العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

إنضم
23 يناير 2013
المشاركات
2,600
الإقامة
ميت غمر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالرحمن
التخصص
عقيدة
الدولة
مصر
المدينة
ميتغمر
المذهب الفقهي
شافعي
الحمد لله وبعد :
بينما أقرأ في نسخ القرآن بالسنة من كتاب الشيخ العالم الأصولي شيخنا الأستاذ محمد إبراهيم الحفناوي وفقه الله أستاذ ورئيس قسم أصول الفقه بجامعة الأزهر فرع طنطا .
وجدت هذا المبحث اللطيف قلت أنشره للفائدة . (الكتاب /دراسات أصولية في القرآن الكريم ) الشاملة .

قال الشيخ العمريطي رحمه الله (3):
ولم يجز أن ينسخ الكتاب ... بسنة بل عكسه صواب
وذهب الإمام أحمد رضى الله عنه فى إحدى الروايتين عنه وأكثر أهل الظاهر واشتهر- خطأ- عن الإمام الشافعى رضى الله عنه إلى
القول بأن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا.
وقبل أن أذكر أدلة المانعين لنسخ القرآن بالسنة ،
سأسوق بعض النصوص لبعض الأصوليين، والتى يفهم منها أن الإمام الشافعى رضى الله عنه قال بمنع نسخ القرآن بالسنة، ثم أبين وجه الصواب بعون الله.

قال سيف الدين الآمدى رحمه الله (1):
قطع الإمام الشافعى وأكثر أصحابه أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة.

وقال ابن الحاجب رحمه الله (2):
« .... نسخ القرآن بالخبر المتواتر. وقد اختلف فى جوازه والجمهور على جوازه ومنعه الشافعى رحمه الله.»

وقال الشوكانى رحمه الله (3):
وذهب الشافعى فى عامة كتبه كما قال ابن السمعانى إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال، وإن كانت متواترة، وبه جزم الصيرفى والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية. وقال الأستاذ أبو منصور: أجمع أصحاب الشافعى على المنع. وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز اه.
هذه أقوال بعض الأصوليين بالنسبة لموقف إمامنا الشافعى رحمه الله فى هذه المسألة.

والحق كما قال الزركشى رحمه الله (4):
والصواب أن مقصود الشافعى رحمه الله أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما أمثلة ناسخ له، وهذا تعظيم عظيم، وأدب مع الكتاب والسنة، وفهم لموقع أحدهما من الآخر، وكل من تكلم فى هذه المسألة لم يقع على مراد الإمام الشافعى رحمه الله. بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه اهـ
__________
(1) الإحكام 3/ 139.
(2) شرح العضد 2/ 197.
(3) إرشاد الفحول 191.
(4) إرشاد الفحول 192.
 
إنضم
23 يناير 2013
المشاركات
2,600
الإقامة
ميت غمر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالرحمن
التخصص
عقيدة
الدولة
مصر
المدينة
ميتغمر
المذهب الفقهي
شافعي
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

الكتاب والسنة، وفهم لموقع أحدهما من الآخر، وكل من تكلم فى هذه المسألة لم يقع على مراد الإمام الشافعى رحمه الله. بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه اهـ

وقال الإمام تاج الدين ابن السبكى رحمه الله (1):
قال الشافعى رضى الله عنه وحيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها يبين توافق الكتاب والسنة، أو نسخ السنة بالقرآن، فمعه سنة (2) عاضدة له تبين توافق الكتاب والسنة. اهـ.

فالإمام الشافعى رحمه الله يرى أنه إذا نسخ الكتاب بالسنة فلا بد أن يرد من الكتاب بعد ذلك ما يوافق تلك السنة الناسخة فى الحكم، فيكون عاضدا لها وإذا نسخت السنة بالكتاب فلا بد أن يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك الكتاب الناسخ فى الحكم، فتكون عاضدة له. ولعل فى هذا توضيحا لما قاله الإمام الشافعى رحمه الله حين قال (3): فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله. اهـ.


__________
(1) شرح الجلال على جمع الجوامع 2/ 78، 79.
(2) ليس المراد بالمعية المقارنة فى زمن النسخ بل المصاحبة فى الحكم الناسخ والموافقة فيه. إذ العاضد متأخر عن الناسخ وإلا لكان النسخ منسوبا للعاضد لا للمعضد- حاشية البنانى 2/ 79 - .
(3) الرسالة 108.
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 يناير 2013
المشاركات
2,600
الإقامة
ميت غمر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالرحمن
التخصص
عقيدة
الدولة
مصر
المدينة
ميتغمر
المذهب الفقهي
شافعي
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

