رد: نفائس في شرح الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله
قال الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة:
باب: كيف البيان؟
"قال الشافعــي : والبيانُ اسمٌ جامـــعٌ لمعانٍ مجتمعـــةِ الأصــول، متشعبةِ الفروع، فأقــلُّ ما في تلك المعاني المجتمعــة المتشعبـــة: أنها بيانٌ لمن خُوطب بهـا ممن نزل القُرآن بلسانـــه، متقاربةُ الاستواء عندَه، وإن كان بعضُها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ مِن بعض، ومختلفةٌ عندَ مَن يَجهل لسانَ العرب".
وهنا بدأ الإمام الشافعي رحمه الله في الكشف عن معنى البيان وكيفيته في الشريعة، فذكر أولاً أن البيانَ بمعناه العام في الشرع "اسم جامـــع" يتضمن أنواعاً متعددة مختلفة، منها ما سوف يتناوله في الرسالة، من متفق الدلالة ومختلف الظاهر، ونص ومستنبط، وعموم وخصوص، ومجمل ومفسر، وجميعُ ذلكَ يشمله اسم البيان، وإن اختَلَفَت مراتبُه، وقوله هنا: "مجتمِعة الأصولِ"، أي: في الاسمِ الشامل، وهو البَيانُ، وقوله: "متشعبة الفروع"، يعني: بينَ الأنواع السابقة، فهي في الحقيقة شُعَبُ الاسَمِ الذي يسمى جملة البيان.
وقول الشافعي هنا: "وإن كان بعضُها آكدَ بياناً من بعض"، وذلك نظراً منه إلى أن البيان مراتب، كما سيقوم بتفصيله، وقد أشارَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حيث قال: "إنّ من البيانِ لَسِحراً"(
[1])
، ولم يقلْ: إن البيانَ سِحْرٌ، وإنما جعل بعضَه سحراً، وذلك أن النصَّ أجلى مراتب البيان، والظاهرَ دونه، ودليل الخطاب دونَ فحْواه، فهذا كلامُ عالم جليل أحاطَ بالبيانِ خُبْراً، وقتلَه عِلْماً(
[2])
.
وهذه المعاني المجتمعة من جهة، والمتشعبة من جهة أخرى، هي تفاصيل ما سوف يتناوله الإمام الشافعي في الرسالة، الذي يتمحور موضوعها الرئيس حول البيان، كما سبق الكشف عنه.
- الاعتراض على كلام الإمام الشافعي رحمه الله:
قد رام بعض أهل العلم الاعتراض على كلام الشافعي، وذكروا في ذلك وجوهاً من الاعتراضات(
[3])
:
- فاعترض بعضهم بأن الشافعي ما حدّ البيانَ وما وصفه؛ بل ذكر جملة مجهولة، فكان بمنزلة من قال: البيان اسم يتضمن أشياء، ثم لم يبيّن تلك الأشياء ما هي؟، بل إن تعريفه البيان هو بالإلباس أشبه منه بالبيان، حيث لم يذكر المعاني المجتمعـــة الأصول المتشعبة الفروع ما هي وما حدها وصفتها؟، ثم إنه أدخل في البيان ما هو واضح منكشف ابتداء مع أن البيان إظهار المعنى وإيضاحه منفصلاً مما يلتبس به.
- واعترض آخر بأن كلامه لا يعدّ حداً للبيان، وإنما هو وصف له بأنه يجمعه أمر جامع، وأنه يتشعب إلى أقسام كثيرة، فإنه لو أراد حدّ البيان بمعناه اللغوي لآلت حقيقته حينئذ إلى حد البيان بأنه بيان، وذلك حدّ الشيء بنفسه، وهو لا يجوز، وإن كان أراد حدّ البيان العام، فإنه يكون تعريفاً غير جامع لخروج الأدلة العقلية منه، وإن أراد حدّ البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء، فإنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد، كالعموم والخصوص وغيرهما، وهذا ليس هو العام والخاص.
- واعترض غيره بأن البيان أبين من التفسير الذي فسره به، فكان تعريفه موهماً.
من أجل مناقشة هذه الاعتراضات الواردة على كلام الإمام الشافعي يلحظ الآتي:
- اعتذر بعض أصحاب الشافعي بأن الإمام لم يقصد حد البيان وتفسير معناه، وإنما قصد أن اسم البيان يقع على الجنس، فهو اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان، وهي متفقة في أن اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى وأبين من بعض، لأن منه ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر، ومنه ما يحتاج إلى دليل، ويشهد لذلك أن الشافعي جعل لكل نوع من الأنواع المختلفة باباً، فقال: باب البيان الأول، باب البيان الثاني، وهكذا([4]).
