أنا أضع البحث هنا على صورة واحدة للتسهيل على الإخوة نقله، كما راعيت ما لم أراعه عند كتابة الموضوع على شكل الحلقات التي كان مقصودها التدراس،وقد زدت شيئا ما لم يكن هناك، وهو إضافة دليل تاسع إلى أدلة المبيحين، وإن كان ثمة ملاحظات فأنا فرح بها ومغتبط .
البحث :
التدرّج في تطبيق الشريعة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله محمد من لا نبي بعده ، وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار ، والتابعين لهم بإحسان واختيار إلى يوم الدين ، وبعد :
فإنه مما لا شك فيه أن تحكيم الشريعة الغراء المنزلة على خاتم الأنبياء وزعيم الأصفياء من أوجب الواجبات ، بل إن ذلك من تمام التوحيد بل من لبّه وماهيته ..
قال الله تعالى : (إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيّم(
وقال تعالى : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم(
كما أنه لا شك في أن تنحية الشريعة الإسلامية المنزلة ، وإحلال ما أنتجته عقول البشر مكانها في مقام الحكم والتحاكم من أعظم الذنوب ، وأغلظ العيوب ..
قال الله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الكافرون(
وقال سبحانه : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الظالمون(
وقال جل وعلا : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الفاسقون(
ثم إنه تبارك وتعالى قد كذب مدّعي الإيمان في دعواه إذ يتحاكم إلى الطاغوت فقال : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا(
وإن الناظر فيما آل إليه أمر الأمة في عقودها الأخيرة ليجد الواقع الذي تحياه واقع أليم مرير ؛ ابتداء من سقوط الخلافة الإسلامية على أيدي العلمانيين ، ومرورا بالحروب الدامية حامية الوطيس التي عاشها تيار الدعوة إلى الإسلام وإلى تحكيمه في داخل بلاد المسلمين طول تلك السنوات السوداء المظلمة .
حتى إذا رجع المرء نظره مرّة تلو الأخرى ، وكرة بعد كرة ؛ تبدّى له أن تغييرا بات واضحا أمام العيان - وكان قبلُ بصيصا يخيل لرائيه أنه نوع سراب وما هو كذلك - ..
هذا التغيير المذكور هو التغيير في البنية الفكرية للشعوب الإسلامية ، التي عاشت سنوات وعقودا في أمواج كالجبال من التيارات الفكرية المتلاطمة ..حينا من الشرق الملحد وحينا من الغرب الصليبي الحاقد ، أقول : يلاحظ الناظر أن الإسلام والفكر الإسلامي قد انهى المعركة الفكرية في عقول تلك الشعوب لصالحه إلى حدّ بعيد ، فبات الإسلاميون القوّة العظمى على الساحة السياسية في بلاد المسلمين عموما بعد دهور من الإقصاء والإبعاد .
لكن - على الرغم من هذا الذي بيّنته إلا أن الواقع التقليدي للمسلمين سياسيا واجتماعيا لم يزل على ما هو عليه من تشبث بالأوضاع القائمة البعيدة عن روح الإسلام ، بل المناوءة له في أكثر الأحيان ..
ولم يصل المدّ الإسلامي إلى القوّة التي تمكنه من الحسم الواقعي لصالحه كما سبق له الحسم الفكري ، لكن ململات التغيير تظهر بين الحين والآخر على شكل تجارب متفرقة لإدارة الحكم أو المشاركة فيه في بلدان مختلفة ..
في ظل هذا الواقع بدت مسألة من المسائل المهمة التي أضحت تشكل محلّ خلاف بين القائمين في حقول الدعوة الإسلامية بين مؤيد لها وآخر معارض ، قد فرضها الوقع الميداني :
هل يسوغ تأجيل شيء من التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية ريثما يتهيأ تطبيق الكل المتكامل منها ؟ أم أنه لا يجوز ذلك بحال ؟ وإنما الوجب أخذ هذه الشريعة بالتطبيق الكامل كما أنه لا بد فيها من الاعتقاد الكامل ؟؟
هذا هو محل الخلاف - خصوصا - بعد تفرد بعض الحركات بالحكم بعد مرحلة من المشاركة فيه .
هذا ، وأسأل الله تعالى العون والتوفيق ، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
**ملاحظة مهمة لا بد من بيانها
يتبادر إلى الذهن عند إطلاق تطبيق الشريعة أن المراد هو تطبيق الحدود والعقوبات .
