العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هام "نظرات في معالم التجديد الأصولي عند العلامة عبد الله بن بيه من خلال التفاعل بين الدرسين الأصولي والمقاصدي"

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي
قدمت اطروحة العلامة عبد الله بن بيّه صورة متكاملة لعملية توظيف الأدوات في قنوات علمية وعملية ، لإيجاد حلول عملية لتجاوز إشكاليات الواقع أو مسايرته على أقل تقدير .
وإذا كنا بصدد إبراز بعض معالم التجديد في اطروحة سيدي عبد الله فإن من أهم تلك المعالم هي ضبطه لعملية التجديد في الدرس الأصولي .
فقد ظهرت دعاوى كثير في القرن الماضي وقدمت بحوث ودراسات كثيرة في هذا المجال ، لكنها على الرغم من اتفاقها على مبدأ التجديد في الدرس الأصولي ؛ إلا ان بحوثها وقعت متباينة في تحديد آلية التجديد ومنهجيته ، ولا يزال الاختلاف بينهم محتدم .
وأما الدراسة التي قدمتها شيخنا فقد تجاوزت المألوف ، فقد حرر النزاع ، وضبط عملية التجديد ، وبين آلياته ومناهجه ومجالاته .
فقد رسمت منهجيته آليات التجديد الأصولي بحيث أصبحت اطروحته مهبط أفئدة دعاة التجديد ، وتعتبر اليوم البوصلة الرئيسة ومحرك البحث ومنطلق التجديد ، فمن لم ينظر فيها ويلتزم بقواعدها فإنه يسبح في الخيال بلا أرض تقله ولا سماء تظله .
ومن أهم تلك المشاريع التي قدمها في أكثر من بحث حرره وكتاب سطره ، عملية الربط بين الدرس الأصولي والمقاصدي لكي لا تبق الأصول عقيمة والفروع يتيمة ، فسجل أكثر من ثلاثين منحى يثبت أوجه العلاقة بينهما ، ومحاولة توظيفها في قنوات علمية لتوليد الأحكام منها ، لكي لا تبق بحوث نظرية لا توجد صورها في الواقع .
ومن أهم الملامح العملية :
الانتقال بالتعامل من الجزئي الى التعامل مع الكلي .
محاولة توسيع أوعية الاستنباط .
محاولة انتاج الواقع .
وهذه الملامح الثلاثة وضع شيخنا جملة من المولدات العملية لضبطها ، والتفاعل معها .
وإن أهم مرتكز من هذه الملامح الثلاث هو "توليد الأحكام" ولأنها تعود إليه بوجه من الوجوه ، وقد تعامل شيخنا بن بيه على اظهار هذا الأمر من خلال التفاعل بين الحقلين المعرفيين الأصولي والمقاصدي ، وقد تمت هذه العملية على مرحلتين :
المرحلة الأولى : نظرية : تم من خلال الدفاع عن الترابط المنهجي والوظيفي بين العلمين ، وذلك بتسجيل أكثر من ثلاثين منحى لأوجه التعاضد المنهجي والوظيفي بينهما لتوليد الأحكام .
ولبيان أوجه التعاضد بين الدرسين الأصولي والمقاصدي أذكر وجهاً واحداً لذلك :
المنحى الثاني : وهذا المنحى يقوم بعملية الاستنجاد بالمقاصد لإخراج بعض الأفراد من دائرة العموم بالتخصيص ، دون ظهور نص معين بالتخصيص متصل أو مستقل أو قياس وإنما الاستنجاد بالدرس المقاصدي (حيث يوجد عموم تمس الحاجة إلى إخراج بعض مشمولاته من دائرة العموم ، دون ظهور مخصص من نص أو قياس ، وهذا النوع من التخصيص بالمقاصد يعتبر ضرباً من ضروب الاستحسان)[1] .
وهذا التفعيل المقاصدي يقوم بدور النظر في الأثر المصلحي المترتب على تقديم المصلحة الجزئية على المفهوم العام أو الأصل العام ، لأن تطبيق القاعدة العامة في آحاد صورها اعترتها بعض المفاسد المصاحبة لهذه الجزئية لعدم قيام الأسباب ووجود الموانع وعدم تحقق الشروط التي متمثلة بالدليل الكلي والعام ، وبالتالي يقوم الدرس المقاصدي بربط الفروع بمقاصدها باعتباره المعيار الذي يرتكز إليه الدليل الكلي والجزئي ، فيقوم باستثناء فرع جزئي من المقصد العام الذي يندرج تحت بربطه بمقصد آخر لقيام أسبابه وتحقق شروطه وانتفاء الموانع .
