العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

جديد نظرات في منهجية التجديد الأصولي عند العلامة عبد الله بن بيّه

إنضم
8 أبريل 2012
المشاركات
60
الكنية
كلية الامام الاعظم الجامعة
التخصص
أصول فقه
المدينة
سامراء
المذهب الفقهي
مالكي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
لا شك أن جعل المناهج العلمية للشخصيات المتميزة محل دراسة ونظر وبحث لتُعدُّ إحدى المجالات المهمة في تطوير المعارف والمناهج ، وتنشيط البحث العلمي ، وذلك للاستفادة مما قدموه من علوم وفنون وبصمات تجديدية تساهم في انتاج الفكر وتجديد العلم ، لا سيما إذا كانت تلك الشخصيات معدودة ضمن أهم الشخصيات العالمية التي رسمت منهجاً وفكراً متميزاً بالعمق المعرفي والشمول المنهجي ، مع التمسك بأصول الشرع وعدم التتنكر لمقتضيات العصر
والعلامة عبد الله بن بيّه يُعد من هؤلاء الأعلام ، الذين يعدهم التاريخ الحاضر من أعلامه ومن أفضل رموزه الكبار في العالم الاسلامي والغربي .
وللوقوف على بعض النظرات التجديدية فإني سأقتصر على ثلاثة مسائل :
المسألة : منهجية التجديد : ولبيان منهجية التجديد في موسوعة العلامة بن بيّه فلابد من الإشارة إلى محورين :
المحور الأول : نظرة شيخنا الإمام لآليات التجديد ومنطلقاته :
إن منطلقات التجديد في العلوم الإسلامية في تصور شيخنا بن بيّه ترتكز على جملة من المحطات :
المحطة الأولى : إحياء المحتوى : وذلك من خلال: ( تعامل جديد مع التراث بالتعمق فيه ، والاستنجاد بإيجابياته ، وتحريره وتأصيله ، والتنقيب في أعماقه ، وتجليته بكل إمكانيات الإشراق حتى يصبح حياً)([1]).
المحطة الثانية : فتح قنوات التواصل وتلاقح الأفكار : ويتم ذلك من خلال تلاقح الأفكار لغرض التطوير فهو : ( تعامل جديد كذلك مع التراث يهدف إلى استكشاف فضاءات الالتقاء ومجالات التماس والتقاطع ، وتوسيع قنوات التواصل والاندفاع بقوة إلى المعاصرة فكراً وعلماً بندية وكفاءة )([2]) .
المحطة الثالثة : الاستعانة بمعارف العصر لتطوير وتجديد العلوم : ( إنه إحياء لثقافتنا عبر منطلقات جديدة بآليات العصر ووسائله )([3]).
المحطة الرابعة : التجديد لا يتنكر لمناهج التراث بل يمثل التراث الإسلامي منطلق التجديد : وذلك لكي لا ينفلت المتعاطون مع الثقافات الأخرى بحيث تكون لديهم مرجعية واضحة ومنضبطة ، مهما ساروا وابتعدوا وتعمقوا لا سبيل لهم سواها ( إن الخيار الاستراتيجي للتجديد هو التحرك من خلال التراث إلى المعاصرة ليكون التفاعل بين الاثنين أساس الصيرورة الثقافية)([4]) .
المحطة الخامسة : الشراكة بين التراث والمعاصرة في وضع مخطط منهجي تجديدي : ( ... إن التراث سيكون إطار المرجعية وإن التجديد هو توسيع وعاء الثوابت لتستوعب الحديث ، وقولبة الحديث ليُسْتَوْعَب ، إنه انطلاق من عقال الحيرة ، وتزحزح عن مفترق الطرق ، لسلوك الجادة وولوج الفضاء الرحب في انسجام بين الضمير الجمعي ومتطلبات العصر ، إنه مزج الأصالة في أجلى صورها بالمعاصرة في أنجح وسائلها وصيغتها )
المحور الثاني : مفهوم التجديد الأصولي : ولبيان مفهوم التجديد الأصولي فلابد من الوقوف على محطتين رئيستين
المحطة الأولى : التعريف بالتجديد الأصولي : يعرف العلامة عبد الله بن بيّه التجديد الأصولي : ( بأنه تحريك المفاهيم التي تشكل المنظومة الأصولية ، وتمثل الصورة المحددة لها لإبداع مفهوم جديد ، أو إدراج مضمون حديث في مفهوم قديم في قراءة جديدة للأصول ؛ قواعد ومقاصد وعلاقتها بالجزئيات الفقهية على ضوء مستجدات العصر . فهو ربط واصب بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته )([5])