وليس الأمر كذلك ، وهذا الظن يسيء إلى الشريعة الإسلامية المتكاملة ، من حيث إنه قصرها على مجموعة من العقوبات والحدود ، على تغافل عن سعة هذه الشريعة وشمولها لجوانب الحياة بكل ؛ حياة الفرد وحياة المجتمع .
فالتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية معناه التحدث عن تطبيقها في مجال :
- العبادات ، وإقامة الشعائر الدينية .
- الأحكام الأسرية ، وما يتعلق بالعلاقات بين الأقارب والأرحام .
- المناهج التعليمية ، وتربية النشء .
- النظام الاقتصادي ، والمعاملات المالية .
- الإعلام ، وما يتعلق به .
- الحدود والعقوبات التعزيرية .
- النظام الداخلي ، والقضاء بين الناس .
- أنظمة مراقبة الفساد .
- العلاقات الدولية ، وسياسات الحرب والسلم ، وإعلان الجهاد أو السلم .
- النظم الشرعية التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، من حيث : تولية الحاكم ، وصلاحياته ، والهيئات الرقابية ، وما له على الناس ، وما للناس عليه .
وغير ذلك من المجالات والساحات التي لم تغفلها الشريعة أبدا ، ومن الظلم بمكان قصر هذه الشريعة المتكاملة على جانب معين .
والذي دفع إلى التقديم بهذه المقدمة ما رأيته من كلام لبعض العوام مرتكز على هذه الأغلوطة ، هذا فليُعلم ، والحمد لله رب العالمين .
تعريف التدرج :
أقول :
نعني بالتدرج الذي نبحثه :
"المرحلية في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على المجتمع بسبب عدم صلاحية المجتمع آنيا للتطبيق الكامل ، مع النية الجادة والسعي الدؤوب لهذا التطبيق الكامل متى أتيح المجال ، وسنحت الفرصة" .
وعليه ، فإننا لا نعني به :
- التطبيق المرحلي في حين تسمح الظروف بالتطبيق الكامل .
-
ولا نعني به كذلك التطبيق المرحلي للشريعة في ظلّ عدم وجود نية دافعة للتطبيق الكامل ، ليراد بدعوى المرحلية والتدرج التأجيل وإماتة الفكرة ، وإطفاء جذوة المطالبة بتطبيقها .
نعم ، عندما نبحث في حكم المرحلية والتدرج ، لا نبحثه إلا خارج هذه النيات الخبيثة ، وإلا خارج الظروف السانحة .
اختلاف العلماء في هذه المسألة :
وعلى ذلك ، فقد اختلف العلماء والعاملون في حقل الدعوة الإسلامية اليوم إزاء هذه المسألة على قولين .
أيّد الأول فكرة التطبيق المرحلي ، متى دعت إليها الحاجة ، ورأوا في ذلك ضرورة تقتضيها طبيعة الواقع المعقد الذي يعيشه المسلمون ، ومصلحة لا يمكن تجاوزها وإغفالها حتى يُؤتيَ هذا التطبيق أكله ، وينبت زرعه مستويا مستغلظا على سوقه .
أما الآخرون فقد رأوا أن أي تأجيل وإرجاء لتطبيق أي حكم من أحكام الشرع الحنيف بدعوى المرحلية والتدرج لا يجوز بحال ، وكيف يجوز ذلك ، والدين قد كمُل والتشريع قد تمّ ؟
واستدل كل فريق من هذين الفريقين بمجموعة من الأدلة نصروا به مذهبهم ، أحاول في هذه الصفحات أن أجمع لكل مذهب أدلته ، وما أراه مما يصلح أن يُنصر به قوله ، وأجيب بأجوبة المخالف أو ما يصلح أن يجاب به عليه مما أراه .
أدلة الفريق الأول :
فأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان :
استدل المانعون من التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية بأدلة أهمها :
الدليل الأول : قول الله تبارك وتعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة .
ووجه الدلالة منه :
أنه ما دام الدين قد كمل، والأحكام قد استقرت - كما بيّنت الآية الكريمة - فكيف يجوز التدرج بتطبيقه وتأجيل ما يُزعم من عدم إمكانية تطبيقه ؟
قالوا :
وما نُقل من التدرج في الأحكام الشرعية إنما كان قبل استقرار الأحكام واكتمال الدين ، أمَا وقد كان؛ فلا يجوز تأجيل التطبيق بدعوى المرحلية واستدلالا بالتدرج في التشريع الذي كان قبل نزول الآية المذكورة .