فإذا ما وقع نسخ للقرآن بالسنة فلا بد أن يكون معها قرآن يعضدها.
وقد ذكر الشيخ السبكى رحمه الله ما نقله بعض الأصوليين فى هذه المسألة، ثم انتصر للإمام الشافعى رحمه الله بكلام طيب لا بأس بإيراده تتميما لفائدة .
قال رحمه الله (4):
وأما نسخ الكتاب بالسنة والسنة بالكتاب فالجمهور على جوازه ووقوعه. وذهب ابن سريج كما نقل القاضى عنه فى مختصر التقريب
إلى أنه جائز، ولكن لم يرد. وذهب قوم إلى امتناعه ونقل عن الشافعى رضى الله عنه.
وقد استنكر جماعة من العلماء ذلك من الشافعى :
حتى قال الكيا الهراسى: هفوات الكبار على أقدارهم ومن عد خطؤه عظم قدره.
وقد كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعى فى الأصول والفروع، فلما وصل إلى هذا الموضع قال: هذا الرجل كبير لكن الحق أكبر منه.
قال: والمغالون فى حب الشافعى لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره كيف وهو الذى مهد هذا الفن ورتبه، وأول من أخرجه قالوا: لا بدّ أن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا فى محامل ذكروها وأورد الكيا بعضها.
واعلم أنهم صعبوا أمرا سهلا وبالغوا فى غير عظيم، وهذا إن صح عن الإمام الشافعى رضى الله عنه فهو غير منكر، وإن جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب فذلك لا يوجب ضعفه ...
__________

(4) الإبهاج 2/ 159، 160.
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 يناير 2013
المشاركات
2,600
الإقامة
ميت غمر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالرحمن
التخصص
عقيدة
الدولة
مصر
المدينة
ميتغمر
المذهب الفقهي
شافعي
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

قال القاضى فى مختصر التقريب:
واختلف الذين منعوا نسخ القرآن بالسنة فمنهم من منعه عقلا،
ومنهم من قال يجوز (1) عقلا، وإنما امتنع بأدلة السمع.
قال القاضى: وهذا هو الظن بالشافعى رحمه الله مع علو مرتبته فى هذا الفن. قلت- والكلام للسبكى-: وهذا هو الذى قاله فى الرسالة (2) فإنه قال فى باب ابتداء الناسخ والمنسوخ: وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب وأن السنة لا ناسخة للكتاب، وإنما هى تبع للكتاب.

__________
(1) قال الدكتور/ محمد حسن هيتو فى تعليق على المنخول 193 «والحق فى ذلك أن الشافعى رضى الله عنه لم يمنع منه عقلا. بل لم يتكلم فى كتبه قط على الجواز العقلى».
(2) الرسالة 106، 108.
 
التعديل الأخير:
إنضم
23 يناير 2013
المشاركات
2,600
الإقامة
ميت غمر
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبدالرحمن
التخصص
عقيدة
الدولة
مصر
المدينة
ميتغمر
المذهب الفقهي
شافعي
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

ثم قال: وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسخها إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أحدث الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فى أمر سن فيه غير ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسن فيما أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتى قبلها مما يخالفها. اهـ.
ومن صدر هذا الكلام أخذ من نقل عن الإمام الشافعى رحمه الله أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا سنّ سنة، ثم أنزل الله فى كتابه ما ينسخ ذلك الحكم، فلا بد أن يسنّ النبى صلى الله عليه وسلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الأولى لتقوم الحجة على الناس فى كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب.
ثم قال الشيخ السبكى: هذا هو معنى القول المنسوب إلى الشافعى رحمه الله ... وأكثر الأصوليين الذين تكلموا فى ذلك لم يفهموا مراد الشافعى رضى الله عنه وليس مراده إلا ما ذكرناه. اهـ.

ا.هـ كلام الشيخ الحفناوي بنصه من الشاملة
والله الموفق .
 
التعديل الأخير:

محمد بن عبدالعزيز المبارك

:: أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ::
إنضم
1 أغسطس 2016
المشاركات
28
الكنية
أبو عبدالعزيز
التخصص
شريعة
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

أشكر الأخ الكريم لطرحه هذه المسألة؛ لما فيه من الذبّ عن الأئمة الكبار وفهم كلامهم وتوجيهه التوجيه الحسن بحسب ما كان دارجاً في زمنهم من قضايا ومصطلحات، لا محاسبتهم بما استجدّ في العصور اللاحقة عليهم...

ولعلي أدلي بدلوي في هذا المبحث النفيس .. وقد يكون في نزعي ضعف، وأرجو من الله تعالى بمنه وفضله أن يغفر لي...
حقيقة هذا المبحث تعرض له الإمام الشافعي رحمه الله بشكل صريح في الرسالة، لا تشوبه أي شائبة في معناه، وأنه ينكر نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، لكن ههنا توطئة قبل الدخول في ذلك، وتمهيد ..


