العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

جديد نظرات في مدونة العلامة عبد الله بن بيّه التجديدية مباءة التنزيل أنموذجاً

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي
إن هذه الورقة ستقوم بالاشارة والاثارة لبعض محطات التجديد في مدونة العلامة بن بيّه المتعلقة بمباءة التنزيل ، وهي في الغالب ستكون مختصرة وفيها اخلال كبير ، إذ لا يمكن الاحاطة بكل نواحي التجديد ، إذ تكيفنا أن نلقي نظرات سريعة للفت انتباه الباحثين والمفتين إليها ، لكي يستثمروها في بحوثهم المستقبلية .
وتتضمن الورقة الحديث عن ثلاثة محاور :
المحور الأول : متعلق ببان المصطلحات .
أولاً : التعريف بالتجديد : فـ (تجديد الشيء هو : إرجاعه إلى حالة الجدة ، أي : الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره ، وذلك أن الشيء يوصف بالجديد إذا كان متماسكة أجزاؤه ، واضحاً رواؤه ، مترقرقاً ماؤه).
ويمكن اختصار مناحي التجديد في الدرس الأصولي في مدونة شيخنا الإمام بثلاثة اتجاهات : تجديد تصفية ، وتجديد اضافة ، وتجديد محتوى .
ونقصد بتجديد التصفية : وهي محاولة تخليص المادة الأصولية من بعض المباحث غير ذات الصلة، و التي لم تعد نافعة. لذلك يقول شيخنا : ( ولهذا فإن التجديد لن يكون هدماً للتراث الأصيل بل سيكون عملاً من خلاله ، ولن يكون ترميماً وتلفيقاً بل سيكون دمجاً وأخذاً وعطاءً ، فالنهر يتجه إلى مصبّه ويظل أميناً لمنبعه ) .
ونقصد بتجديد الاضافة : وهي محاولة اضافة بعض معارف العصر إلى مكونات مادة الدرس الأصولي . ويتم ذلك من خلال معارف العصر : ( إنه إحياء لثقافتنا عبر منطلقات جديدة بآليات العصر ووسائله ) .
ونقصد بتجديد المحتوى : وهي محاولة اضفاء الحيوية والواقعية على مضامين مادة الدرس الأصولي. ويتم ذلك من خلال : ( تعامل جديد مع التراث بالتعمق فيه ، والاستنجاد بإيجابياته ، وتحريره وتأصيله ، والتنقيب في أعماقه ، وتجليته بكل إمكانيات الإشراق حتى يصبح حياً) .
فالتجديد ليس مرادفاً للتبديل ، بل هي منهجية منضبطة تنطلق من التراث إلى المعاصرة بشراكة وفاعلية ، تكون كلمة الفصل فيها للتراث ، لذلك يقول شيخنا : ( إن الخيار الاستراتيجي للتجديد هو التحرك من خلال التراث إلى المعاصرة ليكون التفاعل بين الاثنين أساس الصيرورة الثقافية) .
وأخيراً ( فالتجديد ليس ابتداعا وإنما هو إبداع وهو محاولة لتجديد ما اندرس ربما لعدم الفهم وهو ربط بين النصوص وبين مقاصد الشريعة من جهة وبين النصوص والمقاصد وبين الواقع من جهة أخرى فهذا الربط الدائم من خلاله يتجدد فهمنا للقضايا ومن خلاله ندرك سعة الشريعة ويسرها والإمكانات المتاحة في هذا الدين ليس فقط للفهم الإيماني ولكن أيضا للتعامل مع قضايا الإنسان) .
ثانياً : التعريف بمباءة التنزيل : المباءة هي المكان والمسكن ، ومباءة التنزيل هي الواقع .
ويعرف شيخنا الواقع بقوله : الواقع : (الواقع هو وجود ثابت ... والواقع أيضاً هو الوجود الخارجي الحقيقي الذي قد يطابق الوجودات الثلاثة الذهنية واللسانية والكتابية ، وقد لا يطابقها لأنها أحياناً تمثل وجوداً زائفاً مبنياً على تصور خادع لا يطابق الحقيقة ...) .
المحور الثاني : بيان التحديات :
إن التحديات المتعلقة بتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع يمكن اختصارها بجملة من الأمور :
التحدي الأول : عدم وضوح الواقع : وذلك لكون الواقع لا يكون دائماً واضحاً وضوح الفجر الصادق ؛ ولكنه قد يكون مغلفاً بغلالةٍ من غسق ظلام الشك والتشاكك ، تفتقر إلى تسليط مصابيح الفكر مفعمة بضياء التجربة والخبرة ؛ لتبديد الظلمة بنور اليقين الساطع والحقيقة الواضحة .
التحدي الثاني : القصور في التعامل مع الواقع ويكون ذلك من خلال ثلاث اتجاهات :