المحطة الثانية : التعريف بمجال التجديد :
إن الحديث عن مجالات التجديد الأصولي في موسوعه العلامة بن بيّه ييتم على أربعة محاور :
المحور الأول : المادة : موضوعات الدرس الأصولي ، ولا يوجد تجديد بمعنى التبديل وإنما فقط تحريك مادتي المنطق ، وعلم الكلام لتندرج تحت كلي يعمها وأصل يضمها ، وهو دليل العقل .
المحور الثاني : الصورة : الصورة الخارجية للدرس الأصولي المعبر عنها بخمسة أشكال : التركيب ، والترتيب ، والتبويب ، والتلقيب ، والتقريب .
المحور الثالث : الغاية : تمثل البوصلة الحقيقية لمحاكمة دعاوى التجديد .
المحور الرابع : الفاعل : وهو المجتهد ، واقترح شيخنا بأن يكون الاجتهاد جماعي .
ولبيان مجالات التجديد يقول حجة الإسلام الغزالي: ( العلة تطلق على أربعة معان : الأول ما منه بذاته الحركة ، وهو السبب في وجود الشيء ، كالنجار للكرسي ، والأب للصبي([6]).الثاني : المادة ، وما لا بد من وجوده لوجود الشيء ، مثل الخشب للكرسي ، أو دم الطمث والنطفة لصبي .الثالث : الصورة ، وهي تمام كل شيء ، وقد تسمى علة صورية ، كصورة السرير من السرير ، وصورة البيت للبيت .الرابع : الغاية الباعثة أولاً ، المطلوب وجودها آخراً ، كالسكن للبيت ، والصلوح للجلوس من السرير )([7])
المسألة الثانية : التجديد في مدلول الدليل :
وقد تضمنت أطروحة شيخنا بن بيه جوانب التجديد في هذا الموضوع من عدة زوايا ومزايا :
الزاوية الأولى : تنبيه المجتهدين وتبصير الباحثين بالخطوات المنهجية التي لا بد أن يلتزموها في تعاملهم مع الظاهرة اللغوية .
الزاوية الثانية : إحياء ما اندثر من مناهج عملية تنهض بالظاهرة اللغوية ؛ لضبط منهجية قراءة النص الشرعي .
الزاوية الثالثة : تقديم جملة من الحلول العملية التي تضمن ضبط منهجية قراءة النصوص الشرعية ، شريطة الالتزام بها ، وهي ثلاثي : الوضع ، والاستعمال ، والحمل .
الزاوية الرابعة : تقديم جملة من المقترحات التجديدية النظرية .
الزاوية الخامسة : تضمن تراثه الأصولي والفقهي والدعوي كثير من المباحث التطبيقية ؛ لكبرى المسائل الحساسة ، بمحاولة جادة لتقديم صورة الاسلام الوسطي ، ودرء أبواب الفتنة المبنية على قراءات قاصرة أحياناً ومتعصبة أحياناً أخرى ، كالولاء والبراء وغيرها كثير
ويمكن اختصار أبعاد التجديد بثلاث آليات :
الآلية الأولى : تجديد تصفية : وذلك بمحاولة تشذيب المادة من مسائل
الآلية الثانية : تجديد المحتوى : وذلك يتم بالاهتمام بالجانب اللغوي وإدخال جملة من المسائل الضرورية التي يتم من خلالها الاطلاع على سعة اللسان العربي ، ويتم ذلك على مرحلتين :
المرحلة الأولى : الاستنباط : فيتم استثمار دلالات الألفاظ في استنباط المعاني المقصودة من الخطاب بالاستعانة بمنهجية الدرس الأصولي .
المرحلة الثانية : الانضباط : وذلك بمحاولة إحياء ثلاثي : الوضع ، والاستعمال ، والحمل .
وذلك لضمان سلامة الاستنباط ، وعدم السير خلف منهج الظاهرية المعطلة لطاقات النص الشرعي .
الآلية الثالثة : تجديد إضافة : وذلك بالاستعانة بجملة من العلوم المعاصرة وما توصلت إليها معارف العصر كالهرمينوطقيا .
المسألة الثالثة : التجديد في معقول النص :
إن منهجية التجديد في معقول النص أشار إليها شيخنا من خلال جانبين :
الجانب الأول : الدرس المنطقي : ويتمحور جانب التجديد في تقديم المقدمة المنطقية مقرونة بأوعية الاستنباط الأصولي بجملة من المسائل :