  • توطئة: لماذا عقد الإمام الشافعي باباً في النسخ، ولماذا جعله بعد البيان، وحجية السنة ؟.
في الحقيقة إذا أُريد معرفة سبب عقد الإمام الشافعي لهذا الباب أصلاً، ولماذا جعله بعد تقريره لمسائل البيان وحجية السنة، فيستحسن الوقوف على ما يأتي:

  • من خلال مراجعة كتاب الأم للشافعي([1]) يلحظ أن الإمام أشار إلى مناظرة جرت بينه وبين بعض من ينكر الاحتجاج بالسنة، ويدعي ضرورة الوقوف على ما في القرآن فحسب، وفي هذه المناظرة ألزم الشافعي خصمه حجية السنة، وأنه لا سبيل له إلى تأدية فرائض الله عز وجل ولا لأحد قبله أو بعده ممن لم يشاهد النبي إلا باتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن أن الله تعالى أمر باتباع الحكمة الصادرة منه وطاعته إلى آخر ما احتج به الإمام مما سبق بيانه هنا في حجية السنة، وحينها لم يجد خصمه إلا التسليم بقوله: "قد صرت إلى أن قبول الخبر لازم للمسلمين لما ذكرتَ وما في مثل معانيه من كتاب الله، وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره إذا بانت الحجة فيه، بل أتديّن بأن عليّ الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق"، وقد ذكر الإمام في أثناء مناظرته لخصمه أن ما ذُكر بينهما من محاجّة يلزمه في ناسخ القرآن ومنسوخه، بأن يرجع فيه إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأيهما الناسخ والمنسوخ، وحين طلب الخصم مثال ذلك، قال: "قلتُ: قال الله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)، وقال في الفرائض: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس)، فزعمنا بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية الفرائض نسخت الوصية للوالدين والأقربين، فلو كنا ممن لا يقبل الخبر، فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض!، هل نجد الحجة عليه إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟".
وعليه يتبين ابتناء معرفة النسخ على حجية السنة؛ إذ لولا وقوفنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبين لنا ناسخ القرآن من منسوخه من جهة، كما أن نسخ السنة بالسنة الذي سيأتي لاحقاً يبتني على حجية السنة أصلاً.

  • وأما علاقة النسخ بالبيان، فهذا سيتبين شيء منه لاحقاً([2])، حين الكلام عن حكم نسخ القرآن بالسنة، والعكس، وبه يتضح كم كان هذا الجهبذ دقيقاً في نظرته، عميقاً في تقرير قضيته.

  • تمهيد: الإمام الشافعي وتقرير مسائل النسخ:
من خلال النظرة التاريخية لعصر الإمام الشافعي وما سبقه يلحظ كم كان هذا الفذّ محيطاً بعلم الناسخ والمنسوخ؛ ويشهد لذلك ما يلفت نظرَ المطلع على كتبه من قدرة فـائقة ومَكِنة عجيبة على استحضار النصوص، كأنها أمام عينيه ينتزع منها ما يشاء، لذا جاء تقرير أمهات مسائل النسخ عنده واضحاً وجلياً مبنياً على استقراء وتتبع واقعي، ولم يدخل في متاهات الجواز العقلي ونحوه، التي تُنقل بعض مسائلها أحياناً عنه، ولا نجد ما يشهد أنه ألقى لها بالاً أصلاً.
قال السخاوي رحمه الله :"وكان إمامنا الشافعي رحمه الله صاحب علم النسخ، له فيه اليد الطولى والسابقة الأولى، فخاض تياره وكشف أسراره، واستنبط معينه واستخرج دفينه، واستفتح بابه ورتب أبوابه،...ومع ذلك فلم نر له فيه تصنيفاً مستقلاً، إنما يوجد في غضون الأبواب من كتبه مفرقاً، وكذا في الرسالة له منه أحاديث"([3]).
وقد ورد عن محمد بن مسلم بن وارة قال: قدمت من مصر، فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلّم عليه، فقال لي: كتبتَ كتب الشافعي ؟ قلت : لا، قال: فرّطتَ، ما عرفنا المجمل من المفسَّر، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي([4]).
نص الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة: قال: وأبان اللهُ لهم أنه إنما نسَخ ما نسَخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَعٌ للكتاب، بمثلِ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل اللهُ منه جُمَلاً.
قال الله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، فأخبر اللهُ أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يُوحَى إليه، ولم يَجعل له تبديلَه مِن تِلْقاءِ نفسه، وفي قوله: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبتُ لِما شاء منه، جلّ ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحدٍ مِن خلقه، وكذلك قال: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)...
ثم قال: وفي كتاب الله دِلالةٌ عليه، قال الله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فأخبر اللهُ أنّ نسْخَ القُرآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بقرآن مثلِه.
وقال: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ).
وهكذا سنةُ رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أَحدثَ اللهُ لرسوله في أمرٍ سنَّ فيه غيَر ما سنَّ رسولُ الله: لَسَنَّ فيما أَحدث اللهُ إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها، وهذا مذكورٌ في سنته صلى الله عليه وسلم...إلخ.


