العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هذا مختصر كتاب طوق الحمامة

ا

الكندي

زائر
هذا مختصرمن كتاب طوق الحمامة، أختصرته من غير تصريف الى الربع أو اقل 24 ورقة وليس هذا من طول أو إملال في الكتاب ولكن لقصر الهمم.

فالكتاب هو طوق الحمامة وما أدراك؟ ما طوق الحمامة؟ وما هو موضع طوق الحمامة: أنه الحب!! نعم الحب! و الأعحب من ذالك هو كاتب طوق الحمامة؟ تعلمون من هو؟ فإن كنتم تعلمون فقد علمتمن وإن كنتم لا تعلمون فأصغوا فإني قائلها: هو ابن حزم الأندلسي ! نعم الإمام ابن حزم محي الكتاب والسنة علامة الاندلس صاحب المحلى في الفقه والإحكام في الاصول ، وهي رسالة كتبها إجابة لطلب صديق له.

فيكتب عن الحب –الذى فطرت النفوس السليمة على إستحسانه- ويحدثنا عنه ويخبر عن نفسه والحب، بحسن بينه وعذوبة ألفاظه وهوهنا الشاعر الأديب لا المجادل العنيد فانها والله لتقطر حلاوة من غير رككة بل بنفس جزالة عبارته ودقة إنتظام أفكاره ووضح معانيه فكان وقعها في النفوس لا يوصف ولكن يجرب!!! فخذ بحظك من هذا المختصر إن شئت أو دونك عنه وروم المعالي.


مختصر طوق الحمامة
في الأُلفة والأُلاّف
أبو محمد أحمد بن علي بن سعيد بن حزم الأندلسي

قال أبو محمد عفا الله عنه: أفضل ما أبتدئ به حمد الله عز وجل بما هو أهله، ثم الصلاة على محمد عبده ورسوله خاصة، وعلى جميع أنبيائه عامة، وبعد.

وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا متزيداً ولا مفتنا، لكن مورداً لما يحضرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره، فبدرت إلى مرغوبك ولولا الإيجاب لك لما تكلفته، فهذا من الفقر، والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غداً. وإن كان القاضي حمام بن أحمد حدثني عن يحيى بن مالك عن عائذ بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: أجمعوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق. ومن أقوال الصالحين من السلف المرضي. من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقوى. وفي بعض الأثر: أريحو النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد.

وسأورد في نفي رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها على أني سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهب المتحلين بقول الشعر، وأكثر من ذلك فإن إخواني يجمشوني القول فيما يعرض لهم على طرائقهم ومذاهبهم. وكفاني أني ذاكر لك ما عرض لي مما يشاكل ما نحوت نحوه وناسبه إلي.

والتزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدك، والاقتصار على ما رأيت أوضح عندي بنقل الثقات، ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أنضي مطية سواي، ولا أتحلى بحلى مستعار، والله المستغفر والمستعان لا رب غيره.

تقسيم الرسالة

وقسمت رسالتي هذه على ثلاثين باباً، منها في أصول الحب عشرة فأولها هذا الباب، ثم باب في علامات الحب، ثم باب فيه ذكر من أحب في النوم، ثم باب فيه ذكر من أحب بالوصف، ثم باب ذكر من أحب من نظرة واحدة ثم باب فيه ذكر من لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم باب التعريض بالقول ثم باب الإشارة بالعي، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير.

والكلام في باب ماهية الحب، ثم باب علامات الحب، ثم باب من أحب بالوصف، ثم باب من أحب من نظرة واحدة، ثم باب من لا يحب إلا مع المطاولة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، ثم باب التعريض بالقول، ثم باب الإشارة بالعين، ثم باب المراسلة، ثم باب السفير، ثم باب طي السر، ثم باب إذاعته، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب العاذل، ثم باب المساعد من الإخوان؛ ثم باب الرقيب، ثم باب الوشي، ثم باب الوصل، ثم باب الهجر، ثم باب الوفاء، ثم باب الغدر، ثم باب البين، ثم باب القنوع، ثم باب الضنى، ثم باب السلو ثم باب الموت؛ ثم باب قبح المعصية؛ ثم باب التعفف.

الكلام في ماهية الحب
الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل.

ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد استغنى بأشعارهم عن ذكرهم: وقد ورد من خبر عبيد الله عتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية. وهو أحد فقهاء المدينة السبعة وقد جاء من فتيا ابن عباس رضي الله عنه مالا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.

ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب. فأفضلها محبة المتحابين في الله عزوجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب، وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ للذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها. حاشى محبة العشق الصحيح الممكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.

وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه. وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين.

أما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس حسنة وتولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المنقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة.

علامات الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس. وفي ذلك أقول شعراً، منه:
ومنها الإقبال بالحديث. فما يكاد يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدّث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وخرق العادات، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول.
ومنها الاسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه والدنو منه، واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه
ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغته.
ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع إسمه فجأة وفي ذلك أقول قطعة، منها.
ومنها أن يجود المرء ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعاً به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه. فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تطرب، وجاهل تأدب، وتفل تزين، وفقير تجمل. وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تبذل.
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل ذي بصر الإنبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالإتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة. وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
والسهر من أعراض المحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه وحكوا أنهم رعاة الكواكب وواصفو طول الليل.
خلوت بها والراح ثالثة لها * وجنح ظلام الليل قد مد ما انبلج
فتاة عدمت العيش إلا بقربها * فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظناً وأوسعهم نفساً وأكثرهم صبراً وأشدهم احتمالا وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعديد فنوناً ومن سوء الظن وجوها.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمر يترقى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الإبصار، فإن للحكايات ونعت المحاسن ووصف الأخبار تأثيراً في النفس ظاهراً.
، وأكثر ما يقع هذا في ربات القصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحب النساء في هذا أثبت من حب الرجال لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكنه منهن.
من أحب من نظرة واحدة
وكثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة. وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسما ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد.
والقسم الثاني مخالف للباب الذي يأتي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرء من نظرة واحدة جارية معروفة الإسم والمكان والمنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة البصر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الظرافة والملل. وهكذا في جميع الأشياء أسرعها نمواً أسرعها فناء. وأبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاذاً.

من لا يحب إلا مع المطاولة
ومن الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المخافتة وكثير المشاهدة وتمادي الأنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مُر الليالي فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً، وهذا مذهبي.
وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سرَّ الشهوة ومعناها على الحقيقة فإذا غلبت الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفصل اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس يسمى عشقاً. ومن هنا دخل الخلط على من يزعم أن يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفاً، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في الميل به فضل بصرفه من أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان.

كذب المدعي هوى اثنين حتما * مثل ما في الأصول أكذب ماني
ليس في القلب موضع لحبيبي * ن ولا أحدث الأمور بثاني
فكما العقل واحد ليس يدري * خالقاً غير واحد رحمان
فكذا القلب واحد ليس يهوى * غير فرد مباعد أو مدان
هو في شرعة المودة ذو شك بعيد من صحه الإيمان
وكذا الدين واحد مستقيم * وكفور من عنده دينان​

من أحب صفة​
لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم أعزك الله أن للحب حكماً على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد؛ وأنه ينقض المرر، ويحل المبرم، ويحلل الجامد، ويخل الثابت، ويحل الشغاف، ويحل الممنوع، ولقد شاهدت كثيراً من الناس لا يتهمون في تمييزهم، ولا يخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحسن اختيارهم، ولا تقصير في حدسهم، قد وصفوا أحباباً لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمستحسن عند الناس ولا يرضى في الجمال، فصارت هجيراهم،وعرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم ثم مضى أولئك إما بسلو أو بين أو هجر أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلها، على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها؛ بل صارت تلك الصفات المستحبة عند الناس مهجورة عندهم وساقطة لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينا منهم إلى من فقدوه، وألفة لمن صحبوه.
وأقول أيضاً:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها * فقلت لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لون النور والتبر ضلة * لرأى جهول في الغواية ممتد
وهل عاب لون النرجس الغض عائب * ولون النجوم الزاهرات على البعد
وأبعد خلق الله من كل حكمة * مفضل جرم فاحم اللون مسود
به وصفت ألوان أهل جهنم * ولبسة باك مثكل الأهل محتد
ومذ لاحت الرايات سواد تيقنت * نفوس الورى أن لاسبيل إلى الرشد​

التعريض بالقول * (36)
ولا بد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليم الأول جل ثناؤه. فأول ما يستعمل طلاب أوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، إما بإنشاد شعر، أوبإرسأ ومثل، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام وللناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب مايرونه من أحبتهم من نفار أو أنس أو فطنة أو بلادة.

