العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

كتاب هِدَايَةُ اْلأَبـْصَار في فِقٌهِ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ والْفُجَّار

إنضم
29 أبريل 2008
المشاركات
31
التخصص
الشريعة
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
الحنبلي
بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيم
بحث بعنوان
هِدَايَةُ اْلأَبـْصَار
في فِقٌهِ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ والْفُجَّار




بيان لأحكام عبادات المسلمين مع الكفار من أهل الكتاب و غيرهم , وأحكام العبادات مع الطوائف الإسلامية – المنتسبة وغير المنتسبة للإسلام-.على ضوء الكتاب الكريم والسنة المطهرة .

عبداللطيف محمد حسن جعفر


المقدّمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . أشرف خلق الله محمد بن عبدالله . وعلى آله وصحبه ومن والاه واستن بسنته واتبع هداه .. إلى يوم لقياه .
ثم أما بعد ...

فإنه لا يخفى على مؤمن عاقل حقيقة وجوده بين أجناس الكفار والمشركين وأفرادهم في هذه الحياة الدنيا وهو في هذه الأوساط مأمور بعبادات أمره بها الشارع الحكيم
, والمعلوم أنه قد توجد أحوال لأداء عباداته هذه مع الأوساط الكافرة وأحوال لأداء عباداتهم هم مع الأوساط المسلمة ولو بصفة ندرة ( لكنها تكون من الأهمية بمكان ) ، أما سمعت قول المولى عز وجل : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } - هود 113 - وقد جاء في تفسير هذه الآية ما رواه الطبري في تفسيره - رحمه الله - عن أبي العالية : ولا تركنوا إلى الذين كفروا أي لا ترضوا أعمالهم. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق ، فاضطروهم إلى أضيقها ) - صحيح أخرجه أحمد ومسلم والترمذي - , وقوله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... } - التوبة 28 - .
وغيرها من الأدلة الكثيرة الدالة على أهمية مراعاة جانب التعبد معهم . فعندئذٍ يرى العبد الحصيف أهمية
اطلاعه على هذه الأحكام لتكون له وجاء من عقاب أو منهلا ينهل منه جمّ الأجور والفضائل .
.. فكان عليه إذا أن يتعرف أولاً على هؤلاء الكفار .فيعرف أصنافهم المصنفة في ديننا ويعرف أحوالهم المبينة في شريعتنا وأحكام عباداتنا معهم ومع عباداتهم المذكورة في كتبنا . وما هو مأمور به تجاههم . وما هو منهي عنه من إتيانه قِــبَــلــَــهُم ..
وليس ذلك بكائن إلا بأن يأخذ - هذا العبد - صورة عامـة ولو غير تامة في جلّ الأحكام التعبدية معهم ومعرفة ما ورد من طريق الوحيين عنهم ومعرفة ما يستنبطه أهل العلم من الوحيين عنهم .
فأردت بعد مشيئة الله عز وجل تبيين ذلك في بحثي هذا سائلا المولى العلي القدير الإعانة والسداد والتوفيق في ذلك وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ..فأبين بمشيئة الله معنى الكفر وكل ما ينتسب إليه والتعريف بذلك
وأنواعه , والطوائف الإسلامية – لأنها داخلة باعتقاداتها في الكفر الذي يختلف عن عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ومن على صراطهم المستقيم- . وأبيـّـن بعد ذلك أحكام العبادات مع هؤلاء الكفار بذكر أقوال الفقهاء في كل حكم , وبيان إجماع الأئمة إن تم الإجماع في كل حكم من هذه الأحكام المرتبطة بهم . آخذًا بالأدلة المتفق عليها مقابل ذلك أو المختلف فيها المقبولة على ضوء ما درست ( في باب الصلاة وما يختص بها ، وباب الطهارة والوضوء وما يختص بهما ، وباب الزكاة وما يختص بها ، ومسائل أخرى متفرقة )


خاتما في النهاية بحثي هذا بخاتمة .
أسأل الله عز وجل أن يوفقني في ذلك كله وأن ييسر لي ما يرضيه عني ويرتضيه مني . اللهم إني أعوذ بك أن أشرك
بك وأنا أعلم وأستغفرك مما لا أعلم .اللهم انفعنا بما علمتنا وارفعنا به ولا تضعنا .


الباب الأول
في التعريف بالكفار بجميع أصنافهم ومعنى الكفر المطلق عليهم

- فصل في معنى الكفر في اصطلاح اللغويين : - ذكر ابن منظور- رحمه الله - في لسان العرب : الكفر في اللغة : التغطية ، والكافر ذو كُفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره ، كما يقال للابس السلاح كافر، وهو الذي غطاه السلاح ، ومثله رجل كاسٍ أي ذو كُسْوَة وفيه قول آخر، وهو أَن الكافر لما دعاه الله إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة وأَحبها له إذا أَجابه إِلى ما دعاه إليه، فلما أَبى ما دعاه إِليه من توحيده كان كافراً نعمة الله أَي مغطياً لها بإِبائه حاجباً لها عنه.و الكفر نقيض الإيمان ويقال كافره حقه أي جحده , وكل من ستر فقد كَفََرَهُ وكفَّرهُ .( 1 ) أهـ بتصرف .
نستخلص من هذا ومما ذكره غيره من اللغويين كمثل قوله : أن الكفر هو الستر و التغطية للشيء ويسمى فاعل هذا الفعل كافرا في اصطلاح أهل اللغة .




( 1 ) انظر لسان العرب ( مادة : كفر , مسألة : الجزء الثالث عشر ) . وابن منظور هو الفقيه واللغوي الأديب المشهور صاحب لسان العرب , المتوفى عام أحد عشر وسبعمئة . وليس هو بـــابـن منظور الإشبيلي المحدث المتوفى عام تسع وستين وأربعمئة .ولا بـــابـن منظور القاضي لإشبيلية المتوفى عام عشرين وخمسمئة .


فصل في معنى الكفر في الاصطلاح الشرعي
إن من أتم وأجود ما قيل في تعريف الكفر شرعا وقد كان جامعا مانعا :
- ما ذكره ابن حزم - رحمه الله - : " وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان " ( 1 )
- وقال القرافي - رحمه الله - : " أصل الكفر إنما هو : إنتهاك خاص لحرمة الربوبية ، إما بالجهل بوجود الصانع أو صفاته العلا - ويكون الكفر بالفعل كرمي المصحف في القاذورات، أو السجود للصنم ، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم - أو جحد ما علم من الدين بالضرورة " ( 2 )
- وقال السعدي - رحمه الله - : " حد الكفر الجامع لجميع أجناسه وأنواعه وأفراده هو : جحد ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم أو جحد بعضه " ( 3 )


( 1 ) انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ( المجلد الأول الجزء الأول البـاب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر ) وابن حزم هو علي بن حزم الأندلسي الفقيه المشهور الشافعي ثم الظاهري صاحب المـحـلــى المتوفى سنة ست وخمسين وأربـعمــئة .
( 2 ) انظر أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي ( الفرق بين قاعدة المعصية التي هي كفر وقاعدة ما ليس بكفر ) والقرافي هو شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي المصري المالكي صاحب الذخيرة ونفائس الأصول المتوفى سنة أربع وثمانين وستمئــة .
( 3 ) انظر الإرشاد إلى معرفة الأحكام للسعدي ( ص 203 – 204 ) وهو أبو عبدالله عبدالرحمن بن ناصر السعدي صاحب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان . وهو المتوفى عام ست وسبعين وثلاثمئة وألف .


هذا وقد ذكر
ابن قيم الجوزية - رحمه الله - أن : " الكفر جحد ما عُلم أن الرسول صلى الله علية وسلم جاء به ، سواء كان المسائل التي يسمونها - يقصد الجهمية والمعطلة - علمية أو عملية ، فمن جحد ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم بعد معرفته بأنه جاء به كافر في دق الدين وجله " ( 1 )
من كل ما سبق نستطيع أن نقسم الكفر بعمومه على الاصطلاح الشرعي لثلاث أقسام : الأول هو إنكار وجحود وجود وأفعال المولى عز وجل أو شيئا مما يختص به سبحانه وتعالى مما ثبت عن طريق الوحيين. والثاني هو إنكار وجحود ما جاءنا من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة ثابتة أو إنكار ما يختص به ديننا الحنيف وكُلفنا بالتصديق به .و الثالث هو فيما ذكره القرافي وغيره من أنه انتقاص وانتهاك ما عُلِمَ أنه من الدين بالأدلة أو الفعل الذي رتّب الشارع على فاعله الكفر وهذا ليس على الإطلاق . .فهذا ملخص معنى الكفر بعمومه – والله أعلم - .



( 1 ) انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية ( ص 620 ) وابن قيم الجوزية هو الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الزّرعي ثم الدمشقي الحنبلي صاحب زاد المعاد المتوفى عام إحدى وخمسين وسبعمئـة .


فصل في معاني أنواع الكفر المقسومة إلى أكبرو أصغر

- أما الكفر الأكبر فهو : بنفس معنى ما ورد في تعريف الكفر في الاصطلاح الشرعي وهو في محتوى القول بأنه كل كفر أخرج صاحبه من الملة أو أصبح به مرتدًا من بعد إسلام .
وهو - أي الكفر الأكبر - ينقسم إلى خمسة أنواع كما ذكرها ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في مدارج السالكين بقوله " وأما الكفر الأكبر : فخمسة أنواع : كفر التكذيب وكفر إباء واستكبار وكفر الإعراض وكفر الشك وكفر النفاق .
فأما كفر التكذيب فهو اعتقاد كَذِبِ الرسل ، وهذا القسم قليل في الكفار ، فإن الله تعالى أيد رسله ، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة ، وأزال به المعذرة ، قال الله تعالى عن فرعون وقومه {
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح ، إذ هو تكذيب باللسان .
وأما كفر الإباء والاستكبار فنحو كفر إبليس ، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار ، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول ، وأنه جاء بالحق من عند الله ، ولم ينقد له إباء واستكبارا ، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل ، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } وقول الأمم لرسلهم { إن أنتم إلا بشر مثلنا } وقوله { كذبت ثمود بطغواها } وهو كفر اليهود كما قال تعالى { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وقال { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } وهو كفر أبي طالب أيضا ، فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ، ولكن أخذته الحمية ، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ، ويشهد عليهم بالكفر .

وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول ، لا يصدقه ولا يكذبه ، ولا يواليه ولا يعاديه ، ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة ، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم : والله أقول لك كلمة ، إن كنت صادقا ، فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك ، وإن كنت كاذبا ، فأنت أحقر من أن أكلمك ( 1 ) .
وأما كفر الشك فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه ، بل يشك في أمره ، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة ، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها ، وأما مع التفاته إليها ، ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك ، لأنها مستلزِمة للصدق ، ولا سيما بمجموعها ، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
وأما كفر النفاق فهو أن يظهر بلسانه الإيمان ، وينطوي بقلبه على التكذيب ، فهذا هو النفاق الأكبر " ( 2 )

( 1 ) ذكره ابن هشام في السيرة وابن كثير في البداية والنهاية .
( 2 ) انظر مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية ( فصل في منازل إياك نعبد - منزلة التوبة – أجناس ما يتاب عنه الكـفر الأكبر ).



