العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

"التدرج في تطبيق الشريعة"

إنضم
28 ديسمبر 2007
المشاركات
677
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
حنبلي
أحمد الله إليكم ، وأصلي على رسوله الكريم ، وعلى الآل والأصحاب والتابعين ، وبعد :

فقد أحببت أن أضع بين أيديكم موضوعا من الموضعات الخطيرة ، التي باتت تشكل مثارا للخلاف والتراشق ، وهي مسألة :

"التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية"

نعم ، أحببت أن أطرح هذه المسألة للمدارسة والنظر والتأصيل .

فهل يجب على من تولى السلطة في بلد من البلدان أن يسارع إلى التطبيق الكامل الشامل لكل فروع الشريعة وأحكامها ؟؟
أم أنه يسعه أن يتدرج بخطىً مدروسة نحو التطبيق الكامل ؟؟

وهل يُعذر إخواننا في بعض البلدان التي نجحوا في الوصول إلى السلطة فيها - حمدا لله - في تأخير التطبيق الكامل للشريعة ريثما تستقر لهم الأمور ، وتهدأ من حولهم العواصف ؟ أم أنهم لا يعذرون بشيء من ذلك ؟؟

أطرح المسألة للنقاش والدرس ، آملا من الإخوة الكرام أن يعينوني في النظر في هذه المسألة ..
هذا ، وإن مكان دراسة المسألة ليس في هذا القسم ، إلا أنني أحببت أن أبدأ الموضوع هنا ؛ حتى يتكامل ، ومن ثم ننقله إلى المكان اللائق به .
 

ابو عبدالرحمن الحضرمي

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
2
رأفت المصري;6604 قال:
أما موضوع المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانات فالخلاف فيها أشهر من أن يُذكر، بل لا نعدو الحقيقة إن قلنا : إن أغلب علماء العصر على جواز المشاركة في هذه البرلمانات وفق ضوابط معينة لا بدّ منها، ووفق تكييف فقهي لهذا الدخول .

وممن كتب في ذلك : فضيلة شيخنا الدكتور العلامة عمر الأشقر حفظه الله تعالى ورعاه .
وفضيلة شيخنا المجاهد الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس .

حيث اتفق الشيخان على جواز الدخول في المجالس النيابية وفق ضوابط معينة، واختلفوا في المشاركة في وزارات الحكومات الجاهلية، فأباح ذلك الدكتور عمر الأشقر، ومنعه الدكتور أبو فارس .
والكتابان مليئان بالاستدلالات البديعة في هذا الموضوع، والتأصيل العلمي الشرعي المتين .

وأحسب أن في الكتابين كفاية في تناول هذا الموضوع على أصوله، مع ذكر ما يلزم من التأصيل والتكييف الفقهي .
مع الثقة بأن غيرهما قد طرق الموضوع أيضا .

وقد نقل لنا أستاذنا وشيخنا فؤاد يحيى هاشم فتوى الشيخ العثيمين في جواز ذلك :
حيث جاء في نصّ الفتوى :

خامساً: الدخول في البرلمات له حالان:

الحال الأولى: أن يتابع الحكومة في قوانينها المخالفة للشريعة وهذا لا يجوز بلا شك ولا أظن أن أحدا يقول بجوازه من المسلمين.
الحال الثانية: أن يدخل لمعارضة الحكومة فيما يكون مخالفا للشريعة ويكون لديه قدرة في الإقناع والدفاع ففي دخوله في هذه الحال مصلحة وهي بيان الحق وإظهار ه أمام من يخفى عليهم أو يتجاهلونه.
ومن المصلحة أيضا: أن الحكومة تحسب حسابها أمام هذا الحزب المبين للحق.
ومن المصلحة أن ممثل الطائفة الإسلامية يعرف ما يجري في مجلس البرلمان فيتخذ الحيطة لما تنوي الحكومة إجراءه ويأمن مكرها.
ومن المصلحة أيضا: أن يكون للطائفة الإسلامية مكان في مجالس الحكومة فيكون لها قدر في نفوس الناس
ولا يمكن لشخص أن يحتج على مشروعية قانون الحكومة بوجود ممثل إسلامي في حال معارضته.