الإشارة بالعين
ثم يتلو التعريض بالقبول، إذا وقع القبول والموافقة، الإشارة بلحظ العين وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، وينتهر ويبسط ويؤمر وينهي، وتضرب به الوعود، وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن، ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطي.
ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يمكن تصويره ولا وصفه إلا بالأقل منه. وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني: فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهى عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح.
والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه.
والإشارة الخفية بمؤخر العينين كلتاهما سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام. وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة.

المراسلة
ثم يتلو ذلك إذا امتزجا المراسلة بالكتب. وللكتب آيات. ولقد رأيت أهل هذا الشأن يبادرون لقطع الكتب وبحلها في الماء وبمحو أثرها، فرب فضيحة كانت بسبب كتاب. وفي ذلك أقول:
عزيز على اليوم قطع كتابكم * ولكنه لم يلف للود قاطع
فآثرت أن يبقى ودادٌ وينمحي * مداد فإن الفرع للأصل تابع
فكم من كتاب فيه ميتة ربه * ولم يدره إذ نمقته الأصابع
وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس. ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصرٍ في الإنسان وإما لحياء وإما لهيبة.
جواب أتاني عن كتاب بعثته * فسكن مهتاجاً وهيج ساكناً
سقيت بدمع العين لما كتبته * فعال محب ليس في الود خائناً
فما زال ماء العين يمحو سطوره * فيا ماء عيني قد محوت المحاسنا
غدا بدموعي أول الحظ بيننا * وأضحى بدمعي آخر الحظ بائنا

السفير
ويقع في الحب بعد هذا، بعد حلول الثقة وتمام الاستئناس، إدخال السفير. ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستفراهه، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته بعد الله تعالى.

وأكثر ما يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، إما خاملاً لا يؤبه له ولا يهتدي للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بدادة في طلعته.
وإما جليلاً لا تلحقه الظنن لنسك يظهره أو لسن عالية قد بلغها.
وما أكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين وإني لأذكر بقرطبة التحذير للنساء المحدثات من هذه الصفات حيثما رأيتها.

طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يرى أنه عز هاة خلى. ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال، وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن أن يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة. وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين. وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة. وفي ذلك أقول:
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى * وسيان عندي فيك لا ح وساكت
يقولون جانبت التصاون جملة * وأنت عليهم بالشريعة قانت
فقلت لهم هذا الرياء بعينه * صراحاً وزي للمرائين ماقت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد * وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محرماً أتقى به * محبي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لأئم * سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اختياره * وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامت​

وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان، والتصاون لطبع المحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيراً بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع.
وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو يريهم ومن يحب هوان ذلك عليه.

الإذاعة
وقد تعرض في الحب الإذاعة، وهو منكر ما يحدث من أعراضه، ولها أسباب، منها: أن يريد صاحب هذا الفعل أن يتزيا بزي المحبين ويدخل في عدادهم، وهذه خلافة لا ترضى، وتخليج بغيض، ودعوى في الحب زائفة.
وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب وتسور الجهر على الحياء. فلا يملك الإنسان حينئذ لنفسه صرفاً ولا عدلاً. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن. وهنالك يرى الخير شراً، والشر خيراً. وكم مصون الستر مسبل القناع مسدول الغطاء قد كشف الحب ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه فصار بعد الصيانة علماً، وبعد السكون مثلاً. وأحب شيء إليه الفضيحة فيما لو مثل له قبل اليوم لاعتراه النافض عن ذكره، ولطالت استعاذته منه. فسهل ما كان وعراً، وهان ما كان عزيزاً، ولان ما كان شديداً.

ومن أسباب الكشف وجه ثالث وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المحب من محبوبه غدراً أو مللاً أو كراهة؛ فلا يجد طريق الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار. وهذا أشد العار وأقبح الشنار وأقوى بشواهد عدم العقل ووجود السخف. وربما كان الكشف من حديث ينتشر وأقاويل تفشو، توافق قلة مبالاة من المحب بذلك، ورضى بظهور سره، إما لإعجاب وإما لاستظهار على بعض ما يؤمله. وقد رأيت هذا الفعل لبعض إخواني من أبناء القواد، وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى.

الطاعة
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع ن يحبه وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمى الأنف، أبى الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، وبتورط عمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهلة والمضاء كلالة؛ والحمية استسلاماً.
وأقول شعراً؛ منه:
وإني وإن تعتب لأهون هالك * كذائب نقر زل من يد جهبذ
على أن قتلى في هواك لذاذة * فيا عجباً من هالك متلذذ​

ولا يقولن قائل إن صبر المحب على دلة المحبوب دناءة في النفس فقد أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس له كفواً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يعير به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب، ولا يقع ذلك في مجالس الخلفاء، ولا في مقاعد الرؤساء، فيكون الصبر جاراً للمذلة، وضراعة قائدة للاستهانة، فقد ترى الإنسان لا يكلف بأمته التي يملك رقها، ولا يحول حائل بينه وبين التعدي عليها فكيف الانتصار منها. وسبل الامتعاض من السبب غير هذه، إنما ذلك بين علية الرجال الذين تحصل أنفاسهم وتتبع معاني كلامهم فتوجه لها الوجوه البعيدة، لأنهم لا يوقعونها سدى ولا يلقونها هملاً، وأما المحبوب فصعدة ثابتة، وقضيب منآد، يجفو ويرضى متى شاء لا لمعنى. وفي ذلك أقول:
ليس التذلل في الهوى يستنكر * فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة * قد ذل فيها قلبي المستبصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً * فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها * هل قطعها منك انتصاراً يذكر

المخالفة
وربما اتبع المحب شهوته وركب رأسه فبلغ شفاءه من محبوبه، وتعمد مسرته منه على كل الوجوه سخطاً ورضى. ومن ساعده على الوقت هذا وثبت جنانه وأتيحت له الأقدار استوفى لذته جميعها وذهب غمه وانقطع همه ورأى أمله وبلغ مرغوبه.

العاذل
وللحب آفات، فأولها العاذل، والعذال أقسام، فأصلهم صديق قد أسقطت مؤونة التحفظ بينك وبينه فعذله أفضل من كثير المساعدات? وهي من الحظ والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطيفة لها عرض، وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة، ولا سيما إن كان رفيقاً في قوله حسن التوصل إلى ما يورد من المعاني بلفظه، عالماً بالأوقات التي يؤكد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر. والساعات التي يكون فيها واقفاً بين هذين، على قدر ما يرى من تسهيل العاشق وتوعره، وقبوله وعصيانه.
عاذل زاجر لا يفيق أبداً من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل.

ولقد رأيت من اشتد وجوده وعظم كلفه حتى كان العذل أحب شيء إليه، ابرى العاذل عصيانه ويستلذ مخالفته، ويحصل مقاومته للأئمة وغلبته إياه. كالملك الهازم لعدوه والمجادل الماهر الغالب لخصمه، ويسر بما يقع منه في ذلك وربما كان هذا المستجلب لعذل العاذل بأشياء يوردها توجب ابتداء العذل وفي ذلك أقول أبياتاً، منها:

أحب شيء إلي اللوم والعذل * كي أسمع اسم الذي ذكراه لي أمل
كأنني شارب بالعذل صافية * وباسم مولاي بعدي الشرب أنتقل

المساعد من الإخوان

ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، بسيط الطول. حسن المآخذ دقيق المنفذ.
. وما رأيت الإسعاد أكثر منه في النساء. فعندهن من المحافظة على هذا الشأن والتواصي بكتمانه والتواطؤ على طيه إذا اطلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن مالا يوجد عند الفتيات، لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في الندرة. وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن فانصرف الإشفاق محضاً إلى غيرهن.