ويوضح الشاطبي عمل المذهبين المالكي والحنفي في دليل الاستحسان وعلاقته بالمقاصد بقوله : (قاعدة الاستحسان وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضى القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر . وله في الشرع أمثلة ... الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضى منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الإطلاع على العورات في التداوي والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة . هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه )[2]
ويوضح الإمام ابن العربي أوجه التعاضد بين الدرسين الأصولي والمقاصدي من خلال اعمال دليل الاستحسان لتحقيق المقصد الشرعي ، وذلك لأن الاستحسان عند المالكية والحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام[3] .
ويوضح العلامة بن بيّه عملية إخراج بعض أجزاء الدليل منه من خلال مرحلتين :
الأولى : الاشكالات النظرية : إن مسألة إلحاق الفرع بأصله والجزئي بالكلي ليست من المسائل السهلة لكل وارد ، فهي صعبة المنال ، وعزيزة المقال ، وأما القيام بعملية باستثناء فرع عن أصله والجزئي عن كليه فهي من أعقد الأمور وأصعبها ، وترجع الاشكاليات من خلال محورين :
المحور الأول : اشكالية تحقق المقصدية في الفرع بالأصل الجديد .
المحور الثاني : اشكالية تحقيق المقصدية في الأصل ، لأن تحديد المقصدية بالأصل كذلك ليست مسألة سهلة ، بل إن صناعة المفاهيم المقاصدية الكلية تكون أعقد من سابقتها ، وكذا عملية الحاق فرع بأصل أو جزئي بكلي لقيام أسبابه وتحقق شروطه المقصدية ، وانتفاء موانعه من مفاسد وغيرها .
ويبين شيخنا ذلك فيقول : (والاستحسان من أهمّ الأدلة ، لكنه دليل صعب المنال ، يجب فيه على الفقيه أن يحسن الموازنة حتى يخرج المسألة عن أصلها ، أو يستثنيها من بابه)ا[4] .
ويقول : (إن الاستحسان دليل يثري الفقه ، ويمد المفتي بوسائل مواجهة الحاجات المتجددة دون أن يرفع مقتضى النصوص بالكلية ، أو يقتحم عقبة النهي في مرتبة عليا ، وهو في الغالب : إعمال لمقصد عام أو خاص في تخصيص عموم نص أو تقييد اطلاقه )[5].
الثانية : الاشكالات العملية : وتتمركز الاشكالية في أن الدليل الجزئي الذي يراد إلحاقه بالكلي المقاصدي العام ليس على درجة واحدة ، فنجدها متفاونة ، وهنا تحدث اشكاليتين :
الأولى : الاختلاف في تحققها ، وهذه اشكالية صعبة ؛ لأن هناك من يرى وجه المناسبة بين الكلي الجديد بالجزئي المستثنى ، ومنهم من لا يرى وجه المناسبة ، بل هناك من لا يرى أصلاً شرعية الاستثناء .
الثانية : عدم التمييز بين المراتب ، وهذا اشكال كبير ، فعدم وضوح المرتبة التي يقع في الجزئي ، تؤدي إلى اشكاليات كثيرة . ويقع الخلط من محورين :
الأول : الخلط بين المفاهيم الكلية بحيث لا يوجد تمييز بين الضرورة والحاجة ، فعدم وجود تصور للتمايز بينهما يؤدي الخلل في الالحاق لأنه قد يلحق بالضرورة من حقه الالحاق بالحاجة وهكذا دواليك .