أما ما لا يخالف الشرع من قانون الحكومة فلا اعتراض عليه ولا حرج في قبوله لأن الحق يجب قبوله ممن جاء به كائنا من كان والباطل يجب رده ممن جاء به كائنا من كان.
ألا ترى أن الله تعالى قبل الحق من المشركين حين قال: [ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء] فأقر الله قولهم وجدنا عليها آباءنا لأنه حق وأنكر قولهم والله أمرنا بها لأنه باطل.
ثم ألم تر إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن حبرا من أحبار اليهود أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع وذكر الحديث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ: [وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون]
ثم ألم يبلغك حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث استحفظه النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر فجاء الشيطان ثلاث ليال ليأخذ من الطعام وفي الليلة الثالثة قال لأبي هريرة: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها وهي أن يقرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه فإنه لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح فأخبر أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: صدقك وهو كذوب.
فأنت ترى أن الحق قبل من المشركين واليهود والشيطان.
وقد قبل سليمان أحد أنبياء الله الحق من الهدهد، وتعلم بنو آدم دفن أمواتهم من غراب.
وإذا تبينت هذه المصالح في دخول مجالس البرلمانات فالمفسدة التي يخشى منها في دخول البرلمانات – إن كانت – أقل من المصالح والعاقل يزن بالقسط حتى يتبين له الراجح من المصالح والمفاسد. والله يعلم المفسد من المصلح.
أما هجر هذه المجالس فإنه سيفوت هذه المصالح ولا يفيد شيئا فالحكومة لن تنثني عن مرادها وقانونها بهذه المقاطعة والهجر ربما تزداد قوة في التمسك بها لتراغم المهاجرين والمقاطعين وكذلك تفرح بهجرهم مجالسها حتى لا يكون لها معارض في هذه المجالس.
وإني أختم هذا الكتاب: بنصيحتي لإخواني الذين لهم غيرة في دين الله تعالى أن لا تحملهم الغيرة على التسرع في البت في أمور ولاسيما الأمور الخطيرة ذات الأهمية فإنه ربما تفوتهم الفرص الثمينة فيندمون ولينظر الإنسان في العواقب والنتائج وليتذكر ما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام الحديبية من النظر البعيد حتى أجرى ذلك الصلح الذي كان ظاهره الغضاضة على المسلمين والظفر للمشركين وليعلم أن لكل مقام مقال ولكل حال مآل...
والله المستعان وهو الهادي إلى الصراط المستقيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى .

أقول :- معا - لعلنا نتطرق إلى بعض المسائل والجزئيات المهمة في هذا الشأن، ونتدارس ما فيه، أمثال : القسم على احترام الدستور، التكييف الفقهي للدخول في المجالس التشريعية، والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين .

ورد في الاثر عن نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه انه قال ((من أراد ان يجزل العطاء فليقل جزاك الله خيرا ))...فجزاك الله خيرا شيخنا وحبيبنا الفاضل رأفت المصري على جهدك وعطاءك ومنافحتك عن دين الحق واهله ....سوف انقل ما تفضلت به للسائل حتى تعم الفائدة ..وادامك الله واعزك .
 

أحمد سمير سالم

:: متابع ::
إنضم
18 يوليو 2008
المشاركات
1
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

شيخنا الكريم رأفت المصري...

أشهد الله أني أحبكم في الله ، لما رأيته فيكم من سعة الاطلاع وغزارة العلم وسعة الفهم ودفاعكم عن الحق ، والذب عن أعراض المجاهدين، وما رأيته في كتاباتكم من تبسيط الأمور الفقهية ، وتسهيل تناولها للعوام فضلا عن طلبة العلم ..

شيخنا الكريم ...

أحببت أن أضع بين أيديكم هذا الكلام ( وهو يتناول موضوع التدرج في تطبيق الشريعة ) لأعرف بنور علمكم وسعة فهمكم ورحابة صدوركم مواضع الخطأ والصواب في هذا الكلام ورأيكم فيه ؛ عل الله - تعالى - ينفع به عموم المسلمين ..

ولكم جزيل الشكر وخالص التحية ..

والآن مع الموضوع :


بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله ؛ وبعد :

في رأيي – والله أعلم – أنه لا يوجد خلاف في مسألة التدرج في تطبيق أحكام الشريعة ؛ وإن كان يوجد فهو خلاف في المفاهيم والمصطلحات ، وهو خلاف تنوع ، وليس خلاف تضاد...

أيضا – في رأيي – أنه يوجد لبس ، واختلاط بين أنواع التدرج المختلفة ، وهذه الأنواع هي :

1) التدرج في التشريع :

وهو حق لله وحده ، ولا يجوز لأحد أن يتدرج في التشريع ، ومن الخطأ – في رأيي القاصر – الإتيان بالآيات ، والأحاديث ، التي تدل على التدرج في التشريع ليُستدل بها على شرعية التدرج في التطبيق ..

فمثلا لا يجوز الاستدلال بالتدرج في تحريم الخمر على مشروعية التدرج في تطبيق ذلك التشريع...