. وما أعلم علة تمكن هذا الطبع من النساء إلا أنهن متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه لاشغل لهن غيره ولا خلقن لسواه. والرجال مقتسمون في كسب المال وصحبة السلطان وطلب العلم وحياطة العيال ومكابدة الأسفار والصيد وضروب الصناعات ومباشرة الحروب وملاقاة الفتن وتحمل المخاوف وعمارة الأرض، وهذا كله متحيف للفراغ، صارف عن طريق البطل وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقى عليهن ضريبة من غزل الصوف يشتغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال، وتحن إلى النكاح ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن مالا يكاد يعلمه غيري؛ لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن. ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل وجهي. وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الآشعار وردبنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئاً مما آرى منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل. وسيأتي ذلك مفسراً في أبوابه إن شاء الله تعالى.

الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام، فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة مالا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفر الرجاء.
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمق الوجوه، ويحصل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب، وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته.

ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية. وإذا أرضى فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها.
وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان أعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه.
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين يقنع به المشتاق.

وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهى به وطالت مدته فيه ثم عرى عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأبي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته.ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه.

الوشي
ومن آفات الحب الوشي، وهو على ضربين أحدهما واش يريد القطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوءة، على أنه السم الذعاف والصاب الممقر والحتف القاصد والبلاء الوارد. وربما لم ينجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الوشي فإلى المحبوب، وأما الحب فهيهات، حال الجريض دون القريض. ومنع الحرب من الطرب، شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوشاة ذلك، وإنما يقصون إلى الخلي البال، الصائل بحوزة الملك، المتعتب عند أقل سبب.
وإن للوشاة ضروباً من التنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر، وهذا مكان صعب المعاناة، بطيء البرء إلا أن يوافق معارضاً للمحب في محبته وهذا أمر بوجب النفار، فلا فرج للمحبوب إلا بأن تساعده الأقدار بالإطلاع على بعض أسرار من يحب،
وربما ذكر الواشي أن ما يظهر المحب من المحبة ليست بصحيحة، وأن مذهبه في ذلك شفاء نفسه وبلوغ وطره. وهذا فصل وإن كان شديداً في النقل فهو أيسر معاناة مما قبله، فحالة المحب غير حالة المتلذذ، وشواهد الوجد متفرقة بينهما.
والثاني واش يسعى للقطع بين المحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به وهذا أشد شيء وأقطعه وأجزم لاجتهاد الواشي واستفادة جهده.
ومن الوشاة جنس ثالث، وهو واش يسعى بهما جميعاً ويكشف سرهما، وهذا لا يلتفت إليه إذا كان المحب مساعداً.
فمن خاف إن سلك طريق النصيحة أن يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يرده من أموره دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلاً له وسراجاً يستضيء به، فحيثما سلك به سلك وحيثما أوقفه وقف. فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق وأدري بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه؛ وباحث بقياسه في ظنه.

الوصل
ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع. بل هو الحياة المجدة، والعيش السني، والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني؛ ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس ما للوصل؛ لا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه. وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام.

ومن لذيذ معاني الوصل المواعيد، وإن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شغاف القلب، وهو ينقسم قسمين، أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه وفيه أقول قطعة، منها:
أسامر البدر لما أبطأت وأرى * في نوره من سنا إشراقها عرضاً
فبت مشترطاً والود مختلطاً * والوصل منبسطاً والهجر منقبضاً​

والثاني انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه، وإن لمبادئ الوصل وأوائل الإسعاف لتولجاً على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان ممتحنا بهوى في بعض المنازل المصاقبة فكان يصل متى شاء بلا مانع ولا سبيل إلى غير النظر والمحادثة زماناً طويلاً، ليلا متى أحب ونهاراً، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكنته بإسعاد بعد يأسه، لطول المدة ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحاً، وما كاد يتلاحق كلامه سروراً، فقلت في ذلك:
برغبة لو إلى ربي دعوت بها * لكان ذنبي عند الله مغفوراً
ولو دعوت بها أسد الفلا لغدا * إضرارها عن جميع الناس مقصوراً
فجاد باللثم لي من بعد منعته * فاهتاج من لوعتي ما كان مغموراً
كشارب الماء كي يطفي الغليل به * فغص فانصاع في الأجداث مقبوراً​

خبر: وإني لأعرف جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء، وهو لا علم عنده، وكثر غمها وطال أسفها إلى أن ضنيت بحبه، وهو بغرارة الصبي لا يشعر. ويمنعها من إبداء أمرها إليه الحياء منه لأنها كانت بكراً بخاتمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه. فلما تمادى الأمر وكانا إلفين في النشأة، شكت ذلك إلى امرأة جزلة الرأي كانت تثق بها لتوليها تربيتها، فقالت لها: عرضي له بالشعر. ففعلت المرة بعد المرة وهو لا يأبه في كل هذا، ولقد كان لقناً ذكياً لم يظن ذلك فيميل إلى تنتيش الكلام بوهمه، إلى أن عيل صبرها وضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردين، ولقد كان يعلم الله عفيفاً متصاوناً بعيداً عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بدرت إليه فقبلته في فمه ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي:
كأنها حين تخطو في تأودها * قضيب نرجسة في الروض مياس
كأنما خلدها في قلب عاشقها * ففيه من وقعها خطر ووسواس
كأنما مشيها مشي الحمامة لا * كد يعاب ولا بطء به باس​

فبهت وسقط في يده وفت في عضده ووجد في كبده وعلته وجمة، فما هو إلا أن غابت عنه ووقع في شرك الردى واشتعلت في قلبه النار وتصعدت أنفاسه وترادفت أرجاله وكثر قلقه وطال أرقه، فما غمض تلك الليله عيناً، وكان هذا بدء الحب بينهما دهراً، إلى أن جذت جملتها يد النوى. وإن هذا لمن مصائد إبليس ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد ألا من عصمه الله عز وجل.

ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً.

الهجر
ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب: فأولها هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه مقبلاً بالحديث على غيره معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته. وترى المحب أيضاً كذلك. ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكناً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها.

ثم هجر يوجبه التذلل، وهو ألذ من كثير الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه، واستحكام البصيرة في صحة عقده فحينئذ يظهر المحبوب هجراناً ليرى صبر محبه، وذلك لئلا يصفو الدهر البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حل، لكن مخافة أن يترقى الأمر إلى ما هو أجل، يكون ذلك الهجر سبباً إلى غيره، أو خوفاًً من آفة حادث ملل.

ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة وسرور الرضى يعدل ما مضى، فإن لرضى المحبوب بعد سخطه لذة في القلب لا تعدلها لذة. وموقفاً من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أرقام في فكر ألذ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبعد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واش، واجتمع فيه محبان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما وطال ذلك قليلاً، وبدأ بعض الهجر ولم يكن ثم مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المحب في الاعتذار والخضوع والتذلل والأدلة بحجته من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطوراً يدلي ببراءته، وطوراً يرد بالعفو ويستدعى المغفرة ويقر بالذنب ولا ذنب له، ولاحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي وربما أدامه فيه ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضى. ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، ويقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، ولو كان فكيف ولا ذنب، وختما أمرهما بالوصل الممكن وسقوط العتاب والإسعاد وتفرقا على هذا.
هذا مكان تتقاصر دونه الصفات وتتلكن بتحديده الألسنة؛ ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء. وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجحاً ولا أعظم سروراً بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له.

وحضرت مقام المعتذين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء. ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وأنفذ من السيف، لا أجيب إلى الدنية ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفنن القول فنوناً، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي.
والتجني بعض عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.
ويقع فيه الهجر والعتاب. ولعمري إن فيه إذا كان قليلاً للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجني، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدمة الصد، وإنما يستحسن إذا لطف وكان أصله الإشفاق.
ثم هجر يوجبه الوشاة، وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سبباً للمقاطعة البتة.
ثم هجر الملل، والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دهى به ألا يصفو له صديق، ولا يصح له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف، ولا تطول مساعدته لمحب، ولا يعتقد منه ود ولا بغض. وأولى الأمور بالناس ألا يغروه منهم وأن يفروا عن صحبته ولقائه. فلن يظفروا منه بطائل، ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المحبين وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجني والتظني. والتعرض للمقاطعة. وأما من تزيا باسم الحب وهو ملول فليس منهم، وحقه ألا يتجرع مذاقه، وينفي عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم.

وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلباً منها على أبي عامر محمد بن عامر رحمه الله، فلو وصف لي واصف بعض ما علمته منه لما صدقته وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة، وأقلهم صبراً على المحبوب وعلى المكروه والصد، وانقلابهم على الود على قدر تسرعهم إليه. فلاتثق بملول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها بالرجاء في وفائه. فإن دفعت إلى محبته ضرورة فعده ابن ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلونه، وقابله بما يشاكله.