الدليل الثاني : قول الله تبارك وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدوٌّ مبين)البقرة.
ووجه الدلالة من الآية - كما ذكر المفسرون - أن هذا أمر من الحق سبحانه بالتزام شرائع الإسلام جملة (انظر:تفسير القرطبي/317،وفتح القدير 1/210) ، وإذا كان ذلك كذلك؛ فكيف يجوز ترك شيء من أحكام الإسلام بحال من الأحوال ؟وما التدرج والمرحلية - كما يرون - إلا ضرب من ترك العمل بهذه الآية الكريمة .
الدليل الثالث : قول الله تبارك وتعالى : (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين) آل عمران .
ووجه الدلالة منه :
أن الآية الكريمة فيها الأمر بالمسارعة إلى ما يرضي الله تعالى، وما يرضيه سبحانه هو تطبيق شرعه، وجريان أحكامه، وتحاكم الناس إلى دستوره الذي أنزله على عبده ليحكم به بين الناس .
وما التدرج والمرحلية إلا تباطؤ لا مسارعة، وهو معكوس مطلوب الآية، فوجب كونه منهيا عنه .
الدليل الرابع : ما رواه ابن هشام في سيرته، قال :
"قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا : بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع، قال يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه ... حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم قال فاسمع مني؛ قال : أفعل، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم { حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك". (سيرة ابن هشام1/292(
وجه الدلالة ما سبق :
أن قريشا قد عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أمورا منها : الملك ، وكان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى "مرحليا" بهذا الخيار، في الوقت الذي يسعى فيه إلى الوصول بهم إلى ما يريده ، لكنه لم يفعل ذلك، فدلّ على منعه .
الدليل الخامس : موقف أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى } ، فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" رواه الجماعة إلا ابن ماجه ، لكن في لفظ مسلم والترمذي وأبي داود :"لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه" بدل "العناق" . اهـ .
وجه الدلالة من هذا الحديث : أنه لو كان التدرج في تطبيق الشريعة جائزا لسلكه أبو بكر رضي الله عنه ، ولأخذ هؤلاء بالتدرج والمرحلية حتى انتهى بهم إلى تأدية الزكاة، لكنه لم يفعل ذلك، بل آلى أن يقاتلهم لو منعوه عناقا أو عقالا - كما في الرواية الأخرى -، وهذا يدلّ على أن ترك شيء من الشرع لا يجوز بحال .
أدلة الفريق الثاني :
ننتقل إلى عرض أدلة المبيحين للتدرج والمرحلية في تطبيق الشريعة، ومن ثم نناقش الأدلة معها وبعدها، فالله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
فأقول وبالله التوفيق ومنه الهداية :
استدل المبيحون للتدرج في تطبيق الشريعة بعدة أدلة، أذكر منها :
الدليل الأول : ما هو معلوم من التدرج في تشريع الأحكام الشرعية، كالخمر وغيره، حيث إن نزول الأحكام الشرعية لم ينزل دفعة واحدة، وإنما تدرّج تشريعها حتى بلغت الصورة النهائية إذ تهيأت النفوس لقبولها .
ويقال في هذا المقام : صحيح أن هذه المرحلة في تدرج التشريع قد انتهت، واستقرت الأحكام، إلا أن هذا التدرج الذي ألفيناه في تاريخ التشريع له مدلولاته المنهجية في التطبيق، فقد جاء عن يوسف بن ماهك، قال :
"إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال أي الكفن خير قالت ويحك وما يضرك قال يا أم المؤمنين أريني مصحفك قالت لم قال لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك أيه قرأت قبل إنما نزلت أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر قالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا لقد نزل بمكة على محمد {صلى الله عليه وسلم} وأنا جارية ألعب ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وما نزلت سورة البقرة والنساء ولا وأنا عنده قال فأخرجت المصحف فأملت عليه آي السور" صحيح البخاري.
وجه الدلالة من سياقة هذا الحديث قولها رضي الله عنها : "حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر قالوا لا ندع الخمر أبدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا" .
وهو يشير إلى ملحظ منهجي مقصود من التدرج التشريعي، وهو التدرّج التطبيقي .
