقه وأصوله (ص 81- 89).
جاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 91)، (3/ 181): "يُريد أنه تمسك بصحيح الآثار واستعملها، ثم أراهم أن من الرأي ما نحتاج إليه، وتُبنى أحكام الشرع عليه، وأنه قياس على أصولها ومنتزع منها، وأراهم كيفية انتزاعها والتعلُّق بعللها وتنبيهاتها، فعلم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع للأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلاّ بعد أصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولاً". اهـ.
وقد ساهم كلٌّ من أهل الحديث وأهل الرأي في إحداث الفجوة المعروفة بينهم؛ فهؤلاء المحدثون ممن لا قدرة لهم على النظر العقلي، لم يكن في استطاعتهم الثبات أمام المدرسة العقلية الافتراضية الحنفية، إذا حدثت مناظرة أو نقاش في المسائل الخلافية؛ بل كانوا يصدمون بما يرونه من اعتزاز هذه العقلية بنفسها، وجرأتها في النقد والموازنة، فيسرع إلى نفوسهم الظن بمخالفة هؤلاء للحديث والسنة، وتضيق بذلك صدورهم، فيطلقون فيها ألسنتهم بالاتهام والتشنيع وتنشر التهمة، وتتناقلها المجالس العلمية دون تحقيق، ودون اتحكاك عملي بالمتهم؛ فالأوزاعي يتهم أبا حنيفة بالبدعة، وسنده في ذلك ما نُقِل إليه عنه، لكنه يرجع عن ذلك عندما يطلعه عبدالله بن المبارك على مسائل أبي حنيفة فيعجب بها، ثم يلتقي بأبي حنيفة في مكة ويناظره، ثم يقول: غبطت الرجل لكثرة علمه ووفور عقله، استغفر الله، لقد كنت في لغط ظاهر ألزمه، فإنه بخلاف ما بلغني عنه. انظر: مناقب الإمام الأعظم للكَرْدَري (ص 39)، ويُراجع: تاريخ بغداد (13/ 338).
وعندما ظهر الشافعي -الذي درس مذهب الفريقين وتمرس بمنهجيهما وأخذ يناقش العراقيين مستعملاً طريقتهم متمكنًا من منهجهم العقلي- لاقى ارتياحًا وإعجابًا من المحدثين الذين لقبوه بناصر السنة، على الرغم من أنه خالف مالكًا في كثير من الأمور، وعلى الرغم من أنه كان يقدر أبا حنيفة وأصحابه، ويذكر فضلهم وأياديهم على الفقه حتى قال: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. انظر: تهذيب الكمال (29/ 433)، وتاريخ بغداد (13/ 346)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 504).
وقد كان لظهور فرقة المعتزلة وبعض الفرق الأخرى في القرن الثاني دور مؤثر في تعميق الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث؛ فقد انتسب بعض هؤلاء المعتزلة إلى المذهب الحنفي؛ كبشر المريسي -هو بِشْر بن غياث المرّيسي مبتدع ضآل لا ينبغي أن يُروى عنه، تفقه على أبي يوسف القاضي فبرع، وأتقن علم الكلام وقال بخلق القرآن، توفي سنة (218 هـ) راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (2/ 35) ولسان الميزان (2/ 29)- فضاعف ذلك من الحملة عليه والتشهير به.
اتهم المحدثون فقهاء أهل الرأي بجهل السنة والرغبة عنها، والاغترار بالعقل وإعطائه من التقدير فوق ما يستحق، واتهم أهلُ الرأي المحدثين بالجمود وقلة الفقه وضعف الفكر والاشتغال بجمع الغرائب والشواذ، والواقع أن حملة المحدثين على أصحاب الرأي -أو بعبارة مساوية، على أصحاب أبي حنيفة- كانت عنيفة ملتهبة، يشوبها شيء من الجور، ويقودها كثير من التَّزَمُّت وعدم التسامح، حتى إن بعضهم ما كانوا يسمحون لأصحاب الرأي بالجلوس إليهم والاستماع منهم، وقد نلتمس لهم العذر إذا تذكرنا ما سبق أن أشرنا إليه، من سلوك أهل الرأي طريق الجدل والمناقشة التي قد تدفع المحدثين إلى مضايق الكلام أو مجاهله، فيحصرون أو يفحمون، ولكن هذا لا يعني أننا نؤيد هذا السلوك من بعض المحدثين، فإن العلم الذي يحملونه مأمورون بتبليغه، وليس لهم الحق في منعهم من شاءوا منه.
وقد ذكر لنا الخطيب البغدادي بعض أخبار هؤلاء المتشددين، فروى عن أبي مسهر قال: قدم علينا إبراهيم بن محمد الفزاري واجتمع الناس يسمعون منه، فقال لي: اخرج إلى الناس فقل لهم: مَنْ كان يرى رأي القدر فلا يحضر مجلسنا، ومَن كان يرى رأي أبي حنيفة فلا يحضر مجلسنا، ومَن كان يأتي السلطان فلا يحضر مجلسنا. قال: فخرجت فأخبرت الناس.
وروي أن أبا يوسف جاء إلى شُريك فسأله أن يحدثه بحديث فأبى شُريك أن يحدثه. وروي أن شُريكًا قال في مجلس تحديثه: مَن كان هاهنا من أصحاب يعقوب فأخرجوه. يعني أبا يوسف. [أخرج هذه الأخبار الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 335)].
ويحكي أبو زُرعة الرازي -كما في شرف أصحاب الحديث (ص 93 أ)- صورة من الصراع بين المحدثين والفقهاء، فينقل عن عبدالله ابن الحسن الهجاني أنه قال: كنت في مصر فرأيت قاضيًا لهم في المسجد الجامع وأنا مريض فسمعت القاضي يقول: مساكين أصحاب الحديث لا يُحسنون الفقه. فحبوت إليه فقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جراحات الرجال والنساء، فأيُّ شيء قال علي بن أبي طالب، وأيُّ شيء قال زيد بن ثابت، وأيُّ شيء قال عبدالله بن مسعود؟ فأفحم. فقلت له: زعمت أن أصحاب الحديث لا يحسنون الفقه، وأنا من أخس أصحاب الحديث سألتك عن هذه فلم تُحسنها، فكيف تنكر على قوم أنهم لا يحسنون شيئًا وأنت لا تحسنه؟.
فهذه صورة فيها انتصار لأهل الحديث تبين لون نشاطهم ومجال براعتهم؛ إذ لم يفخر المناظر بدقة استنباط أو براعة تطبيق، بل بحفظ آثار ومعرفة اختلاف.
وإذا نظرنا إلى الطرف الآخر نجد صورة تبرز مكانة الفقهاء وفضلهم على أهل الحديث باستنباطهم للمعاني الدقيقة، يقول هلال الرأي -هو هلال بن يحيى البصري الحنفي الفقيه، أخذ الفقه عن أبي يوسف وزفر، وحدث عن أبي عوانة وابن مهدي، وإنما لُقِّبَ بالرأي لسعة علمه وكثرة فقهه، له مصنف في الشروط، وآخر في أحكام الوقف. مات سنة خمس وأربعين ومائتين. وقد ضعفه ابن حبان كعادته في الطعن في أهل الرأي فقال: روى عنه أهل بلده، وكان يخطيء كثيرًا على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. راجع: الجواهر المضية (3/ 572)، والفوائد البهية (ص294)، وكتاب المجروحين (3/ 87)، وميزان الاعتدال (4/ 317)-: كنت أختلف إلى غُنْدَر أكتب عنه، وكان يستثقلني للمذهب، فأتيت يومًا وأصحاب الحديث عنده، فلما رآني أظهر استثقالاً وأقبل على أصحاب الحديث يحدثهم لكراهته لي، فسلمت وجلست، فقلت: أصلحك الله، حديث عسال بن صفوان المرادي أن يهوديينِ نظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمالا إليه فقالا: نشهد أنك نبي. قال: (فما يمنعكما أن تسلما). قالا: نخاف أن تقتلنا يهود. فقال: نعم، حدثني شعبة عن الحكم، فأي شيء لصاحبك في هذا؟ قلت: إنهما قالا: نشهد أنك نبي، ثم رجعا إلى اليهودية فلم يجعل ذلك ردة منهما. فالتفت إلى أصحاب الحديث، فقال: أتحسنون أنتم من هذا شيئًا؟ ثم أقبل عليَّ فقال: أحب أن تلزمني، وتبسط إليَّ. ثم قمت من عنده وتركته. انظر: المحدث الفاصل (83، 84).
والواقع أن فئة ممن كانوا ينتسبون إلى الحديث كانوا يمثلون الثغرة التي أُتي المحدثون من قبلها، والتي أتاحت للمتكلمين ولأهل الرأي ولكل من عادى المحدثين، أن يتسوروا حصنهم، ويتمكنوا من طعنهم، هذه الفئة كان يغلب عليها التَّزمُّت، وضيق الأفق، وسطحية التفكير، مما كان يحملها على التسرع في الحكم، ويحول بينها وبين الفهم الصحيح، كان الشافعي يتناشد مع بعض معاصريه شعر هذيل، فأتي عليه الشافعي حفظًا. وقال لمن كان يتناشد معه: لا تُعلم بهذا أحدًا من أصحاب الحديث فإنهم لا يحتملون ذلك. ["الشافعي" لأبي زهرة (ص 35) ].
وعلى الجانب الآخر نجد أن بعض أهل الرأي غالوا في الاعتزاز بالرأي حتى طرحوا العمل ببعض الأحاديث، مما أغرى أهل الحديث بالوقيعة والكلام في حقهم، وهؤلاء كانوا الثغرة التي أُتي أهل الرأي من قبلها، وعلى ذلك فإن كلاًّ من أهل الرأي وأهل الحديث قد ساهم في إحداث الفجوة بين الفريقين فلا يعفي أحدهما من المسؤولية عن ذلك. راجع: الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث ( ص 70، 105).
يقول ابن خلدون في ((مقدمته)) (2/ 129): "ثم عظمت أمصار الإسلام، وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلمًا، وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي والقياس وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز، وكان الحديث قليلاً في أهل العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه؛ فلذلك قيل: إمام أهل الرأي ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده". اهـ.
ويقول الخطابي في ((معالم السنن)) (1/ 3) [ط. دار الكتب العلمية 1416هـ/1996م]: "ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو مُنهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين، فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما وَكْدهم [أي: همُّهم ومرادهم الروايات. راجع: لسان العرب مادة ((وَكَدَ))] الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبئون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به". انتهى كلام الخطابي.
ويقول ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/ 8): "ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قاله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اْتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَآ أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) [يوسف: 108]، وكان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه، كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:
أحدهما/ حفاظ الحديث وجهابذته، والقادة الذي هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام [زوامل جمع زاملة، وهي البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، والمراد حملة علم الإسلام، والله أعلم]، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس، لم تشبها الآراء تغييرًا، ووردوا فيها عينًا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا.
القسم الثاني/ فقهاء الإسلام، ومَن دارتْ الفُتيا على قولهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال تعالى: (يَاءَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُم) [النساء: 59]. قال ابن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبدالله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحّاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر: هم العلماء". اهـ.
ويقول عبدالحي اللكنوي في ((الأجوبة الفاضلة)) (ص 31، 34): "إن الله جعل لكل مقام مقالاً، ولكلِّ فنٍّ رجالاً، وخصَّ كل طائفة من مخلوقاته بنوع فضيلة لا تجدها في غيرها، فمن المحدثين من ليس لهم حظ إلا رواية الأحاديث ونقلها من دون التفقه والوصول إلى سرِّها، ومن الفقهاء من ليس لهم حظٌّ إلا ضبط المسائل الفقهية من دون المهارة في الروايات الحديثية؛ فالواجب أن نُنزل كُلاًّ منهم في منازلهم ونقف عند مراتبهم.
فأجلِّةُ الفقهاء إذا كانوا عارين من تنقيد الأحاديث، لا نسلم الروايات التي ذكروها من غير سند ولا مُستند إلا بتحقيق المحدثين، ونقلة الأحاديث إذا كانوا عارين عن الفقاهة، لا نقبل كلامهم في الفقه ككلام الفقهاء المعتبرين، وقِسْ على هذا صاحب كلِّ فنٍّ بكلِّ فنٍّ". انتهى.

***


ثَالِثًا: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِنَ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ

أ- أسباب طعن المحدثين في الإمام أبي حنيفة:

علمنا فيما سبق كيف نشأ الخلاف بين المحدثين والفقهاء، والأسباب التي أدتْ إلى تعميق الخلاف بينهم، وما نتج عنه من جفوة بين الفريقين، وما ترتب عليه من تحامل كلا الطرفين على الآخر، لا سيما من جهة المحدثين على أهل الرأي، وكان من الطبيعي أن ينال الإمام أبا حنيفة قسط وافر من هذا التحامل، باعتباره إمام أهل الرأي ومؤسس مذهبهم، ومن خلال هذا الفصل سأحاول تجلية موقف المحدثين من الإمام أبي حنيفة، وتوضيح الأسباب التي أدت إلى طعن بعضهم فيه.
يقول ابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص 276): "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردِّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول؛ لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذَّ عن ذلك ردَّه وسماه شاذًّا، وكان مع ذلك أيضًا يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا يُسمى إيمانًا، وكل مَن قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل. ينكرون قوله ويبدعونه بذلك، وكان مع ذلك محسودًا لفهمه وفطنته". اهـ.
لخًّص الإمام ابن عبدالبر في هذه الكلمات القليلة: أسباب الطعن في الإمام أبي حنيفة ممن طعن فيه من أهل الحديث، وهذه الأسباب هي/
1- منهج أبي حنيفة في العمل بأخبار الآحاد.
2- مذهب أبي حنيفة في الإرجاء.
3- حسد الناس لأبي حنيفة لفهمه وفطنته.
وسوف نعرض لكل سبب من هذه الأسباب بشيء من التفصيل في مطلب مستقل.
الْمَطْلَبُ الأَوَّلُ_ منهج أبي حنيفة في العمل بأخبار الآحاد:
لقد كان منهج أبي حنيفة في العمل بأخبار الآحاد، وما نتج عنه من رد لبعضها، وما أُشيع عن أبي حنيفة من تقديم القياس عليها، أهمَّ الأسباب التي دعت لأن يطلق المحدثون ألسنتهم في أبي حنيفة، والحق أنه لم يكن يقدم القياس على الخبر، وأن السبب الحقيقي في رده بعض أخبار الآحاد أنه كان يشترط لصحة الأخبار شروطًا زائدة على شروط الصحة عند المحدثين، فعدم أخذه بتلك الأخبار كان لعدم اكتمال شروط الصحة فيها (عنده)، فهو يحتاط في قبول الأخبار ولا يردها، وفق منهج علمي رصين (على التحقيق).
[للفائدة _ولمزيد من التفصيل في ذلك_؛ يُراجع: (مذهب أبي حنيفة في تقديم الخبر على القياس)]​
ولمعرفة مدى تأثير ذلك على صفوف المحدثين، انظر إلى رد فعل ابن أبي ذئب عندما بلغه أن الإمام مالكًا ترك العمل بحديث (البيعان بالخيار) -أخرجه البخاري (2109)، ومسلم (3932)- لمعارض راجح عنده؛ إذ قال ابن أبي ذئب: يُستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ["العلل" لأحمد بن حنبل (1/ 193)].
وفي ذلك عبرة بالغة في شدة حمل المحدثين على الفقهاء؛ فقد أباح دمه إذ حكم بكفره وردته لتركه العمل بالحديث، فإن تاب يحقن دمه وإلا يقتل! سبحان الله! فإذا كان هذا الحكم الجائر الخاطئ، صدر من ابن أبي ذئب المحدث المدني بلديِّ الإمام مالك، والمعاصر للإمام مالك، والعارف كل المعرفة بالإمام مالك لمسألة واحدة، فكيف يكون حكم كثير من المحدثين المعاصرين لأبي حنيفة وغير المعاصرين له، القريبين منه بلدًا والبعيدين عنه، كيف يكون حكمهم عليه لرده كثيرًا من أخبار الآحاد على حد تعبير ابن عبدالبر، ولقوله الطاعات والأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وهم يعتقدون دخولها اعتقادًا، فإذا اعتبرنا بذلك علمنا أن أغلب ما قيل في أبي حنيفة لا يعدو أن يكون ردود أفعال قوية لما أُشيع عنه، فيكون من باب الجرح غير المقبول؛ لأنه صدر عن حمية وعصبية، ولزم علينا أن نزن ما قالوه بميزان العقل والعدل. راجع: التعليق على الانتقاء (ص 280).
قال أبو عمر ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 181): "أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم: إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر، وكان رده لما رده من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه عليه غيره وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي وجُلُّ ما يُؤخَذُ له من ذلك ما كان منه اتباعًا لأهل بلده كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود، إلا نه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فأتى منهم في ذلك خلاف كثير للسلف، وشُنَعٌ هي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا وهو يوجد لغيره قليل".
ثم قال أبو عمر [المصدر السابق (2/ 182)]: "ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يردُّه دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلاً عن أن يُتَّخذ إمامًا ولزمه اسم الفسق، ولقد عافاهم الله عز وجل من ذلك.
ونقموا أيضًا على أبي حنيفة الإرجاء، ومن أهل العلم من يُنسب إلى الإرجاء كثير، لم يُعْن أحد بنقل قبيح ما قيل فيه كما عُنُوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته.
وكان أيضًا مع هذا يُحسَد، وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق به، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه".
ثم قال [المصدر السابق (2/ 183)]: "الذين رَوَوْا عن أبي حنيفة ووثّقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس والإرجاء".
وقال في مقدمة فضائل أبي حنيفة: "وأذكر في هذا الجزء إن شاء الله بعض ما حضرني ذكرُه من أخبار أبي حنيفة وفضائله، وذكر بعض مَن أثنى عليه وحمده، ونبذًا مما طُعن فيه عليه لردّه بما أصَّله لنفسه في الفقه، وردَّ بذلك كثيرًا من أخبار الآحاد الثقات إذا لم يكن في كتاب الله أو ما أجمعت الأُمَّة عليه: دليل على ذلك الخبر وسماه الخبر الشاذ وطرحه.
وكان مع ذلك أيضًا لا يرى الطاعات وأعمال البر من الإيمان، وعابه بذلك أهل الحديث، فهذا القول يستوعب معنى ما لهج به من طعن عليه من أهل الأثر.
وقد أثنى عليه قوم كثير لفهمه وفطنته وحسن قياسه وورعه ومجانبته السلاطين، فنذكر في هذا الكتاب عيونًا من المعنيينِ جميعًا إن شاء الله وهو حسبنا ونعم الوكيل". اهـ. من الانتقاء لابن عبدالبر (ص 184).
وأما ما قاله بعض المحدثين من قلة حديث أبي حنيفة وضعفه فهو كلام ساقط، يرده شهادة الحفاظ له بكثرة حديثه وسعة حفظه؛ قال الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 396): "إن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها". فهذه شهادة الحافظ الذهبي له بالإكثار من الحديث في سنة مائة وبعدها، ثم عاش أبو حنيفة إلى سنة خمسين ومائة، فهل يكون نقص علمه وحفظه من الحديث أم زاد.
وعقد الحافظ محمد بن يوسف الصالحي بابًا في كتابه عقود الجمان في بيان كثرة حديث أبي حنيفة، وكونه من أعيان الحفاظ من المحدثين، والرد على من زعم قلة اعتنائه بالحديث، وبيان المسانيد التي خرَّجها له الحفاظ من حديثه ومما قاله:
"اعلم -رحمك الله- أن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- من كبار حفاظ الحديث، وقد تقدم أنه أخذ عن أربعة آلاف شيخ من التابعين وغيرهم، وذكره الحافظ الناقد أبو عبدالله الذهبي في كتابه ((الممتع)) و((طبقات الحفاظ من المحدثين)) -تذكرة الحفاظ (1/ 168)-، ولقد أصاب وأجاد. ولولا كثرة اعتنائه بالحديث، ما تهيّأ له استنباط مسائل الفقه، فإنه أول ما استنبطه من الأدلة، وعدم ظهور حديثه في الخارج، لا يدل على عدم اعتنائه بالحديث، كما زعم بعض من يحسُدُه، وليس كما زعم، وإنما قلّت الرواية عنه وإن كان متّسع الحفظ لأمرين:
أحدهما/ اشتغاله عن الرواية باستنباط المسائل من الأدلة، كما كان أجلاء الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وغيرهما يشتغلون بالعمل عن الرواية، حتى قلّت روايتهم بالنسبة إلى كثرة اطلاعهم، وكثرة رواية من دونهم بالنسبة إليهم، وكذا الإمام مالك والإمام الشافعي لم يرويا إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعاه، كل ذلك لاشتغالهما باستخراج المسائل من الأدلة.
الأمر الثاني/ أنه كان لا يرى الرواية إلا لما يحفظ، روى الطحاوي عن أبي يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به. وروى الخطيب [في تاريخ بغداد (13/ 339)] عن إسرائيل عن يونس قال: نِعْمَ الرجل نعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه". انتهى. [ورد في "عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" (ص 319)].
[للفائدة أيضًا _ولتوضيح المقصود من هذه الجُزئية_؛ يُنظر: (طرق الحفظ عند الحنفية)]​
وقد صنف الشيخ محمد عبدالرشيد النعماني كتابًا ماتعًا سمَّاه ((مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث)) جمع فيه ثناء العلما القدامى والمتأخرين على الإمام أبي حنيفة من ناحية مكانته الرفيعة في علم الحديث والسنة خاصة، إيضاحًا لما له من المنزلة السامية والمرتبة المنيعة في ذلك، وقد رد فيه على دعوى الألباني -سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 390، 465)- بتضعيف الإمام في الحديث أبلغ رد -انظر: مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث (ص 112-125)-.
وعلى منهج الألباني صنَّف أحدهم [وهو (المُحدِّث) مُقبل بن هادي الوادعي، من أهل اليمن، توفي سنة (1422هـ) رحمه الله وغفر الله له، وقد طبع كتابه بدار الحديث بدماج (1418هـ/1997م)] كتابًا سماه ((نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة)) سوَّد صفحاته وملأها بذكر من جرَّح الإمام أبي حنيفة ورتبهم على حروف المعجم، ولم يعرج على أقوال المعدلين قصدًا؛ لأنهم في نظره إما أن يكونوا ممن لا يُعتدّ بكلامهم مع كبار أئمة الجرح والتعديل، وإما أن يكونوا من الغلاة في أبي حنيفة، وإما أن يكونوا من الأئمة؛ كسفيان الثوري وكعبدالله ابن المبارك ومن جرى مجراهما، ولكنه قد رجع وتبرأ مما حصل منه من الثناء، وحذَّر من أبي حنيفة بل طعن فيه.
وهكذا صادر على كلام المعدلين للإمام أبي حنيفة، ثم غمز جميع علماء الأمة الذين أثنوا على أبي حنيفة بأنهم كانوا يخافونمن علماء الحنفية؛ لأن سلطة القضاء كانت لهم في كثير من الأزمنة! ..
وبعض الناس لا يتحاشون ذكر الأئمة بالمخازي، وإثبات الطعون في الأئمة، ويشيعون قالة السوء، نسأل الله السلامة والعافية، والتوفيق لتعظيم أئمة الدين والعلماء؛ ومنهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم أجمعين. راجع: تبيين كذب المفتري (ص 96).
الْمَطْلَبُ الثَّاني_ مذهب أبي حنيفة في الإرجاء:
http://feqhweb.com/vb/showthread.php?t=2284&p=115816&viewfull=1#post115816
(أما السبب الثاني) من أسباب الطعن (طعن المحدثين) على الإمام أبي حنيفة ما نُقِلَ عنه من القول بالإرجاء، والإرجاء له عدة معانٍ، وعند التحقيق وُجِدَ أن الإمام لا يقول بالمعنى المذموم عند أهل السنة؛ ولنبدأ الآن في تفصيل تلك المسألة:تعريف الإرجاء: الإرجاء في اللغة/ هو التأخير.
قال ابن منظور -كما في لسان العرب مادة (رجا)-: المرجِئة صنف من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدَّموا القول وأرجئوا العمل أي أخّروه؛ لأنهم يرون أنهم لو لم يصلوا ولم يصوموا لنجاهم إيمانهم. اهـ.
وقال ابن الأثير في النهاية (2/ 206): ورد في الحديث ذكر المرجئة: هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سُمُّوا مرجئة؛ لأن الله أَرْجَأَ تعذيبهم على المعاصي. اهـ.
وقال ابن منظور مُعلِّقًا على كلام ابن الأثير: ولو قال ابن الأثير هُنا: سموا مرجئة؛ لأنهم يعتقدون أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي. كان أجود. اهـ.
وقال شارح الطحاوية -كما في شرح العقيدة الطحاوية ص(356)-: ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ردًّا على المرجئة فإنهم يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. اهـ.
ويقول الشهرستاني في الملل والنحل (1/ 139): الإرجاء على معنيين: أحدهما/ بمعنى التأخير، كما في قوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء: 36] أي أمهِلْه وأَخِّره. والثاني/ إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد، وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. اهـ.
هذا هو المعنى الشائع المشهور للإرجاء وهو المعنى المذموم، ويُطلق الإرجاء على معانٍ أخرى مشروعة، وعلى هذه الإطلاقات فليس كل من أطلق عليه الإرجاء متهمًا في دينه وخارجًا من السنة؛ بل يُنظر في المعنى الذي أطلق عليه، فإن كان بالمعنى المشروع فهو من أهل السنة والهداية، وإن كان بالمعنى المذموم فهو من أهل الضلالة والغواية. راجع: التعليق على الانتقاء ص(293).
وهذه المعاني المشروعة يمكن حصرها في ثلاثة معانٍ:
1- المعنى الأول من معاني الإرجاء المشروعة:
يطلق الإرجاء على تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتينِ المتقاتلتينِ بعد مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
يقول الحافظ ابن حجر في هدي الساري ص(459): منهم من أراد بالإرجاء تأخير القول في تصويب إحدى الطائفتينِ اللتين تقاتلتا بعد عثمان. اهـ.
ويقول الشيخ ظفر أحمد التهانوي في قواعد علوم الحديث ص(232- 234): ولا يخفى أن الإِرجاءَ بالمعنى الأول -هذا المعنى- ليس من الضلالة في شيء؛ بل هو -والله- الورَعُ والاحتياط، والسكوتُ عمَّا جرى في الصحابة وشجَرَ بينهم أَوْلى، فليس كل من أُطلِقَ عليه الإِرجاءُ متهمًا في دينه وخارجًا عن السنة؛ بل لا بُدَّ من الفحص عن حاله، فإن كان لإرجائه أَمْرَ الصحابة -الذين تقاتلوا فيما بينهم- إلى الله، وتوقُّفِهِ عن تصويب إحدى الطائفتينِ، فهو من أهل السنة ومن حزب الورعين حتمًا، ومن أُطِلقَ عليه ذلك لقوله بعدم إضرار المعاصي، فهو الذي يُتَّهَمُ في دينه. اهـ.
وأول من قال بالإرجاء بهذا المعنى المشروع هو التابعي الجليل أبو محمد الحسن ابن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني المتوفى سنة مائة المعروف والده بابن الحنفية - تهذيب الكمال (6/ 316).
قال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام (3/ 358): الإرجاء الذي تكلم به معناه أن يرجأ أمر عثمان وعليٍّ إلى الله تعالى فيفعل فيهم ما يشاء، ولقد رأيت أخبار الحسن بن محمد في مُسند عليٍّ ليعقوب ابن شيبة، فأورد في ذلك كتابه في الإرجاء، وهو نحو ورقتين فيها أشياء حسنة، وذلك أن الخوارج تولت الشيخين وبَرِئت من عثمان وعلي، وعارضهم السبيئِّة فبرئت من أبي بكر وعمر وعثمان وتولت عليًّا وأفرطت فيه. وقالت المرجئة: الأولى نتولى الشيخينِ ونُرجِئ عثمان وعليًّا فلا نتولاهما ولا نتبرأ منهما. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (2/ 321): المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له في آخره: قال حدثنا إبراهيم ابن عُيينة عن عبدالواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد؛ فإنا نوصيكم بتقوى الله، فذكر كلامًا كثيرًا في الموعظة والوصية بكتاب الله واتباع ما فيه، وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله تعالى. إلى آخر الكلام.
فمعنى الذي تكلم فيه الحسن: أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مُخطئًا أو مُصيبًا، وكان يرى أنه يرجأ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان، فلم يعرج عليه، فلا يُلاحقه بذلك عاب. اهـ.
2- المعنى الثاني من معاني الإرجاء المشروعة:
ويُطلق الإرجاء على من اعتقد الإيمان بالله تعالى بقلبه وأقر به بلسانه وأخل بالعمل، بأن ضيَّع شيئًا من الفرائض أو ارتكب بعض الكبائر، كان مؤمنًا مذنبًا يستحق العذاب بالنار، وأمره مرجأ، أي مؤخَّرٌ إلى اللهِ تعالى، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه، وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة مع اختلافهم في التعبير عنه.
يقول الشهرستاني في الملل والنحل (1/ 139): وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا، من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان، وقيل: الإرجاء تأخير علِيٍّ عن الدرجلة الأولى إلى الرابعة فعلى هذا المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان. اهـ.
ويقول سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد (2/ 238): اشتهر من مذهب المعتزلة أن صاحب الكبيرة بدون التوبة مُخلَّدٌ في النار وإن عاش على الإيمان والطاعة مائة سنة، ولم يُفرِّقوا بين أن تكون الكبيرة واحدة أو كثيرة، واقعة قبل الطاعات أو بعدها أو بينهما، وجعلوا عدم القطع بالعقاب وتفويض الأمر إلى الله -يغفر إن شاء ويعذب إن شاء على ما هو مذهب أهل الحق- إرجاءً بمعنى أنه تأخير للأمر وعدم جزم بالعقاب والثواب، وبهذا الاعتبار جُعِلَ أبو حنيفة وغيره من المرجئة. اهـ.
وقال الطحاوي -كما في العقيدة الطحاوية ص(416)-: وأهل الكبائر من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر -عز وجل- في كتابه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يُخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته.
قال ابن أبي العز في الشرح: ردًّا لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان لا بدخولهم في الكفر؛ بل لهم منزلة بين المنزلتين. اهـ.
ويقول أبو الحسنات اللكنوي في الرفع والتكميل ص(366): قد يُطلق الإرجاء على أهل السنة والجماعة من مُخالفهم المعتزلة الزاعمين بالخلود الناري لصاحب الكبيرة. اهـ.
قال أبو الصلت عبدالسلام بن صالح الهروي في تهذيب الكمال (2/ 111) [وورد في "تاريخ بغداد" -كذلك- (6/ 109، 110)]: سمعتُ سُفيان ابن عُيَيْنَةَ يقولُ: ما قدم علينا خراساني أفضل من عبدالله بن واقد الهروي. قلتُ له: فإبراهيم بن طهمان؟ قال: كان ذلك مُرجئًا. قال أبو الصلت: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث: إن الإيمان قول بلا عمل، وإن ترك العمل لا يضر مع الإيمان؛ بل كان إرجاؤهم أنهم يرجون لأهل الكبائر الغفران، ردًّا على الخوارج وغيرهم الذين يكفرون الناس بالذنوب وكانوا يُرجئون ولا يُكفرون بالذنوب ونحن كذلك. اهـ.
3- المعنى الثالث من معاني الإرجاء المشروعة:
ويطلق الإرجاء على إرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية وهو إرجاء الحنفية الذين هم مرجئة أهل السنة.