- وأما الكفر الأصغر فمعنى كلام جماهير العلماء فيه أنه : ما أطلق عليه الشارع لفظ الكفر ولكن الإسلام ثابت لصاحبه أو لم يوجب الخلود في النار لمقترفه .كمثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ( اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ) ( 1 ) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كـفر بما أنــزل علــى محمد ) ( 2 ) , وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) ( 3 ), وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد ) ( 4 ) . هذا ولــيُعلم أن العلماء قد اختلفوا في أمور هل هي من قبيل الأكبر أم الأصغر كترك الصلاة تكاسلا والحكم بغير ما أنزل الله ( 5 ) وقتال المسلمين .


( 1 ) رواه مسلم في صحيحه .
( 2 ) رواه أحمد في مسنده وصححه جمع كبير من المحدثين وله شواهد, وأخرجه أصحاب السنن الأربعة بلفظ آخر إلا النسائي .
( 3 ) أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه الألباني وله روايات أخر .
( 4 ) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة .
( 5 ) انظر مدارج السالكين ( فصل الكفر – فأما الكفر فنوعان )



فصل في معاني أنواع الكفار من حيث دياناتهم

هذا وقد قسم العلماء رحمهم الله الكفار إلى أصناف وأنواع من حيث دياناتهم وعباداتهم إلى صنفين :
- الأول : أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى الذين لهم كتاب ذو أصل سماوي , واليهود من أرسل فيهم موسى – عليه الصلاة والسلام - , والنصارى من أرسل فيهم عيسى - عليه الصلاة السلام - . هذا على حسب قول الجمهور , وقد خالفهم الحنفية وفي قول للشافعي وأبي يعلى - الحنبلي - في معنى أهل الكتاب بأنهم هم كل من اعتقد دينا سماويــًا وله كتاب منزل على ذلك .
- الثاني : عامة الكفار من غير أهل الكتاب : وهم على ثلاثة أقسام :
الأول : من عبد غير الله فجعله إلهــًا يعبده وحده ويتقرب إليه , أو يعبد ويتقرب إلى هذا الإله وإلى غيره من الآلهة من غير الله عز وجل كــالمجوس وعباد النجوم وعباد الأرض وغيرهم .
الثاني : من أشرك مع عبادته بالله عز وجل عبادة غيره من الطواغيت وهم المشركون .
الثالث : من يعتقد بأن لا إله للعالم فينكرون الخالق وجميع الآلهة وهم الدهريون أو الملحدون ومن على نفس اعتقادهم .( 1 )


( 1 ) انظر في نفس هذا المعنى ( من فقه الأقليات المسلمة لخالد محمد عبدالقادر ( الفصل الأول مجتمعات غير المسلمين )) .


فصل في معاني أنواع الكفار من حيث أحوالهم مع دولة الإسلام
تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما :
- الأول : المحاربون : وهم الذين بينهم وبين المسلمين حرب قائمة أو متوقعة أو لا يربط المسلمين معهم عهــد أو صلــح .
- الثاني : أهل العهد : وينقسمون إلى ثلاث أنواع هي :
الأول : المعاهدون :
وهم رَعَـايا الدولة غير المسلمة التي بينها وبين المسلمين عهد وصلح على عدم القتال مدة معلومة أو إلى الأبد سواء كان ذلك بعوض أو بدونه .
الثاني :
الذميون : وهم رَعَــايا الدولة الإسلامية الذين رضوا بحكم الإسلام عليهم فأعطوا الجزية مقابل ذلك .
الثالث : المستأمنون :
وهم رَعَـايا الدولة غير المسلمة الذين أعطاهم إمام المسلمين ، أو أحد من المسلمين الأمان على نفوسهم وأموالهم في بلاد المسلمين . ( 1 )
* مسألة : وأما من حيث الأصالة : فينقسمون إلى كافر أصلي ومرتد ، والأصلي هو الذي ولد على ملة كفر وبقي عليها .
والمرتد : هو الذي سبق كُــفْـرَه إسلام .

( 1 ) انظر نفس المرجع السابق ( من فقه الأقليات المسلمة لخالد محمد عبدالقادر ( الفصل الأول مجتمعات غير المسلمين )) . وأحكام التعامل مع غير المسلمين لخالد محمد الماجد .



فصل في أقسام الطوائف الإسلامية

إن الطوائف الإسلامية مقسومة على ما ذكر أهل العلم إلى قسمين : هما
-
الأول : طوائف تنتمي إلى الإسلام وهي كالخوارج والمعتزلة والشيعة الرافضة والشيعة الزيدية والأشاعرة والصوفية والإباضية ومن على طريقتهم , وحقيقتهم أنهم طوائف تابعة للإسلام لكنها اعتقدت عقائد مخالفة لعقيدة المؤمن التي وردت عن الكتاب والسنة ( بشكل دقيق ) , وبشكل عام هم من فهموا الإسلام بمعنى الإسلام الحقيقي ولكن تشوبه شوائب لا يعرف بها الكفر الصريح المخرج من الملة بأكملها . وهذه تعامل على معاملة المسلمين في كثير من المعاملات فيما يأتي بيانه إن شاء الله .وهي المسمّاة بالطوائف المنسوبة للإسلام.
-
الثاني : طوائف تنسب نفسها إلى الإسلام ولكنها خارجة عنه بالكلية لكفرها الصريح الواضح المخرج عن الدين بالكلية كمثل الباطنية والباطنية الإسماعيلية والنصيرية العلوية والقاديانية والدروز ونحوهم . فهؤلاء يعاملون معاملة الكفار اطلاقا- فإن ذكرنا حكما للكفار دخل فيهم هؤلاء بلا تفرقة - .

*مسألة : ( وأما المنافقون فلا يدخلون في عموم الكفار ) بالنسبة إلى معاملتنا لهم لأن الشارع أمرنا بمعاملة الناس بالظاهر البيّـن لنا وترك السرائر والنيات له وحد ه سبحانه وتعالى , يدل لذلك إسرار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة - رضي الله عنه - بأسماء المنافقين وعدم ثبوت ما يدل على تفرقته بين أصحابه وبينهم بل ولم يعرفهم الصحابة فضلا عن أن ينقلوا لنا أن النبي عاملهم معاملة أخرى ،وأيضا أمره سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي قد عرّفه المنافقين بأسمائهم وصفاتهم فقال له {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } فالواو تقتضي المغايرة بين الجنسين الكفار وغير الكفار ثم إنه قد جاء في تفسيرها عند الطبري – رحمه الله - بقوله جاهد الكفار أي بالسيف والمنافقين أي بالوعيد واللسان وأورد بعدها قول قتادة – رحمه الله – ( أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجاهد الكفار بالسيف ، ويغلظ على المنافقين بالحدود ) ( 1 ) وعند ابن كثير – رحمه الله - بقوله ( جاهد الكفار: هؤلاء بالسلاح والقتال والمنافقين : هؤلاء بإقامة الحدود عليهم )( 2 ) , فلو كان المنافقون داخلون في أصناف الكفار لما فرّق بينهم وبين الكفار ابتداءً ولما ذكر لهؤلاء نوعا من الجهاد والكفار نوع آخر من الجهاد وأيضا في معنى هذا الجهاد للمنافقين فعلى تفسير الآية على أن الحدود تقام عليهم كمسلمين , وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه مما رواه أسامة بن زيد – رضي الله عنه - قال (فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ ) فهذا أراه من أصرح الأدلة على أن التعامل والأخذ بالظاهر هو الأصل في المسلمين . ومع هذه أدلة أخرى كثيرة تدل على ما استدللنا عليه مِن أَنّ المنافقين داخلون في المسلمين ظاهرًا من ناحية التعامل معهم - والله أعلم - . وبهذا نكون قد انتهينا من معرفة جميع أصناف الكفار على جميع تقسيماتهم .


( 1 ) ينظر تفسير الطبري سورة التحريم ( القول في قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد .. )
( 2 ) أيضا تفسير ابن كثير لسورة التحريم ( تفسير قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد ... )


الباب الثاني
في أحكام الصلاة وما يختص بها

- فصل : أما إمامة الكفار بالمسلمين فلا تصح لهم وللمسلمين ولا يجوز ذلك للمسلمين وإجماع العلماء على ذلك
, قال الله تعالى : {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون } – التوبة 17 - , ولقد ذكر القرطبي في تفسيره ما نصه : (ولا يجوز الإئتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ) ( 1 ) وعند ابن قدامة - رحمه الله – أيضا: (وإن صلى خلف مشرك أو امرأة أو خنثى مشكل ، أعاد الصلاة ) ( 2 ). وإمامة من شك في إسلامه صحيحة للمأموم الذي لم يظهر له كفر إمامه من إسلامه , قال ابن قدامة : ( فصل إذا صلى خلف من شك في إسلامه أو كونه خنثى فصلاته صحيحة ) ( 2 ). وتستوي في ذلك النافلة و الفرض . وإذا أمّ الكافر المسلمين وهم لا يعلموا فقال الإمام مالك والشافعي في قول له وأحمد - رحمهم الله - : لا يجزئهم ويعيدون الصلاة , وقال أبو ثور والشافعي في قوله الآخر : لا إعادة على من صلى خلفه ولا يكون بصلاته مسلمـًا – أي الإمام - ( 1 ) .