الثاني : وفي الجهة المقابلة : فإن عدم معرفة مرتبة المسألة الجزئية من معايير الالحاق من ضرورة وحاجة يؤدي خلل في إدراج تحت كلي لا يعمها وأصل لا يضمها وبالتالي سنقع في الخلل في التأصيل ولتفريع .
وقد بين شيخنا هذه الاشكالية بقوله : (إن العام يمكن أن تخرج منه جزئيات دعت إليها حاجة ولم يشتدّ ضررها للحاجة دون الضرورة وفوق المصلحة البسيطة أو المشقة المعتادة ، فإذا وزنت الحاجة وتعاملت مع المسألة ، فإن هذا التعامل سيكون في أربع مراتب :
المرتبة الأولى : مرتبة الضرورة ، وهي مرتبة عليا .
المرتبة الثانية : مرتبة الحاجة ، وهي مرتبة متوسطة .
المرتبة الثالثة : مرتبة الدليل من جهة كونه قطعياً أو ظنياً .
المرتبة الرابعة : مرتبة النهي : هل هو نهي وسائل فيرفعه الاستحسان بالحاجة ، أم نهي المقاصد فلا يرفعه إلا الضرورة الكبرى ، مثل أكل لحم الميتة ولحم الخنزير ؟) [6].
ومن الأمثلة على ذلك : تخصيص العموم بالمقصد ، وفقد قال بعض المالكية (رحمهم الله تعالى في من ينتسب إلى أهل البيت : أنه يجوز أن يعطى من الزكاة : (محل عدم إعطاء بني هاشم إذا أعطوا ما يستحقونه من بيت المال فإن لم يعطوه وأضر بهم الفقر أعطوا منها ، وإعطاؤهم حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم ... ( أقول ) : قد ضعف اليقين في هذه الأعصار المتأخرة فإعطاء الزكاة لهم أسهل من تعاطيهم خدمة الذمي والفاجر والكافر ، وتجوز صدقة التطوع لآله مع الكراهة على المعتمد ، ثم بعد كتبي هذا رأيت نصا في كتاب لبعض علماء المغرب يذكر فيه ما جرى به العمل عندهم مما يوافق ما قلته وأنه يقدم على المشهور ، ونصه هذا أيضا مما شاع العمل به لضرورة الوقت وهو التصدق على الشرفاء أهل البيت وأخذهم من صدقة الصالحين وغيرهم إلى أن ذكر عن ابن غازي في بعض أجوبته ما نصه : الرابع يحل لهم التطوع والفريضة وبه القضاء في هذا الزمان الفاسد الوضع خشية عليهم من الضيعة لمنعهم من حق ذي القربى ، فأما الفقراء منهم فتحل لهم على هذه الفتيا الصدقات ، وأما الغني فلا تحل له صدقة التطوع بوجه ولا تحل له أيضا صدقة الفريضة إلا أن يكون فيه صفة من بقايا صفة الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } ، ثم لا فرق بين القارئ والأمي في كل ما ذكر )[7].
وكذا عند الحنفية : (... وروى أبو عصمة عن الإمام أنه يجوز الدفع لبني هاشم في زمانه لأن لهم في عوضها خمس الخمس ولم يصل إليهم وروي أن الهاشمي يجوز له دفع زكاته إلى هاشمي مثله قيل بخلاف التطوع يعني اختلفوا فيما يمنع قال بعضهم من الصدقات الواجبة كالزكاة والنذور والكفارات وأما التطوعات فيجوز صرفها إليهم ... وعن الإمام روايتان وبالجواز نأخذ لأن الحرمة مخصوصة بزمانه عليه الصلاة والسلام )[8].
وأخيراً : قد اتضحت العلاقة بين دليل الاستحسان وتحقيق المقاصد ، فالاستحسان يقوم بالتفاعل مع الدرس المقاصدي ليتولد منهما حكم مقاصدي ، يعتبراً استثناء من أصل كلي لغاية مصلحية ، وكذا لتأسيس العلاقة التعاضدية بينهما ، وقد كانت المدرستين الحنفية والمالكية أكثر المدارس استثماراً لدليل الاستحسان وأكثرها استحضاراً للدرس المقاصدي وللتفاعل بينهما لتوليد الأحكام وتوسيع أوعية الاستنباط لتحقيق مقصود الشرع .