- أما إدخاله في البيان ما هو واضح منكشف ابتداء، فهذا يشهد بعلو قدره وشأوه في اللغة؛ فإنه ليس من حق البيان أن يكون بياناً لمجمل ومشكل من القول ومالا يستقل بنفسه فحسب؛ وذلك لأن النصوص والعمومات بيان لما وضعت له وكشف لمعناه، وإن لم تكن محتملة لبيان المراد بالجمل، ولأجل هذا لم يصح قول من قال إن حد البيان: (إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى التجلي بأي وجه كان)؛ لأنه حد يخرج من البيان أكثره، ويوجب أن لا يكون البيان إلا بيان مجمل محتمل، وأن لا يكون العموم عند مثبتيه بياناً لما اشتمل عليه، وهذا باطل، لأن كل قول يكشف عن معنى ما وضع له، فهو بيان له([5]).
- أن هذا الاعتراض ممن جاء بعده يشهد بأن المعترض لم يفهم كلام الشافعي، من المُحْدَثِينَ الذين لم يبلغوا شاو أصحابه في العلم، فالشافعي أبو هذا العلمِ وأمّه، وهو أولُ من هَذَبَ أصولَ الفقهِ، ومن غزارةِ علمِه، وكثرةِ فضلهِ عَلِمَ أن البَيانَ مما لا يكاد يضبِطُه حدٌّ، لذا وصفه باسم جامع لأنواع متعددة، جميعُها تنتظم تحت اسم البيان وإن اختلفت مراتبُها([6]).
- ومن وجه آخر؛ فإن الشافعي رحمه الله كان يتكلم بلغة عصره، زمن ولادة المصطلحات العلمية وبداية نشأتها – إن صح التعبير-؛ ذلك أن المصطلحات لم تتبلور وتتحدد معالمها وتتخصّص بعدُ، فمن غير السائغ حينئذ محاكمته والاعتراض عليه بأشياء استقرّ شيء منها فيما بعده، بل إنه في حقيقة الأمر هو من أماط اللثام عن مكنون كثير من المصطلحات الأصولية، وأخرج كنوزها المخبوءة في معانيها، ونضد دررها ولآلئها، وعليه فالبيان في تصوره لم يكن محصوراً في دلالته المعجمية الضيقة المحدودة، كما لم يكن قاصراً على بعض أنواعه التي ارتبط بها فيما بعد (كما في: إظهار المعنى الخفي وإيضاحه)، بل اتخذ البيان عنده شكلاً أوسع نطاقاً وأرحب مجالاً ليصل به إلى مستوى الدلالة والمفهوم، بما يتضمنه ذلك من مراتب ودرجات، وهذا ما يؤكده الإمام الشافعي ببراعة منقطعة النظير في التصور والإدراك والتوظيف حين يقول في موطن آخر من الرسالة: "يَعلمُ مَن فَهِمَ هذا الكتاب أنّ البيان يكون من وجوه، لا مِن وَجهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ ومُشْتَبِهَةُ البيان، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلمُه مُختلفة البيان"([7]).
ثم إن اعتراضهم بأنه ذكر أن: "البيان اسم يتضمن أشياء، ثم لم يبيّن تلك الأشياء ما هي؟" لا يخلو من قصور في قراءة الرسالة تامة، للوقوف على مقصود الجهبذ ومغزاه؛ إذ الإمام الشافعي عربي اللسان، فهنا ذكر معنى البيان على وجه الإجمال، أما بيان الأشياء الداخلة تحته فهو تفاصيل ما في الرسالة من ذكر العموم والخصوص والأمر والنهي، والتعارض والجمع والترجيح، والاتباع والاستنباط، إلى غير ذلك من المباحث المدونة في تضاعيف كتابه.
- ويؤكد ما سبق أن هذا التصور الواسع لمعنى البيان وتعدد معانيه وتشعبها كان أمراً ملحوظاً في ذلك العصر، بغضّ النظر عن الفن الذي يمكن أن يتعلق به؛ حيث يلحظ أن الجاحظ (ت255ه) يستعير شيئاً من كلام الإمام الشافعي حين يعبّر عن البيان، وذلك في قوله: "والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"([8]).
يتبع...
([1]) رواه البخاري في صحيحه، رقم 5146.
([2]) كما قال ذلك ابن عقيل في الواضح 1/185-186.
([3]) ينظر فيها: الفصول في الأصول، للجصاص 2/10-14، البحر المحيط، للزركشي 5/90-91.
([4]) ينظر: قواطع الأدلة، لابن السمعاني 1/258، البحر المحيط، للزركشي 5/91.
([5]) ينظر: التقريب والإرشاد، للباقلاني 3/372-373.
([6]) ينظر: الواضح، لابن عقيل 1/185.
([7]) يقصد أن وجوه البيان عند أهل العلم بعضها بيّن لا يحتاج إلى إيضاح معان, وبعضها مشتبه يحتاج إلى دقة نظر وعناية, وأما عند غير أهل العلم فإنها كلها مختلفة البيان بالنسبة إليه، لا يدرك وجه الكلام فيها، ينظر: تحقيق الشيخ أحمد شاكر على الرسالة ص145.
([8]) البيان والتبيين 1/82.