يقول اللكنوي في الرفع والتكميل ص(367): قد يُطلق الإرجاء على الأئمة القائلين بأن الأعمال ليست بداخلة في الإيمان وبعدم الزيادة والنقصان، وهو مذهب أبي حنيفة وأتباعه، من جانب المحدثين القائلين بالزيادة والنقصان وبدخول الأعمال في الإيمان. اهـ.
وقال ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 106): ذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معًا، فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقرّ بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام، وأن الأعمال لا تسمى إيمانًا، ولكنها شرائع الإيمان، فهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء. اهـ.
وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وإن كل طاعة وعمل خير فرضًا كان أو نافلة فهي إيمان، وكل ما ازداد الإنسان خيرًا ازداد إيمانه، وكلّما عصى نقص إيمانه.
وقال في موضع آخر -ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 88)-: أقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معًا، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط. اهـ.
وذكر الشهرستاني -كما في الملل والنحل (1/ 141)- فرق المرجئة ومقالتهم، وذكر منهم الغسَّانية فقال: الغسانية أصحاب غسَّان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسوله، والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به الرسول في الجُملة دون التفصيل، والإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ثم قال: ومن العجيب أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة مثل مذهبه ويعده من المرجئة، ولعله كذب كذلك عليه، لعمري كان يُقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنة وعده كثير من أصحاب المقالات من جُملة المرجئة، ولعل السبب فيه أنه لما كان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنُّوا أنه يُؤخِّر العمل عن الإيمان، والرجل مع تخريجه في العمل كيف يُفتي بترك العمل.
وله سبب آخر: وهو أنه كان يُخالف القدرية والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأول، والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئًا، وكذلك الوعيدية من الخوارج، فلا يُعد أن اللقلب إنما لزمه من فريقي المعتزلة والخوارج. والله أعلم. اهـ.
يقول ابن حجر الهيتمي في الخيرات الحسان ص(234): قد عد جماعة الإمام أبي حنيفة من المرجئة، وليس هذا الكلام على حقيقته:
أما أولاً: فلأنه قال شارح المواقف: كان غسان المُرجِئ ينقل الإرجاء عن أبي حنيفة ويعده من المرجئة وهو افتراء عليه، قصد به غسان ترويج مذهبه بنسبته إلى هذا الإمام الجليل.
وأما ثانيًا: فقد قال الآمدي: إن المعتزلة كانوا في الصدر الأول يُسمُّون مَنْ خالفهم في القدر مرجئًا، أو لأنه لما قال: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ظُنَّ به الإرجاء بتأخير العمل من الإيمان. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 46): قال السلف: الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل وبالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص، والمرجئة قالوا هو اعتقاد ونطق فقط. اهـ.
قال النووي -كما في شرحه مسلم (1/ 148)-: الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكًّا وكفرًا. قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهو الأعمال ونقصانها. قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون.
وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرًا حسنًا؛ فالأظهر -والله أعلم- أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة؛ ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبهة ولا يتزلزل إيمانهم بعارض؛ بل لا تزال قلوبهم منشرحة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق لا يُساويه تصديق آحاد الناس.
ولهذا قال البخاري في صحيحه -عقب حديث(47)-: قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أجمعوا على أن المراد: صلاتكم. اهـ.
وقال ابن أبي العزّ الحنفي -كما في شرح العقيدة الطحاوية ص(373)-: ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق ابن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي: أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
ثم قال: والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقينَ من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءًا من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ بل هو في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه - نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضمُّوا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يُوجب زوال اسم الإيمان عنهم بالكليَّة اتِّفاقًا.
ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعني به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد، هل يشمله اسم الإيمان، أم الإيمان أحدهما وهو القول وحده، والعمل مُغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أُطلِق عليهما كان مجازًا، هذا محل النزاع. اهـ.
ثم قال -كما في شرح العقيدة الطحاوية أيضًا ص(379)-: إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعًا لفظيًّا، فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتينِ على الأخرى، والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أن مؤمن مسلم حقًّا كاملُ الإيمان والإسلام وليٌّ من أوليا الله، فلا يُبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعًا، فالإمام أبو حنيفة نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة -رحمهم الله- نظروا إلى حقيقته في عُرف الشارع، فإن الشارع ضمّ إلى التصديق أوصافًا وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك. اهـ.
قال الكوثري في التأنيب ص(66، 67): كان في زمن أبي حنيفة وبعده أُناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ويرمون بالإرجاء من يرى أن الإيمان هو العقد والكلمة، مع أنه الحق الصراح بالنظر إلى حجج الشرع، قال الله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). أخرجه مسلم -(102)- عن عمر، وعليه جمهور أهل السنة.
وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد، أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتمًا إن كانوا يعدون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة؛ لأن الإخلال بعمل من الأعمال -وهو ركن الإيمان في نظرهم- يكون إخلالًا بالإيمان، فيكون من أخلَّ بعمل خارجًا من الإيمان، إما داخلًا في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غير داخل فيه بل في منزلة بين المنزلتين: الكفر والإيمان، كما هو مذهب المعتزلة.
وهم من أشد الناس تبرؤًا من هذين الفريقين، فإذا تبرؤا أيضًا مما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن، يبقى كلامهم متهافتًا غير مفهوم، وأما إذا عدوا العمل من كمال الإيمان فقط فلا يبقى وجهٌ للتنابز والتنابذ [التنابز: التعاير بالألقاب. والتنابذ: الاختلاف الوفرقة عن عداوة. راجع: "لسان العرب" مادة (نبز ونبذ)]، لكن تشددهم هذا التشدد يدل على أنهم لا يعدون العمل من كمال الإيمان فحسب؛ بل يعدونه ركنًا منه أصلًا ونتيجة ذلك كما ترى.
فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية هو السنة، وأما الإرجاء الذي يُعدُّ بدعة فهو قول من يقول لا تضر مع الإيمان معصية، وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول براءة الذئب من دم يوسف -عليه السلام-، ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة، للزم إكفار جماهير المسلمين غير المعصومين لإخلالهم بعمل من الأعمال في وقت من الأوقات، وفي ذلك الطآمة الكبرى. اهـ.
وقد غفل الكوثري أو تغافل عندما ظنَّ أن الإخلال بالأعمال يستلزم نفي الإيمان؛ لأن الإخلال بالعمل يستلزم نقصان الإيمان وليس نفيه، وبعبارة أخرى يستلزم الفسق لا الكفر، ثم إني وجدتُ كلامًا لابن حزم كالنص في الرد على الكوثري.
قال ابن حزم في الفصل (3/ 118): الإيمان اسم مشترك يقع على معانٍ شتَّى، فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضدًّا له؛ ومنها ما يكونا لفسق ضدًّا له لا الكفر؛ ومنها ما يكون الترك ضدًّا له لا الكفر ولا الفسق، فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدًّا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضدًّا لهذا الإيمان، وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدًّا له لا الكفر، فهو ما كان من الأعمال فرضًا، فإنَّ تركَه ضدٌّ للعمل وهو فسقٌ لا كفر، وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضدًّا فهو كل ما كان من الأعمال تطوعًا، فإنَّ تركَه ضدُّ العمل به وليس فسقًا ولا كفرًا. اهـ.
ثم وجدتُ تفصيلًا حسنًا لأنور شاه الكشميري قال فيه -كما في فيض الباري (1/ 53، 54)-: الإيمان عند السلف عِبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد وقول وعمل، وقد مرَّ الكلام على الأولين، أي التصديق والإقرار، بقي العمل هل هو جزء للإيمان أم لا؟ فالمذاهب فيه أربعة:
قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء للإيمان؛ فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما، ثم اختلفوا: الخوارج أخروجه عن الإيمان وأدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه في الكفر بل قالوا بالمنزلة بين المنزلتينِ.
والثالث: مذهب المرجئة فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض.
والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة، وهم بين بين، فقالوا: إن الأعمال أيضًا لا بد منها، لكن تاركها مُفسق لا مكفَّر، لم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يهونوا أمرها كالمرجئة.
ثم هؤلاء -أي أهل السنة- افترقوا فرقتين، فأكثر المحدثين إلى أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا الأعظم وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم -جميعًا- على فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاءً لكن لا بحيث ينعدم الكل بانعدامها بل يبقى الإيمان بانتفائها.
وإمامنا -أبو حنيفة- وإن لم يجعل الأعمال جزءًا لكنه اهتم بها وحرص عليها، وجعلها أسبابًا سارية في نماء الإيمان، فلم يهدرها هدر المرجئة، إلا أن تعبير المحدثين القائلين بجُزئيَّة الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم، فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رمى الحنفية بالإرجاء، وهذا -كما ترى- جورٌ علينا؛ فالله المستعان. اهـ.
ويقول الشيخ عبدالحي اللكنوي في الرفع والتكميل ص(360) إيقاظ(22): جُملة التفرقة بين اعتقاد أهل السنة وبين اعتقاد المرجئة: أن المرجئة يكتفون في الإيمان بمعرفة الله ونحوِهِ، ويجعلون ما سوى الإيمان من الطاعاتِ، وما سوى الكفرِ من المعاصي - غيرَ مضرةٍ ولا نافعة، ويتشبَّثون بظاهر حديث: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) -أخرجه مُسلم (145)-.
وأهل السنة يقولون: لا تكفي في الإيمان المعرفةُ؛ بل لا بُدَّ من التصديق الاختياري مع الإقرار اللساني، وإن الطاعاتِ مُفيدة، والمعاصي مضرّة مع الإيمان، توصِل صاحبها إلى دار الخسران.
والذي يجب علمُهُ على العالم المشتغِلِ بكتب التواريخ وأسماء الرجال - أن الإرجاء يُطلق على قسمين:
أحدهما/ الإرجاء الذي هو ضلال وهو الذي مرَّ ذكره آنفًا.
وثانيهما/ الإرجاء الذي ليس بضلال، ولا يكون صاحبه عن أهل السنة والجماعة خارجًا؛ ولهذا ذكروا أن المرجئة فرقتان: مرجئة الضلالة، ومرجئة أهل السنة، وأبو حنيفة وتلاميذه وشيوخه وغيرُهم من الرواةِ الأثبات إنما عُدُّوا من مرجئة أهل السنة لا مرجئة أهل الضلالة. اهـ.
الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ_ حسد الناس لأبي حنيفة لفهمه وفطنته:
وهذا من الأسباب المهمة التي أطلقت ألسنة شانئيه بالطعن فيه، فقد كان أبو حنيفة ممن يُحسد لنباهة ذهنه وكمال عقله، وهكذا شأن النبهاء في كل عصر، يقول ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 183): "وكان يقال: يُستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب أنه هلك فيه فئتان: محب أفرط ومبغض فرَّط، وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية". اهـ.
يقول العلاّمة أبو زهرة: "وإن هذه الكلمة الصادقة كل الصدق، تنطبق على أبي حنيفة؛ فقد تعصب له ناس حتى قاربوا به منازل المرسلين، فزعموا أن التوراة بشرت به، وتعصب ناس عليه فرموه بالزندقة والخروج عن الجادة، وإفساد الدين وهجر السنة؛ بل مناقضتها، ثم الفتوى في الدين بغير حجة ولا سلطان مبين، فتجاوزوا في طعنهم حد النقد السليم، ولم يتجهوا إلى آرائه بالفحص والدراسة، ولم يكتفوا بالتزييف لها من غير حجة ولا دراسة؛ بل عدوا عدوانًا شديدًا، فطعنوا في دينه وشخصه وإيمانه.
ولمَ كان ذلك الخلاف بشأنه؟ لذلك أسباب قد نعرض لها في بحثنا ببعض التفصيل ولكن نسارع هنا بذكر سبب منها قد يُعدُّ أساسًا لغيره، وذلك أن أبا حنيفة كان له من قوة الشخصية ما وجه به الفقه توجيهًا جاوز حلقة درسه؛ بل تجاوز إقليمه إلى غيره من الأقاليم الإسلامية، فتحدث الناس بآرائه في أكثر نواحي الدولة الإسلامية.
وتلقاها المخالف والموافق، فاستنكرها المخالف، وناصرها الموافق، ورأى فيها الأول وهو المستمسك بالنص لا يعدوه بدعًا من الآراء في الدين، فشدد في النكير، وربما لا يكون رَأى أبا حنيفة وما اتصف به من ورع وتقى، فأطلق لسانه فيه؛ لأنه رأى رأيًا بدعًا، ولم يعرف دليله ولا قائله، وربما كانت تحف حدة لسانه إذا رآه أو علم وجه الدليل؛ بل ربما أجله ووافقه.
يُروى في ذلك أن الأوزاعي فقيه الشام الذي كان معاصرًا لأبي حنيفة، قال لعبدالله ابن المبارك؛ مَنْ هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة ويُكنى أبا حنيفة؟ فلم يجبه ابن المبارك، بل أخذ يذكر مسائل عويصة، وطرق فهمها والفتوى فيها، فقال: مَنْ صاحب هذه الفتاوى؟ فقال: شيخ لقيته بالعراق. فقال الأوزاعي: هذا نبيل من المشايخ اذهب فاستكثر منه. قال: هذا أبو حنيفة.
ثم اجتمع الأوزاعي وأبو حنيفة بمكة، فتذاكرا المسائل التي ذكرها ابن المبارك فكشفها فلما افترقا قال الأوزاعي لابن المبارك: غبطتُ الرجل بكثرة علمه، ووفور عقله، واستغفر الله تعالى، لقد كنت في غلط ظاهر، الزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه [انظر: "الخيرات الحسان" (ص 33)، وراجع: "تاريخ بغداد" (13/ 338)].
ولقد كان أبو حنيفة مع قوة شخصه، وعمق تأثيره، وبعد نفوذه، صاحب طريقة جديدة في الإفتاء والتخريج، وفهم الحديث واستنباط الأحكام منه، وقد أخذ يبث طريقته في تلاميذه ومَن يتصل بهم نحوًا من ثلاثين عامًا أو يزيد، ومن كان كذلك لا بد أن يُستهدف للنقد المُرّ؛ بل التجريح لشخصه والتزييف لرأيه، والتعصب عليه.
ولقد كانت الملاحاة بين أنصاره وخصومه في القرن الرابع الهجري، يوم ساد التعصب المذهبي، وصار الفقه مجادلة بين المتعصبينَ، وكانت الملاحاة أشد ما تكون بين الحنفية والشافعية؛ ولذلك اشتهدف هذان الإمامان للطعن المُرِّ.
ولقد كان أبو حنيفة أشد استهدافًا للطعن؛ لأن كثرة إفتائه بالرأي كانت منفذًا للنيل منه في علمه بالحديث، وفي ورعه، وفي حُسْنِ إفتائه، وغير ذلك مما يتصل بمذهبه في الاستنباط والتخريج، وقد رماه المتعصبون بكل رمية -أي بكل نقيصة وقبيحة- حتى لقد استنكر الأمر بعض الشافعيينَ، ورأوا ذلك تجانفًا لإثم، وخروجًا عن الجادة، فكان من هؤلاء من أنصف أبا حنيفة وكتب في مناقبه، ورد قول المتعصبينَ من الشافعية.
فرأينا السيوطي وهو شافعي يكتب رسالة يسميها ((تبييض الصحيفة في مناقب الإمام أبي حنيفة)) ورأينا ابن حجر الهيتمي وهو شافعي أيضًا يكتب رسالة يسميها ((الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان))، ورأينا الشعراني في ((الميزان)) يخص أبا حنيفة بالذكر والدفاع عنه، واستقامة طريقة تخريجه، ويذكره في طبقاته على أنه من أولياء الله والواصلين بحبل ولايته". انتهى.
وقال العلاّمة ابن عابدين في ((رد المحتار على الدر المختار)) (1/ 37): "إن الإمام أبا حنيفة لما شاعتْ فضائله، وعمتْ الخافقين فواضله، جرتْ عليه العادة القديمة، من إطلاق ألسنة الحاسدين فيه، حتى طعنوا في اجتهاده وعقيدته بما هو مبرَّأٌ منه قطعًا". انتهى كلامه.
وقال عبدالعزيز البخاري في ((كشف الأسرار)) (3/ 69) كلامًا بليغًا: "وقد طعن الحساد في الإمام أبي حنيفة حتى صنفوا في طعنه كتبًا ورسائل، ولكن لم يزده طعنهم إلا شرفًا وعلوًّا، ورفعةً بين الأنام وسموًّا، فذاع مذهبه في الدنيا واشتهر، وبلغ أقطار الأرض نور علمه وانتشر، وقد عرف مَن له أدنى بصيرة وإنصاف، وجانب التعسف والاعتساف، أن كل ما قالوه افتراء، ومثله عنه براء". اهـ.
وقال عبدالله بن داود: الناس في أبي حنيفة رجلان: جاهل به وحاسد له، وأحسنهم عندي حالاً الجاهل. انظر: تاريخ بغداد (13/ 368)، وتهذيب الكمال (29/ 441).
وقال وكيع: دخلت على أبي حنيفة فرأيته مطرقًا مفكرًا، فقال لي: من أين أقبلت؟ من عند شريك. ورفع رأسه وأنشأ يقول:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم _ قبلي مِنَ الناس أهل الفضل قد حُسِدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم _ ومات أكثرنا غيظًا بما يجد
انظر: تاريخ بغداد (13/ 367)، وتهذيب الكمال (29 /442).
وقيل لعبدالله بن المبارك: فلان تكلم في أبي حنيفة، فأنشد:
حسدًا إذ رأوك فضَّلك الله _ بما فُضِّلَتْ به النُّجباء
وقال أبو الأسود الدؤلي:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه _ فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها _ حسدًا وبغيًا إنه لذميم
انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 162).