  • حكم نسخ الكتاب بالسنة:
النسخ أصلاً يتعلق بالنص النقلي، فلا نسخ في غير الكتاب والسنة، لذا يقسم أهل العلم النسخ باعتبار الناسخ والمنسوخ أربعة أقسام:
الأول: نسخ القرآن بالقرآن؛ وهذا محل اتفاق بين أهل العلم على جوزاه ووقوعه.
الثاني: نسخ السنة بالسنة؛ وكذا هو محل اتفاق بين أهل العلم على جوزاه ووقوعه.
الثالث: نسخ القرآن بالسنّة.
الرابع: نسخ السنة بالقرآن.
والأخيران محلّ اختلاف كبير بين أهل العلم، وأعظم من قال بإنكار جوازهما ووقوعهما الإمام الشافعي رحمه الله، حيث ذهب إلى أن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة، لكن قبل البدء بمحاولة تحرير كلام الإمام الشافعي عن هذه المسألة الجوهرية، يحسن التقدم بين يدي ذلك ببيان أمور:

  • أن كلام الإمام الشافعي حول هذه المسألة صريح وحاسم، وقد تبناه في الرسالة القديمة والجديدة([5])، ثم إنه لم ينفرد بهذا الرأي، بل ذهب جلّة من أهل العلم إلى منع نسخ القرآن بالسنة، وعلى رأسهم تلميذه وإمام السنة وناصرها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، كما هو المنصوص عنه صريحاً، فقد سئل الإمام أحمد عن حديث: "السنة قاضية على الكتاب"، ما تفسيره؟، قال: أجبن أن أقول فيه، ولكن السنة تفسر القرآن، ولا ينسخ القرآن غير القرآن([6])، وفي رواية أخرى سُئل: هل تنسخ السنة القرآن؟، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن([7])، وقال به عامة أصحاب الإمام([8]) وابن أبي موسى وابن تيمية([9])، كما ينسب هذا القول إلى سفيان الثوري رحمه الله([10])، وعزاه ابن عبد البر رحمه الله إلى جمهور أصحاب مالك([11])، كما نُسب هذا القول إلى أصحاب الإمام الشافعي([12])، وقال به من الشافعية أبو إسحاق المروزي رحمه الله في كتابه الناسخ، حيث حكى نصّ الشافعي بالمنع وقرّره([13])، وشيخ الشافعية بخراسان أبو سهل الصعلوكي رحمه الله، وصنف كتاباً مستقلاً في نصرة هذا القول، كما قال به أبو الطيب الطبري رحمه الله([14])، والأستاذان الكبيران أبو إسحاق الإسفراييني وتلميذه أبو منصور البغدادي رحمهما الله، وخلص ابن السبكي رحمه الله إلى قوله: "فهو غير منكر، وان جبن جماعة من الأصحاب عن نصرة هذا المذهب، فذلك لا يوجب ضعفه"([15]).


  • أنه قد حصل تشنيع كبير على الإمام الشافعي واستنكار لرأيه([16])، حيث أنكر عليه ذلك جماعة من العلماء واستعظموه، حتى قال الكيا الهراسي رحمه الله: توجيهه عسر جداً، وهفوات الكبار على أقدارهم، ومن عُدّ خطؤه عَظُم قدره، وقال بعضهم: هذا الرجل كبير، لكن الحق أكبر منه([17])، وقد بلغ ببعض أهل العلم من أتباع الإمام لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره، وهو الذي مهدّ هذا الفن ورتبّه، وأول من أخرجه: أن حاولوا تأويله بشتى الطرق، "وقالوا: لا بدّ وأن يكون لهذا القول من هذا العظيم محملٌ، فتعمّقوا في محامل ذكروها...،واعلم أنهم صعّبوا أمراً سهلاً، وبالغوا في غير عظيم"([18])، لذا كان كل هذا التهويل محلَّ نظر، كما سيتضح لاحقاً.
  • أن كلام الشافعي حول هاتين المسألتين لا ينطلق من جهة ظنية ثبوت السنة كما قد يُظنّ، حتى قيل في مناقشة رأيه: إن مُنع نسخ الآكدِ بالأضعفِ هلّا جُوّز نسخ الأضعفِ بالآكدِ والأقوى!، وهذا قول من لم يحط برأي الشافعي خُبراً؛ ذلك أن الشافعي كما يبدو حين تناول مسألة الناسخ والمنسوخ من نصوص الكتاب والسنة ارتكز على أسس مهمة: تحرير المصطلحات وضبطها، والوقوع، ووظيفة السنة مع القرآن، كما سيفصّل تالياً، فلا معنى مطلقاً للاستدراك عليه بقصده منع الجواز العقلي ونحوه، فلم يكن ذلك يشغله، وليس بذي بال في نظره([19])، كما لا داعي لتهويل الأمر وتعظيمه من جهة تعظيم النصوص وتقديرها؛ لأنه في الوقت الذي يمنع نسخ الكتاب بالسنة يمنع أيضاً نسخ السنة بالكتاب، فليست القضية عائدة إلى تحجيم أحد الأصلين والعياذ بالله وحاشاه، ولا إلى قضية التواتر والآحاد، فلو كان يمنع نسخ الكتاب بالسنة لأجل أن السنة لا تقوى على ذلك لأجاز نسخها بالكتاب!، ولو كان يمنع ذلك لأجل قضية قطعية ثبوت الكتاب دون السنة، لأجاز نسخ السنة بالكتاب، ولأجاز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة!.
  • لذلك يتملك الناظر في المسألة كثير من التعجب – وأحيانا شيء من الغصّة - حين يحتج بعض الجمهور على الإمام الشافعي في تجويز نسخ القرآن بالسنة بأن الجميع وحي من الله تعالى، فالناسخ والمنسوخ من عند الله، والله هو الناسخ حقيقة، لكنه أظهر النسخ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن مثل هذه الاحتجاج غير مفهوم من وجهة نظر الإمام الشافعي في هذه المسألة، فيالله العجب، هل يُظنّ أن الشافعي بجلالة قدره وموفور علمه خفي عليه ذلك؟، وهل أنكر أن الجميع وحي!؟، كيف وقد جاء عنه أنه روى يوماً حديثاً، فقيل له: أتأخذ به؟، فقال: رأيتني خرجت من كنيسة؟!، أو عليّ زنار؟!، حتى إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لا أقول به!([20])، لكن القضية بين الشافعي وبينهم لون آخر.
هذه بعض المقدمات المهمة بين يدي هذا الموضوع الخطير الشأن([21])، وحين يراد تسليط الضوء لأجل محاولة فهم المسألة من وجهة نظر الإمام الجهبذ الشافعي يستحسن استحضار الأسس الآتية:

  • قضية البيان، وحقيقةً لأجل فهم المسألة من وجهة نظر الإمام الشافعي لا بد أن يدلف إلى مسألة البيان التي قررها وأقام عليها جوهر ما سبق من كتابه، ثم أعاد الكرة بالتذكير بها في أول هذا الباب أيضاً: "وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، بمثل ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل اللهُ منه جُمَلاً"، فوظيفةُ السنة الكبرى تجاه ما يقرره القرآن من شرائع وأحكام بيانُها وتفصيلُ مجملها وتحقيقُ مناطها، وهذا لا يمنع أن تأتي السنة بحكم مستقل؛ لأن ذلك إما أن يحمل على نوع من الاستقلال الجزئي تكون به أيضاً بياناً للقرآن، أو على ضرب آخر من الوحي أو على إذن من الله تعالى وتوفيق (وفي هاتين الحالتين([22]) لا تكون متعلقة بشيء قرره القرآن ولا متعارضة معه)، لذا لم يمنع الإمام أن يكون الله تعالى: "جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم يُنْزِلْ فيه كتاباً".
  • ضرورة تحرير المصطلحات الشرعية (التغاير بين النسخ والبيان عند الإمام الشافعي)؛ إذ النسخ ليس كالبيان، فالبيان تأكيد وتوضيح وتقرير، ومن الجائز أن يحصل من المتكلم أو من غيره، ومن المعصوم ومن غيره؛ إذ قضيته في الأصل فهمٌ وإدراكٌ لمعاني الكلام ومقتضياته، لذا ذكر سابقاً في أنواع البيان (بيان القرآن بالقرآن، وبيانه بالسنة، وبيانه بالاجتهاد)، بخلاف النسخ الذي هو رفع وإزالة، فلا بد فيه من المماثلة بين الناسخ والمنسوخ، والأصل أنه بيد المتكلم ب، "فقد وجدنا الدِّلالة على أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن"، ولذا جاز بيان السنة بالاجتهاد، كما يجوز بيان القرآن به، لكن لا يمكن نسخ السنة بالاجتهاد بحال، "فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له"، وبناء عليه يلحظ كم كانت قضية المماثلة والتغاير حاضرة في ذهن الإمام الشافعي، بحيث لا يصح الخلط عنده بين المصطلحات والحقائق.
وقد يقال: ولمَ لا بد من المماثلة بين الناسخ والمنسوخ؟.
فهنا يمكن أن يقال: ذلك يستفاد من ظاهر قول الله تعالى: (أَوْ مِثْلِهَا)، حيث "أخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بِقُرَآن مثلِه"، ولو كانت السنة ناسخة للكتاب للزم أن تكون مثله أو أفضل منه([23])، كما أن القول بتجويز نسخ القرآن بالسنة يفتقر إلى بيان إذن الله تعالى لنبيه أن يرفع حكماً قرره القرآن، سواء كان هذا الإذن صريحاً أو دلالة، والصريح غير موجود، والدلالة تعرف بواسطة الوقوع، وهذا ما تكشفه الحقيقة الآتية.