يقول الدكتور الزحيلي في كتابه (التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية ) : (إن الأمور المحرمة قطعاً، والثابتة في النصوص كالزنا والربا والخمر لا يمكن التدرج بها بإقرارها وإباحتها مبدئياً ثم التدرج في إبطالها )

وتبقى الحكمة من تدرج التشريع ، هي لله وحده الذي له حق التشريع ؛ فمن ذلك :

1) اختبار إيمان المؤمنين ، وتمحيصه .
2) التخفيف على المسلمين .
3) تربية المسلمين ، وتعليمهم .

ومن الأحكام التي تدل على تدرج التشريع :

أ ) الصلاة ؛ فشرعت في أول الأمر صلاتين فقط، صلاة في الغداة، وصلاة في العشي، واستمر المسلمون على ذلك في مكة حتى نهاية العام العاشر للبعثة، ووقع الإسراء والمعراج، وفرض الله خمس صلوات على المسلمين، وكانت صلاة الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر إلى أربع.

ب) وكانت الزكاة في أول الأمر اختيارية، وكان المسلم يخرج ما شاء صدقة لله تعالى، لقوله عز وجل : (يسألونك ماذا ينفقون، قل: العفو) ، ثم فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، فقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم).

ج ) وكذلك الصيام كان مفروضاً في يوم عاشوراء، وفي بعض الأيام المعدودات، حتى فرض الصيام شهراً كاملاً في رمضان .

د) التدرج في عقوبة الزنا

هـ)التدرج في تحريم الخمر

و)التدرج في تحريم الربا

ز)التدرج في فرض الجهاد

وقد اكتمل ذلك التدرج في التشريع ، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )

2) التدرج في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية :

وأقصد هنا التطبيق على مستوى المجتمع لا على مستوى الفرد ، وله حالتان :

أ‌) حالة التمكين :

والمقصود هنا تمكن المسلمين من تطبيق ، وتنفيذ أحكام الإسلام ، وفي هذه الحالة يوجد حالتان :

1) مجتمع مسلم يستجيب طواعية لأحكام الإسلام دون صعوبة أو تملص ، ففي هذه الحالة يجب
تطبيق أحكام الإسلام كلها ، تطبيقا فوريا ، يستوي في ذلك الأحكام الأساسية أو تلك الفرعية ،
يستوي في ذلك ، الواجبات ، والسنن ، المحرمات ، والمكروهات .

2) مجتمع مسلم اشتدت فيه غربة الإسلام ، ويصعب معه تطبيق جميع أحكام الإسلام الأساسية
، والفرعية ، وفي هذه الحالة ، يجب تطبيق الأحكام الشرعية الأساسية - التي تثبت بالنصوص
القاطعة، وتواتر النقل فيها تواتراً حقيقياً أو معنوياً - تطبيقا فوريا ، وتكون بمثابة نقطة الصفر
، التي يجب الانطلاق منها لتطبيق جميع الأحكام الشرعية .

يقول الدكتور الزحيلي تحت بند " لا تدرج في العقيدة " : (إن عقيدة المسلم تقوم على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهي تتعلق بالفكر والقلب، وهي أمور نظرية، فلا تخضع للتدرج، لأنها جازمة باتة، ولا تقبل المساومة، ولا التجزؤ، ولا المهادنة في إعلانها رسمياً، والنطق بها أمام العالم في الداخل والخارج، وهي في الغالب أمور فردية وشخصية، ولا علاقة لها بالتنظيم والتقنين والتشريع. )

ويقول أيضا تحت بند " المعلوم من الدين بالضرورة " : (إن الأحكام الشرعية الأساسية تثبت بالنصوص القاطعة، وتواتر النقل فيها تواتراً حقيقياً أو معنوياً، واستقر العمل عليها بالقبول، وأصبحت مسلمات في الدين، فلا تحتاج إلى دليل كأركان الإسلام، وأصول المباحثات والعقود، وكبائر المنهيات والمحرمات، فهذه الأحكام لا تقبل التدرج أيضاً كأمور العقيدة، لأنها ثوابت الشرع التي يقوم عليها، وتحدد الإطار العام للشريعة، ومقاصد التشريع، وإن المساس بها يخل بالموازين والأسس التي يقوم عليها المجتمع . )

ويقول أيضا : (إن الأمور المحرمة قطعاً، والثابتة في النصوص كالزنا والربا والخمر لا يمكن التدرج بها بإقرارها وإباحتها مبدئياً ثم التدرج في إبطالها، لأنها تدخل تحت الفقرة الثالثة ضمن المعلوم من الدين بالضرورة، لذلك يجب الإعلان عنها، والتصريح بتحريمها، مع التوعية الكافية، وتهيئة الأجواء لها، ويمكن تأخير إنزال العقوبة بفاعلها ريثما تستقر أمور الدولة والقضاء الإسلامي، وإصدار التشريع اللازم لها . )

ويقول الدكتور محمد الشريف في كتابه (التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية ) تحت بند " وجوب التطبيق الفوري عند الإمكان " : (ويدل لذلك قوله – تعالى – ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقوله – عز وجل – ( فاستبقوا الخيرات ) ، وقوله – سبحانه وتعالى – ( وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالة مبيناً) ) .