المرحلة الثانية : العملية : وهو تسجيل جملة من المحاور العملية لتوليد الاحكام من خلال التعاضد المنهجي والوظيفي بين العلمين .
المحور الأول : تنوع أوعية الاستنباط في توليد الأحكام :
وقد قدم العلامة بن بيّه جملة من القواعد المولدة للأحكام ، ومحاولة ربطها بأصل يضمها وبكلي يعمها ، من خلال استثمار الأدلة الشرعية .
وقد حصر المولدات للأحكام من خلال جانبين :
الأول : المولدات الجزئية :
1. إن المقصد الجزئي يمكن استثماره في أربعة مجالات يتم من خلاله توليد الأحكام :
أ‌- قياس التمثيل .
ب‌- الاستثناء (الاستحسان) .
ت‌- بناء الكليات (الاستقراء) .
ث‌- التغيير (سد الذرائع) .
ج‌- الترك
الثاني : المولدات الكلية :
2. إن المقصد الكلي يتم استثماره في اربعة مجالات يتم من خلالها توليد الأحكام :
أ‌- القياس الشمولي .
ب‌- تحقيق المناط .
ت‌- الاستقراء التام والناقص .
ث‌- الترك
المحور الثاني : عملية توليد الأحكام من خلال التعديل : وهي عملية تقوم على الحد من اطراد النصوص والقواعد في محالها ، بالعدول عنها من خلال التعامل مع المقاصد استجابة لضرورات الواقع .
وتتضح هذه المسألة من خلال صورتين :
الأولى : تفعيل قاعدة جريان العمل : وقد اشار العلامة بن بيه إليها وهي إحدى القواعد عند علماء المالكية ، وهي الأخذ بقول ضعيف في القضاء والفتوى ، من عالم يوثق به في زمن من الأزمان ، ومكان من الأمكنة ، لتحقيق مصلحة ، أو لدرء مفسدة .
وأثبت شيخنا ثلاثة مميزات لها :
الصورة الأولى : أنها توازي عمل أهل المدينة . باعتبارها مصدرمن المصادر المعتبرة في الفتوى ،وان كان بينهما تداخل وتمايز .
الثانية : أنها تعتبر قاعدة وليس اجتهاداً جزئياً ، فالأحناف عدلوا كثيرا من الفتاوى حسب مقتضيات الحاجات والضرورات وعموم البلوى ، لكن ظلت تلك التعديلات مجرد فتاوى جزئية لم يؤسس لها قاعدة منضبطة لها مفهومها وشروطها ولقبها وترتيبها وتبويبها ، في المقابل نجد الجانب التقعيدي في المدرسة المالكية تمتاز بوضع مفهوم لها واضح ومنضبط ، ووضعوا لها لقبها ووضعوا في سلم الترتيب من خلال التعادل والترجيح فهي داخلة في مساطر الترجيح ، وكذا التبويب .
الثالثة : تعتبر إحدى الأدوات المولدة للأحكام . وذلك لأن علماء المالكية راجعوا فيها كثير من المسائل التي لا تحقق مقصود الشارع .
الصورة الثانية : صناعة الواقع : وهي كسابقتها ، فهي عملية التعديل والتي يتم من خلالها إعادة ربط الأحكام بالواقع ، من خلال عملية تكاملية يتم التفاعل بين الأحكام والواقع فينتج حكماً .
ويبين معنى هذا الركن شيخنا بن بيه بقوله : ( تأثير الواقع في الأحكام الشرعية فمعناه : أن الواقع له أثر في الحكم على الأشياء ، فهو شريك في استنباط الحكم ، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد)[9] .
فالواقع شريك في صنع الحكم الشرعي وتشكله ، تحقيقاً للمصالح لقيام الداعي لذلك ، ويأخذ جملة من الصور في صناعة الفتوى ، فتارة يكون مظهراً للحكم الشرعي ، وانعكاس لصورته في الخارج ، وهذه الصورة لا يمثل الواقع فيها إلا البيئة الحاضنة للحكم الشرعي .
