العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هل للتفسير الفقهي مناهج؟ لـ د. محمد قاسم المنسي

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
هل للتفسير الفقهي مناهج؟

د. محمد قاسم المنسي
المصدر: من كتاب "التفسير الفقهي"

مصدر المقال: موقع الألوكة
هل للتفسير الفقهي مناهج؟


يجب أن أقرر - في البداية - أن أي نظر عقلي في أي مجال من مجالات الفكر أو البحث - يحتاج إلى ضوابط، ومعايير تحكمه وتوجهه الوجهة الصحيحة، وإلا كان جهدًا ضائعًا لا هدف له.


ومن ثَم فإذا كان المنهج يعني "الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته حتى تصل إلى نتيجة معلومة"[1]، فإننا نرى أن الجهود التي قامت حول تفسير النصوص التشريعية منذ عصر الصحابة، خضعت لمعايير وضوابط، صارت - فيما بعد - مناهج ترسم للمجتهدين طرق الاستنباط الصحيح، وتبصرهم بما في النصوص من إمكانيات وطاقات، وكيفية استثمارها على النحو الذي يحقق المصلحة المقصودة، والتي شرع النص من أجلها.


ومن هذا المنطلق، فنحن لا نوافق الدكتور معروف الدواليبي فيما ذهب إليه من أن الصحابة "لم يكونوا في اجتهادهم يعتمدون على قواعد مقررة، أو موازين معروفة، وإنما كان معتمدهم في ذلك ما قد رأوا وعرفوا ولمسوا من روح التشريع مدة عشرين عامًا أثناء تَلمَذَتِهم لرسول الله، مما قد بث في نفوسهم أجمعين "أن غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله"، وأن هذه المعرفة لروح التشريع التي توفرت لأصحاب رسول الله؛ بفضل صحبتهم له، وعيشهم في عصر التنزيل، ومعرفتهم لأسباب النزول - كونت فيهم ذوقًا موحدًا في فهم أسرار التشريع، لم يتوفر لمن جاء بعدهم بنفس السهولة، ولذلك لم يلبث الاجتهاد بعدهم أن تطور تطورًا محسوسًا، وأصبح الذوق لأسرار الشريعة مختلف المناهج، متباين الوسائل، ومتأثرًا إلى حد كبير بمحيط المجتهدين، وكان ذلك مدعاة إلى اشتداد النزاع العلمي في مادة الأحكام، كلما اشتد البعد بين المجتهدين وبين عصر التنزيل، وهذا ما حمل رجال الاجتهاد إلى وضع قواعدهم في الاجتهاد؛ حتى يصدروا في نقاشهم عن علم، ولا يُتهموا في اجتهادهم بالهوى"[2].


والواقع أن تصوير الأمور على هذا النحو، يجعلنا نتوقف لنناقش الدكتور فيما ذهب إليه من أحكام لا نستطيع - عند النظر والتأمل - الموافقة عليها، فهو يرى:
أولاً: أن اجتهادات الصحابة لم تكن خاضعة لقواعد أو موازين، وإنما على ما عرفوه من روح التشريع.
ثانيًا: أن إدراك الصحابة لروح التشريع كوَّن فيهم ذوقًا موحدًا في فهم أسرار الشريعة.
ثالثًا: أن قواعد الاجتهاد وضعت بسبب النزاع العلمي بين المجتهدين.


والواقع أننا إذا نظرنا إلى اجتهادات الصحابة وجهودهم في مجال تفسير النصوص ومعرفة أسرار التشريع، نجد أن مسألة "الجهد العقلي" في فهم النص وتكييفه قد تجلت - بوضوح - في فهمهم لأغراض الشريعة، الأمر الذي يعني ضرورة وجود "ضوابط" أو "معايير" تنظم هذا الجهد، وتحقق له صواب الهدف، وسلامة القصد، ويستوي الأمر بعد ذلك أن تكون هذه الضوابط أو المعايير مسجلة ومعروفة، أو مما انقدح في أذهان الصحابة بكثرة ممارساتهم الكلامية والتعبيرية، كما أن معرفة روح التشريع لا تخرج إلى حيز الوجود؛ إلا بعد طول ممارسة ودربة واحتكاك بالنصوص، وهذا أيضًا يستلزم وجود المنهج، أو النسق الخاص.