  1. قصور في إدراك الواقع .
  2. قصور في فهم تأثير كلي الواقع في الأحكام الشرعية في الجملة .
  3. قصور في التعامل مع منهجية استنباط الأحكام بناء على العلاقة بين النصوص والمقاصد وبين الواقع .
التحدي الثالث : تغير جملة من معرفات الواقع[1] :
ويقصد بها المفاتيح والمصابيح التي يتم من خلالها النفوذ إلى عمق الواقع ، فالمعرفات اليوم تطورت كثيراً عن سابقاتها ، مما فرض على الفقهاء اعادة قراءة نصوص الشريعة حسب المعرفات الجديدة ، وبالتالي فإن كثير من الاجتهادات الفقهية المدونة في كتب الفقه لا بد من اعادة قراءتها بقراءة جديدة تتلاءم مع مجريات الواقع .
لذلك يقول شيخنا : (وهناك واقع التكنولوجيا التي غيرت أسلوب وأدوات التواصل والاتصال _فالفيسبوك وتويتر ويوتيوب _ أعانت الفرد على الإفلات من رقابة المجتمع ، والتماهي مع قيم أخرى بحيث تصبح الوسائل التربوية عاجزة أمام هذا الكائن الذي يعيش ببدنه في بيئة ويعيش بأحاسيسه وعواطفه في بيئة أخرى .
وكذلك تقنيات الجينوم البشري وما اقترح من معضلات أخلاقية إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النظفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات ، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مئالات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من (يخرج الخبء في السماوات والأرض) سبحانه وتعالى .
فالمجامع الفقهية أمام التلقيح الصناعي والرحم المستعارة والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الأزواج وتغيير الجنس في حيرة . بله القضايا الاقتصادية .
فكل هذه المسائل وغيرها تحتاج من الفقهاء اعادة النظر فيها حسب مقتضيات الواقع ، بالاستعانة بمعرفات الواقع الجديدة ، لأن الوقائع جديدة في شكلها ومضمونها .
المحور الثالث : مقترحات التجديد :
يمكن لنا أن نشير إلى جملة من أبعاد التجديد في مباءة التنزيل:
البعد التجديدي الأول : الاضافة : وذلك إدراج الواقع إلى مادة الدرس الأصولي بعد أن غاب في كثير من المدونات الأصولية المتأخرة ، التي شغلت الأمة بتدريس مؤلفات كثيرة العناء قليلة الغناء .
البعد التجديدي الثاني : الصناعة والصياغة : وهي منهجية تجديدية يتم من خلالها تحقيق ثلاث غايات : الاستنباط ، والانضباط ، والارتباط ، متمثلة بقول شيخنا : ونحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للواقع في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات ، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان ، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائباً في ركام العصور وغابر الدهور .
ولقصد الاختصار سأذكر إحدى مناحي التجديد التي أشار لها هذا النص الأخير :
المنحى التجديدي : هو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان ، وذلك لأن الواقع انتج مفاهيم جديدة يمكن استثمارها في ادراج الفروع تحتها ، فإذا كان كلي الواقع موافق لكيات الشريعة ومقاصدها فيمكن استثماره في قاعدة تحقيق المناط ، وهنا ندرك بأن البيئة الواقعية تساهم في انتاج كليات يتم استثمارها في عمليات التقعيد والتنزيل.
وهذا الاتجاه من أهم ملامح التجديد المتعلق بمباءة التنزيل في التجديد الأصولي أي في تنزيل الكليات على الواقع ، من خلال بناء الكلي من كلي الشريعة وكلي الواقع ؛ لإنتاج كلي جديد يتعايش مع الواقع ولا ينسلخ عن الشريعة ، وهذا الضابط أشار إليه شيخنا بقول : ( شراكة الواقع لا تعني الإفلات من قيود الدليل والاسترسال مع واقع وبيل . ولهذا كانت الضوابط بالمرصاد حتى يكون الاستنباط مقترناً بالانضباط ، وذلك هو ما تعني المنهجية وأدوات التعامل بين النصوص والواقع ).
وهذه الشراكة للواقع في انتاج الكلي قد عمل بها الصحابة ، إذ أن واقعهم فرض صورة مغايرة عن الصورة التي نزلت فيها النصوص ، فأنتج تعاملهم مع الواقع مفهوماً كبيراً ولقباً لمفهوم استقر .
ويصف شيخنا اجتهاد السلف ويرد على من لم يدرك تلك المناهج ، وليس لديهم أدنى فكر إذ لم يستخدموا إلا أسلوب الطعن فيقول : ( السلف (رضوان الله عليهم) كانوا يفسرون ويتأولون ويعللون وعلى الواقع ينزلون ؛ فمن لم يتبين هذا المنهج فسكوته أفضل من كلامه وجلوسه خير من قيامه ).
وأختم كلمتي بذكر المثال : كمسألة الدار ، فالفقهاء قسموا العالم في القرون السابقة إلى قسمين : دار إسلام ودار حرب ، وأناطوا بكل دار أحكاماً تناسبها ، فهذا التقسيم هو تقسيم توصيفي وليس بتوقيفي من الشارع ، فاليوم لا بد من إعادة النظر في هذا التقسيم حسب مقتضيات الواقع ؛ لانتاج كلي مركب من النصوص الشرعية والواقع .