وبالتالي فهي بيئة ساذجة ، لا تولد حكماً ، ولا تثير إشكالاً ، فهي بيئة راتبة نسبياً ، تمثل انعكاس لصورة الحكم ، وفي المقابل لا تولد مجتهداً ، لأنها بيئة راكدة ، لا تحتاج إلى مجتهدين ، إنما تحتاج إلى من يستطيع نقل الحكم الشرعي إليها للتفاعل معه .
لكن هذه البيئة نادرة الوجود في واقعنا المعاصر ، إذ بعد دخول التكنلوجيا إلى العالم بأسره ، بحيث أصبحنا في قرية صغيره ، فتحديات الغرب اليوم تؤثر في الشرق ، والشمال في الجنوب ، وحتى الأعراف تبدلت وانعكست رأساً على عقب لأن الأعراف تداخلت بسبب التواصل عبر التكنلوجيا .
أما الصورة الفاعلة التي تشاطر أدوات الفتوى ومركباتها فهي الصناعة المزدوجة ، التي يشاطر الواقع النص في بلورته ، ليتم تكييف النص حسب معطيات الواقع ، يحفظ للنص مكانه ، ويندرج الواقع تحت سلطانه .
وقد تضمنت العلاقة التكاملية بين النص والواقع في عملية التأثير بثلات محطات رئيسة في عملية الصياغة التكاملية وهي : التعديل ، والضبط ، وصناعة المفاهيم .
فالمسألة التي وقعت أو يتوقع حصولها ، ينظر لها من خلال قاعدة تحقيق المناط ومدى امكان تطبيق القاعدة العامة عليها ، فإن كان في تنزيل القاعدة على المحل يحقق المقصد الشرعي فبها ونعمت ، وإن كان في تنزيلها لا يتحقق المقصد فلا بد من محاولة ربط هذا الفرع بكلي يعمه وأصل يضمه يحقق المقصد ، وذلك يتم من خلال جملة من الصورة ؛ منها العدول عن الأصل الجلي إلى الأصل الخفي لتحقق المقصد الشرعي به وذلك بقاعدة الاستحسان ، وهذا العملية لا تخرج عن سلطان الشرعية مادامت منضبطه بضوابطها ومحتكمة إلى أصوله ، ويبين شيخنا عملية التعديل والضبط في عملية تأثير الواقع في تنزيل الأحكام عليه بقوله : ( ... ونعني بالتعديل أنه يغير اطراد النصوص والقواعد من خلال تعامله مع الواقع بالمقاصد ، ونعني بالضبط كونه يستعمل مختلف الأدوات حتى يكون التكليف موافقاً للأصول المرعية ، مراعياً للأدلة المقررة ، فهو عندما ينبه على واقع يقتضي العدول عن قياس ، فإنه يستعمل أداة الاستحسان ، وعندما يشير إلى مئال فعل من الأفعال ليمنع الجائز لأنه يئول إلى مفسدة ، فإنه يستعمل دليل الذرائع ، سداً في المفاسد ، وفتحاً في المصالح ، وكذلك فإنه معرف للعلاقة بين الفرع = المحل ، والأصل = العلة )[10].
فعملية التعديل التي يتم من خلالها الالحاق بالأصول هي عملية تأصيلية عمل بها الفقهاء في المدرستين المالكية والحنفية أولاً_ وتبعهم أخيراً باقي المذاهب _ في تفعيل الدرس المقاصدي في ضبط عملية الاستنباط ، وذلك بجعلهم المقصد أصلاً يتم الاحتكام إليه ويكون معياراً لتحريك الأصول الكلية لتنسجم مع الفروع الجزئية ، لكي لا تخرج عن سلطانه ، ولا تنفلت عن ميدانه .
ويشير شيخنا بن بيه لهذه العملية التأصيلية للتعديل من خلال الاستنجاد بالمقاصد والانضباط بها في المذاهب الفقهية على التفاوت بينهم في تفعيلها واستثمارها بقوله ( ... المدرسة المقاصدية التي تعترف بالمعنى ومعقول النص ليست على درجةٍ واحدةٍ ولا على وزانٍ واحد : فالشافعية أقربُ إلى الظاهرية . بينما يمكن اعتبار المدارس المالكية والحنبلية والحنفية أقرب إلى نظرية المقاصد ؛ لقولهم بالاستدلال الذي يشمل المصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان ، على تفاوت في درجة الأخذ ؛ فحينما يقول المالكية بالمصالح المرسلة وبثلاثة أنواع من الاستحسان يبالغ الأحناف في الأخذ بالاستحسان ليستغنوا به عن الاستصلاح ، ويأخذ الحنابلة مع المالكية بسد الذرائع وبطرف من الاستحسان ، ويتردد النقل عنهم في الأخذ بالمصالح المرسلة )[11] .