( 1 ) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( سورة البقرة : قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة وأركعوا مع الراكعين- المسألة 17 وَ 22 )
(2) انظر المغني ( كتاب الصلاة – باب الإمامة وصلاة الجماعة – فصل إمامة أقطع اليدين )



- وأما إن كان الكافر مأمومــًا فلا يضر ذلك صلاة الإمام وأما المأمومين الذين صفّوا مع هذا الكافر ففي ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله - : (
ومن وقف معه كافر ، أو من لا تصح صلاته غير ما ذكرنا ، لم تصح مصافّته ; لأن وجوده وعدمه واحد ) ( 1 ).
- فصل : وأما الطوائف الإسلامية فإن العبرة باعتقاد هذا الإمام فإن كان يشرك في أفعاله كغلاة الصوفية وغلاة الشيعة الذين يصدر منهم الشرك الصريح الأكبر كالذبح لطاغوت فإن الصلاة خلف مثل هذا لا تصح . وإن لم يكن منه هذا الشرك الصريح أو الكفر الصريح وصلى صلاة أهل السنة والجماعة بشروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة لا الباطنة – أقصد بالظاهرة كالتشهد الأول والباطنة كقوله سبحان ربي العظيم في الركوع - فإنه يحمل كما لو كان فاسقا أو مبتدعـًا من المسلمين ونحوه تصح الصلاة خلفه على أصح أقوال العلماء– والله أعلم - ( 2 ).
- وأما المرتد فحكمه حكم الكافر وفيه فصّل ابن قدامة – رحمه الله – بقوله : (
وإن كان الإمام ممن يسلم تارة ويرتد أخرى ، لم يصل خلفه ، حتى يعلم على أي دين هو ، فإن صلى خلفه ، وهو لم يعلم ما هو عليه نظرنا ; فإن كان قد علم قبل الصلاة إسلامه ، وشك في ردته ، فهو مسلم . وإن علم ردته ، وشك في إسلامه ، لم تصح صلاته . فإن كان علم إسلامه ، فصلى خلفه ، فقال بعد الصلاة : ما كنت أسلمت أو ارتددت . لم تبطل الصلاة ; لأن صلاته كانت صحيحة حكما ، فلا يقبل قول هذا في إبطالها ; لأنه ممن لا يقبل قوله . وإذا صلى خلف من علم ردته ، فقال بعد الصلاة : قد كنت أسلمت . قبل قوله ; لأنه ممن يقبل قوله ) ( 3 ).
( 1 ) المغني ( كتاب الصلاة – باب الإمامة وصلاة الجماعة – فصل وقف معه كافر .. )
( 2 ) في نفس هذا المعنى فتاوى الشيخ ابن باز- رحمه الله - ( المجلد الثاني ص 396 )
( 3 ) المغني ( كتاب الصلاة – باب الإمامة وصلاة الجماعة – فصل إمامة أقطع اليدين )


- فصل : وأذان الكافر لا يصح إجماعـًا:
قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني في باب الأذان مسألة للمؤذن أن يكون متطهرا , فصل ممن يصح الأذان : ( ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل ذكر ، فأما الكافر والمجنون ، فلا يصح منهما ; لأنهما ليسا من أهل العبادات .. وهذا كله مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا ) . والإقامة كالأذان فيه , وأذانه يعد ضربا من الإستهزاء بشعائر الدين الظاهرة التي ينبغي الاهتمام لها.
- مسألة : وأما دخوله المسجد فعلى تفصيل لأقوال في هذه المسألة :
فالحنابلة لهم فيه روايتان : أحدها : وهي الصحيحة من المذهب أنه يجوز لهم دخول المساجد إن أُذِنَ لهم في ذلك
, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد بني ثقيف ، فأنزلهم في مسجده قبل إسلامهم , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ثمامة بن أثال – رضي الله عنه - في المسجد عدة أيام وربطه الصحابة إلى سارية من سواري المسجد- والحديث عند البخاري ومسلم - .
والرواية الثانية للحنابلة : لا يجوز لهم دخول المساجد سواء أذن لهم المسلمون أم لا ويمنعون من الدخول وهو قول المالكية واستدلوا بعموم قوله تعالى
{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا... } - التوبة 28 - وجاء ذلك في أحكام القرآن لابن العربي في هذه الآية , ووحدوا العلة في نجاسة كل المشركين والكفار فقاسوا جميع المساجد على المسجد الحرام , واستدلوا أيضا بقوله تعالى : { في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه .. } – النور 36 - ودخول الكفار مناقض لترفيعها , وما ورد أيضا عند أحمد و ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ( لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة ), وما ورد في المغني من قول ابن قدامة - رحمه الله - : ( لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر: ادع الذي كتبه ليقرأه . قال : إنه لا يدخل المسجد . قال : ولم ؟ قال : إنه نصراني ) . هذا وقد استثنى المالكية دخولهم للضرورة.
وأما الشافعية فقالوا بجواز دخولهم لجميع المساجد عدا المسجد الحرام للآية المذكورة
, ولنفس حديث ثمامة ووفد الطائف – بني ثقيف - .
وأبو حنيفة قال بجواز دخوله – المسجد الحرام وغيره - للكتابي اليهودي والنصراني. آخذا بالتفريق بين المشركين الواردين في الآية وبين أهل الكتاب ، ومستدلا لهذا التفريق بقوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين.. }- البينة 1 - . ( 1 )( 2 )
- هذا والظاهر الراجح والله أعلم جواز دخولهم إلى غير المسجد الحرام بعلم وإذن المسلمين لهم لما جاء في فعل النبي صلى الله عليه وسلم الصريح الموضح لحكم هذه المسألة ولعدم نهيه عن ذلك أو مجيء نسخ بعده لهذا الدخول .

( 1 ) بنفس هذا المعنى في المحلى لابن حزم- رحمه الله - ( الأعمال المستحبة في الصلاة - حكم المساجد – مسألة دخول المشركين )
( 2 ) للاستزادة الجيدة في هذا الموضوع انظر ( القول المعلِم في جواز دخول المسجد لغير المسلم ) لمصطفى الفاسي .

- مسألة : وأما دخول المسلم إلى معابد الكفار : فنورد فيه قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( لا تعلَّموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ؛ فإن السخطة تنْزل عليهم ) - أخرجه ابن أبي شيبة صحيحــًا وعبدالرزاق والبيهقي منقطعا - هذا مع وجود أعيادهم فلا يجوز الدخول باتفاق , وكذلك إن كانت الأعياد في غير الكنائس فلا يجوز شهودها , ويقاس على الكنائس غيرها من المعابد لوحدة الصفة وهي مكان العبادة للكفار. وأما مع عدم وجود أعيادهم فعلى خلاف , ففي هذه الحالة الجمهور والراجح على جواز الدخول مع الكراهة للتي فيها منكرات كصور , قال ابن مفلح – رحمه الله - : (وله دخول بيعة وكنيسة ونحوهما والصلاة في ذلك وعنه – يقصد الإمام أحمد - ، يكره إن كان ثَمّ صورة .. وقال في الشرح لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة روي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى وحكاه عن جماعة ، وكره ابن عباس ومالك الكنائس لأجل الصور وقال ابن عقيل : تكره الصلاة فيها ; لأنه كالتعظيم والتبجيل لها وقيل ; لأنه يضر بهم ) ( 1 ) وذكر قريبا من ذلك عن فقهاء الشافعية وغيرهم وفصّلوا في جواز الصلاة في الكنائس التي فيها صور وهي التي قصدوها بقولهم المنكرات فمنهم من حرّم ومنهم من أجاز ومنهم من كره على قول ابن عباس – رضي الله عنه - .


( 1 ) الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح ( فصل في صيانة المساجد – فصل دخول معابد الكفار ) . وابن مفلح هو القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح الراميني المقدسي الدمشقي الصالحي - الحنبلي - صاحب المبدع شرح المقنع , المتوفى عام سبعمئة وثلاث وستون .



- فصل في صلاة الكافر بالنسبة له :
اعلم أولا أن العلماء قد اتفقوا على أن الكفار مخاطبون بأصول الدين والشريعة لقوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } - الأعراف 158 - وقوله تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا } - آل عمران 20 - إلا خلافا يروى عن بعض المبتدعة الذين لا اعتبار لهم في خرق إجماع المسلمين . ولكنهم اختلفوا في مخاطبة وتكليف الكفار بفروع الشريعة على قولين :
أحدهما : أن الكفار مكلفون بفروع الشريعة
, وهذا للجمهور ودليلهم قوله تعالى : { ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين } - المدثر 42 ـ 44 - فعلّل الكفار دخولهم النار لعدم صلاتهم وتصدقهم فعوقبوا على ترك ما كلفوا به من الصلاة وإلا لما كان لتعليقهم عقابهم على ترك الصلاة وإخبار المولى عنهم من فائدة فدل على تكليفهم بذلك ، واستدلوا أيضا بقوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا ...وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } - البينة 1 ـ 5 - فقال عنهم عز وجل أمروا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وغيرها من الأدلة .
والثاني : أنهم غير مخاطبين ولا بمكلفين بفروع الشريعة ، وهذا للحنفية ورواية عن الإمام أحمد وأدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما أرسله إلى اليمن (..
فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات..) - أخرجه مسلم وغيره - فانظر كيف أمره بأمرهم بالفروع كالصلاة والزكاة وغيرها بعد أن يطيعوه إلى الدخول في الإسلام ، واستدلوا أيضا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فارس والروم بأنه أمر حكّامهم بالتوحيد فقط - كما جاء عند البخاري ومسلم - فلو كانوا مكلفين بالفروع لأمرهم بها ، وأيضا استدلوا بما جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير كساها عمر أخــًا مشركا له بمكة ، فدل على أن المشرك هذا غير مخاطب بتحريم الحرير .ومن أقوى الأدلة لهذا القول هي أن كيف يخاطبون بفعل أمور ثم يعاقبون بجزاء عام لكفرهم وإن فعلوا هذه الأمور بل وأخبر المولى عز وجل أن هذه الأعمال لا تحسب لهم ولا تنفعهم ولا تقبل منهم فكيف يكلفهم ثم لا يقبلها منهم ، كما قال تعالى : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }- الفرقان 23 - وقوله : {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبّل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ، وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا.. }- التوبة 53 ـ 54 - ، وغيرها الكثير من الأدلة . ( 1 ) والراجح - والله العالم - هو القول الثاني لقوة الأدلة المذكورة ولأنه يعد كجمع بين قولنا وقولهم فهم يقولون بأن الكفار مخاطبون بالفروع فنقول لهم هم مخاطبون بالذي ذكرتم من الأدلة على أنهم يعاقبوا إذا لم يأتوا بالمأمور به وماتوا على كفرهم فيعاقبوا على ترك هذه المأمورات وعلى عدم إسلامهم – وكأنها إقامة حجة عليهم - فالشارع أمرهم بهذه الأوامر والنواهي وأمرهم بالإسلام كشرط لفعل هذه الأمور والأوامر والمنهيات وشرط لقبوله هذه الأعمال منهم ، وقولهم إن قالوا بذلك هو معنى القول الثاني لأنه هو المقصد في هذه الحالة ، وليست المخاطبة هنا هي أمر بفعلها حالا وإن كان على كفره - كما ذكر ابن عثيمين رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى { ما سلككم في سقر.. } - .
ويقال لهم أيضا انظروا إن شئتم في تفسير العلماء لقوله تعالى { قالوا لم نك من المصلين }: جاء في تفسير القرطبي في جامعه قال : "
قالوا يعني أهل النار ، لم نك من المصلين أي المؤمنين الذين يصلون " وفي تفسير ابن كثير" أي : ما عبدنا ربنا ولا أحسنّا إلى خلقه من جنسنا" .
( 1 ) انظر الفروع والأصول لسعد الشثري – حفظه الله – ( الباب الثالث – الفصل الثاني ).