ويقال – أيضا – : إننا متفقون على أن الأحكام قد كمُلت واستقرت بأثوابها النهائية، لكن ذلك لا يُناقض التدرج في التشريع ، فالمحرم مثلا من المحرمات لا يصبح وفق "التدرج" مباحا ، بل هو على ما هو عليه من الحرمة؛ إذ إن الأحكام قد استقرت واكتملت، وإنما الذي نتدرج به : تطبيق هذه الأحكام على المجتمع من إقامة الحدود ، وأسلمت المعاملات وغير ذلك مما يلزم لتطبيقه الكامل تطبيق تدريجي، وهو ما سمّاه بعض الباحثين بـ "إرجاء التطبيق" ، وسمى فقه التدرّج هذا بـ "فقه الإنجاز" . انظر فقه التدين للنجار /ج2 .
والتطبيق المرحلي هذا يقود إلى التطبيق الكامل على الوجه الصحيح، أما نقل المجتمعات مباشرة من جاهليتها التي تعيشها إلى التطبيق الكامل للشريعة قد لا تكون نتائجه دائمة أو ناضجة، وقد تدفع الشعوب التي تعيش انفصاما بين الحياة وبين الدين إلى مدافعة الشريعة ونبذ القائمين على تطبيقها والدعاة إليها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التى هي المقاييس العقلية والقصص والوعد والوعيد ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعَه الظاهرة من الجمعه والجماعة والأذان والإقامة والجهاد والصيام وتحريم الخمر والزنا والميسر وغير ذلك من واجبانه ومحرماته، فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها" . (مجموعة الفتاوى10/355) .
الدليل الثاني : الأدلة العامة الحاثة على التؤدة والرفق، منها :
**قوله صلى الله عليه وسلم : (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وزاد البيهقي والبزار وزاد : (فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) .
والمنبتّ هو الذي جدّ في سفره حتى هلكت راحلته بسببه، فلا هو وصل إلى بغيته وحقق غايته، ولا هو حافظ على راحلته وأبقى عليها .
وكذلك التعجل في التطبيق الكامل للشريعة على مجتمعات لم تتهيأ بعد لذلك، فلا نحن نجحنا في المحصلة في التطبيق، ولا نحن حافطنا على ما توصلنا إليه من إنجازات دعوية في داخل المجتمعات .
والمقصود :
أن التؤدة والترفق في التطبيق مع النية العازمة والعمل الدؤوب موصل إلى المطلوب من التطبيق الكامل الحقيقي إن شاء الله تعالى .
ومنها أيضا :
قوله صلى الله عليه وسلم : (القصدَ القصدَ تبلغوا) رواه الإمام البخاري .
وهو إرشاد نحو التصبر والتمهل في الأمور، ومنها ما نحن بصدد معالجته .
الدليل الثالث : عموم قوله صلى الله عليه وسلّم : (نبدأ بما بدأ الله به) رواه الشيخان وأصحاب السنن, وفي رواية النسائي : (ابدؤوا بما بدأ الله به) .
قالوا : وهذا نصٌّ في مراعاة التدرّج في التشريع عند التطبيق . (سامي السويلم، فقه التدرج في الاقتصاد الإسلامي، ص11) .
وتطبيقات هذه القاعدة في فقه النبوة كثير، منه ما يأتي من أدلة .
الدليل الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل لما بعثه لليمن: ”إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم. فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم. فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس“
[متفق عليه].
وواضح أن هذا كان بعد نزول الأحكام وفرض الفرائض، ومع ذلك تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة أهل الكتاب في اليمن رفقًا بهم وتثبيتًا للإيمان في نفوسهم.
قلت : وهذا دليل واضح وصريح في الدلالة على جواز التدرّج، من حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بيّن لمعاذ أن لا ينتقل إلى الركن أو الفريضة التالية إلا بعد تقرير الفريضة السابقة للأولى، وهذا هو التدرّج الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ أن يُبدأ بالأهم الذي ينبني عليه غيره؛ ثم يُنتقل بعده إلى المهم الذي تكتمل به الصورة، ويتكامل به التطبيق .
الدليل الخامس: التعامل مع المنافقين في المدينة، وعلى رأسهم عبد لله بن أبي بن سلول، وكان عظيمًا في قومه. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداريهم ويترفق بهم ليتألفهم.