ب- موقف بعض المحدثين من أبي حنيفة:
لقد اخترتُ ثلاثة من أعلام المحدثين ممن شتهر أن لهم تحاملاً ضد أبي حنيفة، وقد كان السبب في تحديد الأعلام الثلاثة ذيوع موقفهم من أبي حنيفة، وتأثيرهم في الأوساط العلمية لعلمهم وفضلهم، إضافةً إلى أن كلَّ عَلَمٍ منهم يمثل مرحلة زمنية مختلفة وسأحاول استكشاف أسباب هذا الموقف وتوضيحه وتحليله، وهؤلاء الأعلام الثلاثة هم:
1- الإمام الحافظ الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، المتفق على إمامته وفضله، المولود سنة (194هـ) أي بعد وفاة الإمام أبي حنيفة بأربعة وأربعين عامصا والتوفى سنة (256هـ) - راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 391)، وتذكرة الحفاظ (2/ 555)، وطبقات الشافعية الكبرى (2/ 212)، وتهذيب الكمال (24/ 430)، وتاريخ بغداد (2/ 4) .
2- الإمام الحافظ الناقد أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان البستي، أحد كبار المحدثين الذين تكلموا وألفوا في الرجال جرحًا وتعديلاً، صاحب الصحيح والثقات والمجروحين، المولود سنة (280هـ)، والمتوفى سنة (354هـ) - راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 92)، وتذكرة الحفاظ (3/ 920)، والأنساب (1/ 348)، ومعجم البلدان (1/ 415) .
3- الإمام الحافظ الناقد أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد والمصنفات الكثيرة في علوم الحديث، فقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا، وكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة -كما في التقييد (1/ 170)، وتكملة الإمال (1/ 103)-: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه". ولد الخطيب سنة (392هـ)، وتوفي سنة (463هـ) - راجع سير أعلام النبلاء (18/ 270)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1135)، وطبقات الشافعية (4/ 29) .
وسأعرض موقف كلِّ عَلَمٍ منهم في مطلب مستقل.
الْمَطْلَبُ الأَوَّلُ_ موقف الإمام البخاري:
صنَّف الإمام البخاري كتابه ((الصحيح)) وأبرز فيه إمامته الباهرة في الحديث الشريف وعلومه، وأبرز إلى جانب ذلك فقهه الذي تميز به على سائر المحدثين، وذلك في تراجم كتابه وعناوين أبوابه، فبوَّب كتابه أبوابًا أودع عناوينها فقهه وفهمه للأحاديث بحسب ما أداه إليه اجتهاده؛ ومن ثَمَّ اشتهر أن فقه البخاري في تراجمه.
فوافق في فقهه وعناوين مباحثه بعض الأئمة السابقين وخالف بعضهم، وقد أشار في كثير من الترجمات وعناوين الأبواب إلى الرد على مَن رأى غيررأيه في تلك المسائل أو الأبواب، واكتفى بالرد دون أن يذكر أحدًا باسمه، وبيَّن الشرح ذلك في مواضعه، وقال في مواضع معدودة بلغت نحو خمسة وعشرين موضعًا عقب ذكر ترجمة الباب: "وقال بعض الناس" [تجد هذه المسائل في صحيح البخاري عقب الأحاديث التالية: (1498)، (2634)، (2635)، (2647)، (2748)، (5299)، (6684)، (6946)، (6950)، (6956)، (6958)، (6959)، (6960)، (6961)، (5656)، (6968)، (6970)، (6971)، (6974)، (6977)، (6978)، (6980)، (7161)، (7195)]. واشتهر أن الإمام البخاري يعني بجميع ذلك القول الإمام أبا حنيفة أو بعض أتباعه.
نقل الزيلعي عن ابن عبدالهادي كلامًا طويلاً قال فيه: "فالبخاري -رحمه الله تعالى- مع شدة تعصبه وفرط تحامله على مذهب أبي حنيفة لم يودع صحيحه منها حديثًا واحدًا" [يعني أحاديث الجهر بالبسملة]. ثم قال: "والبخاري كثير التتبع لما يرد على أبي حنيفة من السنة، فيذكر الحديث ثم يعرض بذكره فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وقال بعض الناس: كذا وكذا، ويشير ببعض الناس إليه، ويشنع لمخالفته الحديث عليه، وكيف يخلي كتابه من أحاديث الجهر بالبسملة، وهو يقول في أول كتابه: الصلاة من الإيمان [صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143) يعني صلاتكم عند البيت. ثم ساق حديث البراء في قصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وفي آخره قال البراء: إنه مات على القبلة قبل أن يحول رجال وقتلوا فيم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال ابن حجر في الفتح (1/ 98): "في هذا الحديث من الفوائد الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانًا"]. ثم يسوق أحاديث الباب، ويقصد الرد على أبي حنيفة قولَه: إن الأعمال ليست من الإيمان، مع غموض ذلك على كثير من الفقهاء". اهـ. انظر: نصب الراية (1/ 355، 356).
مع العلم أن البخاري كان في نشأته متفقهًا بالمذهب الحنفي السائد في تلك البلاد بخارى وما حولها، فقد ذُكر أن الإمام البخاري وهو صغير كان يختلف إلى أحمد ابن حفص أبي حفص الكبير الفقيه الحنفي [الطبقات السنية (1/ 342)، والفوائد البهية (ص 24)، وسير أعلام النبلاء (10/ 157)]، وسمع منه ((جامع سفيان الثوري)) وقد أثنى عليه أبو حفص الكبير، لِمَا رأى فيه من علامات النبوغ وجودة الحفظ، فقال: "هذا شاب كيس، أرجوا أن يكون له صيت وذكر" [سير أعلام النبلاء (12/ 425)، وتاريخ بغداد (2/ 11)]. وقد كان ما قال.
وقال الإمام البخاري: فلما طعنتُ في ست عشرة سنة حفظتُ كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء -يعني أصحاب الرأي- [سير أعلام النبلاء (12/ 393)، وتاريخ بغداد (2/ 7)]؛ فالإمام البخاري حنفي النشأة في الفقه، محدث فقيه مجتهد في مقتبل حياته، فمن البديهي أن يخالف من سبقوه -الحنفية وغيرهم- في كثير من المسائل، فهذه الخمسة والعشرون مسألة ليست بشيء في جانب المسائل الفقهية مجال الاجتهاد والنظر.
وقد رد بعض المحدثين الحنفية على البخاري في المسائل التي عرض فيها بأبي حنيفة بمؤلفات مستقلة؛ كالعلامة عبدالغني الغنيمي الميداني في كتابه: ((كشف الالتباس عما أورده البخاري على بعض الناس))، كما استوفى الرد عليها أيضًا الإمام البدر العيني في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)).
"كما عرض لهذا الموضوع الدكتورعبدالمجيد محمود في كتابه الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري" [الاتجاهات الفقهية (577- 660)]، ودرس المسائل مسألة مسألة دراسة بحث وتمحيص وجلاها خير تجلية.
ولا شك في أن موضوعات الخلاف بين الإمام البخاري وأهل الرأي ليست مقصورة على هذه المسائل؛ بل توجد مسائل أخرى لم يرضَ البخاري عن مسلك أهل الرأي إزاءها، وأثبت في صحيحه مذهبه فيها، وإن لم يُعْنَ ببيان رأي مخالفيه؛ بل إنه قد أفرد بعضًا من هذه المسائل بمؤلفات خاصة؛ مثل جزء ((رفع اليدين في الصلاة)) وجزء ((القراءة خلف الإمام)).
وقد استهلَّ البخاري جزء رفع اليدين في الصلاة بقوله -كما في (ص 21) منه-: "الرد على من أنكر رفع الأيدي في الصلاة عند الركوع وإذا رفع رأسه من الركوع، وأَبهَم على العَجَم في ذلك، تكلفًا لما لا يعنيه فيما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فعله وروايته... على ضَغِينَة صَدْرِهِ وحَرْجَةِ قلبه، ونفارًا عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يحمله، واستكنانَ عدواة لأهلها لشُربِ البدعة لحمُهُ وعظامُهُ ومُخُّه، واكتسبه باحتفاف العَجَم حوله اغترارًا". اهـ.
قال البخاري في التاريخ الصغير: "سمعت الحميدي يقول: قال أبو حنيفة قدمت مكة فأخذت من الحجام ثلاث سننلما قعدت بين يديه، قال لي استقبل القبلة، فبدأ بشق رأسي الأيمن وبلغ إلى العظمين. قال الحميدي: فرجل ليس عنده سنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه في المناسك وغيرها، كيف يقلد أحكام الله في المواريث والفرائض والزكاة والصلاة وأمور الإسلام".
وقال: "حدثنا نُعيم بن حمَّاد قال: حدثنا الفزاري قال: كنتعند سفيان فنُعي النعمان فقال: الحمد لله، كان ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم منه". [التاريخ الصغير (2/ 43، 100)]. وانظر: الرفع والتكميل (ص 393-398).
وقال في التاريخ الكبير (8/ 81): "كان مرجئًا سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه". اهـ.
وقد قرر العلماء أن عبارة "سكتوا عنه" عند الإمام البخاري تعدِلُ عبارة "تركوا حديثه" عند غيره، وأنها تعتبر من أشدّ عبارات الجرح (المُفسّر) عنده (من وجه أن الخطأ غالب عليه)؛ لأنه لورعه قلَّ أن يقول كذاب أو وضاع، وربما يقول: كذبه فلان ورماه فلان بالكذب، وبذلك يكون البخاري قد جرح أبا حنيفة بعبارة شديدة عنده. [الرفع والتكميل (ص 402)، وفتح المغيث (2/ 122)].
فتحامل البخاري على أبي حنيفة ثابت لا ريب فيه، ويرى الشيخ ظفر أحمد التهانوي أن سبب ذلك: أن البخاري صعب نعيم بن حماد الذي اتهمه الدولابي بوضع حكايات في مثالب أبي حنيفة كلها زور، كما جاء ذكره في تهذيب التهذيب والميزان، فلعل ذلك هو منشأ انحراف البخاري عن الإمام أبي حنيفة. [قواعد في علوم الحديث (ص 380)].
قال أبو الفتح الأزدي: "كان نعيم ممن يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات مزورة في ثلب النعمان -أبي حنيفة- كلها كذب". [ميزان الاعتدال (4/ 269)، تهذيب التهذيب (10/ 462)].
وما قاله التهانوي لا يبعد أن يكون صحيحًا، لا سيما إذا علمنا أن الحميدي شيخ البخاري كان من المتحاملين أيضًا على أهل الرأي كما يتضحك ذلك من كلامه السابق [ومن ذلك ما رواه ابنحبان في كتاب ((المجروحين)) (3/ 70) من طريق محمد بن منصور الجوار قال: رأيت الحميدي يقرأ كتاب الرد على أبي حنيفة في المسجد الحرام، فكان يقول: "قال بعض الناس". فقلت له: فكيف لا تسميه؟ قال: "أكره أن أذكره في المسجد الحرام"]، والتأثر بما يسمعه الرجل من مشايخه أمر واقع، لا سيما وتحامل المحدثين على أهل الرأي كان هو الاتجاه السائد في ذلك العصر.
ويرى الكوثري سببًا آخر لتحامل البخاري على أبي حنيفة وهو: أن البخاري لما ارتحل لطلب العلم وعاد إلى بخارى حسده علماء بلده، شأن كل من يرتحل للعلم ويعود لأهله بالجم منه، حتى أمسكوا له فتوى أخطأ فيها فأخرجوه بسببها من بخارى، فلما أخرجه انقلب عليهم، وجرى بينه وبينهم ما جرى، كما سبق للبخاري مثيله مع المحدثين في نيسابور، فأخذ بيدي بعض تشدد نحوهم في كتبه، مما هو من قبيل نفثه مصدور لا تقوم بها الحجة، ويُرجى عفوها له ولهم سامحهم الله تعالى. ["شروط الأئمة الخمسة" للحازمي (ص 56)، وحسن التقاضي (ص 86، 89)].
وحكاية إخراج البخاري مشهورة في كتب الحنفية وهي: أن البخاري لما قدم بخارى في زمن أبي حفص الكبير وجعل يفتي بها، فنهاه أبو حفص، وقال: لست بأهل لها فلم ينتهِ، حتى سُئل عن صبيين شَرِبا لبن شاة أو بقرة فأفتى بثبوت الحرمة، فاجتمع الناس وأخرجوه. [ذُكرت هذه الحكاية في ترجمة أبي حفص الكبير من الجواهر المضية (1/ 166)، والطبقات السنية (1/ 343)، وراجع: المبسوط (30/ 294)، وفتح القدير (3/ 457)، وأبو حفص الكبير هو أحمد بن حفص الإمام المشهو، أخذ العلم عن محمد بن الحسن، وله أصحاب لا يُحْصَوْنَ].
وقد استبعد أبو الحسنات اللكنوي وقوع هذه الحكاية، بالنسبة إلى جلالة قدر البخاري ودقة فهمه وسعة نظره وغور فكره، مما لا يخفى على من انتفع بصحيحه، وعلى تقدير صحتها فالبشر يخطئ. [ الفوائد البهية (ص 25)].