  • الوقوع، ومن المعلوم عند الخاصة والعامة ما كان عليه الشافعي من معرفة واطلاع واسع على نصوص الكتاب والسنة، وهو من خلال تبحره وتأمله في تلك النصوص لم يجد سنة نسخت كتاب الله تعالى ولا العكس، وقد حرر أبو بكر الصيرفي رحمه الله وهو الشارح لكتاب الرسالة كلام الشافعي في المسألة، ثم قال: "وجماع ما أقوله: أن القرآن لم ينسخ قط بسنة، فمن شاء فليرنا ذلك؛ فإنه لا يقدر عليه!"([24])، فمن هنا ساغ للإمام الفذّ أن يطرح رأيه بكل وضوح؛ إذ هو وقّاف عند الوحي، ولهذا نرى "الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن، بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا"([25]).
  • الوظيفة، وذلك أن وظيفة السنة الكبرى تجاه ما يقرره القرآن من شرائع وأحكام أمران رئيسان، بيّنهما الإمام الشافعي فيما قبل حين تكلم عن حجية السنة: اتباع القرآن الكريم والعمل به والتزامه "وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً"، " وكتابُ الله البيانُ الذي يُشفى به من العمى، وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعه له وقيامه بتَبْيِينِه عن الله"، والأمر الثاني: بيانُ القرآن الكريم وتفصيلُ مجمله وتحقيقُ مناطه، وإذا تقررت هذه الوظيفة المحددة للسنة مع القرآن، ثم وجدنا ما ظاهره نسخ القرآن للسنة أو العكس فإن ذلك يصطدم بقضيتي البيان والحجية!، التي قررهما وأكّد عليهما كثيراً، ويتعرض لهما بنوع من التشويش والاضطراب!؛ إذ تكون السنة حينئذ معارضة في الظاهر للقرآن في كلا الحالتين!([26])، وهذا خلاف قضية البيان والاتباع.
ويؤكد ذلك أنه حين تعرض لإمكانية نسخ القرآن للسنة، ذكر أنه لا بد حينئذ من مجيء سنة تدل على أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة بأن الشيء ينسخ بمثله، "وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسولُ الله: لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها"([27])، إذن لا بد أن يتبين للناس أنه لا تعارض بين ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم ما نسخه الله تعالى بعد ذلك (لو حصل)؛ إذ حين يسنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد إحداث الله تعالى يتبين أن سنته الأخيرة كانت على وفق ما في كتاب الله تعالى، فلا يوجد حينئذ سنة لرسول الله ظاهر القرآن خلافها، وهذا جوهر القضية التي يدور الإمام في فلكها، لا بد أن لا يكون هناك أي تعارض بين الكتاب والسنة؛ حتى لا نمسّ قضية البيان بشيء يصطدم بها، وبتتبع الرسالة في موطن آخر يلحظ أن الشافعي نبه إلى هذا حين قال: "النبي إذا سنّ سنة حولّه الله عنها إلى غيرها، سنّ أخرى يصير إليها الناس بعد التي حُوِّل عنها؛ لئلا يذهب على عامتهم الناسخ فيثبتون على المنسوخ، ولئلا يُشَبَّهَ على أحد بأن رسول الله يسن فيكون في الكتاب شيء يَرَى مَن جَهِلَ اللسَانَ أو العِلْمَ بموقع السنة مع الكتاب أو إبانتها معانيه: أن الكتاب ينسخ السنة، فقال: أفيمكن أن تخالف السنة في هذا الكتاب؟، قلت: لا؛ وذلك لأن الله جل ثناؤه أقام على خلقه الحجة من وجهين، أصلهما في الكتاب: كتابه، ثم سنة نبيه، بفرضه في كتابه اتباعها...لم يكن أن تنسخ السنة بقرآن إلا أحدث رسول الله مع القرآن سنة تنسخ سنته الأولى، لتذهب الشبهة عن من أقام الله عليه الحجة من خلقه"([28]).
وهذا الأمر تنبّه إليه أيضاً بعض كبار الشافعية حيث بورود السُّنَّةِ الأخيرة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم الموافقة للقرآن يتبيّن أنه أعلم بالله تعالى، وأكثر أدباً ومسارعة إلى ما يؤمر به، وأكثر الخلق حرصاً على رفع الشبهة عن الناس وإزالة عذرهم، "وذلك يقتضي أنه لا يبقى له سنة تخالف الكتاب إلا بيّن أنها منسوخة بياناً صريحاً بقوله أو فعله، حتى لا يتعلق من في قلبه ريب بأحدهما ويترك الآخر، وهذا من محاسن الشافعي الذي لم يسبقه غيرُه إلى الإفصاح به، وقد وقع على هذا المعنى ونبه عليه جماعة من أئمتنا، منهم أبو إسحاق المروزي في كتابه الناسخ"([29]).
وإن هذا التقرير من الإمام الشافعي يدل على بُعد نظره وإدراكه وعمق فهمه، حين قال: "لتذهب الشبهةُ عن من أقام الله عليه الحجة من خلقه"، ذلك أن السنة في أصلها مبيّنة للقرآن الكريم، وبناء عليه فإذا نزل شيء من القرآن الكريم يعارض ظاهرها، وقيل حينئذ إنه ناسخ لها، ثم لم نجد سنة من النبي صلى الله عليه وسلم على وفق الحكم الجديد الذي قرره القرآن الكريم: حصل عند الناس تعارض بين الوحيين وإشكال!، كيف لا نجد سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وفق ما في القرآن!، وهو المبيّن للقرآن والعامل به والمطيع لربه تعالى: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
ثم هناك أمر آخر أيضاً يشكل على تجويز نسخ السُّنة بالقرآن، من جهة إفضائه إلى اختلاط البيان بالنسخ، كما أشار إلى ذلك كل من ابن سريج وأبي إسحاق المروزي رحمهما الله([30])، وذلك لأن المنع من إجازة نسخ القرآن للسُّنة لئلا يختلط البيان بالنسخ فتخرج "عامة السنن من أيدي الناس، بأن يقولوا: لعلها منسوخة"، فإذا انضم إلى السُّنة الأولى وإلى القرآن الذي أتى برفعه سنةٌ أخرى تبيّن حينئذ أن السُّنة الأولى منسوخة، وزال ما يخوف من اختلاط البيان بالنسخ، وذلك أن الله قال لنبيه: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فإذا رأينا آيات من كتاب الله تعالى مجملة محتملة للخصوص، ثم قابله إخراج شيء من هذه الجملة بسنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما العمل حينئذ؟، هل نقول: إنه من قبيل نسخ السنة بالقرآن، أو من قبيل بيان السنة للقرآن، هنا إشكال منهجي واصطدام واضح بقضية البيان التي قررها الإمام الشافعي، ولا شك أن الصواب ما جاء في السنة بياناً منها لما في كتاب الله تعالى، أما لو جعلت الآيات ناسخة لما في السنة لأدى ذلك إلى إبطال الوضع الذي وضع الله له نبيه صلى الله عليه وسلم من الإبانة عن معنى الكتاب.
ثم وضّح الإمام الشافعي ما يخشى من خروج عامة السنن من أيدي الناس بادعاء احتمال نسخها بكتاب الله تعالى، فيكون ذلك ذريعة إلى ردّ الخاص من السنة بعام الكتاب، بدعوى أن العام نَسخ الخاصَّ منها، وذلك ما يتضح من خلال الآتي:

  • أن الله تعالى أحلّ البيوع جملة: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيوع تخصيصاً وبياناً منه، فلو قيل بجواز نسخ السنة بالقرآن، لجاز أن يقول قائلٌ شُبِّه عليه: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمَ ما حرَّمَ من البيوع قبل نزول الآية عليه، فيكون كل بيع حلالاً عملاً بمقتضى كتاب الله الناسخ للسنة!.
  • وكذا جاء الجلد في كتاب الله عاماً: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، ثم خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بياناً منه الزاني المحصنَ بالرجم، فلو قيل بجواز نسخ السنة بالقرآن، لجاز أن يقول قائلٌ شُبِّه عليه: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجم المحصن قبل نزول الآية عليه، فيكون كلّ زانٍ محكوماً عليه بالجلد فحسب بمقتضى كتاب الله الناسخ للسنة!.
  • وجاء الأمر بالوضوء في كتاب الله تعالى، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين الملبوسين على طهارة، فهل يصح أن يقال: "نَسَخت آيةُ الوُضوء المسحَ"؟.
  • وكذا جاء الأمر في كتاب الله تعالى بقطع كل سارق على العموم: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)، ثم خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بياناً منه السارقَ من غير حرز وسارق ما هو أقل من النصاب، فلو قيل بجواز نسخ السنة بالقرآن، لجاز أن يقول قائلٌ شُبِّه عليه: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم بذلك قبل نزول الآية عليه، فيكون كل سارق محكوماً عليه بالقطع بمقتضى كتاب الله الناسخ للسنة!.
وبناء على ما سبق يمكن أن يُدعى إخراج كلّ السنن من أيدينا – والعياذ بالله تعالى -، فيردّها من شُبِّه عليه بما سبق، ثم قد يتوصل بعد ذلك إلى ردّ كل حديث أيضاً إذا وجده على هذه الحال، بأن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله؛ لمخالفته لما في كتاب الله تعالى؛ وقد علمنا قطعاً أنه لا يخالف كتاب ربه، بل شهد له بالطاعة والإنابة والاتباع، فلا وجه لما نُقل من سنة مخالفة الكتاب إلا الخطأ في نقلها عنه، وحينئذ جاز له ردُّ السنن بهذين الوجهين!.
وبهذا الشرح المستقصي قدر الإمكان في محاولة شرح مقصود الإمام الشافعي في المسألة ليعذر القارئ الكريم ما حصل هنا من ضرب الصفح عن الإشارة إلى الأدلة والمناقشات الواردة في المسألة؛ إذ يتضح أنها واردة على غير ما يتبناه الإمام الشافعي رحمه الله، لذا كم صدق ابن السبكي رحمه الله حين قال: "وأكثر الأصوليين الذين تكلموا في ذلك لم يفهموا مراد الشافعي!!"([31]).
هذا ما ظهر للعبد الفقير، وقد يفتقر الأمر إلى مدارسة أكثر، لكن ذلك مشروط بقراءة كلام الجهبذ الشافعي رحمه الله قراءة فاحصة، ومن ثم ربط كلامه ببعض.. والله المستعان وعليه التكلان...



([1]) ينظر: الأم 7/287-289.

([2]) وليعذر القارئ الكريم إرجاء الكلام عن العلاقة؛ إذ سبب هذا الإرجاء الحرص على البناء المتسق للمعلومات، وعدم التشويش.

([3]) فتح المغيث 4/50-51.

([4]) ينظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمي ص3.