إن تتبع أقوال الفقهاء من الصحابة يؤكد أنهم "ما كانوا يقولون أقوالهم من غير قيد ضابط، فإذا سمع السامع علي بن أبي طالب يقول في عقوبة الشارب: إنه إذا شرب هَذَى، وإذا هَذَى قذف، فيجب حد القذف - يجدُ ذلك الإمامَ الجليلَ ينهج منهجَ الحكم بالمآل، أو الحكم بالذرائع، وعبدالله بن مسعود عندما قال في عدة المتوفَّى عنها زوجُها الحامل، أن عدتها بوضع الحمل، واستدل بقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ويقول في ذلك: أشهد أن سورة النساء الصغرى نزلت بعد سورة النساء الكبرى؛ يقصد أن سورة الطلاق نزلت بعد سورة البقرة، وهو بهذا يشير إلى قاعدة من قواعد الأصول، وهي أن المتأخر ينسخ المتقدم أو يخصصه، وهو يلتزم بهذا منهاجًا أصوليًّا.


وهكذا يجب أن نقرر أن الصحابة - في اجتهادهم - كانوا يلتزمون مناهج، وإن لم يصرحوا بها في كل الأحوال"[3].
وعلى الرغم من أن الصحابة عاصروا نزول الوحي، والتمسوا نورًا من صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفوا به أسرار الشريعة؛ إلا أن ذلك لا يعني أن تذوقهم لهذه الأسرار كان موحدًا، بحيث تتفق آراؤهم، وتتحد نظرتهم.


إن الثابت المؤكد من آرائهم ومواقفهم، يشير إلى وقوع الاختلاف بينهم في معرفة المراد من كثير من النصوص، ذلك الاختلاف الذي يرجع بطبيعة الحال إلى أسباب عديدة؛ منها اختلاف الأذواق والآراء تبعًا لتفاوت الملكات والمواهب، والاستعدادات العقلية الخاصة التي تميز مجتهدًا عن آخر.
وأخيرًا فإن قواعد الاجتهاد لم توضع بسبب ما سماه الدكتور الدواليبي "بالنزاع العلمي" بين المجتهدين؛ بل وضعت لضبط عملية الاستنباط من النصوص، ولإخضاعها لمنهج محكم يضمن صحة الاستنباط، ويحفظ المجتهد من الخطأ والانحراف، أما الخلاف بين المجتهدين فقد ظل حتى بعد تأصيل قواعد الاجتهاد؛ بل كانت هذه القواعد ذاتها سببًا من أسباب الاختلاف بينهم.


ومهما يكن من أمر، فإن عصر الصحابة قد شهد "مناهج" للبحث الفقهي، فيما فيه نص، وفيما ليس فيه نص، وهذا أمر طبيعي - كما يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي - حيث طبق التشريع الإسلامي منذ ذلك العصر على كل مجالات الحياة في المجتمع الإسلامي، ولَمَّا لم يكن من المتصور أن تأتي هذه النصوص بأحكام تفصيلية لكل ما يَجِدُّ في واقع الحياة؛ فإن الأمر احتاج منذ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهود عقلية متتابعة في مجال تطبيق نصوص التشريع ومقرراته العامة على وقائع الحياة غير المتناهية، وغير المنصوص عليها تفصيلاً"[4].


ولا شك أن هذه المناهج - كأي منهج - أخذت تتبلور شيئًا فشيئًا في عصر التابعين وعصر كبار الأئمة، حتى جاء الإمام الشافعي "فوجد الثروة الفقهية التي أثرت عن الصحابة والتابعين، وأئمة الفقه الذين سبقوه، ووجد الجدل بين أصحاب الاتجاهات المختلفة، فوجد المناظرات قائمة بين فقه المدينة وفقه العراق، فخاض غمارها بعقله الأريب، فكانت تلك المناقشات، مع علمه بفقه المدينة الذي أخذه عن مالك، وفقه العراق الذي أخذه عن محمد بن الحسن، وفقه مكة، لنشأته وإقامته فيها - هاديةً له إلى التفكير في وضع موازين يتبين بها الخطأ من الصواب في الاجتهاد"[5].