ومما يبعد صحة هذه الحكاية أن أبا حفص الكبير تقدمت وفاته؛ إذ توفي سنة مائتين وسبعة عشر، والبخاري ظل متنقلاً بين المدن الإسلامية في طلب العلم، ولم يرجع إلى بخارى إلا قبيل وفاته بزمن يسير، إلا إن كان صاحب القصة هو ابنه محمد بن أحمد ابن حفص أبو حفص الصغير -راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 617)، والفوائد البهية (ص 25)، والجواهر المضية (3/ 29)- رفيق البخاري في الطلب.
والمشهور في قصة إخراج البخاري: أنه خرج من نيسابور إلى بلده بخارىعلى إثر اختلاف وقع بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي من علماء نيسابور، ولكن لم تكن بخارى بأحسن من نيسابور في احتضانه والاستفادة منه؛ حيث اضطهده أميرها خالد بن أحمد بسبب كتاب وصله من محمد بن يحيى الذهلي، حتى أخرجه محمد بن أحمد بن حفص إلى بعض رباطات بخارى. راجع: سير أعلام النبلاء (12/ 463، 617).
وبعيدًا عن هذه الحكايات، فإننا إذا نظرنا لما قاله البخاري في ضوء ذلك الصراع المحتدم بين المحدثين وأهل الرأي في تلك الأعصار، وأن البخاري فقيه غلب عليه الحديث والأثر، ويرى أن الإيمان قول وعمل، وأن أبا حنيفة محدث غلب عليه الفقه والرأيولا يرى ذلك، وقد كان بين هذين الفريقين جفوة معروفة كما سبق بيانه، علمنا أن ذلك هو السبب في تحامل البخاري على أبي حنيفة، ولم نستعظم صدور ذلك من البخاري في أبي حنيفة، واعتبرناه أمرًا هيِّنًا، فجرح البخاري لأبي حنيفة لم يُقلِّل من شأن أبي حنيفة كإمام فقيه، كما لم يقلل من مكانة البخاري كإمام ناقد للرجال.
الْمَطْلَبُ الثَّانِي_ موقف ابن حبان البستي:
ألَّف ابن حبان ثلاثة كتب في الرد على أبي حنيفة والطعن فيه؛ وهي:
1- ((كتابُ عِلَلِ مَنَاقِبِ أَبي حَنِيفَةَ ومَثَالِبِهِ)) في عشرة أجزاء.
2- كتابُ عِلَلَ مَا أسْنَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ)) في عشرة أجزاء أيضًا.
3- ((كتابُ التَّنْبِيهِ على التَّمْوِيهِ)) [ذكر الكتابين الأول والثاني ياقوت الحموي في معجم البلدان (1/ 415)، والثالثذكره ابن حبان أثناء ترجمته لأبي حنيفة في كتاب المجروحين (3/ 64)] ذكر فيه ما رُوي عن أئمة المسلمين، وأهل الورع والدين، في جميع الأمصار وسائر الأقطار، في جرح أبي حنيفة والقدح فيه،وذكر من هذا الكتاب جُمَلًا يُستدَلُّ بها على ما وراءها -على حد تعبيره- في ((كتاب المجروحين)) له.
وقد أورَد تلك الجُمَل فيه بالأسانيد، التي في أغلبها الضعفاء والمتروكون، أو من اشتُهر بتحامله على أهل الرأي، وقد أطال ابن حبان في الترجمة، حتى كانت أطول ترجمة في الكتاب، فقد ترجم في الكتاب لألف ومئتين وواحد وثمانين رجلاً، وذكر فيه الضعفاء والمتروكين والكذابين، وترجم لكلِّ واحدٍ منهم ترجمة، تبلغ بعضها خمسة أسطر أو دونها، وبعضها تبلغ عشرة أسطر أو تزيد عليها، والقليل منها هي التي تبلغ الصفحة أو الصفحتين، إلا ترجمة الإمام أبي حنيفة، فقد بلغت اثتني عشرة صفحة [كتاب المجروحين (3/ 61-73)]، ولم يكتفِ ابن حبان بما نقله عن غيره من طعن في أبي حنيفة، بل أطلق لسانه فيه فوصفه بأسوأ الأوصاف، وإليك نص كلامه بحروفه.
قال ابن حبان في كتابه المجروحين (3/ 61): "كان أبو حنيفة جَدِلاً ظَاهِرَ الورع [أي لا وجود للورع في باطنه، والدليل على أن هذا جرح من ابن حبان ما جرت به عادته من وصف العلماء الذينيثني عليهم بقوله: وله ورع خفي. كما حقق ذلك الشيخ عبدالفتاح أبو غدة في تعليقه على الانتقاء (ص 233)، وأوضح أن هذا تدخل من ابن حبان في الباطن الذي لا يعلمه إلا الله، وأنه لو جاز ذلك لمن رآه لما جاز لمن أتى بعده بدهور!]، لم يكن الحديث صناعته، حدث بمائة وثلاثين حديثًا مسانيد، ما له حديث في الدنيا غيرها، أخطأ منها في مائة وعشرين حديثًا، إما أن يكون أقلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم، فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار.
ومن جهة أخرى: لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنه كان داعيًا إلى الإرجاء، والداعي إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا، على أن أئمة المسلمين وأهل الورع في الدين، في جميع الأمصار وسائر الأقطار، جرحوه وأطلقوا عليه القدح إلا الواحد بعد الواحد، قد ذكرنا ما روى فيه من ذلك في ((كتاب التنبيه على التمويه)) فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب، غير أني أذكر منها جملاً يُستدَلُّ بها على ما وراءها". اهـ.
وإليك جملة مما ساقه ابن حبان بالأسانيد مع بيان حال بعض رواتها.
1- عن سفيان الثوري قال: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. [كتاب المجروحين (3/ 64)، تاريخ بغداد (13/ 391). وفي إسناده زكريا بن يحيى الساجي، قال ابن عبدالبر -كما في الانتقاء (ص 287)-: "الساجي ممن كان ينافس أصحاب أبي حنيفة"].
2- عن يوسف بن أسباط قال: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن. [المصدران السابقان (3/ 65)، (13/ 407) وفي إسناده محبوب بن موسى، وهو وإن كان ثقة إلا أن أبا داود قال فيه: لا يُلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب. راجع: تهذيب الكمال (27/ 266)، ويوسف بن أسباط: وثقه يحيى ابن معين والعجلي، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. وقال البخاري: كان قد دفن كتبه فكان لا يجيء بحديثه كما ينبغي. الجرح والتعديل (9/ 218)، والتاريخ الكبير (8/ 385)، وميزان الاعتدال (4/ 462)، وتاريخ الثقات (ص 485)].
3- عن سفيان الثوري -وجاء نعي أبي حنيفة- فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض الإسلام عروة عروة. [كتاب المجروحين (3/ 66)، تاريخ بغداد (13/ 418) وفي إسناده نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري، وقد سبق ذكر اتهامه بوضع حكايات مزورة في ثلب أبي حنيفة كلها كذب].
4- عن أبي إسحاق الفزاري قال: كنت عند أبي حنيفة فجاءه رجل فسأله عن مسألة فقال فيها فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، قال: هذا حديث خرافة. [المصدران السابقان (3/ 70)، (13/ 403)، وفي إسناده أبو صالح الفراء محبوب بن موسى، وقد سبق كلام أبي داود السجستاني في حكاياته].
5- عن بشر بن المفضل قال: حدثنا عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). وقال أبو حنيفة: هذا رجز. [المصدران السابقان (3/ 70)، (13/ 403)، وسبق تخريج الحديث، على أن المذهب الحنفي له فيه تفصيل، راجعه من هُنا: (خيار التصرية عند الحنفية)].
6- عن سويد بن عبدالعزيز قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال: ما تقول فيمن أكل لحم الخنزير؟ قال: لا شيء عليه.[كتاب المجروحين (3/ 73)،
وسويد بن عبدالعزيز قال فيه أحمد: متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وفي رواية: ليس بشيء. وفي أخرى: ليس بثقة. وقال محمد بن سعد: كان يروي أحاديث منكرة. وقال البخاري: في حديثه مناكير أنكرها أحمد. وقال في موضع آخر: في حديثه نظر لا يُحتمل. وقال النسائي: ضعيف. وفي موضع آخر: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: لين الحديث. وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم، حتى يجيء في أخباره من المقلوبات أشياء تتخايل إلى من سمعها أنها عملت عمدًا.
ولا أدري كيف احتج ابن حبان بكلام سويد في الإمام أبي حنيفة وهو يعلم حاله، ولكن هكذا يفعل التعصب بأهله حتى ألجأهم للاحتجاج بما لا يقبلونه من غيرهم. وكأنه تذكر ذلك فعاد وقال: "والذي عندي في سويد تنكب ما خالف الثقات من حديثه، والاعتبار بما روي مما لم يخالف الأثبات والاحتجاج بما وافق الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه؛ لأنه يقرب من الثقات". راجع تهذيب الكمال (12/ 255)، الجرح والتعديل (4/ 238)، التاريخ الكبير (4/ 148)، ميزان الاعتدال (2/ 251)، كتاب المجروحين (1/ 350)].
7- عن يحيى بن حمزة وسويد بن عبدالعزيز قالا: سمعنا أبا حنيفة يقول: لو أن رجلاً عَبَدَ هذا البغل [(البغل) جاءت هذه اللفظة في تاريخ بغداد (النعل)] تقربًا إلى الله جل وعلا، لم أرَبذلك بأسًا. [كتاب المجروحين (3/ 73) تاريخ بغداد (13/ 375) وقد تحرفت (سويد) في الكتابين إلى (سعيد) ولعل الصواب ما أثبته، وعبدالأعلى بن مسهر يروي عن سعيد بن عبدالعزيز التنوخي فقيه أهل الشام وعن سويد ابن عبدالعزيز، ويرجح ما أثبته أن سويد بن عبدالعزيز كان شريكًا في القضاء ليحيى بن حمزة الحضرمي، كما في ترجمة سويد من تهذيب الكمال، فإذا كان الأمر كذلك فهو المتهم بهذا الخبر أيضًا].
وإذا نظرنا في جرح ابن حبان لأبي حنيفة نجده يتلخص في أمرين:
الأول/ قلة حديث أبي حنيفة مع كثرة أخطائه فيما رواه.
الثاني/ أن أبا حنيفة كان مرجئًا داعية لبدعته.
ولهذين الأمرين استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار (عنده).
وقد بيَّنتُ في السابق بطلان الأمرين، وذكرتُ شهادة الأئمة له بالإكثار من الحديث وجودة الحفظ، كما أوضحت أن أبا حنيفة لم يكن مرجئًا بالمعنى المذموم عند أهل السنة، وإنما كان من مرجئة أهل السنة، فلينظر تفصيل أعلاه.
وأما الأخبار التي ذكرها ابن حبان، وشاركه في رواية أغلبها الخطيب البغدادي، فقد بيَّنتُ حال بعض رواة أسانيدها دون تتبع أو استقصاء؛ لأن في حكايتها غنًى عن البحث في عللها، فقد اشتملت على أباطيل واتفراءات يصعب تصديقها على آحاد الناس، فضلاً عن إمام من كبار أئمة المسلمين، فمن ذا الذي يصدق أن أبا حنيفة كان يستهزِئ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردها بسخرية وازدراء، ويستهزئ بأحكام الشرع حتى أَحَلَّ أكلَ الخنزير، وعبادةَ غيرِ الله تقربًا إليه، ثم بعد ذلك كله يصير إمامًا متبوعًا على مدى اثنى عشر قرنًا من الزمان، لا أحسب أن أحدًا يصدق ذلك، إلا من حمله الحسد والبغضاء والعصبية عليه.
وفي منْأَى عن نقد الأخبار فإن السبب في تحامل ابن حبان على أبي حنيفة هو ذاته سبب تحامل البخاري بل وأهل الحديث عمومًا على أهل الرأي، بَيْدَ أن ابن حبان ينفرد بسبب آخر، وهو التعصب المذهبي الذي ساد في القرن الرابع الهجري، وكانت الملاحاة أشد ما تكون بين الشافعية والحنفية، وكان ابن حبان شافعيَّ المذهب فكاد لهم وكادوا له فكان ذلك من أسباب تحامله على أبي حنيفة.
أضف إلى ذلك ما كان يتصف به ابن حبان من حدة في الطبع وصلابة فثي الرأي كما يُعلم ذلك من مطالعة ترجمته، يقول الحافظان الذهبي وابن حجر: "ابن حبان ربما جرح الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه". [ميزان الاعتدال (1/ 274) والقول المسدد (ص 33)].
هذا، وقد استوقى الشيخ عبدالفتاح أبو غدة الرد على ابن حبان، ومجمل الرد أن أبا حنيفة عند كبار علماء عصره ومَنْ بعدهم إمام مجتهد من كبار أئمة الإسلام، وقد اتبعه وقلده أكثر الأمة المحمدية من عصره إلى يومنا هذا في أغلب أقطار الإسلام، ولو كان ما نقله ابن حبان صحيحًا للزم أن يكون هؤلاء العلماء مغفلين، وأن تكون الأمة اجتمعت على ضلالة. [التعليق على الانتقاء (ص 232-240)].