([5]) ينبه إلى أن بعض الشافعية نقل خلاف رأي الشافعي المصرح به في الرسالة، فجوّز بعض أهل العلم (ومنهم أبو زهرة رحمه الله في كتابه الشافعي ص261) أنه من المحتمل أن يكون الجواز رأيه في الرسالة القديمة، لكن هذا الاحتمال يزول بتصريح من اطلع على الرسالتين بأن مذهبه لم يتغير، فقد نقل الزركشي في البحر المحيط 5/273 عن أبي إسحاق المروزي قوله :"نص الشافعي في الرسالة القديمة والجديدة على أن السنة لا تنسخ إلا السنة، وأن الكتاب لا ينسخ السنة، ولا العكس"، وقال ابن السمعاني في القواطع 1/456: "ذكر الشافعي رضوان الله عليه في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز"، وقال الماوردي في الحاوي 16/78: ما نص عليه في كتاب الرسالة القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة.

([6]) ينظر: مسائل أبي داود ص276.

([7]) ينظر: العدة، لأبي يعلى 3/789.

([8]) كما حكاه ابن تيمية في مجموع الفتاوى 17/195.

([9]) ينظر: المسودة ص202.

([10]) ينظر: نواسخ القرآن، لابن الجوزي ص22.

([11]) ينظر: جامع بيان العلم 2/1194.

([12]) ينظر: السنة، للمروزي ص69، ونسبه الآمدي في الإحكام 3/153 إلى أكثر أصحاب الشافعي.

([13]) ينظر: البحر المحيط، للزركشي 5/266.

([14]) ينظر: المسودة ص202.

([15]) الإبهاج 2/248، وآراء الشافعية المثبتة أعلاه منقولة عنه.

([16]) وكان من أشدّ المنكرين عليه الجصاص رحمه الله في الفصول في الأصول 2/336-341.

([17]) ينظر: الإبهاج 2/248، البحر المحيط 5/265، 273.

([18]) الإبهاج 2/247.

([19]) حاول بعض أهل العلم تخريج منع الشافعي للجواز هنا على منع الجواز العقلي !، وقد ردّ ذلك الزركشي رحمه الله في البحر المحيط 5/268 بقوله: "والحاصل على هذا الوجه أن الشافعي لم يمنع الجواز العقلي، بل لم يتكلم فيه ألبتة، لا في هذا الموضع ولا في غيره، ولا وجه للقول به".

([20]) ينظر: سير أعلام النبلاء 8/248.

([21]) وليعذر القارئ الكريم الإطالة في الموضوع؛ فهي من الأهمية بمكان، ولعل الكلام فيها يفتح لمن فتح الله عليه آفاقاً أخرى أرحب وأسع مما هو مدون ههنا، وكم أستحضر قولاً سابقاً للإمام الجهبذ: "وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم".

([22]) أي: حالة أن تكون السنة المستقلة ضرباً آخر من الوحي، وحالة أن تكون إذناً من الله تعالى وتوفيقاً.

([23]) ينظر: مجموع الفتاوى 17/197.

([24]) نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 5/267-268.

([25]) مجموع الفتاوى 17/197.
والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة لم يذكروا مثالاً صحيحاً سالماً عن المعارض، وما ذكروه من أمثلة يعدّها الشافعي ومن معه من قبيل البيان، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 20/389: "وبالجملة فلم يثبت أن شيئاً من القرآن نسخ بسنة بلا قرآن"، وقال الزركشي رحه الله في البرهان 2/43: "كل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن".

([26]) أي: حالة نسخ القرآن للسنة، وحالة نسخ السنة بالقرآن.

([27]) هذه العبارة قد تكون عسيرة لأول وهلة، لكن معناها بحسب ما يظهر لي: أن السُّنَّةَ لا يَنْسَخُها إلا السُّنَّة؛ ولو جوّزنا وفرضنا تنزلاً إحداث الله تعالى لنزول قرآن على وجه يقتضي رفع ما تقدم ثبوته بِالسُّنَّةِ: فلا بدّ حينئذ أن يسنّ النبي صلى الله عليه وسلم سنةً توافق ما أَنْزَلَ من القرآن الناسخ، وتخالف المنسوخ من السُّنَّةِ الأولى، لأجل أن يتبين للناس أن للنبي صلى الله عليه وسلم سنةً موافقة للكتاب وناسخةً لسنته السابقة المخالفة لها، وتكون السنة حينئذ موافقة الكتاب وعاملة به.

([28]) الرسالة ص220-222.

([29]) البحر المحيط، للزركشي 5/276.

([30]) نقله عنهما الزركشي في البحر المحيط 5/279.

([31]) الإبهاج 2/249.
 
إنضم
18 مارس 2017
المشاركات
17
الكنية
أبو مالك
التخصص
فقه لغة
المدينة
الصالحية الجديدة
المذهب الفقهي
مقارن
رد: هل قال الشافعي رحمه الله أن نسخ القرآن بالسنة ممتنع عقلا ؟ مبحث للأستاذالأصولي ( الحفناوى)

جزاكم الله خيرا، جميعا،،،
 
أعلى