فيجب على من امتحن بمخالطة من هذه صفته على أي وجه كان ألا يستفرغ عامة جهده في محبته، وأن يقيم اليأس من دوامه خصما لنفسه؛ فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعة أياماً حتى ينشط باله، ويبعد به عنه، ثم يعاوده، فربما دامت المودة مع هذا. وفي ذلك أقول:
لا ترجون ملولاً * ليس الملول بعده
ود الملول فدعه * عارية مسترده​
ومن الهجر ضرب يكون متوليه المحب، وذلك عندما
يرى من جفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه، فيرى الموت ويتجرع غصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية مايكره، فينقطع وكبده تتقطع، وفي ذلك أقول:
هجرت من أهواه لا عن قلى * يا عجباً للعاشق الهاجر
لكن عيني لم تطق نظرة * إلى محبا الرشأ الغادر
فالموت أحلى مطمعاً من هوى * يباح للوارد والصادر
وفي الفؤاد النار مذكية * فاعجب لصب جزع صابر
وقد أباح الله في دينه * تقية المأسور للآسر
وقد أحل الكفر خوف الردى * حتى ترى المؤمن كالكافر​

هجر القلى، وهنا ضلت الأساطير ونفدت الحيل وعظم البلاء؛ وهو الذي خلى العقول ذواهل، فمن دهى بهذه الداهية فليتصد لمحبوب محبوبه، وليتعمد ما يعرف أنه يستحسنه. ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب. فإن لم يقدر المرء على استصرافه فليتعمد السلوان وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، ويسعى في نيل رغبته على أي وجه أمكنه.

ما أقبح الهجر بعد وصل * وأحسن الوصل بعد هجر
كالو فر تحويه بعد فقر * والفقر يأتيك بعد وفر


الوفاء
ومن حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وفي ذلك أقول قطعة منها:
أفعال كل أمرئ تنبى بعنصره * والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا
ومنها:
وهل ترى قط دفلى أنبتت عنباً * أو تذخر النحل في أوكارها الصبرا
وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان وصفاته المطبوعة والتطبع وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعد الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلم فيما رغبته من أمر الحب فقط. وهذا أمر كان يطول جداً إذ الكلام فيه يتفتن كثيراً.

ثم مرتبة ثانية وهو الوفاء لمن غدر، وهي للمحب دون المحبوب، وليس للمحبوب هاهنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خطة لا يطيقها إلا جلد قوي واسع الصدر حر النفس عظيم الحلم جليل الصبر حصيف العقل ماجد الخلق سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوفها جدا وتفوتها بعداً. وغاية الوفاء في هذه الحال ترك مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيء المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جر حبل الصحبة ما أمكن، ورجيت الألفة، وطمع في الرجعة، ولاحت للعودة أدنى مخيلة، وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة. فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ حينئذ والسلامة من غرك والأمن من ضرك والنجاة من أذاك، وأن يكون ذكر ما سلف مانعاً من شفاء الغيظ فيما وقع، فرعى الأذمة حق وكيد على أهل العقول، والحنين إلى ما مضى وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء وهذه الصفة حسنة جداً وواجب استعمالها في كل وجه من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حال كانت.
ثم مرتبة ثالثة وهي الوفاء مع اليأس البات، وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون. وإن الوفاء في هذه الحالة لأجل وأحسن منه في الحياة ومع رجاء اللقاء.

الغدر
وكما أن الوفاء من سرى النعوت ونبيل الصفات، فكذلك الغدر من ذميمها ومكروها، وإنما يسمى غدراً من البادي. وأما المقارض بالغدر على مثله، وإن استوى معه في حقيقة الفعل فليس بغدر ولا هو معيباً بذلك، والله عز وجل يقول: (وجزاء سيئة سيئة مثلها). وقد علمنا أن الثانية ليست بسيئة ولكن لما جانست الأولى في الشبه أوقع عليها مثل اسمها، وسيأتي هذا مفسراً في باب السلو إن شاء الله. ولكثرة وجود الغدر في المحبوب استغرب الوفاء منه فصار قليله الواقع منهم يقاوم الكثير الموجود في سواهم. وفي ذلك أقول:
قليل وفاء من يهوى يجل * وعظم وفاء من يهوى يقل
فنادرة الجبان أجل مما * يجيء به الشجاع المستقل​

ومن قبيح الغدر أن يكون للمحب سفير إلى محبوبه يستريح إليه بأسراره فيسعى حتى يقلبه إلى نفسه ويستأثر به دونه.

البين
وقد علمنا أنه لا بد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سألت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق.
والبين ينقسم أقساماً: فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجي في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة، وأنا أعلم من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه.
ثم بين منع من اللقاء، وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا ولو كان من تحبه ومعك في دار واحدة فهو بين: لأنه بائن عنك. وإن هذا ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً، وفي ذلك أقول:
أرى دارها في كل حين وساعة * ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار وأهلها * على وصلهم مني رقيب مراقب
فيالك جار الجنب أسمع حسه * وأعلم أن الصين أدنى وأقرب
كصاد يرى ماء الطوى بعينه * وليس إليه من سبيل يسبب
كذلك من في الحد عنك مغيب * وما دونه إلا الصفيح المنصب​

ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ.
ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول أو مطرح على قدر الجافز له إلى الرحيل.
بين رحيل وتباعد ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يحدث تلاق. وهو الخطب الموجع، والهم المفظع، والحادث الأشنع، والداء الدوي. وأكثر ما يكون الهلع فيه إذا كان النائي و المحبوب، وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيراً.
وإن للأوبة من البين الذي تشفق منه النفس لطول مسافته وتكاد تيأس من العودة فيه، لروعة تبلغ مالا حد وراءه وربما قتلت. وإني لأعلم من نأت دار محبوبه زمناً ثم تيسرت له أوبة فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه، حتى دعته نوى ثانية فكاد أن يهلك.

ويقع في هذين الصنفين من البين الوداع، أعني رحيل المحب أو رحيل الحبوب. وإنه لمن المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البين يجب التكلم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفاً يموت في ساعة الوداع لكان معذوراً إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدل السرور بالحزن. وإنها ساعة ترق القلوب القاسية، وتلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب، وموصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركة الوجه في ضد هذا.

والإشارة بالعين والتبسم ومواطن الموافقة والوداع ينقسم قسمين، أحدهما لا يتمكن فيه إلا بالنظر والإشارة، والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعله كان لا يمكن قبل ذلك البتة مع تجاور المحال وإمكان التلاقي، ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي، فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أياماً وشهوراً وربما أعواماً، وهذا سوء من النظر ومعوج من القياس، وإنما أثنيت على النوى في شعري تمنياً لرجوع يومها، فيكون في كل يوم لقاء ووداع. على أن تحمل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عند ما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها، يرغب المحب عن يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم.
وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً، ولقد رأيت من كان حبه مكتوما وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي.

ثم بين الموت وهو الفوت، وهوى الذي لا يرجى له إياب، وهو المصيبة الحالة وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو الويل، وهو المغطى على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء، وماحي كل طمع والمؤيس من اللقاء. وهنا حادث الألسن؛ وانجذام حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعاً أو كرهاً. وهو أجل ما يبتلي به المحببون، فما لمن دعى به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلف أو يمل، فهي القرحة التي لا تنكي، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغم الذي يتجدد على قدر بلاء من اعتمدته،

وعني أخبرك أني أحد من دهى بهذه الفادحة وتعدلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نعم. وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها لأقدار واحترمتها الليالي ومر النهر وصارت ثالثة التراب والأحجار. وسيء حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها.
وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن. ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً طائعاً وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها. ولقد عفى حي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده.