ويشير سماحته إلى معيارية المقاصد وضبطها لعملية الاستنباط عند تنازع الأصول على الفروع يكون المقصد هو المعيار الضابط والأولى بالانحياز إليه والعدول عن غيره من الأدلة والأصول حيث يقول : ( ... فعندما يلجُّ النزاع ويحتدم الجدال وتلتكُّ البراهين على حياض الاجتهاد ، في محاولة لضبط أوجهه خارج نصوص الكتاب والسنة والاجماع والقياس فيما سمي لاحقاً بالاستدلال كانت المقاصد الوسيلة والمعيار لهذا الضبط ...)[12].
فالمقاصد تكون معياراً يلجأ إليه في ضبط عملية الاستنباط ، وذلك إذ تنازعت الأصول والقواعد في إدراجه تحت سلطانها ، فترجح القاعدة التي يكون المقصد في صفها على غيرها درجة ؛ وذلك رعاية لضبط عملية الاستنباط ؛ وذلك لأن المقصد تظافرت النصوص على اثباته ، فيترجح على غيره ، فيُعدل عنها إليه ، فإليه المرد أولاً وآخراً .
ولتوضيح محوري التعديل والضبط في عملية تأثير الواقع في الحكم الشرعي العام ، فسنورد بعض المسائل النظرية التي توضح بعض معالم هذه المسألة .
أولاً : صعوبة إدراك التأثيرات : إن هذه المسألة من المسائل التي لا يوجد لها تصور معلوم ، بحيث يمكن أن تقاس بمقاييس الحس أو المعنويات ، وذلك لتفاوت التأثير من خلال المحال التي تتعامل معها الأحكام ، فالمفتي حين ينظر في حال المستفتين ، فإنه يراعي التفاوت في تأثير المصالح والمفاسد ، وحال المصالح ومآلاتها ، وكذلك حال المفاسد ومآلاتها ؛ وبالتالي فنحن أمام جانب لا يمكن اقتحامه إلا بعد التسلح بمعرفة تلك المؤثرات التي فرضها الواقع الحالي ، أو المآل الآتي . ومع ذلك فلا بد من إدراك تفاوت المؤثرات التي يفرضها الواقع ، لكي لا تختلط الأمور وتوزن بميزان واحد ، بل لا بد من إدراك المؤثرات ومراتبها .
ثانياً : أدوات الكشف والاحاطة (الجانب التطبيقي) : ومما يساعد على اكتشاف مستوى تأثير الواقع في الفتوى ، مااستنبطه الأئمة من ضوابط تبين مستوى التأثير والتأثر ، فيمكن لنا بالقول : إن تأثير الواقع في الفتوى ليس معناه فرض سلطته على الفتوى بمعنى انحرافها عن مسارها ، بحيث تنساق خلف اكراهات الواقع المخالفة لنصوص الشريعة ، وإنما معناه محاولة احتواء الواقع بإدراجه تحت كلي الشريعة ، وبعبارة أخرى : من لم يسعه الدليل الجزئي وسعه الدليل الكلي ، وكل ذلك لأجل احتواء الواقع تحت سلطان الشريعة ، لكي لا ينفلت عملياً ، فلا بد من ضبطه فكرياً لكي لا ينفلت عملياً ، فهي عملية توازنية يتم التفاعل بين عنصريه ليتولد منها حكماً شرعياً من مخاض الواقع .