ونقول أيضا لهم كيف جعلتم الكفار مخاطبين بفروع الشريعة واشترطتم في العبادات إسلام العابد.
وأقول لهم أيضــًا إن السيد إذا طلب من عبده أن يدخل منزلا من بابه وأمره بعد هذا بأن يأتي له بثوب من داخل ذلك المنزل وقال له إن دخلت من غير الباب فأنا ساخط عليك لعدم دخولك من الباب ولن أقبل منك إتيانك بالثوب لعدم دخولك من الباب وأنت عندئذ معاقب على عدم الدخول من الباب الذي أمرتك بالدخول منه ومعاقب على عدم الإتيان بالثوب ، كان مثالنا وقولنا هذا معقولا - والله أعلم - .


مما سبق نخلص إلى أن الكافر ليس بمخاطب بالصلاة في حال كفره ولكنه مأمور بالإسلام ثم الصلاة ، وأن صلاته مع كفره لا تصح ولا تقبل أبدا .وهذا من المتفق عليه .
- وأما الحكم عليه بالإسلام بصلاة يصليها ، فأحيل القارئ إلى ما ذكر ابن قدامة - رحمه الله - في هذا الأمر فقال : (
وإذا صلى الكافر ، حُكِمَ بإسلامه ، سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام أو صلى جماعة أو فرادى .وقال الشافعي : إن صلى في دار الحرب ، حكم بإسلامه ، وإن صلى في دار الإسلام ، لم يحكم بإسلامه ; لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية . ولنا - دليل الحنابلة - أن ما كان إسلاما في دار الحرب كان إسلاما في دار الإسلام ،كالشهادتين ، ولأن الصلاة ركن يختص به الإسلام ، فحكم بإسلامه به كالشهادتين . واحتمال التقية والرياء ، يبطل بالشهادتين ) ( 1 ). وما ذكر النووي- رحمه الله - في المجموع بقوله " وإذا صلى الكافر الأصلي إماما أو مأموما أو منفردا أو في مسجد أو غيره لم يصر بذلك مسلما ، سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام ، نص عليه الشافعي في الأم
( 1 ) المغني ( كتاب المرتد – مسألة شهد عليه بالردة فقال ما كفرت – فصل صلاة الكافر )

والمختصر ، وصرح به الجمهور وقال القاضي أبو الطيب : إن صلى في دار الحرب كان إسلاما ، وتابعه على ذلك المصنف - يقصد الشيرازي - والشيخ أبو إسحاق " ( 1 ).
- وأما المسلم إن ترك الصلاة فيستتاب ثلاثة أيام ويُدعَى إلى الصلاة في كل وقتها فإن أبى وكان جاحدًا لوجوبها فكافر مرتد باتفاق جميع العلماء قال ابن قدامة في مثل هذا المقال : لا أعلم في هذا خلافـــًا ( 2 ) ، وإن لم يكن جاحدًا لوجوبها وإنما تركها تهاونــا فالمالكية والشافعية والحنابلة على أنه يُستَتَاب ويُحبس ثلاثة أيام ويُضَيَّق عليه فيها ويُخَوَّف بقتله فإن رجع وإلا قُتِلَ ، والحنفية في مثل هذا قالوا يُضْرَبُ ويُسجَن (2 ). والراجح - والله أعلم - هو قتل مثل هذا لأن الله عز وجل قال{
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ... فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } - التوبة 5 - وقد قال ابن العربي - رحمه الله - بعموم المشركين في هذه الآية ، وغير هذا من الأدلة الكثيرة الصريحة الدالة على قتل تارك الصلاة .
- والمسلم الذي ارتدّ ثم أسلم بعد رِدته فحكم الصلاة التي مرّت عليه في وقت ردته أوردها النووي بقوله : (
وإذا أسلم لزمه قضاء ما فات في الردة لما ذكره المصنف ، هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه وداود : لا يلزم المرتد إذا أسلم قضاء ما فات في الردة ولا في الإسلام قبلها ، وجعلوه كالكافر الأصلي يسقط عنه بالإسلام ما قد سلف والله أعلم ) ( 3 ) وأنا أقول الله أعلم بالأرجح من ذلك.

( 1 ) المجموع ( باب صفة الأئمة – فصل إمامة الكافر في الصلاة )
( 2 ) المغني ( كتاب الصلاة – باب الحكم في من ترك الصلاة )
( 3 ) المجموع ( كتاب الصلاة – لا يصح من كافر أصلي ولا مرتد صلاة )


- مسألة : وصلاة الاستسقاء لا يُمْنَع الذميّون من أدائها لأنهم يطلبون رزق ربهم :

قال ابن قدامة في المغني باب صلاة الاستسقاء : (وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا وأمروا أن يكونوا منفردين عن المسلمين ... لأنهم يطلبون أرزاقهم من ربهم ، فلا يمنعون من ذلك ، ولا يبعد أن يجيبهم الله تعالى لأنه قد ضمن أرزاقهم في الدنيا ، كما ضمن أرزاق المؤمنين ، ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين ) وانظر إلى بديع ما ذكر بعد ذلك بقوله : ( فإن قيل: فينبغي أن يمنعوا الخروج يوم يخرج المسلمون لئلا يظنوا أن ما حصل من السقيا بدعائهم ، قلنا : ولا يؤمن أن يتفق نزول الغيث يوم يخرجون وحدهم ، فيكون أعظم لفتنتهم ، وربما افتتن غيرهم بهم ) ، وأورد النووي مثل ذلك عن الشافعي برواية الكراهة في حكم إخراجهم ، وعن الماوردي في الحاوي الكبير في فقه مذهب الشافعي ذكر فيه وجهان في هذا الحكم أصحهما : مثل هذا ، والثاني : يمنعون من خروجهم في يوم خروج المسلمين ، ولا يمنعون في غيره ( 1 ) .

( 1 ) المجموع ( باب صفة الأئمة – باب صلاة الاستسقاء – فرع مذاهب العلماء في خروج أهل الذمة )

* مسألة : والصلاة على أمواتهم لا تجوز ولا تصح إجماعــًا :
لقوله عز وجل الصريح : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } - التوبة 84 - ،ولأن الصلاة لطلب المغفرة ، والكافر لا يغفر له ، فلا معنى للصلاة عليه ( 1 ) .
ونقل الإجماع النووي بقوله : (وأجمعوا على تحريم الصلاة على الكافر ) ( 1 ).
- وأما إذا اختلط أموات مسلمون مع كفار فالمالكية والشافعية والحنابلة على إيجاب غسل جميعهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم لأن الصلاة على الأموات المسلمين واجبة و لا يتيقن الصلاة على المسلمين منهم إلا باستيعاب الكل فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وإن كان المسلم واحدا منهم فقط ، وينوي عند الصلاة عليهم الصلاة على المسلمين منهم لا الكفار ، وورد عن بعض الشافعية أنه يصلي على كل واحد على حدا ويشترط في نيته ودعائه بــ( إن كان مسلما ) والوجه الأول أولى لأنه ليس فيه صلاة على الكفار أصلا للنية .
والحنفية قالوا إن كثر عدد المسلمين منهم فيصلى عليهم وإن كان الأكثر عدد الكفار منهم أو استوى العددان لم يصل عليهم لأن قد اختلط من تحرم الصلاة عليه بغيره فحرمت الصلاة كاشتباه أخته بالرضاع بالأجنبية فيحرم النكاح .( 1 ) ، وإن كان رأى ما يدل يقينـــا على كفر الميت الذي أمامه كصليب معلّق على صدره فلا ينبغي الصلاة عليه عندئذ .

( 1 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب صلاة الميت - الصلاة على الكافر )


* مسألة : وأما أهل الأهواء والبدع المكفرة - الذين يقولون بما هو كفر - فلا يصلى عليهم :

وهذا هو الراجح وهو قول الحنابلة والإمام مالك ، فلا يصلى عليهم ولا تشهد جنائزهم كالجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم لأنه جاء النهي عن الصلاة على من دونهم في الإثم فهم من باب أولى كمثل ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءوه برجل قتل نفسه بمشاقص ، فلم يصل عليه ) - أخرجه مسلم وأبو داود بلفظ آخر - ، و ( أن رجلا مات يوم خيبر من الاصحاب، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله ) - أخرجه أبو داود ومالك في موطئه وصرح به أحمد - ، فالمبتدعة هؤلاء من باب أولى وقد جاء في مثل المبتدعة دليل صريح وهو ( إن لكل أمة مجوسا ، وإن مجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ، فإن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) – أخرجه أحمد - وقيل لا يصلي الإمام عليهم فقط ، والدليل الأخير واضح في عدم الصلاة عليهم من كل المسلمين . ( 1 )
وأما الحنفية والشافعية وسائر العلماء قالوا بالصلاة على أهل البدع والخوارج وغيرهم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا على من قال : لا إله إلا الله )
- أخرجه الدار قطني وهو ضعيف حكم بضعفه النووي وابن الجوزي وغيرهما ( 2 ) - . ( 1 )



( 1 ) المغني ( كتاب الجنائز - مسألة لا يصلي الإمام على الغال من الغنيمة )
( 2 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب صلاة الميت - صلاة الجنازة في كل الأوقات )


الباب الثالث
في أحكام الطهارة والوضوء وما يختص بهما
- فصل في طهارة أو نجاسة الكفار :

اعلم أَنّ أُ مَّ هذا الفصل هو قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ...}- التوبة 28 - .
فجاء في معنى المشركين في هذه الآية أنهم عباد الأصنام والأوثان وهذا قول الجماهير، وأما الإمام مالك والشافعية - رحمهم الله - فقد قالا بأن الكفار جميعا داخلون في معنى الإشراك الوارد في الآية ، وهذا هو الصحيح لعمومها وعدم وجود الصريح المخصص لها .( 1 )
وعلى تفسير النجاسة فيهم جاء الخلاف أيضا بين أهل العلم ، فالراجح والجمهور من حنفية وشافعية وحنابلة على القول القائل بأن النجاسة المقصودة في هذه الآية ليست نجاسة أبدانهم وإنما هي النجاسة المعنوية أو أنهم أنجاس دينا كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره أو كما نقل الطبري في تفسيره عن قتادة - رحمه الله - : أن النجاسة هنا هي الجنابة وهو قول لبعض الأئمة غيره ، وهذا هو الراجح لكثرة الأدلة على ذلك ومنها : إباحة النكاح بالكتابيات فلو كان الكفار نجسوا الأبدان لما أحل الشارع للعبد نكاحهن على الصحيح الصريح من الأقوال وقد أحل الله الطيبات للعباد وحرم عليهم الخبائث والخبث هو ما كان وصفا قائما بالجسد ، وأيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل هو وأصحابه رضوان الله عليهم مزادة امرأة مشركة - أخرجه البخاري – وروي توضأ منها وروي
شرب فقط ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي أعدتها له يهودية - أخرجه أحمد والبخاري
( 1 ) من فقه الاقليات المسلمة لخالد عبدالقادر ( المبحث الثالث : من أحكام العبادات )