وهكذا دخلت مناهج تفسير النصوص طور التدوين والتسجيل منذ القرن الثاني الهجري على يد الإمام الشافعي، والذي يرجع إليه الفضل في تأصيل هذه القواعد، وضبطها في نسق فكري خاص، كان أساسًا ونبراسًا لكل الجهود التي عنيت فيما بعد بمناهج التفسير، وقوانين الاستنباط من النصوص.
وقد ذهب العلماء إلى أن المتتبع لآثار الأصوليين بعد الإمام الشافعي، يجد أنه كانت لهم طريقتان مختلفتان:


إحداهما: طريقة نظرية تقوم على تحقيق القواعد تحقيقًا منطقيًّا، وإقرار ما يؤيده البرهان العقلي والنقلي منها، دون تأثر بفروع مذهب من المذاهب، أو التقيد برأي إمام معين، فالمقصود في هذا الاتجاه هو تحرير القاعدة وتنقيحها من غير تطبيقها على أي مذهب تأييدًا أو نقدًا، وقد ظهر هذا الاتجاه عند الشافعية والمالكية والحنابلة، والشيعة الإمامية، والزيدية، والإباضية، ولقد كان فريق كبير من هؤلاء من علماء الكلام فسميت الطريقة طريقة المتكلمين.


الثانية: تقوم على محاولة ضبط فروع أئمة الحنفية بقواعد جديدة، فهم قد جعلوا فروع الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وأصحابه؛ كأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر وغيرهم، هي الأساس في الخط الذي جرى فيه سير القواعد المراد وضعها، فبدلاً من أن تكون هنالك قواعد، تخضع لها فروع تستخرج منها، نجد هنا فروعًا تخضع لها القواعد، ولذلك نرى مثلاً أبا بكر الجصاص في كتابه "الأصول"، يأتي بالقاعدة - كما في موقف الحنفية من الأخذ بمفهوم المخالفة - وبعد أن يقررها يقول: على هذا دلت فروع أصحابنا.


وهذا ما نراه أيضًا عند الدبوسي والسرخسي والبزدوي وغيرهم؛ ففي كون العام قطعي الدلالة عند الحنفية، يقرر البزدوي القاعدة ثم يقول: على هذا دلت فروع أصحابنا.
ولما كان الحنفية هم الذين ساروا على هذا الاتجاه؛ فقد نسبت الطريقة إليهم، وسميت باسمهم.


وهكذا يكون لدينا بعد تدوين الشافعي لقوانين الاستنباط في كتابه "الرسالة" طريقتان أصليتان، هما: "طريقة المتكلمين، وطريقة الحنفية"[6].
والواقع أن أي منهج له جانبان؛ جانب موضوعي: يتمثل في مجموعة القواعد والضوابط والمعايير التي تنظم عملية البحث والتفكير، وجانب ذاتي: يتمثل في تأثر الباحث أو المفكر - بنسب متفاوتة - بما يراه ويعتقده، أو بما يحيط به من ظروف.


لذلك فنحن لا نعتقد أن التفسير الفقهي كان له منهجان فقط، إلا إذا قصرنا المنهج على القواعد والضوابط التي تحكم عملية التفسير؛ لكن الواقع أن المفسر أو الفقيه لا يستطيع أن يزعم أنه - في اجتهاده وفهمه - غير متأثر بنظرة خاصة أو بميل خاص، يسهم - إلى حد ما - في تشكيل وصياغة مواقفه وآرائه واجتهاداته.
ومن هنا نذهب إلى أن مناهج التفسير تعددت وتنوعت باختلاف المفسرين؛ زمانًا ومكانًا، وطريقة وثقافة، وتقديرًا لمصالح الناس، وإدراكًا لمقاصد الشريعة.



[1] "أصول البحث العلمي ومناهجه" د. أحمد بدر، ص 33 - 35، نشر دار القلم.
[2] "المدخل إلى علم أصول الفقه" د. معروف الدواليبي، ص 15، 16.
[3] "أصول الفقه" للشيخ محمد أبو زهرة ص 9، و"أصول الفقه الإسلامي" د. سلام مدكور ص 10، 11.
[4] "مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري" لأستاذنا الدكتور محمد بلتاجي، مجلد 1 ص 12.
[5] "أصول الفقه" للشيخ محمد أبو زهرة ص 10.
[6] "تفسير النصوص في الفقه الإسلامي" د. محمد أديب صالح ص 53، 54، و"أصول الفقه" لأبي زهرة ص 13 – 19، و"أصول الفقه الإسلامي" د. محمد سلام مدكور ص 15 – 17، دار النهضة العربية ط أولى 1976، و"الفتح المبين في طبقات الأصوليين" جـ 1 ص 9، 10 للشيخ عبدالله مصطفى المراغي، ط الثانية 1974 – بيروت.
 
أعلى