ثالثاً : تحديد مستوى التأثير : إن اقرارنا بتأثير الواقع على الفتوى من خلال جملة من التطبيقات العملية ، ليس معناه أن تكون تلك الفتاوى مطردة في محالها الأخرى ، وعلى هذا لا يحق للمستفتي أن ينزل حكماً فقهياً من تلك المسائل التي أقرت حسب تأثير الواقع على حالته ، دون عرضها على المفتي ، وإن رأى هو كمال المطابقة بين حالته والحالة السابقة ؛ وذلك لأن المفتي كالطبيب قد يرى فارقاً بين الحالتين ؛ لوجود أعراض أخرى تؤثر على الحالة الثانية من جراء العلاج الذي استخدمه صاحب الحالة الأولى ، فيصف له علاجاً آخر أكثر نفعاً ، وأصلح مآلاً .لذلك يقول الامام ابن القيم : (ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم واحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على أديان الناس وابدانهم)([13])
فإن تغير الواقع وما يفرزه من تغيرات كبيرة أو صغيرة ، وحسية أم معنوية ، يعد كافياً لمراجعة الفتوى ، اي لمحاولة إيجاد حالة من الانسجام الكمي والنوعي بين مقتضيات الواقع وبين كلي الفتوى.
رابعاً : تحديد إشكاليات التأثير : ومن المعلوم بأن الفتوى هي صورة الحكم الشرعي في الخارج ، فهل يعقل بأن يكون الحكم الشرعي أسير تطورات الزمان وإكراهات المكان ، أم لا بد من أن يستجيب الواقع لثوابت الفتوى وديمومتها ؛ ام أننا نتحدث عن جانب المرونة في الشريعة التي تستطيع أن تتلائم مع الواقع دون المساس بكلياتها لتوصله لأفضل المواقع ؛ وهذا الأخير هو الذي يقوم المجتهدون بمحاولة بيان حالة الانسجام والاندماج بين كلي المصالح مع جزئي الوقائع .
فالأصل أن يتأثر الواقع لينسجم مع الفتوى ، وهذا ما جاءت به الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها الكلية والجزئية ، فلا يعقل أن تؤول حالة الفتوى لتصبح انعكاس لتغيرات الواقع ، ومتغيرات الوقائع ، بل لا بد من المحافظة على المواقع ، وكتم أصوات القواقع.
وإن هذه الدعاوى التي لا تستند إلى أصل معقول ، ولا إلى كلي مقبول ، فهي عبارة عن تخيلات العقول ، وهي في الغالب من مسائل الفضول .
خامساً : ضوابط العلاقة التأثيرية : ثم إن التأثير الذي يحدثه الواقع في الفتوى لا بد من محاولة ضبطه بضوابط الدرس الأصولي الذي سيحدد وظائفه ومجاله، وكذا يحاول أن يضبط تأصيل تأثير الواقع على الفتوى عقلياً ؛ لكي نأمن من انفلاته عملياً . فإن تعامل الفتوى مع الواقع تنبئ عن حالة التفاعل والاندماج الكامل ، بين نسبة التأثير والتأثر بين مجريات الحوادث ، وبين الأحكام والفتوى ، فنحن نتعامل مع واقع وقع ، وتأثير لا مفر من إقراره ومسايرته بحيث نصل إلى اندماج كامل وإيجاد الحلول لتلك النوازل والحوادث .
فإن تأثير الواقع في الفتوى وتحديد مسارها ، ليس معناه الانسلاخ عن ضوابط الشريعة والخضوع لإكراهات الواقع وتغيراته ، وإنما معناه محاولة الاستنجاد بكلي أخفى وتقديمه على جزئي أشهر.
فالواقع منذ عصر الرسالة فرض جملة من التحديات العملية التي كان في مقابلها تأصيل مناهج عملية لاحتوائه ، وفرض سلطان كليات الشريعة على الواقع .
وصور احتواء الواقع في منظومة الشريعة مربعة الزوايا كتربيع الكعبة الشريفة ، هي :
الصور الأولى : إلحاق جزئي (الفرع) بجزئي (النص) وهو قياس التمثيل .
الصورة الثانية : استثناء جزئي والعدول به عن كلي تخفيفاً لمعنى اجتاله لضرورة حاقة أو حاجة ماسة ثبتت ولا يمكن تجاوزها ، وهو الاستحسان .
الصورة الثالثة : إلحاق جزئي بكلي مصلحي استقرائي وهو الاستصلاح ، القياس الشمولي .
الصورة الرابعة : استثناء من أصل إباحة بناء على مئال متوقع وقوعه ، وهو المعبر عنه بسد الذرائع[14] .