واختلف الناس في أي الأمرين أشد: البين أم الهجر? وكلاهما مرتقى صعب ومرت أحمر وبلية سوداء وسنة شهباء. وكل يستبشع من هذين ما ضاد طبعه، فأما ذو النفس الأبية، الألوف الحنانة، الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مصيبة البين، لأنه أتى قصداً، وتعمدته النوائب عمداً، فلا يجد شيئاً يسلى نفسه ولا يصرف فكرته في معنى من المعاني إلا وجد باعثاً على صبابته؛ ومحركاً لأشجانه، وعليه لا له، وحجة لوجوده. وخاضا على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو، ورائد الإقلاع.
وأما ذو النفس التواقة الكثيرة النزوع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه وجالب حتفه. والبين له مسلاة ومنساة.
وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط.
ولقد رأيت من يستعمل هجر محبوبه ويتعمده خوفاً من مرارة يوم البين وما يحدث به من لوعة الأسف عند التفرق، وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة. على أن البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفاً من البين، ولم أجد أحداً في الدنيا يلوذ بالبين خوفاً من الهجر، إنما يأخذ الناس أبداً الأسهل ويتكلفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لأن أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها ولعل ما تخوفوه لا يكون وليس من يتعجل المكروه، وهو على غير يقين مما يتعجل، بحكيم،
ولا بد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد! وإن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجا، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن.

فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومن سرى ما يسنح في الدهر مع ما تبدى من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منها مما نفس صاحبه. وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع. والوجه الثاني أن يزور المحبوب محبه. ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر.
فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وإني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بأن يسلى نفسه في وعده وإن كان غير صادق.

ومن القنوع أن يسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه، وإن له من النفس لموقعاً حسناً وإن لم يكن فيه إلا ما نص الله تعالى علينا، ومن ارتداد يعقوب بصيراً حين شم قميص يوسف عليهما السلام،
وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك لتكون تذكرة عند البين.
وأما تهادي المساويك بعد مضغها والمصطكي إثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء
. وفي ذلك أقول قطعة منها:
أرى ريقها ماء الحياة تيقناً * على أنها لم تبق لي في الهوى حشى​

ومن القنوع الرضا مزار الطيف، وتسليم الخيال. وهذا إنما يحدث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي. فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرى الطيف.
وللشعراء في علة مزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى، مخترعة، سبق إلى معنى من المعاني، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم، فلهم فضل التقدم والسابقة إنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداء بهم وجريا في ميدانهم وتتبعاً لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا، أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة:
أغار عليك من إدراك طرفي * وأشفق أن يذيبك لمس كفي
فأمتنع اللقاء حذار هذا * وأعتمد التلاقي حين أغفي
فروحي إن أنم بك ذو انفراد * من الأعضاء مستتر ومخفي
ووصل الروح ألطف فيك وقعاً * من الجسم المواصل ألف ضعف​

وحال المزور في المنام ينقسم أقساماً أربعة: أحدهما محب مهجور قد تطاول غمه، ثم رأى في هجعته أن حبيبه وصله فسر بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسف وتلهف حيث علم أن ما كان فيه أماني النفس وحديثها.
والثاني محب مواصل مشفق من تغير يقع، قد رأى في وسنه أن حبيبه يهجره فاهتم لذلك هماً شديداً، ثم هب من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق: والثالث محب داني الديار يرى أن النتائي قد فدحه، فيكترث ويوجل ثم ينتبه فيذهب مابه ويعود فرحاً.

والرابع محب نائي المزار، يرى أن المزار قد دنا، والمنازل قد تصاقبت فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سنته فيرى أن ذلك غير صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم، وقد جعلت في بعض قولي علة النوم والطمع في طيف الخيال، ومن القنوع أن يقنع المحب بالنظر إلى الجدران ورؤية الحيطان التي تحتوي على من يحب، وقد رأينا من هذه صفته.

ومن القنوع فصل أورده وأستعيذ بالله منه ومن أهله، واحمده على ما عرف نفوسنا من منافرته، وهو أن يضل العقل جملة، ويفسد القريحة، ويتلف التمييز ويهون الصعب، ويذهب الغيرة، ويعدم الأنفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب. وقد عرض هذا لقوم أعاذنا الله من البلاء. وهذا لا يصح إلا مع كلبية في الطبع، وسقوط من العقل الذي هو عيار على ما تحته، وضعف حس. ويؤيد هذا كله حب شديد معم. فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودخول بعضها في بعض نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح، وأما رجل معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعد من الثريا ولو مات وجداً وتقطع حباً

الضنى
ولا بد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل، إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى، من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً، والأعراض الواقعة من المحبة غير العلل الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد.
وإني لأعرف جارية من ذوات المناصب والجمال والشرف من بنات القواد، وقد بلغ بها حب فتى من إخواني جداً من أبناء الكتاب مبلغ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط. واشتهر الأمر وشاع جداً حتى علمه الأباعد، إلى أن تدوركت بالعلاج، وهذا إنما يتولد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وترك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوله والجنون، وإذا أغفل التداوي في الأول إلى المعاناة قوى جداً ولم يوجد له دواء سوى الوصال. ومن بعض ما كتبت إليه قطعة، منها:
قد سلبت الفؤاد منها اختلاساً * أي خلق يعيش دون فؤاد
فأغثها بالوصل تحي شريفاً * وتفز بالثواب يوم المعاد
وأراها تعتاض أن دام هذا * من خلاخيلها حلي الأقياد
أنت حقاً متيم الشمس حتى * عشقها بين ذا الورى لك بادي​

خبر: وحدثني جعفر مولى أحمد بن محمد بن جدير، المعروف بالبلبيني: أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن جدير وذهاب عقله اعتلاقه بجارية لأخيه، فمنعها وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدباً منه.
وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، أن سبب جنون يحيى بن أحمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات.
فهذان رجلان جليلان مشهوران فقدا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مخطئة يوم دخول البربر قرطبة وانتهائهم إليها، فتوفى رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حي على حالته المذكورة في حين كتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مراراً وجالسته في القصر قبل أن يمتحن بهذه المحنة. وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللغوي. وكان يحيى لعمري حلواً من الفتيان نبيلاً.
وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيراً، ولكن لم نسمهم لخفائهم وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد أنيت الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة وتغلبت الآفة. أعاذنا الله من البلاء بطوله، وكفانا النقم منه.

السلو
وقد علمنا أن كل ماله أول فلا بد من آخر، حاشى نعيم الله عز وجل، الجنة لأوليائه وعذابه بالنار لأعدائه. وأما أعراض الدنيا فنافذة فانية وزائلة مضمحلة، وعاقبة كل حب إلى أحد أمرين: إما احترام منية، وإما سلو حادث.

والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين: سلو طبيعي، وهو المسمى بالنسيان يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط: وهذا القسم ربما لحق صاحبه الذم لأنه حادث عن أخلاق ومذمومة، وعن أسباب غير موجبة استحقاق النسيان. وستأتي مبينة إن شاء الله تعالى، وربما لم تلحقه اللائمة لعذر صحيح والثاني سلو تطبعي، قهر النفس، وهو المسمى بالتصبر، فترى المرء يظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغاً من وخز الإشفي، ولكنه يرى بعض الشر أهون من بعض، أو يحاسب نفسه بحجة لا تصرف ولا تكسر وهذا قسم لا يذم آتيه، ولا يلام فاعله لأنه لا يحدث إلا عن عظيمة، ولا يقع إلا عن فادحة، إما لسبب لا يصبر على مثله الأحرار، وإما لخطب لا مرد له تجري به الأقدار وكفاك من الموصوف به أنه ليس بناس لكنه ذاكر، وذو حنين واقف على العهد، ومتجزع مرارات الصبر، والفرق العامي بين المتصبر والناسي، أنك ترى المتصبر وإن أبدي غاية الجلد وأظهر سب محبوبه والتحمل عليه، يحتمل ذلك من غيره. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
دعوني وسبي للحبيب فإنني * وإن كنت أبدي الهجر لست معادياً
ولكن سبى للحبيب كقولهم * أجاد فلقاه الإله الدواهيا​
والناس ضد هذا، وكل هذا فعلى قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها وقوة تمكن الحب من القلب أو ضعفه، وفي ذلك أقول، وسميت السالي فيه المتصبر، قطعة منها:
ناسي الأحبة غير من يسلوهم * حكم المقصر غير حكم المقصر
ما قاصر للنفس غير مجيبها * ما الصابر المطبوع كالمتصبر​