وغيرهما - ولأن النبي صلى الله عليه سلم أجاب يهوديا دعاه إلى خبز شعير وإهالة سنخة - أخرجه أحمد - ، وغيرها من الأدلة الدالة على استعمال ما يعده الكفار وما يلامسونه بأيديهم ونحوه . ( 1 )
وقول الامام مالك وابن حزم الظاهري أن الكافر نجس العين أي في ذاته وقيل هو قول الحسن البصري لـنــقل القرطبي عنه في تفسيره للآية السابقة - رحمهما الله - قوله : من صافح مشركا فليتوضأ ، وحكي هذا القول عن الإمام أحمد ( 2 ) . ( 1 )
وأدلتهم عموم الآية السابقة وأيضا مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقيل هو حذيفة - رضي الله عنهم - : إن المؤمن لا ينجس - متفق عليه - فدل على أن الكافر نجس ، وبوجوب اغتساله عند إسلامه على اختلاف بين العلماء في وجوب ذلك وغير هذه من الأدلة الأخرى .
من هذا نقول إن الراجح هو القول الأول القائل بعدم نجاستهم الحسية أو البدنية لقوة الأدلة وإمكان الجمع بين القولين بتفسير النجاسة الواردة بالمعنوية عن المشركين – والله أعلم - .( 1 )


( 1 ) انظر بهذا المعنى تفسير القرطبي للآية ، ومن فقه الاقليات المسلمة لخالد عبدالقادر ( المبحث الثالث : من أحكام العبادات ).
( 2 ) قال النووي في المجموع في كتاب الطهارة في فصل استعمال أواني الذهب والفضة في استعمال أواني المشركين وثيابهم : ( وحكى أصحابنا عن أحمد وإسحاق نجاسة ذلك ) .



- وأما اغتساله عند إسلامه : فالحنابلة وقيل والمالكية - لأن القرطبي نسب في جامعه لأحكام القرآن إلى مذهب المالكية ذلك ( 1 ) - على وجوب الاغتسال للكافر عند إسلامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة بن أثال - رضي الله عنه - بالاغتسال عندما أسلم - أخرجه أحمد وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده - ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر قيس بن عاصم – رضي الله عنه - لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر - أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وحسّـنه الترمذي والنووي وغيرهما - .
والمشهور عند المالكية ( 2 ) و مذهب الحنفية والشافعية على استحبابه لأن أفواج من الناس أسلمت في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم النبي بالاغتسال عند إسلامهم .
- وأما إن كان جنبــًا فأسلم فجماهير العلماء من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة على أن الغسل واجب عليه لأنه يلزمه الوضوء عند صلاته فكذلك الغسل إن كان على جنابة - كما ذكر النووي في المجموع ( 3 ) - .
وقال بعض الحنفية وقيل أبو حنيفة نفسه وقليل من المالكية والشافعية بخلاف الأول وهو عدم وجوب اغتساله وإن كان على جنابة مستدلين بــقوله عليه الصلاة والسلام : ( الإسلام يجب ما قبله ) - رواه مسلم - .
والراجح وجوب اغتساله إن كان على جنابة للقياس المذكور ولأن حديث ( الإسلام يجب ما قبله ) معناه من كبائر
الذنوب وصغائرها ( 3 ) .


( 1 ) الجامع لأحكام القرآن ( سورة براءة - يا أيها الذين آمنوا إنما ..) قال فيه : والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر.
( 2 ) انظر مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للحطـاب ( كتاب الطهارة - فصل الطهارة الكبرى وهي الغسل – ويجب غسل كافر ).
( 3 ) المجموع ( كتاب الطهارة - باب ما يوجب الغسل - أجنب الكافر ثم أسلم قبل الاغتسال ).



- وأما إن أجنب في كفره ثم أسلم ثم اغتسل فلا يلزمه غسل ثان للجنابة ويجزئه غسل الإسلام هذا للحنابلة وأما المالكية بأحد أقوالهم أن الحطاب أورد عن اللخمي - رحمه الله - قوله لم يجزه من غسل الجنابة ( 1 ) ( 2 ) .
- وإن أجنب في كفره واغتسل وهو على كفره ثم أسلم : فأبو حنيفة وأحد أوجه أصحاب الشافعي
قالوا أنه يجزئه ويرفع حدثه عند إسلامه مستدلين بأنه - أي هذا الكافر - أصح نية من الصبي الذي يجزئه ذلك .
وأما الشافعي فقال بعدم إجزائه ذلك ووجوب غسل ثان للجنابة في الإسلام ، لأن الطهارة عبادة فلم تصح من كافر كالصلاة ، ولأن عدم التكليف لا يمنع وجوب الغسل كحال الصبي والمجنون .
وأما الحنابلة فرأيهم ثالث وهو أنه لا يجب عليه غسل للجنابة في كفره ولا يرفع الغسل الأول جنابته وإنما لم يفرض عليه غسل لكفره السابق وإجنابه في حال هذا الكفر مستدلين بـأ
نه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا بغسل الجنابة مع كثرة من أسلم من الرجال والنساء البالغين المتزوجين ومظنة الجنابة فيهم حاصلة . ( 2 )
- وأما في اغتساله فيستحب أن يكون بماء وسدر لحديث
قيس بن عاصم السابق ، ويستحب إزالة شعره لأن
(
النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أسلم ، فقال : احلق وقال لآخر معه : ألق عنك شعر الكفر واختتن )
- أخرجه أبو داود ، والبيهقي بلفظ ثان - ونص على الاستحباب الشافعي – رحمه الله - ( 3 ). ( 2 )


( 1 ) مواهب الجليل للحطاب ( كتاب الطهارة - فصل الطهارة الكبرى وهي الغسل - ويجب غسل كافر بعد الشهادة )
( 2 ) المغني ( كتاب الطهارة - باب ما يوجب الغسل - مسالة الغسل للكافر إذا أسلم )
( 3 ) المجموع ( كتاب الطهارة - باب ما يوجب الغسل - أجنب الكافر ثم أسلم قبل الاغتسال - فرع يستحب للكافر إذا أسلم )



* مسألة : إذا أراد الكافر الإسلام فهل يؤخر إسلامه حتى يتمكن من الاغتسال :

اعلم رعاك الله أن هذه المسألة من الأمور المهمة جدا بالنسبة للكفار والمسلمين لأنها تتعلق بأمر مصيري منتهاه قد يكون إلى النار - نسأل الله السلامة والعافية - ، فتجب إذا المبادرة بالإسلام ويحرم تحريما شديد ًا تأخيره للاغتسال أو غيره ، قال النووي - رحمه الله - : (وكذا إذا استشار مسلما في ذلك حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له أخره إلى الاغتسال ، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام ، هذا هو الحق والصواب . وبه قال الجمهور .
وحكى الغزالي رحمه الله في باب الجمعة وجها أنه يقدم الغسل على الإسلام ليسلم مغتسلا : قال : وهو بعيد ، وهذا الوجه غلط ظاهر لا شك في بطلانه وخطأ فاحش ، بل هو من الفواحش المنكرات ، وكيف يجوز البقاء على أعظم المعاصي وأفحش الكبائر ورأس الموبقات وأقبح المهلكات لتحصيل غسل لا يحسب عبادة لعدم أهلية فاعله )
. ثم انظر إلى عظم خطورة الأمر الذي نقل فيه بعد ذلك ( وقد قال صاحب التتمة في باب الردة : لو رضي مسلم بكفر كافر ، بأن طلب كافر منه أن يلقنه الإسلام فلم يفعل ، أو أشار عليه بأن لا يسلم أو أخر عرض الإسلام عليه بلا عذر ، صار مرتدا في جميع ذلك ، لأنه اختار الكفر على الإسلام ) . ( 1 )

( 1 ) المجموع ( كتاب الطهارة - باب ما يوجب الغسل - أجنب الكافر ثم أسلم قبل الاغتسال - فرع يستحب للكافر إذا أسلم )


- مسألة : للكتابية الاغتسال من حيض أو نفاس أو جنابة أو غير ذلك وإن أبت فلزوجها إجبارها على الغسل من حيض أو نفاس أو جنابة وهو الراجح :
فالشافعية - بالمشهور عندهم ( 1 ) - والحنابلة : على أن لزوجها إجبارها على الغسل من حيض أو نفاس أو جنابة ، قال ابن قيم الجوزية : ( لأن بقاء الغسل يحرم عليه الوطء الذي يستحقه وكان له إجبارها عليه لاستيفاء حقه ) ( 2 ) .
والحنفية والمالكية ( والشافعية على القول الثاني ( 1 ) ): على عدم إجبارها على الاغتسال من كل ذلك عدا الشافعية فقولهم الثاني في غسل الجنابة فقط وعلل الحنفية بأن الغسل من باب القربة ، وهي ليست مخاطبة بالقربات ( 3 ) . ( 4 )
وزعم ابن القاسم المالكي المذهب أنه جاء عن مالك - رحمه الله - أنها تجبر على الغسل من الحيضة لا الجنابة ، لأن المسلم لا يطأ امرأته حتى تطهر من الحيض.( 4 )


( 1 ) روضة الطالبين للنووي ( كتاب النكاح - الباب السادس – الجنس الرابع ) وَ نهاية المحتاج للرملي ( كتاب النكاح في بدايته )
( 2 ) أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية (ذكر نكاح أهل الذمة ومناكحتهم )
( 3 ) بدائع الصنائع للكاساني ( كتاب النكاح – فصل جواز وإفساد نكاح أهل الذمة )
( 4 ) المدونة للإمام مالك ( كتاب الوضوء - اغتسال النصرانية من الجنابة والحيضة )



- فصل : وأما تغسيل أمواتهم وما يختص بها :

فالحنابلة لهم فيه قولان ، الأول وهو للإمام مالك ( 1 ) - رحمه الله - أيضا : عدم تغسيله ، ولا حمله ولا تكفينه ولا اتباع جنازته ولا دفنه ، مستدلين بقياس ذلك على إجماع أهل العلم على عدم الصلاة على أمواتهم ، وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ..}- الممتحنة 13 - وهذا الراجح للنهى عن الموالاة وقد أخذنا بعمومها ، ولأنه تعظيم وتطهير له أشبه الصلاة فاتفقت هنا العلة إلا بما يختص بالذميين وسنوضحه بمشيئة الله فيما يأتي .( 2 )
والثاني : عن الإمام أحمد أنه أجاز ذلك كله ولم يحرمه ، وعنه أيضا جواز ذلك إلا غسله .
لأنه عليه الصلاة السلام لما أخبر بموت أبي طالب قال لعلي : قم فوارِه - أخرجه أبو داود والنسائي - .( 2 )
والشافعية والحنفية على جواز كل ذلك أيضا ، مستدلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يغسل أباه عندما مات - حكم النووي بضعف هذا الحديث - ، وأنه صلى الله عليه وسلم
أعطى قميصه ليكفن به عبد الله بن أبي ابن سلول - أخرجه البخاري ومسلم - . ( 3 ) واتفق جميع الفقهاء على أن تغسيله لا يجب على مسلم ( 4 ) .