  1. ببيان عمق التأصيل الأصولي النظري من خلال التعاضد المنهجي والوظيفي بين الدرس المنطقي والأصولي .
  2. محاولة إعادة تفعيل الدرس المنطقي في البحث الأصولي ، لأنهما يمثلان وجها لعملة واحدة في جملة من الأدوات المؤسسة لبنية التفكير الأصولي .
  3. محاولة ضبط عملية توليد الأحكام من خلال معايير الضبط المنطقي .
  4. بيان أوجه التماييز الأصولي عن الدرس المنطقي .
الجانب الثاني المقاصدي : وقد تضمن الحديث عن الجانب المقاصدي في محيط معقول النص في أكثر من منحى :
المنحى الأول : توسيع أوعية الاستنباط :
المنحى الثاني : ضبط آليات الاستنباط : وذلك من خلال الضوابط الثمانية لاستنباط المقاصد
المنحى الثالث : استنباط المقاصد : أضاف جملة من الآليات والأدوات التي تساهم في استنباط المقاصد كبدعة الترك .
المنحى الرابع : الاستنجاد بالمقاصد : قد ضم هذا المنحى أكثر من ثلاثين وجهاً للتعاضد بين الدرسين الأصولي والمقاصدي بغية توسيع أوعية الاستنباط ، وكذا توليد الأحكام ، فهي أوجه جاءت لرمي نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفند ، وبيان الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد والمعدود في العدد .
المنحى الخامس : مجالات الاستنجاد بالمقاصد في منهجية الاستنباط : ويتم ذلك من خلال ثلاث مجالات :
المجال الأول : تفعيل أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها ، لتوسيع دوائر وأوعية الاستنباط الأربع وهي :
الدائرة الأولى : إلحاق جزئي بجزئي منصوص وهو القياس .
الدائرة الثانية : استثناء جزئي والعدول به عن كلي تخفيفاً لمعنى اجتاله لضرورة حاقة أو حاجة ماسة وهو الاستحسان .
الدائرة الثالثة : إلحاق جزئي بكلي مصلحي استقرائي وهو الاستصلاح .
والدائرة الرابعة : استثناء من أصل الاباحة بناء على مئال متوقع وهو المعبر عنه بسد الذرائع .
المجال الثاني : اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية ، حتى ولو كانت مهجورة ، مادامت نسبتها صحيحة . كقاعدة جريان العمل .
ومن أقول العلامة بن بيّه في بيان منهجية الموازنة بين الآراء التي تحقق المقصد في الواقع وإن كانت ضعيفة فتقدم على القول الراجح فيقول : فإني أقول لطلبتي إن مكانة القول الراجح محفوظة ، وحقوقه مصونة ، لكن المقاصد تحكم عليه بالذهاب في إجازة ، ولا تحيله إلى التقاعد ، ريثما تختفي المصلحة التي من أجلها تبوَّأ القول الضعيف مكانه .
المجال الثالث : تفعيل النظرية المقاصدية في وضع فلسفة إسلامية شاملة تجيب على الأسئلة التي يطرحها العصر في مختلف القضايا الكبرى .
وفي ختام هذه الورقة أرجو أن أكون قد وفقت لإبراز أهم ملامح التجديد في مدونة شيخنا الإمام عبد الله بن بيّه ، وأدعو الباحثين ليستفيدوا من مؤلفاته . ويؤسسوا على بنيانه .
ألقيت هذه الورقة في الندوة العلمية في كلية الإمام الأعظم الجامعة سامراء ، 15/ 4/2015
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين


([1]) فتاوى فكرية ، (100) .

([2]) المرجع السابق ، (101) .

([3]) المرجع نفسه .

([4]) المرجع السابق ، (101)، 102).

([5]) إثارات تجديدية في حقول الأصول ، (15 ،16) .

([6]) يقصد الفاعل .

([7]) معيار العلم ، حجة الاسلام محمد بن محمد الغزالي، تحقيق : سليمان دنيا ، دار المعارف ، (258) .
 
أعلى