وحدث في غزوة بني المصطلق أن قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه عمر رضي الله عنه بقتله. فجاءه ابنه :
عبد الله بن عبد الله بن أبي، فقال: ”يا رسول الله: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار“ .
فقال عليه الصلاة والسلام: ”بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا“. فكان أصحاب عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث هم الذين يعاتبونه ويعنفونه ويتوعدونه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأﻧﻬم: ”كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأُرعدت له آنفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتَلته“. فقال عمر رضي الله عنه: ”قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركًة من أمري“".(البداية والنهاية 4/158 ، صحيح السيرة النبوية 339) .
قلت : وهذا دليل على ما سمّيناه بـ : "إرجاء التطبيق" ، فابن أبيّ كان يستحق القتل يوم استأذن عمر رضي الله عنه بقتله، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر تطبيق الحكم وأرجأه لما يترتب على ذلك من المصالح ولما يترتب على تطبيقه من المفاسد، كما ظهر من الحديث، وقد ورد في رواية البخاري ومسلم : " فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - « دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه »" .
الدليل السادس: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع ثقيفًا على الإسلام اشترطوا عليه أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد أن بايعهم: ”سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.“ [السلسلة الصحيحة، ١٨٨٨ ].
قالوا : فها هو صلى الله عليه وسلم يقبل شرط ثقيف ألا يتصدقوا ولا يجاهدوا، وذلك لعلمه عليه السلام أﻧﻬم إذا أسلموا وتمكن الإيمان من قلوبهم ستطيب أنفسهم بذلك. فهو صورة من صور التدرج في الدعوة وفي امتثال أحكام الشريعة الإسلامية.
ويلاحظ أن هذا التدرج وقع حال عز الإسلام وعلو كلمته وقوة سلطانه. فالحاجة إلى التدرج حال الاستضعاف من باب أولى.(فقه التدرج في الاقتصاد الإسلامي ص12) .
الدليل السابع : في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ”بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ﴿أن لا يشركن بالله شيئًا﴾، وﻧﻬانا عن النياحة. فقبضت امرأة يدها فقالت:
"أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها". فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فانطَلَقت ورجعت، فبايعها“. وفي رواية عند الإمام أحمد: ”فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقها على ذلك، فذهبت فأسعدت ثم رجعت فبايعت النبي صلى الله عليه وسلم.“ والإسعاد هو نياحة المرأة مع أخرى .[٦٣٨-٦٣٧/ تساعدها عليه [فتح الباري، ٨
فقد تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي أخرت المبايعة لحين مكافأة تلك التي أسعدتها .
ولا ريب أن النياحة محرمة، وأن المبادرة للبيعة واجبة، مع ذلك تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخير هذا الواجب وارتكاب ذلك المحرم لمصلحة تأليف قلب هذه المرأة وقلب المرأة
الأخرى أيضًا. والأهم من ذلك أن هذا أدعى أن تثبت هذه المرأة على بيعتها ولا تستجيب فيما بعد لما قد يدعوها لنقضها لأي سبب من الأسباب، وهذه هي حكمة التدرج، كما سبق. ولذلك كانت هذه المرأة ممن ثبت على البيعة ووّفى .
قالت أم عطية: ”فما وّفى منا غير تلك، وغير أم سليم بنت ملحان“ (نظر: مراعاة أحوال المخاطبين، ص97- 98) .
الدليل الثامن : حديث عائشة - رضي الله عنها - : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها:
« ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة ، اقتصروا عن قواعد إبراهيم ، فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت ، فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ما أرى أن رسول الله ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم » وفي رواية قالت : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : « لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر ، وفي أخرى قالت : قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ، ثم لبنيتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا استقصرت بناءه ، وجعلت له خلفا » قال هشام : يعني بابا.
وفي رواية أخرى قالت : « سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجدر : أمن البيت هو ؟ قال: نعم، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة،قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ، ويمنعوا من شاؤوا ، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض ».
رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم .
ثم لما بعُد العهد بالجاهلية، وجاء ابن الزبير فهدمها وبناها على قواعد إبراهيم، مما يعضد ما نؤصل له من مسألة التدرّج التي هي كالأصل في الشريعة الإسلامية .
الدليل التاسع : حديث الأعرابي الذي دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وشرع يبول فيه، فنهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: ”لا تزرموه، دعوه“. فتركوه حتى فرغ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ”إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن“، وأمر بدلوٍ من ماء فصبّ عليه .