( 1 ) انظر المدونة للإمام مالك ( كتاب الجنائز - المسلم يغسل الكافر )
( 2 ) انظر المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق ( كتاب الجنائز - فصل في غسل الميت - لا يغسل المسلم الكافر )
( 3 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب صلاة الميت – الصلاة على الكافر ) وَ للحنفية البحر الرائق لابن نجيم ( كتاب الجنائز - باب الصلاة على الميت في المسجد )
( 4 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب غسل الميت - فرع في غسل الكافر )



- وأما اتباع جنائز الكفار الأقارب للمسلم :
فالجمهور والحنفية والشافعية ( 1 ) والحنابلة في أحد أقوالهم على جواز ذلك مطلقا لأقارب المسلم الكفار لما ورد فيما سبق بتجوزيهم ذلك في عموم الكفار فالأقارب من باب أولى .
وأما الحنابلة على قولهم الثاني وهو المذهب عندهم والمالكية – كما سبق - : على عدم جواز اتباع جنازته وإن كان قريبا بل نص الإمام مالك - رحمه الله - بأن حتى وإن كان والده - والمرجع سبق ذكره في قول المالكية السابق - ، ولكن جاء عن الحنابلة رأي وهو المشي أمام جنازته إما راكبا أو غير ذلك حتى لا يواليهم الموالاة المنهية وحتى يواريه فيكون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي عن أبي طالب : قم فواره ( 2 ) .
- وأما زيارة قبورهم :
فالشافعية والحنابلة في المذهب على جواز ذلك عندهم وهو الراجح إلا خلافا عند الشافعية يحكى عن الماوردي ( 3 ) ( 4 ) . وأيضا يجوز زيارة الكافر لقبر قريبه كأبيه ليتعظ - ذكر في نفس المراجع - .
- ودفنهم في مقابر المسلمين لا يجوز إجماعا لأن ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة على ذلك بأفعالهم على تقسيم مقابر للكفار ومقابر للمسلمين .

( 1 ) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ( كتاب الجنائز - التعزية لأهل الميت سنة - اتباع المسلم جنازة قريبه الكافر )
( 2 ) كشاف القناع للبهوتي ( كتاب الجنائز - فصل يحرم أن يغسل مسلم كافرا )
( 3 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب غسل الميت - فرع في غسل الكافر - الحاشية الرابعة )
( 4 ) المبدع في شرع المقنع لأبي إسحاق ( كتاب الجنائز - فصل زيارة القبور )


- وأما الدعاء لهم فلا يجوز لنص الآية { ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } - التوبة 113 - ، والإجماع ( 1 ) .
- وأما أصحاب البدع المكفرة فلا يجوز أيضا تغسيلهم ولا تكفينهم ولا الصلاة عليهم عند الحنابلة - لما ذكر في شرح منتهى الإرادات للبهوتي في كتاب الجنائز فصل في غسل الميت - وهو الراجح . وأين يدفنون على خلاف.
- وأما إن مات ذمي في الدولة الإسلامية ولا مال عنده فقال فيه الشافعية قولان على وجوب تكفينه ودفنه وعدم ذلك والأول راجح للوفاء بذمته عند المسلمين كما أنه يجب إطعامه وكسوته إن عدم المال ، وهذا هو قول شيخ الشافعية أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين - رحمه الله - ( 2 ) .
- وأما الكتابية زوجة المسلم إن ماتت وفي بطنها ولد مسلم - وعرفنا إسلامه بـإسلام الأطفال على الأرجح من الأقوال ولأن أباه مسلم - فتدفن بين مقبرة المسلمين وأهل الكتاب ، هكذا نص الإمام أحمد - رحمه الله - وهو الراجح لأنها كافرة قد يتأذى المسلمون بعذابها وقد يتأذى ولدها بعذاب الكفار إن دفنت في مقابرهم والشافعية أيضا على ذلك في الصحيح عندهم ( 3 ) ، وأما الإمام مالك - رحمه الله - فقد نص على أنها تدفن في مقابر أهل
الكتاب لأنه لا حرمة للجنين قبل وضعه ( 4 ) .
( 1 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب غسل الميت - فرع في غسل الكافر – الحاشية الثالثة )
( 2 ) المجموع ( كتاب الجنائز - باب غسل الميت - فرع في غسل الكافر – الحاشية الثانية )
( 3 ) المغني( كتاب الجنائز - مسألة ماتت نصرانية وهي حاملة .. ) وَ المجموع ( كتاب الجنائز - باب حمل الجنازة والدفن - لا يدفن كافر في مقبرة المسلمين .. ) .
( 4 ) الذخيرة للقرافي ( كتاب الصلاة - الباب الحادي والعشرون في صلاة الجنازة - الفصل الخامس في الدفن )


- فصل في وضوئهم :

- فأما الوضوء فهو عبادة لا تصح إلا من مسلم وبعدم صحته من الكافر قال جماهير العلماء وهو الراجح ، وأما الحنفية فقالوا بجواز الوضوء من كافر لأنه طهارة وهو صحيح منه - أي من الكافر- عندهم ( 1 ) ، وللتنبيه فقد قال ابن نجيم الحنفي المذهب - رحمه الله - بأن من شروط وجوب الوضوء الإسلام ثم ذكر بعد ذلك شروط صحة الوضوء ولم يذكر منها الإسلام ( 2 ) ، فهنا نستطيع أن نقول إن الأحناف قســّموا شروط الوضوء إلى شروط لوجوب الوضوء وعددوا من هذه الشروط إسلام المتوضئ ، وشروط لصحة الوضوء ولم يذكر منها الإسلام فهو يصح عندهم من كل شخص لأنه طهارة عندهم لا عبادة .
والغسل كالوضوء من حيث عدم صحته .
- وأما إذا وَضــّــأَ كافرٌ مسلمــًا فيصح وضوؤه لعدم ورود ما يمنع من ذلك من أدلة .

( 1 ) بدائع الصنائع لأبي بكر الكاساني ( كتاب الطهارة - شرائط أركان الوضوء )
( 2 ) البحر الرائق لابن نجيم ( كتاب الطهارة - أحكام الوضوء )



- وأما ســُـؤْر الكافر - وهو فضلة الشرب - فقد اختلف فيه فبعض من قال بطهارة أبدان الكفار فرق في سؤرهم فقال بنجاسته أو بعدم الوضوء منه ، واختلاف العلماء كالتالي :
فالحنابلة لهم فيه ثلاثة آراء وهي : الرأي الأول : أن سؤره طاهر مطلقا. الرأي الثاني : وقد ورد عن الإمام أحمد أن سؤره نجس .الرأي الثالث : وهو إن كان هذا الكافر لابــَسَ نجاسة أو تدين بها أو أكل الميتة النجسة أو كان وثنيا أو مجوسيا فسؤره عندئذ نجس .( 1 )
وابن حزم - رحمه الله - قال بأن كل سؤرٍ طاهرٌ حلال عدا ما ولغ فيه الكلب لنص حديث وارد فيه .( 2 )
والحنفية قالوا بطهارة سؤره ما عدا شارب الخمر إذا شرب من ساعته . ( 3 )
والمالكية على عدم جواز الوضوء من سؤره . ( 4 )
والشافعية على طهارته وجواز الوضوء منه مالم يعلم نجاسة هذا الماء ( 5 ) .
والراجح هو أن سؤره طاهر قياسا على بدنه لكنه غير مطهر لا يتوضأ منه لاحتمال أكله من نجس في ذاته ونحوه - والله أعلم - .



( 1 ) انظر الإنصاف للمرداوي ( كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة )
( 2 ) المحلى ( كتاب الطهارة - مسألة سؤر الكافر )
( 3 ) البحر الرائق ( كتاب الطهارة - طهارة سؤر الآدمي )
( 4 ) المدونة للإمام مالك ( كتاب الوضوء - الوضوء بسؤر الحائض والجنب والنصراني )
( 5 ) انظر الحاوي الكبير للماوردي ( كتاب الطهارة - باب الآنية - لا بأس بالوضوء من ماء مشرك .. )

- أما الماء المستعمل من قِــبـــَـلِ الكفار في وضوء أو غسل من هذا الكافر :
فروي عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال : (
ولا بأس بالوضوء من ماء مشرك وبفضل وضوئه ما لم يعلم نجاسته ) مستدلا بــأن عمر - رضي الله عنه - : ( توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية ) - أخرجه البيهقي في سننه - ( 1 ) . ولكن لا ارتباط للحكم بالدليل فإن الدليل جاء فيه الوضوء من ماء مشركة وليس من فضل وضوئها إلا عند احتمال وضوئها منه ، فالشافعي يقول بطهارة ما استعملوه في وضوئهم وجواز الوضوء منه ويقول بطهارة سؤره وجواز الوضوء منه ، لأن فضلة الوضوء هي سؤر وزيادة - وهذا الذي جعلنا ننسب للشافعي طهارة سؤر الكافر وجواز الوضوء منه فيما سبق - . فعندئذ نقول إن المستعمل من كافر في وضوء أو غسل هو طاهر كسؤره لطهارة أبدانهم كما بينا وليس للأثر المروي عن عمر - رضي الله عنه - وهو غير مطهر لا يتوضأ منه كما قلنا في سؤره وزيادة وهي أنه قد يلابس مواضع نجاسة وقذارة في بدن هذا الكافر كبول على يده مثلا ، فإن كان السؤر ماء ً خالطه لعاب فقط فإن الماء المستعمل في وضوء أو غسل قد خالطه لعاب وزيادة كنجاسات تبقى على البدن تخرج مع الماء أو قذارات تخرج منه مع هذا الماء ( 2 ) . ولا يحسب أنه مستعمل في تطهير لأداء عبادة لأننا لا نعترف بصحة عباداتهم أصلا وإن صحت فلا صحة لوضوئهم .



( 1 ) انظر الحاوي الكبير للماوردي ( كتاب الطهارة - باب الآنية - لا بأس بالوضوء من ماء مشرك .. )
( 2 ) يعضد هذا الاستنباط ما جاء في البيان في مذهب الشافعي ليحيى العمراني (كتاب الطهارة – باب ما يفسد الماء- فرع ماء وضوء الكافر والمرتد )

- فصل في استعمال آنيتهم وثيابهم :
- أما آنيتهم :
فمذهب الحنفية والحنابلة فيما روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهو المشهور عندهم : إباحة الأكل في آنية الكفار جميعا مالم تنجس أو لم يعلم حالها ، لحديث ( أن
النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة ) - أخرجه أحمد - وتوضُّـؤُ عمر - رضي الله عنه - من جرة النصرانية الذي أخرجه البيهقي ، وحديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ هو وأصحابه من مزادة مشركة ) - متفق عليه - ، وروي عن الإمام أحمد- رحمه الله - تخصيص ذلك بأهل الكتاب لقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } - المائدة 5 - ، ولا يتحقق أكل طعامهم إلا إعداده في آنيتهم .
والشافعية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - : على كراهة استعمال آنيتهم لحديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال : قلت (يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها ) - متفق عليه - .
( 1 )



( 1 ) بنفس المعنى في المغني ( كتاب الطهارة - باب الآنية - مسألة صوف الميتة وشعرها - فصل أطعمة أهل الكتاب ) وَ غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني


( مطلب في حكم لبس ما صبغه اليهود قبل غسله ) .

