رد: هل اتفاق بعض الصحابة على مسألة ، دون أن يعلم لهم مخالف يصير إجماعا ؟
الحمد لله وبعد :
هل اتفاق بعض الصحابة على مسألة ، دون أن يعلم لهم مخالف يصير إجماعا ؟
وأرى – حسب وجهة نظري – أن الإجماع يمكن وقوعه عادة، وخصوصا في الصدر الأول من عصر الصحابة، أما إمكان العلم به والاطلاع والوقوف عليه فلا يمكن ذلك، وأعتبره من المستحيلات، لا في عصر الصحابة ولا في غيره من العصور؛ لأن العلماء المجتهدين انتشروا في الأرض، ويصعب بل يستحيل نقل الحكم عن كل واحد منهم بعينه في خصوص مسألة معينة.
إن معرفة الإجماع والاطلاع عليه متوقفة على معرفة المجتهدين بأعيانهم، ومعرفة ما غلب على ظنهم، ومعرفة اجتماعهم عليه في وقت واحد، والوقوف على هذه الأمور الثلاثة متعذر.
أما تعذر الأول، فلأن العلماء منتشرون في الأرض شرقا وغربا كما أسلفت، ومن المتعذر عادة ضبط أقاويلهم على كثرتهم وتباعد ديارهم، على أنه يجوز خفاء بعضهم، كما يجوز أن يكون بعضهم خامل الذكر، لا يعرف أنه من المجتهدين، فلا يعرف قوله في المسألة.
وأما تعذر الثاني، فلاحتمال أن بعضهم قد يفتي بخلاف اعتقاده، خوفا من سلطان جائر مثلا.
وأما تعذر الثالث، فلاحتمال رجوع أحدهم لتغير اجتهاده قبل فتوى الآخر.
ومع وجود هذه الاحتمالات يتعذر معرفة الإجماع والاطلاع عليه.
وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم ولم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقضي بينهم، جمع رؤوس الناس وخيارهم، فاستشارهم، فإن أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر ت، فإن هذا لا يسمى إجماعا بالمعنى الأصولي، إذ مما لا ريب فيه أن رؤوس الناس وخيارهم الذين كان يجمعهم أبو بكر وعمر ب ما كانوا جميع علماء المسلمين ومجتهديهم آنذاك؛ لأنه كان منهم عدد كثير متفرقين في مكة والشام واليمن، وفي ميادين الجهاد.
هذا في عصر الصحابة، بل في العصر الأول منه، فكيف بالعصور الأخرى التي بعد، وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وزاد انتشار العلماء والمجتهدين في مشارق ومغاربها.
ولهذا أرى أنه لا يمكن الاطلاع على الإجماع بحال من الأحوال، وما نقل إلينا إنما هو اتفاق الأكثر والأغلب، وهذا ليس بإجماع، وأقصى ما يمكن أن يقال: لا يعلم في هذه الواقعة خلاف، لذا يقول أحمد بن حنبل: " ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟ فليقل: لا نعلم الناس
اختلفوا "[SUP](
[1])[/SUP].
ونحى الشافعي هذا النحو بأن ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع، فقال: " لست أقول، ولا أحد من أهل العلم: هذا مجتمع عليه، إلا لما تلقى عالما أبدا إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربعا، وكتحريم الخمر، وما أشبه هذا "[SUP](
[2])[/SUP]، حتى إن سائلا سأله: هل من إجماع؟، فقال: " نعم، بحمد الله كثير في جملة الفرائض التي لا يسع جهلها، فذلك الإجماع هو الذي لو قلت: أجمع الناس، لم تجد حولك أحدا يعرف شيئا يقول لك: ليس هذا بإجماع، فهذه الطريق التي يصدَّق بها من ادعى الإجماع فيها وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه، ودون الأصول غيرها، فأما ما ادعيت من الإجماع حيث قد أدركت التفرق في دهرك، ويحكى عن أهل كل قرن، فانظره: أيجوز أن يكون هذا إجماعا؟! "[SUP](
[3])[/SUP].
وبهذا يظهر أن الشافعي يحصر الإجماع في دائرة ضيقة، وهي: جملة الفرائض وأصول العلم والدين دون غيرها، وهذا مما لا خلاف فيه، إذ الخلاف في الاطلاع على الإجماع على الأمور الظنية الاجتهادية، فيظهر من عبارة الشافعي أن عدم العلم بالمخالف لا يعد إجماعا، ولا يعتبر علما بعدم المخالف.
والله ورسوله أعلم
([1]) إعلام الموقعين لابن القيم 2/54.
([2]) الرسالة للشافعي ص534.
([3]) جماع العلم للشافعي مع موسوعة الإمام الشافعي 15/ 49، 50.