فترك النبي صلى الله عليه وسلم للرجل حتى يبول تأخير للحكم الواجب وهو تطهير المسجد، لكنه ليس تسويفًا ولا إهمالا، بل تريثاً لحين الوقت المناسب لتنفيذ الحكم . (فقه التدرج في تطبيق الاقتصاد الإسلامي ص17)
الترجيح :
الناظر في أدلة أصحاب القولين، يرى أن أدلة القول الثاني القاضية بجواز التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية أقوى من أدلة الفريق الأول، مع ظني بأن كلاً من الفريقين يملك من الأدلة ما ينهض للاستدلال به على مذهبه، إلا أنني اعتبرت أدلة القول الثاني أقوى وأرجح .
وللإجابة على أدلة الفريق الأول أقول :
- ما كان من استدلالهم بقول الله تبارك وتعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة .
فلا يُناقض القول بالتدرّج، إذ إن القول بالتدرج غير مقتض لتمام التشريع ولا لاستقرار الأحكام في صورتها النهائية، فليس هو دعوة إلى العودة بهذه الأحكام إلى أصلها قبل صورتها النهائية التي كانت عليها في النهاية ، وإنما هو تدرّج في التطبيق مع اعتقاد حكم المسألة، أو هو إرجاء لتطبيق الحكم المعتقد في المسألة لعارض أو مانع من تطبيقه .
- أما استدلالهم بقول الحق تبارك وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) البقرة .
فليس كذلك بصريح في مسألتنا هذه، إذ إن الداعي إلى التدرج ليس برافض شيئا من الإسلام، وإنما ساع ٍ إلى تطبيقه الكامل وإلى تحكيمه التام، وما أخره إلا إعداد العدة وتهيأة الأوضاع لاستقبال الإسلام بكليته لتنفيذ الأمر المأمور به في هذه الآية .
- وأما الأمر بالمسارعة في قوله تعالى : (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) آل عمران .
فللمخالف أن يقول : أنا ما أردت إلا المسارعة المأمور بها، إلا أن المسارعة المحمودة تكون بضوابطها من استكمال الشسروط وإزالة الموانع، "ومن استعجل شيئا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه" .
وأما السبب الذي لأجله لم يستجب النبي صلى الله عليه وسلم لقريش في عرضها عليه الملك وغيره، ومن ثم يتدرج بهم صلى الله عليه وسلم لما يريد، فقد يكون لأكثر من سبب، منها :
*علمه صلى الله عليه وسلم بأن قريشا أرادت استدراجه هو ليتنازل عن شيء مما لا يسوغ التنازل عنه ، ويؤيده قول الله تبارك وتعالى : (وإن كادوا ليفتنونك عن بعض ما أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذأً لاتخذوك خليلا) الإسراء.
*أنه علم صلى الله عليه وسلم أن قريشا أرادت صناعة تهمة لدعوته عليه الصلاة والسلام، بتصويره طالب سلطة، وصاحب هوىً - حاشاه -، لا صاحب عقيدة ودعوة .
أو غير ذلك من الاحتمالات الواردة .
- وأما بالنسبة إلى موقف الصديق رضي الله عنه، فليس مما يستدل به على ما نحن بصدد الحديث عنه، لأن الصديق رأى أنه ليس بحاجة إلى التدرّج معهم، بل رأى بأخذهم بالقوة السبيل الأنسب لحسم المشكلة، ثم هو رضي الله عنه كان الطرف الأقوى، ونحن إذا تحدثنا عن التدرج المباح إنما نتحدث عنه في الظروف التي لا يمكن معها التطبيق الكامل، ويكون ذلك في أزمنة الضعف وعموم الفساد وطغيانه، من ثم الحاجة في إزالة هذا المنكر إلى التدرج والمرحلية .
نماذج سلفية من تدرّجهم رضي الله عنهم وفتاواهم في ذلك :
1- روى ابن الجوزي أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه أمير المؤمنين الخليفة الراشد الخامس وقت قيلولته يستعجله بردّ المظالم إلى أهلها، فقال له عمر : يا بني، إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومتي الأجر مثل ما أحتسب الذي في يقظتي، إن الله لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، لكنه أنزل الآية والآيتين حتى استكنّ الإيمان في قلوبهم . (سيرة عمر بن عبد العزيز ص127) .