والأسباب الموجبة للسلو المنقسم هذين القسمين كثيرة، وعلى حسبها وبمقدار الواقع منها يعذر للسالي ويذم.
فمنها الملل، وقد قدمنا الكلام عليه، وإن من كان سلوه عن ملل فليس حبه حقيقة، والمتسم به صاحب دعوى زائفة، وإنما هو طالب لذة ومبادر شهوة، والسالي من هذا الوجه ناس مذموم0 ومنها الاستبدال، وهو وإن كان يشبه الملل ففيه معنى زائد، وهو بذلك المعنى أقبح من الأول وصاحبه أحق بالذم.
ومنها حياء مركب يكون في المحب يحول بينه وبين التعريض بما يجد، فيتطاول الأمر، وتتراخى المدة، ويبلى جديد المودة، ويحدث السلو. وهذا وجه إن كان السالي عنه ناسياً فليس بمنصف، إذ منه جاء سبب الحرمان، وإن كان متصبراً فليس بملوم، إذ آثر الحياء على لذة نفسه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء من الإيمان والبذاء من النفاق). وحدثنا أحمد بن محمد عن أحمد بن مطرف عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك عن سلمة بن صفوان الزرقي عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء.
فهذه الأسباب الثلاثة أصلها من المحب وابتداؤها من قبله، والذم لاصق به في نسيانه لمن يحب.
ثم منها أسباب أربعة هن من قبل المحبوب وأصلها عنده، فمنها: الهجر، وقد مر تفسير وجوهه. ولا بد لنا أن نورد منه شيئاً في هذا الباب يوافقه، والهجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت المفارقة يكون باباً إلى السلو وليس من وصلك ثم قطعك لغيرك من باب الهجر في شيء، لأنه الغدر الصحيح، ولا من مال إلى غيرك دون أن يتقدم لك معه صلة من الهجر أيضاً في شيء، إنما ذاك هو النفار. وسيقع الكلام في هذين الفصلين بعد هذا إن شاء الله تعالى. لكن الهجر ممن وصلك ثم قطعك لتنقيل واش، ولذنب واقع، أو لشيء قام في النفس، ولم يمل إلى سواك ولا أقام أحداً غيرك مقامك. والناس في هذا الفصل من المحبين ملوم دون سائر الأسباب الواقعة من المحبوب؛ لأنه لا تقع حالة تقيم العذر في نسيانه، وإنما هو راغب عن وصلك، وهو شيء لا يلزمه. وقد تقدم من أذمة الوصال وحق أيامه، ما يلزم التذكر ويوجب عهد الألفة، ولكن السالي على جهة التصبر والتجلد ها هنا معذور، إذا رأى الهجر متمادياً ولم ير للوصال علامة ولا للمواجهة دلالة. وقد استجاز كثير من الناس أن يسموا هذا المعنى غدراً، إذ ظاهرهما واحد، ولكن علتيهما مختلفتان. فلذلك فرقنا بينهما في الحقيقة.

ثم الأسباب الثلاثة الباقية التي هي من قبل المحبوب، فالمتصبر من الناس فيها غير مذموم. لما ستورده إن شاء الله في كل فصل منها.
فمنها نفار يكون في المحبوب وانزواه قاطع للأطماع.
خبر:
وإني لأختر عني أني ألفت في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأت في دارنا وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاماً؛ وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثها، عديمة الهزل؛ منيعة البذل بديعة البشر، مسبلة الستر؛ فقيدة الذام، قليلة الكلام؛ مغضوضة البصر، شديدة الحذر؛ نقية من العيوب، دائمة القطوب؛ حلوة الإعراض، مطبوعة الانقباض مليحة الصدود، رزينة العقود؛ كثيرة الوقار، مستلذة النفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها. تزدان في المنع والبخل، مالا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تحسن العود إحساناً جيداً فجنحت إليها وأحببتها حباً مفرطاً شديداً، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة، فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما تصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي رحمه الله من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله، فلبئن صدراً من النهار ثم تنقلن إلى قصة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها، مفتحة الأبواب. فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن فإني لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنساً بقربها متعرضاً للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عدداً كثيراً. وإذ كلهن يتنقلن من باب إلى باب لسبب الإطلاع من بعض الأبواب على جهات لا يطلع من غيرها عليها وأعلم أن قيافة النساء فيمن يميل إليهن أنفذ من قيافة مدلج في الآثار. ثم نزلن إلى البستان فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:
إني طربت إلى شمس إذا غربت * كانت مغاربها جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية * كأن أعطافها طي الطوامير
لست من الإنس إلا في مناسبة * ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة والجسم عبهرة * والريح عنبرة والكل من نور
كأنها حين تخطو في مجاسدها * تخطوعلى البيض أوحد للقوارير​

فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها، وفي ذلك أقول:

لا تلمها على النفار ومنع ال * وصل ما هذا لها بنكير
هل يكون الهلال غير بعيد * أو يكون الغزال غير نفور​
وأقول:
منعت جمال وجهك مقلتيا * ولفظك قد ضننت به عليا
أراك نذرت للرحمن صوماً * فلست تكلمين اليوم حياً
وقد غنيت للعباس شعراً * هنيئاً ذا لعباس هنياً
فلو يلقاك عباس لأضحى * لفوز قانيا وبكم شجياً​

ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة. وانتقلت أنا بانتقاله، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والإستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس، وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقينا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة. واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. وقد ارتفعت الواعية، قائمة في المأتم وسط النساء في جملة البواكي والنوادب فلقد أثارت وجداً دفيناً وحركت ساكناً، وذكرتني عهداً قديماً وحباً تليداً ودهراً ماضياً وزمناً عافياً وشهوراً خوالي وأخباراً بوالي ودهوراً فواني وأياماً قد ذهبت وآثاراً قد دثرت، وجددت أحزاني وهيجت بلابلي، على أني كنت في ذلك الهنار مرزاً مصاباً من وجوه، وما كنت نسيت لكن زاد الشجى وتوقدت اللوعة وتأكد الحزن وتضاعف الأشف، واستجلب الوجد ما كان منه كامناً فلباه مجيباً. فقلت قطعة، منها:
يبكي لميت مات وهو مكرم * وللحي أولى بالدموع الذوارف
فيا عجباً من آسف لا مرئ ثوى * وما هو للمقتول ظالماً بآلف​

ثم ضرب الدهر ضربانه وأجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة وغابت عن بصرى بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر، ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة وقد تغير أكثر محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وغاض ذلك الماء الذي كان يرى كالسيف الصقيل والمرآة الهندية، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنوراً، ويرتاد فيه متخيراً، وينصرف عنه متحيراً. فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا ولتبذلها في الخروج فيما لا بد لها منه مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبنية متى لم يهتبل بها استهدمت، ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقاً وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقى بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغير، مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء وعدم الكن، وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس لخولطت طرباً أو لمت فرحاً، ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني.

وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه في كلا الوجهين معذور وغير ملوم؛ إذ لم يقع تثبت يوجب الوفاء، ولا عهد يقتضي المحافظة، ولا سلف ذمام، ولا فرط تصادف يلام على تضييعه ونسيانه.
ومنها جفاء يكون من المحبوب، فإذا أفرط فيه وأسرف وصادف من المحب نفساً لها بعض الأنفة والعزة تسلى، وإذا كان الجفاء يسيراً منقطعاً أو دائماً أو كبيراً منقطعاً أحتمل وأغضى عليه، حتى إذا كثر ودام فلا بقاء عليه. ولا يلام الناس لمن يحب في مثل هذا.

ومنها الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد، ولا يغضى عليه كريم، وه المسلاة حقاً. ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه. ولا أن القلوب بيد مقلبها لا إله إلا هو ولا يكلف المرء صرف قلبه ولا إحاطة استحسانه، ولا ذاك لقلت إن المتصبر في سلوه مع الغدر يكاد أن يستحق الملامة والتعنيف. ولا أدعى إلى السلو عند الحر النفس وذوي الحفيظة والسرى السجايا من الغدر، فما يصبر عليه إلا دنيء المروءة خسيس الهمة ساقط الأنفة، وفي ذلك أقول قطعة، منها:
هواك فلست أقربه غرور * وأنت لكل من يأتي سرير
وما إن تصبرين على حبيب * فحولك منهم عدد كثير
فلو كنت الأمير لما تعاطى * لقاءك خوف جمعهم الأمير
رأيتك كالأماني ما على من * يلم بها ولو كثروا غرور

ولا عنها لمن يأتي دفاع * ولو حشد الأنام لهم نفير​

سبب ثامن، وهو لا من المحب ولا من المحبوب، ولكنه من الله تعالى، وهو اليأس. وفروعه ثلاثة: إما موت، وإما بين لا يرجى معه أوبة، وإما عارض يدخل على المتحابين بعلة المحب التي من أجلها وثق المحبوب فيغيرها.
وكل هذه الوجوه من أسباب السلو والتصبر، وعلى المحب الناسي في هذا الوجه المنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة من الغضاضة والذم واستحقاق اسم اللوم والغدر غير قليل، وإن لليأس لعملاً في النفوس عجيباً. وثلجاً لحر الأكباد كبيراً. وكل هذه الوجوه المذكورة أولاً وآخراً فالتأني فيها واجب، والتربص على ِأهلها حسن، فيما يمكن فيه التأني ويصح لديه التربص، فإذا انقطعت الأطماع وانحسمت الآمال فحينئذ يقوم العذر.