- وأما ثيابهم :
فالجمهور والحنفية في إحدى أقوالهم والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد على كراهة استعمال عموم ثيابهم التي تلي أبدانهم أو لا تليها وعموم الكفار في ذلك ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) .
وأما الحنابلة والقول الثاني للحنفية على الجواز والإباحة في ذلك كله ( 2 ) .
- وجاء عن الشافعي - رحمه الله - ما يدل على تشديد الكراهة في ما يلي عوراتهم لاحتمال النجس . ( 3 )
- وفي رواية للإمام أحمد - رحمه الله - ما يدل على المنع مما يلي عوراتهم ، وعنه المنع في غير أهل الكتاب . ( 2 )
والراجح الأحوط والله أعلم تطهير لباس عموم الكفار قبل لبسها ، وكذلك ما تيقن طهارته من قِــبَــل ِالكفار .
- والصلاة فيها كحكم لبسها كذلك ، والأحوط تطهيرها أو تيقن ذلك أيضًا.
- وأما الثياب التي نسجها الكفار فإجماع أهل العلم على جواز لبسها ( 1 ) .


( 1 ) المغني ( كتاب الطهارة - باب الآنية - مسألة صوف الميتة - فصل أطعمة أهل الكتاب )
( 2 ) غذاء الألباب للسفاربيني ( مطلب في حكم لبس ما صبغه اليهود .. )
( 3 ) المجموع ( كتاب الطهارة - استعمال أواني الذهب والفضة - استعمال أواني المشركين وثيابهم )
الباب الرابع
في أحكام الزكاة وما يختص بها
- فصل في زكاة الكفار :

لا تجب الزكاة على كافر لأنه غير مخاطب بفروع الشريعة كما تقدم ، وهي عبادة بل وركن من أركان الإسلام وقد نص أيضا غير واحد من أهل العلم على اشتراط النية لها والكافر لا نية له ، وسواء كان ذميا أو محاربا ، قال النووي - رحمه الله - : ( لا تجب الزكاة على الكافر الأصلي حربيا كان أو ذميا فلا يطالب بها في كفره ، وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر ) ( 1 ) وبهذا قال الجمهور من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم ولم أجد أي مخالف في عدم وجوبها على الكفار ، وسواء في ذلك إن أسلم هذا الكافر بعد كفره فلا تجب عليه أيضا فيما سبق من زمن كفـــــره . ( 1 ) ( 2 ) ( 3 )
- وأما المرتد : فالجمهور أيضا من مذهب الحنفية والمالكية والشافعية في إحدى أقوالهم والحنابلة في المذهب على سقوط الزكاة عن المرتد ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) ، لكن إذا وجبت عليه وهو مسلم ثم ارتد فالراجح ما قال الشافعية باتفاق بينهم في مثل هذا على عدم سقوطها عنه بناء على أصله ، وقال أبو حنيفــة بسقوطهــا عنه في مثـــل هـــذه
الحالـــــة ( 1 ) .
( 1 ) المجموع (( كتاب الزكاة - الزكاة لا تجب على الكافر ) وَ ( أيضا فصل وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون - القسم الثاني )).
( 2 ) الإنصاف للمرداوي ( كتاب الزكاة - ولا تجب إلا بشروط خمسة .. )
( 3 ) البحر الرائق لابن نجيم ( كتاب الزكاة - شروط وجوب الزكاة )


- وأما أصحاب البدع والأهواء والطوائف فإن كانوا يكفرون ببدعهم فكالكفار لا تجب عليهم زكاة وإما إذا لم يكونوا كذلك فكالمسلمين ، ويـُـتـــَـورَّع من أخذ زكاتهم للشائبة التي قد تشوبها وهي من أوساخ الناس سواء كانوا ثقات عدولا أتقياء أم لم يكونوا كذلك - والله أعلم - .


- فصل في صرف الزكاة إلى الكفار :
اعلم أولا أنّ أمر الزكاة في الإسلام عظيم فهي من أركانه التي يقوم عليها و بها ينال أجر كبير ويدفع فقر ومسكنة في الدنيا عن الفقراء وغيرهم وبها قد يتأتى الخير للناس في حياتهم العلمية والعملية والاجتماعية وكل مناحي الحياة ، فعند العلم بعظم أمرها في هذا الدين القويم يكون علينا أن نؤكد التالي في مسألتنا :
- استعمال الكفار على زكاة المسلمين :
يشترط في العامل على جباية الزكاة أن يكون مسلما وهذا على الصحيح من مذهب الحنابلة وقاله ابن تيمية وجزم بذلك صاحب الإنصاف المرداوي ( 2 )- رحمهما الله - وغيرهما كثير على هذا القول ، وروي عن الإمام أحمد - رحمه الله - جواز استعمال الكافر على الزكاة لأنه من أضرب الإجارة في حقه ( 1 ) . لكن في الحقيقة نجد أن الراجح هو اشتراط الإسلام في العامل ، قياسا على الأمانة المشترطة باتفاق على استعمال العامل على الزكاة ، بل والكافر ليس بأمين ، ولأنها ولاية على المسلمين فلم يصح تنصيب الكافر لها ، ولأنه ليس من أهل الزكاة فكيف نجعله في موضع أهلهــــــا ( 1 ) ، وأيضــًا لعظم أمر الزكاة في الإسلام كما بينا وعند استعمال كافر عليها قد يحتقر من أمرها فالكافر الذي لا نقبل كثيرا من أقواله في مواطن كثيرة كيف نأتمنه على ما هو من مصارف أركان هذا الدين القويم وهو سيجد في نفسه وجادة أن كيف يعطى قرناؤه من المسلمين من هذه الزكاة وقد يكون لهم الحظ الأكبر وهو لا يعطى إلا ما هو إجارة ، وفيه نفع لعقيدة مخالفة لعقيدته فلا يؤمن مكره وإن رأينا أمانته وصدقه في دينه - والله أعلم - . وحمال الزكاة الذين يوصلونها من مكان لآخر لا يشترط فيهم الإسلام . ( 2 )
( 1 ) المغني ( باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة – مسألة العاملون على الزكاة – فصل من شرط عامل الزكاة .. )
( 2 ) الإنصاف ( كتاب الزكاة - باب ذكر أهل الزكاة - قوله : ويشترط أن يكون العامل مسلما .. )


- صرف الزكاة إليهم :
اعلم أنه لا يجوز إعطاء أي كافر على الإطلاق من الزكاة الواجبة على المسلمين عدا ما كان من باب تأليف قلبه على الإسلام ، وحتى في هذا الضرب قد اختلف أهل العلم فيه وهو مما اشتهر ، فالحنفية والمالكية والشافعية على أحد أقوالهم وهو الصحيح عندهم ورواية عن الإمام أحمد على انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم الكفار ، مستدلين بقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( إنا لا نعطي على الإسلام شيئا ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) - أخرجه البيهقي - ولأن الإسلام قد ظهر ودخل الناس في الدين أفواجــًا ( 1 ) ( 2 ) ( 3 ) ، وأما الراجح ومذهب الحنابلة والصحيح عندهم وأحد أقوال الشافعي على عدم انقطاع سهمهم ، لقوله تعالى { والمؤلفـــة قلوبهـــم } - التوبة 60 - ، ولإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية في يوم حنين - أخرجه مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم : (فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل ، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكني أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ) - أخرجه البخاري - وغيرها من الأدلة الكثيرة ، ولعدم وجود النسخ المدّعى فالحال كما هو عليه وآية المؤلفة قلوبهم من أواخر ما نزل من القرآن ( 1 ) ، والأحاديث التي جاءت في فضل هداية الخلق للإسلام كثيرة وليست بأقل أهمية من إعطائهم من زكاة ، وما يكون من خير يتلو إسلام حاكم أو أمير بتأليف قلبه للإسلام فيتبعه أتباعه بإسلام ، وهذا لا يتوقع قلة أهميته أبدا ، وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم
أموالاً كثيرة جدًا لكفار كما ثبت من الأدلة هو خير دليل على أهمية مسألة تأليف قلب الكافر للإسلام .
( 1 ) المغني ( باب قسمة الفيء والغنيمة والصدقة - مسألة المؤلفة قلوبهم .. )
( 2 ) المجموع ( كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات - صرف جميع الصدقات إلى ثمانية أصناف - سهم المؤلفة قلوبهم )
( 3 ) الذخيرة للقرافي ( كتاب الزكاة - الباب الثامن في صرف الزكاة - الصنف الرابع )



- هذا وقد ذكر القرافي في الذخيرة - بنفس المرجع السابق - باسم المالكية بأن الحاجة إن دعت إلى تأليف قلوبهم بذلك فيعطون .
- وأما الصدقة المستحبة أو صدقة الكفارات والنذور ونحوهما ، فيجوز إعطاؤها للكفار الغير حربيين لأن ذلك من صور البر ولعدم الحرج في ذلك كما قال تعالى {
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }- الممتحنة 8 - ، مع أهمية التنبيه على ألا ينوي بها أحد موالاتهم أو التودد إليهم .
- وأما الطوائف وأصحاب الأهواء والبدع فإن كانوا على بدع وضلالات مكفرة صريحة في الكفر فكحكم الكفار ههنا ، وأما إن لم يكونوا كذلك فيعطون إن كانوا من أصناف الزكاة الثمانية ، و في إعطائهم تأليف قلوبهم إلى عقيدتنا السليمة وأيضا من صور البر إليهم والإحسان المكتوب من الله عز وجل على كل شيء وأيضا من أنهم محسوبون علينا ، ويشترط فيهم ما هو في المسلمين عامة من أن يكونوا من الأصناف الثمانية فقط . ولا يظن ظان أن المقصد من القول بتأليف قلوبهم إلى عقيدتنا السليمة أن هذا مصرف من مصارف الزكاة المفروضة ولكن ذكرناه من قبيل الاستدلال والاستئناس به لتقوية القول بإعطائهم ، وسهم المؤلفة قلوبهم هو إما أن يكون بنية تأليف قلب على الإسلام أو تقوية عقيدة ويقين مسلم على البقاء على دينه وإسلامه ونحو هذين المعنيـين والخروج عنهما لا يصح لما وجدنا من انحصار دلالات الأدلة على المؤلفة قلوبهم والحكمة والعلة من إعطائهم من الزكاة المفروضة وقول العلماء
في معنى ذلك ( 1 ) - والله أعلم - .
( 1 ) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( سورة براءة - قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين - المسألة الثانية عشرة )