2- وروي أن ابنه عبد الملك قال له : يا أبت لم لا تنفذ الأمور ؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور ! فقال له عمر رضي الله عنه : "لا تعجل يا بني، فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرّتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة" .(العقد الفريد 1/30 ، الموافقات 2/94) .
وفي هذين الأثرين تقوية لاستدلال المبيحين للتدرّج بالتدرج في تشريع الأحكام كما هو في دليلهم الأول، إذ يظهر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استدل على التدرّج في التطبيق بالتدرج في التشريع .
-3 سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون فيشهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون ؟ فقال : أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه . (البيان والتحصيل 1/291)
4- وفي معنى ما أفتى به الإمام مالك رحمه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث جاء في فتاواه :
”فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكّن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكّن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى بياﻧﻬا...
فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا
. ومعلوم أن الرسول لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبّلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلّقن جميع شرائعه ويؤمر كلها. وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك. وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما
لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط.
فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل، والله أعلم.“ (الفتاوى 20/59- 61) .
قلت : كلام شيخ الإسلام هنا؛ فتوى في إباحة التدرّج في تطبيق الشريعة الإسلامية شيئا فشيئا حتى يتكامل التطبيق، فكلام المبيحين للتدرج إنما هو في الحال الذي لا يتمكّن فيه الداعية إلى تحكيم الشريعة من تطبيقها على وجه الكمال، فيلجأ إلى التدرّج في ذلك، أملا في الوصول إلى الوضع التامّ، وهو عين فتواه يرحمه الله .
5- قال ابن القيم رحمه الله:
”وتأخير الحدّ لعارض أمر و ردت به الشريعة، كما يؤخر - أي الحد - عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض. فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى“ (إعلام الموقّعين 3/18) .
يشير ابن القيم رحمه الله إلى مسألة تأخير تطبيق الحدّ - كما كان مع الغامدية في تأخير حدّ الزنا عليها -، وهذا التأخير الوارد في الحديث إنما هو لمصلحة المحدود أو من يتعلق به، فكيف إذا تعلقت المصلحة بالإسلام والدعوة الإسلامية ؟ لا شك أنه أولى كما ذكر هذا الفقيه الفذّ رحمه الله !
خاتمة ..
أختم كلامي كما بدأته بحمد من يحمد لذاته سبحانه، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى الآل والأصحاب الكرام، وعلى من حمل الراية ورفع اللواء إلى يوم الدين، وبعد :
فقد حملني على كتابة هذه الكلمات - على شح المصادر بين يدي - الحملة الشعواء على بعض الإسلاميين الذين حطّت بهم ركابهم بعد خوضهم كثيرا من الصعوبات على سدّة الحكم، فأفلحوا ونجحوا، ولله الحمد وله المنّة، ثم بدأوا بإصلاح ما يستطيعون رغم أن من يجابههم في مشروعهم الإسلامي قوى العالم؛ شرقية وغربية، قريبة وبعيدة، بل تنكّر لهم الأشقاء، وحاصرهم من كان ينبغي أن تنبع من ديارهم النصرة، فصاروا أيتاما - وأي أيتام - على مائدة لئام - وأي لئام !!!
ثم بعد كل هذا لم يبقَ من يعادِ هؤلاء على وجه الأرض إلا من انتسب إلى الإسلام والدعوة والجهاد !! وقد فعلوا !! والحجة أن هذه العصبة المباركة قد تخلّت - بزعم الزاعمين - عن تحكيم الشريعة؛ وكذبوا .
بل هم على عهد الله عاضّون بالنواجذ، برهانهم الذي يقدمونه : أطهر الدماء، عنوانهم الذي بدا على جباههم التي لم تسجد إلا لله : خذ اللهم من دمائنا اليوم حتى ترضى ..
وهم مع هذه التضحية وهذا الإخلاص بزمام العلم الشرعي والدليل القوي مستمسكون، يحدو سيرهم المبارك زُمَرٌ من أهل العلم والاجتهاد ، التعبّد والجهاد ..
فالله أسأله نصرتهم على أعدائهم، وهو المسؤول سبحانه أن يهدينا وإياهم والمسلمين لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه الهادي إلى سواء السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير .
وكتبه :
رأفت محمد رائف المصري
المحاضر بقسم الدراسات القرآنية والإسلامية
جامعة الملك خالد