المَطْلَبُ الثَّالِثُ_ موقف الخطيب البغدادي:
ترجم الخطيب البغدادي للإمام أبي حنيفة في كتابه ترجمة طويلة استغرقت حوالي مائة وعشرية صفحة -تاريخ بغداد (13/ 323- 454)- ابتدأها بقوله: النعمان بن ثابت أبو حنيفة التيمي إمام أصحاب الرأي وفقيه أهل العراق رأى أنس بن مالك. ثم ذكر طائفة من شيوخه وتلاميذه، وما رُوي من الاختلاف في نسبه، ثم قسم الترجمة إلى عناوين، وأدرج تحت كل عنوان طائفة من الأخبار المسندة، وهذه العناوين هي:
-ذكر إرادة ابن هبيرة أبا حنيفة على ولاية القضاء وامتناع أبي حنيفة من ذلك.
-ذكر قدوم أبي حنيفة بغداد وموته بها.
-صفة أبي حنيفة وذكر السنة التي ولد فيها.
-ذكر خبر ابتداء أبي حنيفة بالنظر في العلم.
-مناقب أبي حنيفة _ ما قيل في فقه أبي حنيفة.
-ما ذُكر من عبادة أبي حنيفة وورعه.
-ما ذُكر من جود أبي حنيفة وسماحته وحسن عهده.
-ما ذُكر من نور عقل أبي حنيفة وفطنته وتلطفه.
ثم قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (3/ 369): "قد سقنا عن أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان ابن عُيينة وأبي بكر بن عياش.. وغيرهم من الأئمة، أخبارًا كثيرة تتضمن تقريظ أبي حنيفة والمدح له والثناء عليه، والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين -وهؤلاء المذكورون منهم- في أبي حنيفة خلاف ذلك، وكلامهم فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه، متعلقة بعضها بأصول الديانات وبعضها بالفروع، نحن ذاكروها بمشيئة الله، معتذرون إلى من وقف عليها وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره، أسوة غيره من العلماء الذين دَوَّنَّا ذكرهم في الكتاب، وأوردنا أخبارهم وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، والله الموفق للصواب". انتهى.
وبهذا الاعتذار الباهت (إن صحَّ التعبير)، والإقرار بجلالة قدر الإمام أبي حنيفة، مَهَّدَ الخطيب البغدادي لما ذكره بَعْدُ من جرح وتشنيع واتهامات للإمام أبي حنيفة، حتى يُلْقِي عن نفسه التبعة، إلا أن إطالته المملة في تقصي كل ما قيل في الإمام أحدثت ريبة عند الحنفية وغيرهم في صدق ما اعتذر به، حتى قال أبو المظفر الحنفي: "وأما قول الخطيب هذا فإنا إن شاء الله نُبَيِّنُ أن قصده خلاف ما ذكر من المعذرة، وإنما قصد الشناعة جرأة منه وافتراء". اهـ. [ملحق الجزء الثالث عشر من تاريخ بغداد (ص 51)]، وإنَّا لمُقتضى إحسان الظن نُحسن الظن به - رحمهم الله تعالى جميعًا .
ثم أكمل الخطيب البغدادي الترجمة فذكر:
-ما حُكي عن أبي حنيفة في الإيمان.
-ذكر الروايات عمن حكي عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن.
-ذكر ما ُحكي عن أبي حنيفة من رأيه في الخروج على السلطان.
-ذكر ما حُكي عنه من مستشنعات الألفاظ والأفعال.
-ذكر ما قاله العلماء في ذم رأيه والتحذير منه إلى ما يتصل بذلك من أخباره.
وسأنقل جملة مما ذكره يستدل بها على ما سواها، وقد سبق جملة منها فيما نقلناه من المجروحين لابن حبان أشرت إلى إخراج الخطيب لها في كتابه.
1- عن شريك بن عبدالله قال: إن أبا حنيفة استُتِيبَ من الزندقة مرتين. [تاريخ بغدادي (13/ 391)].
2- عن سفيان بن عُيينة قال: ما رأيت أجرأ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرده، بلغه أني أروي (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) -سبق تخريجه-. فجعل يقول: أرأيت إن كنا في سفينة، أرأيت إن كنا في سجن، أرأيت إن كنا في سفر، كيف يفترقان. [تاريخ بغداد (13/ 405)، وقد سبق العزو لتفصيل هذه المسألة عند الحنفية فلتُراجع (خيار المصراة في المذهب الحنفي)].
3- عن وكيع قال: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث. [المصدر السابق (13/ 407)].
4- عن حماد بن سلمة قال: إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن فردها برأيه. [المصدر السابق (13/ 408)].
5- عن إبراهيم بن محمد الفزاري قال: كنا عند سفيان الثوري؛ إذ جاء نعي أبي حنيفة. فقال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عُرى الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام مولود أشأم على أهل الإسلام منه. [المصدر السابق (13/ 418)].
6- عن أبي مصعب الأصم قال: سُئِلَ مالك عن قول عمر في العراق: بها الداء العضال. قال: الهلكة في الدين ومنهم أبو حنيفة. [المصدر السابق (13/ 421) والخبر المشار إليه (أن بالعراق الداء العضال) أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1792) أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال. وذكر أبو الوليد الباجي تفسيره عن مالك في المنتقى شرح الموطأ (7/ 299) من طريق عبدالملك ابن حبيب قال: أخبرني مطرف: أنهم سألوا مالكًا عن تفسير الداء العطال في هذا الحديث، فقال: أبو حنيفة وأصحابه، وذلك أنه ضلل الناس بوجهين: بالإرجاء وبنقض السنن بالرأي!].
7- عن إسحاق بن إبراهيم الحربي قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن مالك فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف، وسئل عن الأوزاعي فقال: حديث ضعيف ورأي ضعيف، وسئل عن أبي حنيفة فقال: لا رأي ولا حديث. وسئل عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي صحيح. [تاريخ بغداد (13/ 445)].
هذا غيض من فيض وقطرة من بحر مما ذكره الخطيب من المثالب والطعون في أبي حنيفة فقد اجتهد -رحمه الله وغفر له- في جميع ما قيل فيه حتى استوعبه، بحيث يصدق وصفها بأنها مثالب أبي حنيفة، وليس ترجمة أبي حنيفة، وتأخير الخطيب حكاية جرح أبي حنيفة على حكاية مناقبه يدل على اعتماده لها، فقد نقل الذهبي بالسند إلى الخطيب أنه قال: "كل مَنْ ذكرتُ فيه أقاويل الناس من جرح أو تعديل فالتعويل على ما أخَّرْتُ". اهـ. [سير أعلام النبلاء (18/ 278)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1139)].
وقد استعدى بذلك الخطيب البغدادي أتباع الإمام أبي حنيفة وغيرهم من المنصفين للإمام من أهل المذاهب الأخرى، فصنفوا كتبًا في الرد عليه؛ منها:
-((السهم المصيب في كبد الخطيب)) [!!!] للسلطان الملك أبي المظفر عيسى بن أبي بكر ابن أيوب الحنفي المتوفى سنة (624هـ)، طبع ضمن ذيول تاريخ بغداد.
-((الانتصار لإمام أئمة الأمصار)) لسبط ابن الجوزي.
-كما رد عليه أبو المؤيد الخوارزمي في مقدمة ((جامع المسانيد)).
-((تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب)) للشيخ محمد زاهد الكوثري، وكان قد علق على الترجمة تعليقات مختصرة لطبعها بهامش الترجمة، فلما طبعت بتصرف وحذف صنف ((التأنيب)) لاستيفاء الرد على الخطيب، وقد تتبع فيه كل الأسانيد التي ذكرها الخطيب وتكلم عليها جرحًا وتعديلاً وتصحيحًا وإعلالاً، وهو جهد مشكور في الدفاع عن الإمام الأعظم، لولا ما شانه به مصنفه من التعصب الظاهر والتحامل على الأئمة، فوقع فيما أنكره على الخطيب البغدادي.
كما وقع في أوهام وأغلاط في تعيين وتضعيف الرواة، مما دعا الشيخ القاضي (المحدّث) عبدالرحمن ابن يحيى المعلمي اليماني إلى الرد عليه، في كتاب سماه: ((التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل))، تعقب فيه ما انتقده منكتاب تأنيب الخطيب، مما يتعلق بالكلام في أئمة السنة ورواتها، غير عامد إلى ذبٍّ عن الإمام أبي حنيفة ولا خلافه. [التنكيل (ص 3)].
والعجب من الخطيب كيف عوَّل على هذه الأخبار، مع علمه باعتلال أسانيد كثير منها، ولكن من أسند لك فقد أحالك، والخطيب كان محدثًا شافعيًّا فلعل ذلك غلب عليه.
وما أورده الخطيب في كتابه؛ بل وكل ما ورد في أبي حنيفة من جرح، يمكن تقسيمه إلى قسمين:
الأول/ ما لم يثبت لضعف رواته، وهذا مردود اتفاقًا.
الثاني/ ما ثبت، وهذا يجب اعتباره من الجرح غير المقبول؛ لأنه ناشئ إما عن حسد أو عداوة أو منافرة أو تعصب؛ فقد اتفق أهل العلم على عدم قبول الجرح إذا كان ناشئًا عن عداوة وعصبية، لا سيما فيمن اشتهرت عدالته واتُّفِقَ على إمامته.
وقد عقد ابن عبدالبر بابًا في جامعه أورد فيه طائفة من أقوال العلماء بعضهم في بعض؛ ومنها ما ورد في أبي حنيفة، واعتبر ذلك كله من الجرح غير المقبول، فقال: "هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك.
والصحيح في هذا الباب: أن مَنْ صَحَّتْ عدالتُه، وثَبَتَتْ في العلم أمانتُه، وبَانَتْ ثقتُه وعنايتُه بالعلم، لم يُلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحتُه على طريق الشهادات والعملِ فيها، من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر. وأما من لم تثبت إمامتُه ولا عُرفت عدالتُه، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايتُه، فإنه يُنظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويُجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
والدليل على أنه لا يُقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إمامًا في الدين قول أحد الطاعنينَ: إن السلف -رضي الله عنهم- قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهادًا، لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه.
ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض مما يجب أن لا يُلتفت فيهم إليه ولا يُعرج عليه، ما يوضح لك صحة ما ذكرنا وبالله التوفيق". انتهى. [جامع بيان العلم وفضله (2/ 186)].
ثم قال أبو عمر في آخر هذا الباب: "وقد جماع الناس فضائلهم وعنوا بسيرهم وأخبارهم فَمَنْ قرأ فضائل مالك وفضائل الشافعي وفضائل أبي حنيفة بعد الصحابة والتابعين وعُنِي بها، ووقف على كريم سيرهم وهديهم، كان ذلك له عملاً زاكيًا، نفعنا الله بحب جميعهم. قال الثوري: عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة.
وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ من أخبارهم إلا ما بَدَر من بعضهم في بعض عليه الحسد والهفوات والشهوات دون أن يُعْنَى بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه. وقد افتتحنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء)". اهـ. [جامع بيان العلم وفضله (2/ 199)، والحديث أخرجه الترمذي (2699)].
ويقول الشيخ عبدالحي اللكنوي في الرفع والتكميل (ص 406): "الجرح إذا صدر من تعصب أو عداوة أو منافرة أو نحو ذلك فهو جرح مردود ولا يؤمن به إلا المطرود... ومن ثم قالوا: لا يقبل الجرح المعاصر على المعاصر أي إذا كان بلا حجة؛ لأن المعاصرة تفضي غالبًا إلى المنافرة". اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الحافظ أبي نُعيم أحمد بن عبدالله الأصفهاني [في ميزان الاعتدال (1/ 111)]: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعْبَأُ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم". انتهى.