ملخص الورقة
قد تضمنت الورقة البحثية جملة من المسائل المنهجية والعملية في ميدان الدرس الأصولي بغية تجديده ، وذلك بالاستعانة بجملة من الآليات والمناهج المتميزة التي تساهم في تطوير علم أصول الفقه .
وقد كانت اطروحة العلامة عبد الله بن بيّه من أفضل المناهج العلمية التجديدية المعاصرة ، التي أشارت إلى ضرورة التكامل المنهجي والوظيفي بين آليات وبرامج الدرس الأصولي وبين تقنيات العصر وأدواته ؛ بعملية توازنية وشراكة فاعلة ، بغية الربط الواصب بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته .
وقد أشارت الورقة البحثية لعدة مسائل تتعلق بتجديد الدرس الأصولي من خلال فقه الواقع ، ويمكن اختصارها بالنقاط التالية :

  1. الواقع شريك في انتاج الأحكام الشرعية .
  2. ضرورة الاستعانة بمعارف العصر لتوضيح بيئىة تحقيق المناط .
  3. ضرورة إدراج مسائل الواقع ومعرفاته وآلياته إلى مادة الدرس الأصولي .
  4. ضرورة الاستعانة بالتخصصات المساندة للفقهاء ، وذلك لأهمية دورهم في بيان الواقع .
  5. صناعة المفاهيم ضرورة واقعية فرضها تبدل الزمان وإكراهات المكان .
  6. ضرورة إعادة قراءة المدونات الفقهية حسب مقتضيات الزمات وتبدل معرفات الواقع ؛ لضمان سلامة آليات التفسير والتأويل ، وضبط مناهج التعليل ، وحسن الارتباط والتنزيل على الواقع .




وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


[1] إن تحقيق المناط على خمسة أصناف من النظريات ، وهي : اللغوية ، والعرفية ، والعقلية ، والحسية ، والطبيعية .
 
أعلى