المحور الثالث : عملية الانضباط : فقد سجل شيخنا عدد من الضوابط لضبط عملية النظر في استنباط المقاصد ، وكذا في عملية توليد الأحكام ، ويمكن تسجيل بعض الملامح التي نستفيدها من قواعد الانصباط .
1. ضبط عملية الاستنباط
2. ضبط عملية توسيع أوعية الاستنباط
3. ضبط عملية توليد الاحكام
4. وضع معالم لضبط المراتب المقاصدية
ومن أهم الملامح العامة على الاطروحة التجديدية :
1. إن هذه الملامح التجديدية عموماً ، وما سجله العلامة بن بيّه من مناحي التعاضد المنهجي والوظيفي بين الدرسين الأصولي والمقاصدي ؛ تسجل لأول مرة بهذا الشكل.
2. وضوح البناء التجديدي وانضباطه .
3. توحيد أدوات توليد الأحكام في قنوات عملية يتم استثمارها في مجالات مشتركة لتوليد أحكام شرعية ملتزمة بضوابط الشريعة .
4. بناء الكليات من الجزئيات والجزئيات من الكليات وايجاد ترابط علمي وعملي بينهما يتم استثماره في توليد الأحكام .
5. انتاج الواقع والتفاعل معه في انتاج الكليات .




[1] مشاهد من المقاصد ، (154) .

[2] الموافقات ، (4/168 ـ170) .

[3] ينظر : أحكام القرآن ، (3/430) .

[4] أمالي الدلالات ، (474) .

[5] أمالي الدلالات ، (479) .

[6] أمالي الدلالات ، (478) .

[7] شرح مختصر خليل للخرشي ، (6/340) .

[8] مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ، (1/331) .

[9] تنبيه المراجع ، (9) .

[10] إثارات تجديدية ، (116) .

[11] مشاهد من المقاصد ، (41) .

[12] مشاهد من المقاصد ، (44) .

([13])إعلام الموقعين عن رب العالمين ، (3/94) .

[14] ينظر : مشاهد من المقاصد ، (37) .
 
أعلى