***

رَابِعًا: ثَنَاءُ جَمَاهِيرَ المُحَدِّثِينَ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ
بعد أن عرضنا للموقف المتحامل على الإمام أبي حنيفة من قِبَل بعض المحدثين يحسُنُ بنا أن نعرض بعض عبارات الثناء عليه مما ذكره المحدثون المتأخرون، فقد اجتمعت كلمتهم على جلالته وعظيم قدره، ولو كان ذلك الطعنَ يُحرز عندهم أقل القبول لأشاروا إليه، ولكنهم أسقطوه بإغفاله والإعراض عنه؛ بل وصنفوا كتبًا كثيرةً في مناقبة وفضائله، ومنها:
-((مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد)) للحافظ الذهبي.
-((تنوير الصحيفة بمناقب الإمام أبي حنيفة)) للحافظ يوسف بن عبدالهادي [ذكره ونقل عنه ابن عابدين في حاشيته ((رد المحتار على الرد المختار)) (1/ 37)].
-((تبييض الصحيفة في مناقب الإمام أبي حنيفة)) للحافظ السيوطي.
-((عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان)) للحافظ محمد بن يوسف الصالحي.
-((الخَيْرَات الحسَان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان)) للمحدث ابن حجر المكي الهيتمي.
-((تنوير بصائر المقلدين في الأئمة المجتهدين)) للمحدث مَرْعي بن يوسف الكَرْمي المقدسي.
وكثيرٌ غيرُ هؤلاء من الأئمة الحُفَّاظ النُقَّاد ترجموا للإمام أبي حنيفة في كتبهم ترجمةً مستفيضة، وذكروا مناقبه وفضائله وإمامته؛ كالإمام المحدث الحافظ أبي سعيد السمعاني في كتابه ((الأنساب)) (6/64-66) -ط. المعلمي-، وكالإمام المحدث اللُّغوي ابن الأثير في آخر كتابه ((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) (15/ 432-436)؛ وكالإمام المحدث الفقيه الربناي محيي الدين النووي في كتابه ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 216-223)؛ وكالإمام المحدث الناقد الحافظ المزي في كتابه ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) (29/ 417-445) وأطال الترجمة أيَّما إطالة؛ وكالإمام المحدث الحافظ الناقد شمس الدين الذهبي في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 390-403)؛ وكالإمام المحدث الناقد الحافظ ابن كثير في كتابه ((البداية والنهاية))؛ وكالإمام الفقيه أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه ((تهذيب التهذيب)) (10/ 402).
وإليك طائفة من أقوالهم في الثناء على أبي حنيفة نختم بها هذه الفقرة:
قال الحافظ أبو سعد السمعاني الأنساب (6/ 64-66) ط. المعلمي: "أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، صاحب الرأي، وإمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق.
ولد بالكوفة، ونقله أبو جعفر المنصور إلى بغدا، فسكنها إلى حين وفاته، وكلَّمه ابن هُبَيرة على أن يلي القضاء فأبى، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، فصبر وامتنع، فلما رأى ذلك خلى سبيله. واشتغل بطلب العلم وبالغ فيه، حتى صلى له ما لم يحصل لغيره.
رأى أبو حنيفة في المنام أنه يَنْبُشُ قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لمحمد بن سيري فقال: صاحب هذه الرؤيا رجل يُثَوِّرُ -أي يُخرج- علمًا لم يسبقه إليه أحد قبله.
وكان مسعر بن كدام يقول: ما أحسد أحدًا بالكوفة إلا رجلين: أبا حنيفة في فقهه والحسن بن صالح في زهده.
وقال مسعر أيضًا: من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله، رجوت أن لا يخاف، ولا يكون فرط في الاحتياط لنفسه.
وقال الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلاً فقيهًا معروفًا بالفقه، مشهورًا بالورع واسع المال، معروفًا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورًا على تعليم المتعلم بالليل والنهار، حسن الدين، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، وكان يحسن يدل على الحق، هاربًا من مال السلطان، وإذا أوردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين، وإلا قاس فأحسن القياس.
وكانت ولادته بالكوفة سنة ثمانين، ومات في رجب سنة خمسين ومائة، ودفن بمقبرة الخَيْزُرَان ببا الطَّاق في بغداد، وصُلِّيَ عليه ست مرات من كثرة الزحام، آخرهم صلَّى عليه ابنُهُ حمَّاد، وغسَّله الحسَنُ بن عُمَارَة ورجل آخر. وزُرْتُ قبرَه غيرَ مرة". اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (6/ 390-403): "أبو حنيفة الإمام فقيه الملة، عالم العراق، عُنِيَ بطلب الآثار وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك، طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها.
قال محمد بن سعد العوفي: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة، لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظ. وقال صالح بن محمد: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة في الحديث. وروى أحمد بن محمد ابن القاسم بن محرز عن ابن معين: كان أبو حنيفة لا بأس به [قال ابن معين: إذا قلت لا بأس به فهو ثقة. راجع: قواعد في علوم الحديث (ص 250)]، ولقد ضربه ابن هُبَيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضيًا.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. قلت -القائل الذهبي-: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه.
وسيرة الإمام أبي حنيفة تحتمل أن تُفرد في مجلدين". اهـ.
وقال الحافظ الذهبي أيضًا في أول ((مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن)) (ص 7): "أما بعد فهذا كتاب في أخبار فقيه العصر، وعالم الوقت، أبي حنيفة، ذي الرتبة الشريفة، والنفس العفيفة، والدرجة المنيفة، النعمان بن ثابت مفتي أهل الكوفة.
ولد رضي الله عنه وأرضاه، وأنفذ ما أوضحه من الدين الحنيفي وأمضاه، في سنة ثمانين، في خلافة عبدالملك بن مروان بالكوفة، وذلك في حياة جماعة الصحابة -رضي الله عنهم- وكان من التابعين لهم إن شاء الله بإحسان". انتهى.
ثم عقد فصلاً في الاحتجاج بحديثه قال فيه:
"اختلفوا في حديثه على قولين: فمنهم من قبله ورآه حجة،ومنهم من لينه لكثرة غلطه في الحديث ليس إلا. قال عليُّ بن المديني: قيل ليحيى بن سعيد القطان: كيف كان حديث أبي حنيفة؟ قال: لم يكن بصاحب حديث.
قلت -القائل الذهبي-: لم يصرف الإمام همته لضبط الألفاظ والإسناد، وإنما كانت همته القرآن والفقه، وكذلك حال كل من أقبل على فن، فإنه يقصر عن غيره، وقال ابن معين: أبو حنيفة ثقة، وقال أبو داود: رَحِم الله مالكًا كان إمامًا، رَحِم الله أبا حنيفة كان إمامًا". اهـ. [مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص 27، 28)].
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 123): "الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة، وهو أقدمهم وفاةً؛ لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، وذكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة فالله أعلم.
قال يحيى بن معين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضيًا، وقد كان يحيى بن سعيد القطان يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب الله ما سمعت أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.
وقال عبدالله بن مبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس. وقال فيه مالك: رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته. وقال الشافعي: من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة.
وقال عبدالله بن داود الخريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنن عليهم. وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه. وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل. وقال مكي ابن إبراهيم: كان أبو حنيفة أعلم أهل الأرض". اهـ.
وقال الإمام ابن الأثير في آخر كتابه ((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) (15/ 432-436) وقد ترجم فيه للإمام أبي حنيفة ترجمةً حافلةً فقال ما مختصره بحروفه: ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض منها، فإنه كان عالمًا عاملاً، زاهدًا عابدًا ورِعًا تقيًّا، إِمامًا في علوم الشريعة مرضيًّا.
وقد نُسب إليه ونُقل عنه من الأقاويل المختلفة، التي يجل قدره عنها ويتنزه منها، من القول بخلق القرآن، القول بالقدر، والقول بالإرجاء، وغير ذلك مما نُسب إليه، ولا حاجة إلى ذكرها ولا إلى ذكر قائلها، والظاهر أنه كان منزهًا عنها.
ويدل على صحة نزاهته عنها: ما نشر الله تعالى له من الذكر المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبق الأرض، والأخذ بمذهبه وفقهه، والرجوع إلى قوله وفعله، وإن ذلك لو لم يكن لله سبحانه وتعالى فيه سر خفي، ورضًا إلهي وَفَّقَهُ الله له، لما اجتمع شطر الإسلام أو ما يقاربه على تقليده والعمل برأيه ومذهبه، حتى قد عُبِدَ اللهُ سبحانه ودِينَ بفقهه، وعُمِلَ برأيه ومذهبه، وأُخِذَ بقوله إلى يومنا هذا، ما يقارب أربعمائة وخمسين سنة، وفي هذا أدل دليل على صحة مذهبه وعقيدته، وأن ما نُقل عنه هو منزه منه.
وقد جمع أبو جعفر الطحاوي كتابًا سماه: ((عقيدة أبي حنيفة رحمه الله تعالى))، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، وليس فيها شيء مما نُسب إليه وقيل عنه، وأصحابه أخبر بحاله وبقوله من غيرهم؛ فالرجوع إلى ما نقلوه عنه أَوْلَى مما نقله غيرهم عنه، وقد ذكر أيضًا سبب قول من قال عنه ما قال، والحامل له على ما نَسبه إليه، ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قالوه، فإن مثل أبي حنيفة ومحله في الإسلام، لا يحتاج إلى دليل يُعتذر به عما نُسب إليه". انتهى.

***

خَامِسًا: مُلْحَقٌ هَامٌّ لِلْمَوضُوعِ

أ- نقولات من كتاب ((قواعد في علوم الحديث)) للعلاّمة ظفر أحمد التهانوي:
واقتصر هُنا على نقل فقرتين منه فقط لبيان سبب تأليفه بالأصل كتمهيدٍ للنقل منه، ثم أُكمل النقل منه في مشاركات قادمة إن شاء الله تعالى.
1- من (ص 4) / مقدمة المحقق الشيخ عبدالفتاح أبوغدّة، في (سبب تأليف هذا الكتاب)..

((من حوالي منتصفِ هذا القرن، قامت في الهند نغمةٌ من بعض الناس المسمِّين أنفسَهم (أهلَ الحديث) ، زعموا فيها أن مذهب السادة الحنفية -الذي هو مذهب جمهور المسلمين في تلك البلاد الواسعة العريضة-: يُخالِفُ الأحاديث النبوية في كثير من مسائله، كما زعموا أيضًا أن الحنفية يقدمون القياس على الحديث، كما أنكروا أيضًا تقليد الأئمة المتبوعين، وأطالوا لسانهم في جَنْب فقه الحنفية والإمام أبي حنيفة بوجه خاص.
فتصدّى لردّ هذه المزاعم الزائفةِ فُحولُ العلماء في تلك الديار، وأبطلوا هذه الدعوى بالتآليف الكثيرة المحقَّقة، وبيّنوا فيها استنادَ الحنفية في فقههم إلى الأحاديث، وأنهم يقدمون الحديث -حتى الحديث الضعيف- على القياس، وأن القياس بشروطه: من الأدلة الشرعية التي يجب العمل بها، وأن الحنفية لا ينقصون استدلالاً بالسنة وتمسكًا بها عن غيرهم من الأئمة، إن لم يكونوا أقوى من سواهم.
وكان من خيار ما ألّفوه -شكر الله صنيعَهم- لهذه الغاية: هذا الكتابُ الذي ألّفه شيخنا حفظه الله تعالى في سنة 1344 ، أي من نحو نصف قرن ... وجعَلَه مقدمةً لكتابه النافع العُجَاب الكبير: ((إعلاء السنن)) ، البالغ بمُقَدّمَتَيْه عشرين جزءًا، تبلغ من مثل صفحات كتابنا هذا أكثر من خمسة آلاف صفحة، وقد رَتّبه على أبواب الفقه، واستوفى فيه أدلة كل من الأبواب على مذهب السادة الحنفية، من باب الطهارة إلى ختام الأبواب.
والمقدّمتان إحداهما في علوم الحديث وهي هذه، والثانية في مباحث الاجتهاد والتقليد والتلفيق وإثبات العمل بالقياس، وما إلى ذلك من أبحاث الفقه والأصول، وسَمّى كلاً من المقدّمتين: ((إنهاء السَّكَن إلى من يطالع إعلاء السنن)) ، وجعل هذه: الجزء الأول، والمقدمة الفقهية: الجزء الثاني ، وهي في مجلد كبير، وفيها نفائس الغوالي)).
2- وفي (ص 18) / أول كتاب (قواعد في علوم الحديث)..
((أَما بعدُ فإِنَّ أَولَى ما صُرِفَتْ فيه نفائس الأَيام، وأَعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام: الاشتغالُ بالعلوم الشرعية، المتلقَّاةِ عن خير البرية. ولا يرتابُ عاقل في أَن مدارها على كتاب الله المقتفَى، وسُنَّة نبيه المصطفى، وأَنَّ باقي العلوم إِما آلات لفهمها، وهما الضالَّة المطلوبة، أَو أَجنبية عنهما وهي الضارَّة المغلوبة.
وكان من فِتَن هذا الزمان سَعْيُ بعض المتشددين في إِماتة السنن التي هي أُصول لفروع الإِمام أَبي حنيفة النعمان، وأَطالوا أَلسنتهم فيه بالطعن والفتراءِ والبهتان، وفي مذهبه بأَن لا دليل له ولا برهان من السنة الصحيحة والقرآن، وأَيمُ الله إِنَّ هذه فِرية بلا مِرية، ودعوى لا أَساس لها ولا بُنْية.
فمسَّت الحاجةُ إِلى إِقامة الدلائل الحديثيَّة، على مُهماتِ الفروع من مذهب السادة الحنفية،...
وإذا علمتَ ذلك تنكشفُ لك حقيقةُ طعنِ الطاعنين على معشرنا الحنفية، بأَنهم يحتجون بالشعاف في زعمهم، وأَنَّ منشأَه الغفلةُ عن أُصولهم والجهلُ بقواعدهم، فرُبَّ ضعيف عند المحدثين صحيحٌ عند غيرهم وكذا بالعكس)).
وسيأتي النقل منه بعدُ.

