العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هام نظرات في صناعة مفهوم الهجرة

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي
نظرات في صناعة مفهوم الهجرة
كلمة ألقيت في ندوة كلية العلوم الاسلامية جامعة سامراء
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :
إن هذا الموضوع قديم بالجنس جديد بالنوع ، إذ أن مفهوم الهجرة ورد ذكره في القرآن وقد تعددت صوره على مدى العصور السابقة ، وقد وضع الفقهاء لهذا المصطلح دلالة مطابقة لتشخصه في الوجود الخارجي ، إلا أن مؤثرات الزمان وإكراهات المكان لعبت دوراً كبيراً في تغيير بعض عناصر المفهوم مما أوجب القيام بمبادرة عملية اجتهادية لتقديم الرؤية الشرعية .
إذ أن المفاهيم التي لها ارتباط وثيق بالواقع لا تحظى بالاستقرار والثبات ، وفي المقابل تحتاج إلى اجتهاد يوازي الاشكالات التي يفرضها الواقع ؛ كي يبقى الواقع تحت سلطان الشريعة ومندرجاً تحت كلي من كلياتها .
وتتمثل هذه المنهجية "بصناعة المفاهيم " بإعادة النظر في المدونات الفقهية واستصحاب المفاهيم الشرعية التي تأسس الفقه الإسلامي من خلالها ، والنظر فيما لا يزال يحظى بالثبات من تلك المفاهيم وما تعرضت أجزاؤه للتبديل والتغيير بدخول مركبات جديدة ، وبالتالي اقتضت في المقابل اجتهاداً يناسب تلك المتغيرات وذلك بسلوك المنهج الوسطي ، بالاعتماد على التراث والمعاصرة في انتاج المفاهيم .
ويمكن لنا النظر في دلالة مفهوم هجرة الأوطان وحكمها من عدة زوايا :
الزاوية الأولى : تطور المفهوم : المقصود به اختلافهم في تحديد مفهوم الدار .
إن مفهوم الهجرة له ارتباط وثيق بمفهوم الدار ، وذلك لأن الهجرة هو انتقال من دار اسلام إلى دار الحرب أو الكفر بحسب التقسيم التوصيفي الذي درج الفقهاء عليه الأحكام .
والناظر في تحديد مفهوم الدار فسيجد أن الفقهاء لم يتفقوا على ماهية محددة وذلك يعود إلى سببين :
السبب الأول : اختلافهم في تحديد المعيار الذي يمكن من خلاله وصف دار ما بأنها دار إسلام أو غيرها ، فبعضهم نظر إلى أكثرية السكان ، ومنهم من نظر إلى اقامة الشعائر وعلى هذا إذا وجد بيت واحد يقيم الشعائر صارت الدار به دار إسلام ، ومنهم من نظر إلى تحقق الأمن في ممارسة الشعائر بحيث يحظى المسلم بنوع من الحرية .
وإذا اعتبرنا بأن هذه الأوصاف هي المعيار في تحديد الدار ، فإذا زالت تلك الأوصاف أو دخل عليها مركب جديد ، يقتضي ذلك عدم استصحاب الحكم الشرعي وتنزيله على واقع تشخصه في الخارج يخالف الصورة التي بنى عليها الفقهاء حكمهم ، وذلك لأن المفاهيم كالدواء لابد أن تجتمع عناصره ليبدأ مفعوله في الجسم وتتم عملية الشفاء ، أما إذا فقد الدواء أحد عناصره وخصائصه لم يعد صالحاً ، وبالتالي لابد من البحث في المركبات الجديدة ليتم من خلالها صياغة المفاهيم وصناعتها
السبب الثاني : عدم ثبات الواقع : وذلك لأن الواقع لا استقرار له ، فيحتاج اجتهاداً مقابلاً كي لا تبقى الأصول عقيمة ولا الفروع يتيمة .
وأذكر مثالاً يبين تأثير الواقع في صناعة المفاهيم : دخول التتار على العالم الاسلامي ، وكما هو معلوم بأنهم لم يكونوا يدينوا بالإسلام ، وبهذه الحالة أصبحت السلطة بيد الكفار والشعب مسلم ، وبالتالي فالدار أصبحت مركبة ، فماذا نطلق عليها ؟ فهل نعدها دار كفر ويجب منها الهجرة ، أم نعدها دار رباط ونحرم الهجرة منها ؟ وينطبق الأمر كذلك على بلدنا في بداية الاحتلال أم لايزال بلدنا محتل ، وكذا فلسطين ينطبق عليها الأمر .
فهذه الموضوعات مهمة وخطرة جداً فتحتاج إلى اجتهاد من قبل المجامع الفقهية الدولية ، ونكتفي بهذه الندوة المباركة أن نوضح الإشكال ونشير إلى أن منزلة الاجتهاد في الشريعة أمر ضروري وخطر ، فلابد أن يحاط بجملة من الأسوار التي تكبح جماح من لم تكن لديه الأهلية التي تحول دون اعتلائه مقامها .
الزاوية الثانية : النظر في حكم الهجرة :اختلف العلماء في مسألة الهجرة إلى ديار الغرب إلى رأيين :
الرأي الأول : مذهب المالكية وابن حزم وذهبوا إلى عدم جواز إقامة المسلم في ديار غير المسلمين ، سواء خشي الفتنة أم لم يخشها .
واستندوا للآتي :