فجميع فصول هذا الباب كما ترى ثمانية: منها ثلاثة هي من المحب، اثنان منها يذم السالي فيهما على كل وجه، وهما الملل والاستبدال، وواحد منها يذم السالي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الحياء كما قدمنا. وأربعة من المحبوب، منها واحد يذم الناي فيه ولا يذم المتصبر، وهو الهجر الدائم. وثلاثة لا يذم السالي فيها على أي وجه كان ناسياً أو متصبراً، وهي النفار والجفاء والغدر. ووجه ثامن وهو من قبل الله عز وجل، وهو اليأس إما بموت أو بين أو آفة تزمن. في هذه معذور

وعني أخبرك أني جبلت على طبيعتين لا يهنئني معهما عيش أبداً، وإني لأبرم بحياتي باجتماعهما وأود التثبت من نفسي أحياناً لأفقدها أنا بسببه من النكد من أجلهما، وهما: وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والعيب، والباطن والظاهر، تولده الألفة التي لم تعزف بها نفسي عما دربته، ولا تتطلع إلى عدم من صحبته، وعزة نفس لاتقر على الضيم، مهتمة لأقل ما يرد عليها من تغير المعارف مؤثرة للموت عليه. فكل واحدة من هاتين السجيتين تدعو إلى نفسها وإني لأجفى فأحتمل، وأستعمل الأناة الطويلة، والتلوم الذي لا يكاد يطيقه أحد، فإذا أفرط الأمر وحميت نفسي تصبرت، وفي القلب ما فيه وفي ذلك أقول قطعة، منها:
لي حلتان أذاقاني الأسى جرعاً * ونغصا عيشي واستهلكا جلدي
كلتاهما تطبينى نحو جبلتها * كالصيد ينشب بين الذئب والأسد
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة * فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها * صرامة فيه بالأموال والولد​


الموت
وربما تزايد الأمر ورق الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: من عشق فعف فمات فهو شهيد. وفي ذلك قطعة، منها:
فإن أهلك هوى أهلك شهيداً * وإن تمنن بقيت قرير عين
روى هذا لنا قوم ثقات * ثووا بالصدق عن جرح ومين

وأنا أخبرك عن أبي بكر أخي رحمه الله، وكان متزوجاً بعاتكة بنت قند، صاحب الثغر الأعلى أيام المنصور أبي عامر محمد بن عامر، وكانت التي لا مرمى وراءها في جمالها وكريم خلالها، ولا تأتي الدنيا بمثلها في فضائلها. وكانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لا قدر لها، فكانا لم يزالا في تغاضب وتعاتب مدة ثمانية أعوام، وكانت قد شفها حبه واضناها الوجد فيه وانحلها شدة كلفها به حتى صارت كالخيال المتوسم دنفاً، لا يلهيها من الدنيا شيء، ولا تسر من أموالها على عرضها وتكاثرها بقليل ولا كثير إذا فاتها اتفاقه معها وسلامته لها. إلى أن توفي أخي رحمه الله في الطاعون الواقع بقرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، فما انفكت منذ بان عنها من السقم الدخيل والمرض والذبول إلى أن ماتت بعده بعام في اليوم الذي أكمل هو فيه تحت الأرض عاماً. ولقد أخبرتني عنها أمها وجميع جواريها أنها كانت تقول بعده: ما يقوى صبري ويمسك رمقي في الدنيا ساعة واحدة بعد وفاته إلا سروري وتيقني أنه لا يضمه وامرأة مضجع أبداً، فقد أمنت هذا الذي ما كنت أتخوف غيره، وأعظم آمالي اليوم اللحاق به.
ولم يكن له قبلها ولا معها امرأة غيرها، وهي كذلك لم يكن لها غيره، فكان كما قدرت. غفر الله لها ورضي عنها.

قبح المعصية
قال المصنف رحمه الله تعالى: وكثير من الناس يطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم ويتبعون أهواءهم، ويرفضون أديانهم، ويتجنبوا ما حض الله تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة الهوى ويخالفون الله ربهم، ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطية فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا أن الله عز وجل ركب في الإنسان طبيعتين متضادتين: إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل.
والثانية: ضد لها لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة. والله تعالى يقول: (إن النفس لأمارة بالسوء). وكنى بالقلب عن العقل فقال: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد). وقال تعالى: (وحبب ألكم الإيمان وزينه في قلوبكم). وخاطب أولي الألباب.
وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد، ثنا وهب بن مسرة ومحمد بن أبي دليم عن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: (من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة). فسئل عن ذلك فقال: (ما بين لحييه وما بين رجليه).

وإني لأسمع كثيراً ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولاً لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواه، وما رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك ولم يكن ثم من مانع إلا وقع في شرك الشيطان واستهوته المعاصي واستفزه الحرص وتغوله الطمع، وما امرأة دعاها رجل بمثل هذه الحالة إلا وأمكنته، حتماً مقضياً وحكماً نافذا لا محيد عنه البتة.
ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجوداً. وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني الصلاح، غلطاً بعيداً
والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت. والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل الفواحش تحيلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل. والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ولا يتعرض إلى المناظر الجالبة للأهواء، ولا يرفع طرفه إلى الصور البديعة الصنعة، ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات والصالحان من الرحال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق من جاورها إلا بأن تحرك والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء.

وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا. ولهذا حرم على المسلم الالتذاذ بسماع نغمة امرأة أجنبية. وقد جعلت النظرة الأولى لك والأخرى عليك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تأمل امرأة وهو صائم حتى يرى حجم عظامها فقد أفطر). وإن فيما ورد من النهي عن الهوى بنص التنزيل لشيئاً مقنعاً. وفي إيقاع هذه الكلمة، أعني الهوى. اسماً على معان، واشتقاقها عند العرب، وذلك دليل على ميل النفوس وهويها إلى هذه المقامات. وإن المتمسك عنها مقارع لنفسه محارب لها.

وشيء أصفه لك تراه عياناً، وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلاً يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأنت بكلام زائد كانت عنه في غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك. ورأيت التهمم لمخارج لفظها وهيئة تقلبها لائحاً فيها ظاهراً عليها لا خفاء به. والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء. وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان. والله عز وجل يقول: (وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) ، وقال تقدست أسماؤه: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن). فلولا علم الله عز وجل برقة إغماضهن في السعي لإيصال حبهن إلى القلوب، ولطف كيدهن في التحيل لاستجلاب الهوى، لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى، وهذا حد التعرض فكيف بما دونه.

ولقد اطلعت من سر معتقد الرجال والنساء في هذا على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في. وحدثنا أبو عمر وأحمد بن أحمد، ثنا أحمد، ثنا محمد بن علي بن رفاعة، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الغيرة من الإيمان). فلم أزل باحثاً عن أخبارهن كاشفاً عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون منبهاً على عورات يستعاذ بالله منها لأوردت من تنبهن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب، وإني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله وكفى به علماً أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ علقت إلى يومي هذا. والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقي.

حدثنا القاضي أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حجاف المعافري، وإنه لأفضل قاض رأيته، عن محمد بن إبراهيم الطليطلي عن القاضي بمصر بكر بن العلاء في قول الله عز وجل: (وأما بنعمة ربك فحدث). أن لبعض المتقدمين فيه قولا، وهو أن المسلم يكون مخبراً عن نفسه بما أنعم الله تعالى به عليه من طاعة ربه التي هي من أعظم النعم، ولا سيما في المفترض على المسلمين اجتنابه وأتباعه. وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقصوراً محظراً على بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي عقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاس في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي شيخنا وأستاذي رضي الله عنه، وكان أبو علي المذكور عاقلاً عاملاً عالماً ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة، وأحسبه كان حصوراً لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جملة علماً وعملاً وديناً وورعاً، فنفعني الله به كثيراً وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي: ومات أبو علي رحمه الله في الطريق الحج.