ب- نقولات من كتاب ((الرفع والتكميل في الجرح والتعديل)) للعلاّمة عبدالحي اللكنوي:
وسيأتيكم أيضًا النقل منه لاحقًا إن شاء الله.

***

فلي عودة بمشيئة الله تعالى لطرح النقولات المُشار إليها أعلاه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

تقدم معنا حديث في صحيح البخاري من رواية: يحيى بن سليم الطائفي ، ويصحح البخاري حديثه، وأنت رددت كلامه، ورددت كلام الحافظ ابن حجر ، ورددت كلام أئمة الإسلام من أجل فردٍ واحد لحاجة في نفسك، ثم تقول الآن: هم القوم لا يضل من أخذ بشهادتهم، لم لم تأخذ بشهادةالبخاري هناك؟!
يعني: شهادة البخاري في أبي حنيفة جعلتها نصاً منزلاً كالقرآن، وشهادة البخاري في يحيى بن سليم الطائفي رددتها، وقد أورد حديثه في كتابه وصححه، فجئت وضعفته وما باليت، فإما أن تأخذ بأقوالهم كلها، وإما أن تردها، وأما هذا التذبذب بأن يأخذ الإنسان ما يريد ويترك ما يريد، فلا!
يأتي لإمام من أئمة الإسلام يطعنه كما يقال بخنجر مسموم، ثم يقول: أنا لن أضل؛ لأنني اتبعت أئمة الإسلام قبلي.
حسناً: فلم لم تتبعهم في يحيى بن سليم الطائفي ؟!
ما أدري ما دفع الشيخ الطحان لهذا! ، فإن الشيخ الألباني مصرح بأنه متابع لابن حجر في تضعيفه ، فإن ابن حجر مع تصريحه بأنه صدوق وصفه بأنه سيء الحفظ ، فكيف يصفه بمخالفة ابن حجر؟
إن قال : قول ابن حجر (صدوق سيء الحفظ) لا يقتضي الضعف.
قيل : الألباني مخالف في فهم عبارته ، فيراها دالة عليه. أم تراه كان يلزمه الأخذ بفهم لشيخ ، وأنه قد أتى عجباً حيث لم يوافق؟!
وقناعتي الشخصية أن من قال فيه الحافظ ابن حجر (صدوق) فهو حسن الحديث وإن أتبعها بعبارات جرح كـ (سيء الحفظ) و(يخطئ) أو (يخطئ كثيراً) بشرط أن لا يكون الحديث المروي من طريقه مما أنكره عليه العلماء ، ولم يكن من روايته عمن لم يختص به من المشاهير خلاف ما يرويه مشاهير أصحابهم ، كأن يأتي مثل يحيى بن أبي سليم إلى مثل عبيد الله ونسخته عن نافع عن ابن عمر مشهورة وأصحابه معروفون فينفرد عنه.
لكن لا يلزم من ذلك أن يكون الشيخ الألباني منحرف عن الجادة ، أو ضل طريق الصواب حيث لم يقل بهذا ، لجواز أن يكون الخطأ من نصيب من خالفه ، وهو لا يلزمه سوى اجتهاد نفسه.
وعلى كل فقول الشيخ الطحان :
ورددت كلام أئمة الإسلام من أجل فردٍ واحد لحاجة في نفسك
فلو تجاوزنا تخرصه على ما في أنفس الناس ، لكان غير صادق في دعواه أن الشيخ الألباني رد كلامه من أجل واحد ، فقد قال رحمه الله في (الإرواء) : (قلت وهذا الحديث مع إخراج البخاري إياه في صحيحه فالقلب لم يطمئن لصحته، ذلك لأن مدار إسناده على يحيى بن سليم وهو الطائفي وقد اختلفت أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه فوثقه ابن معين وابن سعد والعجلي، وقال النسائي: «ليس به بأس، وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر» .
وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: يخطئ وقال أبو حاتم شيخ صالح محله الصدق ولم يكن بالحافظ يكتب حديثه ولا يحتج به وقال يعقوب بن سفيان: سني رجل صالح وكتابه لا بأس به فإذا حدث من كتابه فحديثه حسن وإذا حدث حفظا فيعرف وينكر.
وأورده النسائي في الضعفاء والمتروكين وقال (ص31 طبع الهند) : ليس بالقوي.
وقال أحمد كتبت عنه شيئا فرأيته يخلط في الأحاديث فتركته وفيه شيء
وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث وأخطأ في أحاديث رواها عبيد الله بن عمر لم يحمده أحمد
وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالحافظ عندهم
وقال الدارقطني: سيء الحفظ
وقال البخاري ما حدث الحميدي عن يحيى بن سليم فهو صحيح.
قلت ومن هذه النقول يتلخص أن الرجل ثقة في نفسه ولكنه ضعيف في حفظه وخصوصا في روايته عن عبيد الله بن عمر، يستثنى من ذلك ما روى الحميدي عنه فإنه صحيح) انتهى.
فهذا البخاري أشار إلى خلل فيما يرويه غير الحميدي عنه.
وبغض النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا له في النتيجة التي وصل إليها ، إلا أن قول الطحان :
وأنت رددت كلامه، ورددت كلام الحافظ ابن حجر ، ورددت كلام أئمة الإسلام من أجل فردٍ واحد لحاجة في نفسك
يعني لا أدري ما أقول ؛ أأقول لعله خفي عليه الكلام في يحيى بن سليم الموجود في التهذيب والميزان والتقريب وو ... ؟
أم عرفها وظن أن الشيخ الألباني رحمه الله هو الذين كان يجهل ما في هذه الكتب ولا يعرف منها إلا قول واحدٍ فقط فتابعه مخالفاً بذلك من أشار إليهم الطحان؟

وما يظهر من كلام الألباني أن مرتبة أبي حنيفة أصلاً بكلام أقرانه فيه حتى يستدعي ذلك الرد عليه ، فإن الشيخ كما يظهر من مصنفاته ومنها مقدمة صفة الصلاة يجله ويعترف له بالاجتهاد المطلق .

لست أعرف الشيخ محمود الطحان جيداً ، ولا أدري ما حامله على هذا النقد البين عواره.

والله سبحانه أعلم
 
التعديل الأخير:

محمد عدلي فرحات

:: متابع ::
إنضم
16 ديسمبر 2013
المشاركات
4
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
إدارة
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
شافعي
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

أشكر لك نبل مسعاك و ذودك عن الإمام بحق و عدل و أبتغي رأيك فيما ورد عن الإمام أبي حنيفة في كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد!
أجزل الله مثوبتكم
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

السلام عليكم

بارك الله فيكم شيخ وضاح على المشاركة الطيبة.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أشكر لك نبل مسعاك و ذودك عن الإمام بحق و عدل و أبتغي رأيك فيما ورد عن الإمام أبي حنيفة في كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد!
أجزل الله مثوبتكم
وشكر الله لك وجزاك خيرًا.
بخصوص اتّهامه في رأيه؛ فقد يُحمل ذلك على عموم الخلاف الحاصل بين مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث! .. وأما اتّهامه في عقيدته؛ فقد أسلفنا التفصيل فيه، والله أعلم.

صحة نسبة كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل - مركز الفتوى
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فكتاب السنة أو الرد على الجهميةللإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل مطبوع عدة طبعات، منها ما حققه الشيخ أبو مالك الرياشي، وبوب في مقدمتها فصلا في ثبوت الكتاب، وكذلك الكلام حول ما نقلهالإمام عبد الله في حق الإمام أبي حنيفة.
وحققه قبلهالدكتور محمد سعيد القحطاني، وذكر في تحقيقه أن أكثر ما نسب لأهل العلم من الكلام على المخالفات العقدية للإمام أبي حنيفة، لا يصح سنده عمن عزي إليهم، وذكر كذلك أن عبد الله بن الإمام أحمد لم ينفرد بالكلام على أبي حنيفة، بل تكلم فيه ابن حبان والبخاري وابن قتيبة وابن أبي شيبة والخطيب البغدادي واللالكائي، ثم نقل عن ابن عبد البر أن من وثقوا أبا حنيفة وزكوه أكثر ممن تكلموا فيه. وقد سبق تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 43484 .
وقد سئل الشيخ صالح آل الشيخ: ما رأيكم في ما جاء في كتاب عبد الله بن الإمام أحمدمن اتهام لأبي حنيفة بالقول بخلق القرآن إلى آخره؟
فأجاب: هذا سؤال جيد، هذا موجود في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله بن الإمام أحمد في وقته كانت الفتنة في خلق القرآن كبيرة، وكانوا يستدلون فيها بأشياء تنسب لأبي حنيفة وهو منها براء، خلق القرآن، وكانت تنسب إليه أشياء ينقلها المعتزلة من تأويل الصفات إلى آخره مما هو منها براء، وبعضها انتشر في الناس ونقل لبعض العلماء فحكموا بظاهر القول، وهذا قبل أن يكون لأبي حنيفة مدرسة ومذهب؛ لأنه كان العهد قريبا عهد أبي حنيفة، وكانت الأقوال تنقل، قول وكيع، قول سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، قول فلان وفلان من أهل العلم في الإمام أبي حنيفة، وكانت الحاجة في ذلك الوقت- باجتهاد عبد الله بن الإمام أحمد- كانت الحاجة قائمة في أن ينقل أقوال العلماء فيما نقل. ولكن بعد ذلك الزمان كما ذكر الطحاوي أجمع أهل العلم على أن لا ينقلوا ذلك، وعلى أن لا يذكروا الإمام أبا حنيفة إلا بالخير والجميل، هذا فيما بعد زمن الخطيب البغدادي. يعني في عهد الإمام أحمد ربما تكلموا، وفي عهد الخطيب البغدادي نقل مقولات في تاريخه معروفة، وحصل ردود عليه بعد، حتى وصلنا إلى استقراء منهج السلف في القرن السادس والسابع، وكتب في ذلك ابن تيمية الرسالة المشهورة :رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وفي كتبه جميعا يذكر الإمام أبا حنيفة بالخير وبالجميل ويترحم عليه، وينسبه إلى شيء واحد وهو القول بالإرجاء إرجاء الفقهاء، دون سلسلة الأقوال التي نسبت إليه فإنه يوجد كتاب أبي حنيفة الفقه الأكبر، وتوجد رسائل له تدل على أنه في الجملة يتابع السلف الصالح إلا في هذه المسألة مسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان ...
ولما أراد العلماء طباعة كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكان المشرف على ذلك والمراجع له الشيخ العلامة عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى رئيس القضاة إذ ذاك في مكة، فنزع هذا الفصل بكامله من الطباعة، فلم يُطبع لأنه من جهة الحكمة الشرعية كان له وقته وانتهى، ثم هو اجتهاد ورعاية مصالح الناس أن ينزع وأن لا يبقى وليس هذا فيه خيانة للأمانة؛ بل الأمانة أن لا يجعل الناس يصدون عن ما ذكر عبد الله بن الإمام في كتابه من السنة والعقيدة الصحيحة لأجل نقول نقلت في ذلك، وطبع الكتاب بدون هذا الفصل وانتشر في الناس وفي العلماء على أن هذا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. حتى طبعت مؤخرا في رسالة علمية أو في بحث علمي وأُدخل هذا الفصل، وهو موجود في المخطوطات معروف، أدخل هذا الفصل من جديد يعني أرجع إليه، وقالوا: إن الأمانة تقتضي إثباته.
وهذا لاشك أنه ليس بصحيح بل صنيع العلماء علماء الدعوة فيما سبق من السياسة الشرعية ومن معرفة مقاصد العلماء في تآليفهم واختلاف الزمان والمكان والحال وما استقرت عليه العقيدة وكلام أهل العلم في ذلك.
ولما طبع كنا في دعوة عند فضيلة الشيخ الجليل الشيخ صالح الفوزان في بيته كان داعيا لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله وطرحت عليه، فقال رحمه الله في مجلس الشيخ صالح، قال لي: الذي صنعه المشايخ هو المتعين ومن السياسة الشرعية أن يحذف وإيراده ليس مناسبا. وهذا هو الذي عليه نهج العلماء
... اهـ. باختصار من موقع الشيخ على الإنترنت.



وراجع في مدى صحة نسبة القول بالإرجاء للإمام أبي حنيفة الفتوى رقم: 106466.
والله أعلم.

انتهى.

وقد أشرتُ سابقًا إلى كثرة النقول التي لا تصح عن الإمام أبي حنيفة في الرأي والاعتقاد على حدٍّ سواء؛ مما دفع بعض الأئمة للطعن فيه عمومًا، يُضاف لذلك بُعد زمان الإمام أحمد بن حنبل عنه.

فالله أعلى وأعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي

علي حسين الحسن

:: متابع ::
إنضم
10 فبراير 2019
المشاركات
10
الإقامة
الأردن
الجنس
ذكر
الكنية
ابو العبد
التخصص
اصول فقه
الدولة
الأردن
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

بوركت ، ماتع جدا جدا..
 
إنضم
8 أكتوبر 2011
المشاركات
13
الكنية
أبو أحمد
التخصص
ليسانس شريعة
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
شافعى
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

جزاك الله خير الجزاء الرجاء رفعها فى ملف وورد وآخر pdf للأهمية
 
إنضم
8 أكتوبر 2011
المشاركات
13
الكنية
أبو أحمد
التخصص
ليسانس شريعة
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
شافعى
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

الرجاء رفعه بعد التنسيق على ملف وورد وكذلك ملفpdf ليسهل حفظه ومذكرته وجزاك الله عنا خير الجزاء
 
إنضم
8 أكتوبر 2011
المشاركات
13
الكنية
أبو أحمد
التخصص
ليسانس شريعة
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
شافعى
رد: مَوْقِفُ المُحَدِّثِينَ مِن الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَة.. (دِراسةٌ مُنصِفة!)

الرجاء رفعه بعد التنسيق على ملف وورد وكذلك ملفpdf ليسهل حفظه ومذكرته وجزاك الله عنا خير الجزاء الرجاء رفعه بعد التنسيق على ملف وورد2020/6/7
 
أعلى