البــاب الخامـس
فــي مسائـــــل أخـــرى متفرقــــة
- فصل : فيما يتعلق بالصيام :
- وأما صيامهم على ما تقتضيه شرائعهم ومللهم فلا يمنعون من ذلك الصيام لأنه خاص بهم ولا مانع ولا ضرر على مسلم في ذلك إلا على غرار ما كان يطلب منه ضرورة من إفساد صومه لأجل حاجة دعت إلى ذلك عندنا فيجبر على إفساد صومه كأن يصام عن كلام ويطلب إقراره أو إنكاره من حاكم ونحو ذلك ولأنه لا صحة لصومه أصلا عندنا .
- ولا يجب عليه صوم صيامِ المسلمين إجماعا ، لأنه غير مخاطب بالفروع كما ذكرنا ولأنها عبادة مُجمَعٌ على التعبد بها تجب لها النية . ( 1 )
- وأما إن أسلم في شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما فات من الأيام ولا الرمضانـات السابقة وهذا قول الجماهير وقول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، لأنه لم يجب عليه الصوم فلم يجب عليه القضاء ولان الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، وخالف في هذا إمام مكة عطاء بن أبي رباح - رحمه الله - . ( 2 )
- وأما إن أسلم في نهار من أيام رمضان لزمه صيام ذلك اليوم بإمساكه فيه وقضائه فيما بعد لأنه أسلم وخوطب
بالصيام وقد أدرك جزءًا من وقت العبادة فلزمته كما لو أدرك مُدرِكٌ وقت الصلاة ، وهذا مذهب الحنابلة. ( 2 )

( 1 ) المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق ( كتاب الصيام - من يجب عليه الصوم )
( 2 ) المغني ( كتاب الصيام - مسألة أسلم الكافر في شهر رمضان )



- وأما المالكية والشافعية فقالوا بعدم لزوم إتمام صيام يوم إسلامه وقال الشافعية باستحباب إتمام الصيام ، وأما قضاؤه فيما بعد فأيضا قال فيه المالكية والشافعية بالصحيح عندهم على استحباب صيامه على قول ثانٍ عند الشافعية . ( 1 ) ( 2 )
- ولا يؤخر الدخول في الإسلام أبدا لأجل انتظار نهاية نهار يوم حتى يخرج من اللبس في صومه مثلا ونحو ذلك فلا يجوز أبدا تأخير الدخول في الإسلام لذلك ولا لأي عرض آخر كما ذكرنا في الغسل - والله أعلم - .


( 1 ) المجموع ( كتاب الصيام - أسلم الكافر أو أفاق المجنون )
( 2 ) الذخيرة ( كتاب الصيام - الباب الثاني في شروطه - الشرط الثالث )



- مسألة : وأما الحج فلا يجب عليهم بل ويحرم ويلزم عموم المسلمين منعهم من حج بيت الله الحرام إجماعا ، لأمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر - رضي الله عنه- أن يُؤذّن في الناس : " ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " - أخرجه البخاري - .
- وأما إن حج في كفره فلا يعتد بهذا الحج ولا يجزئه في الإسلام ، بل يلزمه إن أسلم أن يحج ، لأن الحج عبادة لم تصح إلا من مسلم وإن أداها على شروطها وأركانها وواجباتها وسننها - والله أعلم - .
- وإن ارتد مرتد واستطاع الحج في زمن ردته لزمه الحج بعد أن يسلم وإن أصبح في زمن الإسلام غير مستطيع لأنه قد انشغلت ذمته بالاستطاعة التي حصلت له وهو مأمور بالعود إلى إسلامه . ( 1 )


( 1 ) المجموع ( كتاب الحج - حج المجنون )


- مسألة : في أمور البر والإحسان إليهم :
قال ربنــا عز وجل : {
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } - المجادلة 22 - ، وقال جل وعلا : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ..} - آل عمران 28 - ، وقال أيضا عز وجل : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } - الممتحنة 8 - ، من هذه الآيات يرى الناظر من النظرة الأولية في الآيات التعارض في الظاهر بين الخبرين الأوليين وبين الخبر الثاني عن المولى عز وجل ، ولكنها حكمة الله التي اقتضت تعايش الصالح مع الفاسد والعاقل مع الغير عاقل ، فلم ينحى بنا المولى ناحية واحدة في التعامل مع هؤلاء الكفار ولكن قسم لنا التعامل معهم على ضربين اثنين بمقتضى ما جاءنا : فالأول بما يختص بالقلب والاعتقاد ، والثاني بما يختص بغير القلب والاعتقاد أيــًا كان.
- فأما ما يختص بالقلب والاعتقاد فأمه في هذا الباب هو المحبة والمودة المنصوصة في الآية المذكورة وما يتبع هذا الحب والمودة من توابع ، فنفى جل وعلا الإيمان عن من كان في قلبه حب لكافر كائنا من كان هذا الكافر فعندئذ يرى العاقل أهمية تخلية قلبه عن هذا الجرم من صرف حب وتودد لهم وما يتبع ذلك من نصرة لدينهم أو تعزيز ونحو ذلك لأن المؤمن يرى أن الحق دائما واحد وهو يسعى وراءه بشتى الصور وينصره ويفني حياته من أجله ، وأما الباطل فإما أن يتركه وشأنه ولا ينصر أو يعارض وإما أن يعارضه ويبين بطلانه وهكذا وهذا ينطبق تمام الانطباق على ما يعتقده في جميع ملل الكفر ونحلها - والله أعلم - ، أما بالنسبة لما يُــجْـبـَــل عليه من حب فطري كحب أمه
وأبيه مثلا فلا ينكر هذا الحب ولكن يستنكر بمعنى أنه قد يكون موجودا وهذا الأغلب في أكثر البشر سواء أكان دينه مغاير لدين أمه مثلا أو موافق ، فنقول له أنت قد تحبها بدليل أن تتمنى دخولها في الحق والإسلام ولكن لا يكن هذا الحب مطلقا كأن يكون ناصر لدينهم ونحوه أو مفضلا لهما على الإسلام أو أهل الإسلام وأما عامة المحبة الجبلّية فتنصرف إليهما كما قال تعالى فمن أبواه مشركان : { وصاحبهما في الدنيا معروفا } - لقمان 15 - ، وأيضا حب الزوج لزوجته ونحو ذلك من الأمور التي لا ينجم عنها خطر ولو ضئيل عن في الإسلام أو خطأ وتخطئة فيه - والله أعلم - .
- وأما ما يختص بغير القلب والاعتقاد : فالتعامل فيه بالبر والإحسان عموما من منطلق الآية الثالثة وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. ) - أخرجه مسلم - بشرط أن يكون هذا الكافر غير حربي فإن كان كذلك فيعمه برنا وإحساننا إليه إما تأليفا لقلبيه على الإسلام بأفعالنا وأخلاقنا وإما لِــحِكَم وعلل رءاها الشارع الحكيم ولم نعلمها نحن البشر القصّر ، ومع القول بعموم البر والإحسان نخصص منه ما خصصه الشارع سبحانه وتعالى فعدم العمل به برا بهم أو إحسانا إليهم كعدم البداءة في السلام فقد جاء النص بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق ، فاضطروهم إلى أضيقها ) - صحيح أخرجه أحمد ومسلم والترمذي - ،ونحو ذلك مما جاءنا فيه شرع ، وأيضا لا يتقدم بر كافر على بر مسلم أبدا لحقه الأعظم في الإسلام ولأنه أولى بالبر .
وإن طُلِبَ مِنَّا البر والإحسان إليهم فالعدل في التعامل معهم من باب أولى والعدل منصوص عليه بالأمر به في نفس الآية - والله تعالى أعلى وأعلم - .



الخاتــمــة
ختاما أسأل المولى العلي القدير أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والسداد والحق والصواب ، وأن يجعلنا خَدمةً لدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم آخذين بها ناشرين لها وداعين إليها .

- ثم إني قد توقفت عند جانب العبادات مع الكفار لنظري عن قلة ما قد جُمِعَ فيه من المصنفات في هذا الجانب ( ولم أجد على بحث مخصص فيه أو جمع لمسائل العبادات معهم ) ورأيت القدر الأكبر قد كان في جانب المعاملات والأحوال الشخصية وغيرها من أبواب الفقه . فنسأل الله أن نكون قد أفدنا واستفدنا . والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .
اللهم ما كان من خطأ في كلامي ، فاغفره فإنك أهل العفو والمغفرة ، وما كان فيه من صواب فأنت وحدك المعين عليه فلك الحمد أولا وآخرًا .
وصلى الله على الإمام المجتبى والرسول المصطفى محمد بن عبدالله من حاز الشرفا وعلى آله وصحبه رموز الوفا .. وسلم تسليمــًا كثيرًا .


- المراجع :
1 - القرآن الكريم .
2 - الأحاديث النبوية .
3 - لسان العرب لابن منظور .
4 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم .
5 - أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي .
6 - الإرشاد لمعرفة الأحكام للسعدي .
7 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية .
8 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية .
9 - السيرة لابن هشام .
10 - البداية والنهاية لابن كثير .
11 - من فقه الأقليات الإسلامية لخالد عبد القادر .
12 - أحكام التعامل مع غير المسلمين لخالد الماجد .
13 - تفسير ابن جرير الطبري .
14 - تفسير ابن كثير .

15 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي .
16 - المغني لابن قدامة .
17 - فتاوى الشيخ ابن باز .
18 - المحلى لابن حزم .
19 - القول المعلِم في جواز دخول المسجد لغير المسلم لمصطفى الفاسي .
20 - الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح .
21 - الفروع والأصول لسعد الشثري .
22 - المجموع شرح المهذب للنووي .
23 - مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للحطـاب .
24 - روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي .
25 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي .
26 - أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية .
27 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لأبي بكر الكاساني .
28 - المدونة للإمام مالك .
29 - المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق .
30 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم .

31 - كشاف القناع على متن الإقناع للبهوتي .
32 - الذخيرة للقرافي .
33 - الإنصاف للمرداوي .
34 - الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي .
35 - البيان في مذهب الشافعي ليحيى بن أبي الخير العمراني اليمني .
36 - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب لمحمد السفاريني .
 

المرفقات

  • فقه التعامل مع ا&.docx
    259.9 KB · المشاهدات: 1
إنضم
29 أبريل 2008
المشاركات
31
التخصص
الشريعة
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هِدَايَةُ اْلأَبـْصَار في فِقٌهِ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ والْفُجَّار

والحمد لله أولا وآخرا
 
أعلى