ولي كلمتان قلتهما معرضاً بل مصرحاً برجل من أصحابنا كنا نعرفه كلنا من أهل الطلب والعناية والورع وقيام الليل واقتفاء آثار النساك وسلوك مذاهب المتصوفين القدماء باحثاً مجتهداً، وقد كنا نتجنب المزاح بحضرته، فلم يمض الزمن حتى مكن الشيطان من نفسه، وفتك بعد لباس النساك، وملك إبليس من خطامه فسول له الغرور، وزين له الويل والثبور، وأجره رسنه بعد إباء. وأعطاه ناصيته بعد شماس، فخب في طاعته وأوضع، واشتهر بعد ما ذكرته في بعض المعاصي القبيحة الوضرة، ولقد أطلت ملامه وتشددت في عذله إذ أعلن بالمعصية بعد استتار، إلى أن أفسد ذلك ضميره علي، وخبثت نيته لي، وتربص بي دوائر السوء، وكان بعض أصحابنا يساعده بالكلام استجراراً إليه، فيأنس به ويظهر له عداوتي، إلى أن أظهر الله سريرته، فعلمها البادي والحاضر، وسقط من عيون الناس كلهم بعد أن كان مقصداً للعلماء ومنتاباً للفضلاء، ورذل عند إخوانه جملة. أعاذنا الله من البلاء، وسترنا في كفايته، ولا سلبنا ما بنا من نعمته. فيا سوءتاه لمن بدأ باستقامة ولم يعلم أن الخذلان يحل به وأن العصمة ستفارقه، لا إله إلا الله، ما أشنع هذا وأفظعه. لقد دهمته إحدى بنات الحرس، وألقت عصاها به أم طبق. من كان لله أولاً ثم صار للشيطان آخراً، ومن إحدى الكلمتين:
أما الغلام فقد حانت فضيحته * وأنه كان مستوراً فقد هتكا
مازال يضحك من أهل الهوى عجباً * فالآن كل جهول منه قد ضحكا
إليك لا تلح صبا هائماً كلفاً * يرى التهتك في دين الهوى نسكاً
ذو مخبر وكتاب لا يفارقه * نحو المحدث يسعى حيث ما سلكا
فاعتلص من سمر أقلام بنان فتي * كأنه من لجين صبغ أو سبكاً
يا لائمي سفهاً في ذاك قل فلم * تشهد جبينين يوم الملتقى اشتبكا
دعني ووردي في الآبار أطلبه * إليك عني كذا لا أبتغي البركا
إذا تعففت عف الحب عنك وإن * تركت يوماً فإن الحب قد تركا
ولا تحل من الهجران منعقداً * إلا إذا ما حللت الأزر والتككا
ولا تصحح للسلطان مملكة * أو تدخل البرد عن إنفاذه السككا
ولا بغير كثير المسح يذهب ما * يعلو الحديد من الأصداء إن سبكا​

وكان هذا المذكور من أصحابنا قد أحكم القراءات إحكاماً جيداً، واختصر كتاب الأنباري في الوقف والابتداء اختصاراً حسناً أعجب به من رآه من المقرئين، وكان دائباً على طلب الحديث وتقييده، والمتولي لقراءة ما يسمعه على الشيوخ المحدثين، مثابراً على النسخ مجتهداً به. فلما امتحن بهذه البلية مع بعض الغلمان رفض ما كان معتنياً وباع أكثر كتبه واستحال استحالة كلية، نعوذ بالله من الخذلان، وقلت فيه كلمة وهي التالية للكلمة التي ذكرت منها في أول خبره ثم تركتها.

وهذان الفصلان وإن لم يكونا من جنس الباب فإنهما شاهدان على ما يقود إليه الهوى من الهلاك الحاضر الظاهر، الذي يستوي في فهمه العالم والجاهل؛ فكيف من العصمة التي لا يفهمها من ضعفت بصيرته. ولا يقولن امرؤ: خلوت فهو وإن انفرد فبمرأى ومسمع من علام الغيوب * (الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ، * (ويعلم السر وأخفى) ، * (وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا وهو عليم بذات الصدور). وهو عالم الغيب والشهادة، * (ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم) ، وقال: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب أليه من حبل الوريد. إذ يتلقى الملتقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

وليعم المستخف بالمعاصي. المتكل على التسويف. المعرض عن طاعة ربه أن إبليس كان في الجنة مع الملائكة المقربين فلمعصية واحدة وقعت منه استحق لعنة الأبد وعذاب الخلد وصير شيطاناً رجيماً وأبعد عن رفيع المكان وهذا آدم صلى الله عليه وسلم بذنب واحد أخرج من الجنة إلى شقاء الدنيا ونكدها. ولولا أنه تلقى من ربه كلمات وتاب عليه لكان من الهالكين.

وأن عن المعاصي لمذاهب للعقل واسعة، فما حرم الله شيئاً إلا وقد عوض عباده من الحلال ما هو أحسن من المحرم وأفضل، لا إله إلا هو.

فضل التعفف
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعل له مكاناً وأهلا لأمره ونهيه: وأرسل إليه رسله وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا.

ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها علقها فتى مثلها من الحسن وعلقته وشاع القول عليهما، فاجتمعا يوما خاليين فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله لا كان هذا أبداً. وأنا أقرأ قول الله: (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين). قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعا حلال.

ولقد حدثني ثقة من إخواني أنه خلا يوماً بجارية كانت له مفاركة في الصبى، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: كلا. إن من شكر نعمة الله فيما منحى من وصالك الذي كان أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره ولعمري إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره.

وما أقدر في هذه الأخبار - وهي صحيحة - إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين ولا في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعهم وأجابوا هاتف الفتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك نظراً لهم وعلماً بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد. لا إله إلا هو.

وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد أن قمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عز وجل لصاحبه. جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه. آمين.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور عن أحمد بن مطرف عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل؛ وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل؛ ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه؛ ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر اله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

هنا أعزك الله انتهى ما تذكرته إيجاباً لك، وتقمناً لمسرتك، ووقوفاً عند أمرك.

وأنا أعلم أنه سينكر على بعض المتعصبين على تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته، قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم).

ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً: فهذا أعزك الله أدب الله وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم وأدب أمير المؤمنين وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أنسك نسكاً أعجمياً. ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهى عنها، ولم ينسى الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.

والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني. فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار. والخلاء عن الأوطان وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف. ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد. ولا يؤدي شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا، وكل عارية فراجعة إلى معيرها. وله الحمد أولا وآخراً وعوداً وبدءا وأنا أقول:
جعلت اليأس لي حصناً ودرعاً * فلم أليس ثياب المستضام
وأكثر من جميع الناس عندي * يسير صائني دون الأنام
إذا ما صح لي ديني وعرضي * فلست لما تولى ذا اهتمام
تولى الأمس والغد لست أدري * أأدركه ففيما ذا اغتمام​

جعلنا الله وإياك من الصابرين الشكرين الحامدين الذاكرين. آمين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك
 

سيدي محمد ولد محمد المصطفى ولد أحمد

:: قيم الملتقى المالكي ::
إنضم
2 أكتوبر 2010
المشاركات
2,243
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
كرو
المذهب الفقهي
مالكي
رد: هذا مختصر كتاب طوق الحمامة

جزاك الله خيرا
هذا الكتاب من كتب الأدب الجيدة وهو أيضا ليس بالطويل ولكن لاشك بأن عصرنا هذا يقتضي اختصار كل مختصر لكي تأخذ الجولة في مواضيعه حيزا أقل من وقوت أصبحت مشغولة بأمور شتى أكثرها لا ناقة لأحدنا فيها ولا جمل ولا حول ولا قوة إلا بالله وإليه المرجع وعليه المتكل
 
إنضم
25 أكتوبر 2010
المشاركات
28
الكنية
ابو سلطان
التخصص
فقه السنة
المدينة
المدينة النبوية
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: هذا مختصر كتاب طوق الحمامة

جزاك الله خير
 
أعلى