  1. حديث الترمذي وأبي داود وفيه مقال : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " ، حتى قال ابن حزم : من دخل إليهم لغير جهاد ، أو رسالة من الأمير ، فإقامة ساعة إقامة ؛ أي حرام .
  2. ومن جهة المعقول : أن المسلم يعرض نفسه للهوان ويشاهد المناكر .
الرأي الثاني : قول جمهور الفقهاء وهم الأحناف والحنابلة والشافعية ؛ حيث أباحوا الإقامة للقادر على إظهار دينه الذي تتوفر له الحماية .
حيث قال الشافعية : ( أو قدر على الامتناع والاعتزال ثمَّ ولم يرج نصرة المسلمين بالهجرة كان مقامه واجباً ؛ لأن محله دار الإسلام ، فلو هاجر لصارت دار حرب) .
واستدلوا :
أن النبي عليه الصلاة والسلام أذن لقوم أسلموا بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم منهم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
وقال ابن حجر نقلا عن الماوردي: إذا استطاع المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يرتجى من دخول غيره في الإسلام.
وإسلام النجاشي وبقاؤه في قومه وقوله عليه الصلاة والسلام عنه " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلُ صَالِحُ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلى أَخيكُمْ أَصْحَمَةَ"
وهذا الخلاف إنما هو إذا كان المسلم قادراً على إظهار شعائر دينه وممارسة عبادته.
أما إذا كان المسلم معرضاً للفتنة في دينه ومدعو للانسلاخ منه بالكلية فيجب عليه الفرار بدينه من تلك الديار إلى دار الأمن والأمان إذا وجد دار إسلام فذلك المطلوب وإلا فدار كفر لا يفتن فيها عن دينه.
ومع ما تقدم من تفصيل الحالتين حالة الأمن على إظهار الدين الذي قال فيه بعض الشافعية بوجوب البقاء وقال فيه البعض الآخر بأن البقاء أفضل.
وحالة خوف الفتنة في الدين والحمل على الخروج من الدين وهي حالة لا رخصة فيها وتجب فيها الهجرة فإن الجمهور يستحبون للمسلم أن يهجر دار الكفر .
ويتأكد طلب الخروج من ديارهم إذا كان لا يستطيع تربية أبنائه تربية إسلامية أو كان بيته مهدداً بالتحلل الأخلاقي ووجد سبيلاً إلى الإقامة في بلد إسلامي فيه بقية من الأخلاق .
الزاوية الثالثة : الاختلاف بتحقيق المناط : إن منهجية تحقيق المناط تقتضي الوقوف عند مسألتين :
المسألة الأولى : الشراكة في تخريج المناط : والمقصود بها قيام رجال الدين بعقد مؤتمرات علمية مع اخوانهم أصحاب التخصصات الأخرى من القانونيين والاجتماعيين لدراسة واقع تلك الديار ، بتقديم تصور كامل عن تلك الديار .
فعلى المستوى القانوني فإن في تلك البلاد هناك قانون مستقر ينافس الفقه الإسلامي ، فإلى أي حد يمكن أن يجد المسلم له فضاء في تلك الديار ليستقل بمعاملاته وزواجه وعقوده .
وعلى المستوى الاجتماعي والتربوي فإلى أي حد يستطيع المسلم أن يوفر لأسرته البيئة المعقمة التي تحافظ فيها على الخصائص الاسلامية وعدم الذوبان في تلك المجتمعات سواء كان ذلك التأثير يشمل الطبقة الثانية أو الثالثة .
وعلى هذا فإن هذه الندوة لا يمكن لها أن تقدم بحسب رأيي حلاً كاملاً لهذه النازلة ؛ وإنما جل ما يمكن أن نقف عليه هو بيان الاشكالات التي تصاحب الهجرة ، ونأمل أن يعقد مؤتمر لدراسة هذه المسألة دراسة معمقة وجدية .
المسألة الثانية : الشراكة في تحقيق المناط : والذي نقصده في هذه المسألة الامور التالية :
أولاً : أن هذه المسألة لا يتم الاجتهاد فيها من قبل غير المتخصيين بالدراسات الاسلامية مع استعانتهم بالخبراء من التخصصات الأخرى إلا أن كلمة الفصل فيها هي للمتخصصين بالدراسات الشرعية .
ثانياً : أن المكلف مطالب بتحقيق المناط وذلك بدراسة واقعه ومدى تأثير البيئة التي يعيش فيها على اظهار دينه وشعائره والمحافظة على أسرته .
وختاماً يمكن لنا بالقول بأن هذه المسألة فيها صور قديمة بحثها الفقهاء قديماً وهناك صور جديدة تحتاج إلى اجتهاد بتحقيق المناط ، وذلك كي لا تبق الأصول عقيمة ولا الفروع يتيمة .
أرجو أن أكون قد وفقت لعرض إشكالية المفهوم وحكمه
 
إنضم
21 مارس 2012
المشاركات
168
الجنس
ذكر
الكنية
أبو سعد المراكشي
التخصص
فقه النوازل المعاصرة
الدولة
المغرب
المدينة
مراكش
المذهب الفقهي
مالكي
رد: نظرات في صناعة مفهوم الهجرة

جزاكم الله خيرا، سيدي، بورك فيكم وبكم.
 
أعلى