إلى قوله : (قال ابن رجب : -
والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال مالا طاقة لهم به ، وقد اسقط عنهم كثيراً من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم ، ورحمة لهم ، وأما المناهي ، فلم يعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات ، بل كلفهم تركها على كل حال ، وأن ما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد : إن النهي أشد من الأمر ، وقد روى عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه سلم – من حديث ثوبان وغيره أنه قال : " استقيموا ولن تحصوا" يعني : لن تقدروا على الاستقامة كلها. )



ومن الأدلة التي تدل على وجوب التطبيق الفوري عند التمكين :

1) قوله تعالى : (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )

2) قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدوٌّ مبين )

3) قوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون )

4) وقوله تعالى : ( وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالة مبيناً)

5) قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه )

6) موقف أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة .


يقول الدكتور محمد الشريف : (أما الرد على القائلين بعدم جواز التدرج في تطبيق الشريعة : فإننا لا نخالفكم فيما ذكرتم من وجوب تطبيق الشريعة ، وفي وجوب الأخذ بها كاملة ،ولكن عند الاستطاعة لأنه " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". )


ب ) حالة الاستضعاف :

وفي هذه الحالة يجب على المسلمين أن يطبقوا أحكام الشريعة على حسب استطاعتهم ؛ والأدلة على ذلك :

1) قوله تعالى : (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به )

2) قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )

3) قوله تعالى : (وما جعل عليكم في الدين من حرج )

يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن النجاشي : " ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، والنجاشي وأمثاله مع ذلك سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها "

" وسئل الشيخ ابن تيمية عن رجل متول ولايات ومقطع إقطاعات وعليهـا من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره، وولي غيره، فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها، فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه، وقد عرفت نيته واجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عـن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقى ويزداد، فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم، فهل يطالب على ذلك أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله؟ أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادته؟ وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم، فهل الأولى له أن يوافق الرعية أم يرفع يده؟ والرعية تكره ذلك؛ لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟.


فأجاب: الحمد لله، نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر، فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه، فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم "


يقول العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقدم مصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة؛ لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها"

يقول الدكتور محمد الشريف : (عند العجز عن تطبيق أحكام الشريعة كاملة لسبب من الأسباب القاهرة، يجوز تطبيق أحكامها جزئيا، والعمل بالتدرج للتوصل إلى التطبيق الكامل لأحكام الشريعة. )



3 ) التدرج في الدعوة :

وذلك بإظهار محاسن الدين ، وتحبيب الناس فيه ، وعدم التنفير منه ، والدعوة إليه بالرفق ، والحكمة والموعظة الحسنة ....

ومن الأدلة على التدرج في الدعوة :

1) قوله تعالى : (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )

2) قوله تعالى : (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )

3)قوله صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )

4)وقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري رضي ا لله عنهما ـ لما يعثهما إلى اليمن" بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا"

5)عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم )

6)روي مسلم في صحيحة عن أبي أمامة قال : قال عمرو بن عبسة السلمي : كنت وأنا في الجاهلية أظن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوى على شئ وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة خبر أخباراً ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ، جراء عليه فومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة ، فقلت : ما أنت ؟
قال : " أنا نبي " .
فلت : " ما نبي ؟
قال : " أرسلني الله " .
فقلت : وبأي شئ أرسلك ؟
قال : " أرسلت بصلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يوحد الله لا يشرك به شئ".

7) وروي البخاري عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه ، قال:
لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده ابا جهل ، وعبدالله بن أبي أمية فقال :
" أي عم ، قل لا إله إلا الله كلمة التوحيد " ، لأن بها نجاته من الخلود في عذاب النار ، فهي أولى الأولويات ، بالنسبة إلى عمه في هذه الحالة ، التي هو عليها على مقربة من عتبة الموت ، وهي الخطوة الواجبة الأولى للدخول في الإسلام.

8)ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع ثقيفًا على الإسلام اشترطوا عليه أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد أن بايعهم: ”سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا.“

9)في صحيح البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ”بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ﴿أن لا يشركن بالله شيئًا﴾، وﻧﻬانا عن النياحة. فقبضت امرأة يدها فقالت:
"أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها". فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فانطَلَقت ورجعت، فبايعها“. وفي رواية عند الإمام أحمد: ”فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقها على ذلك، فذهبت فأسعدت ثم رجعت فبايعت النبي صلى الله عليه وسلم.“ والإسعاد هو نياحة المرأة مع أخرى .

10)حديث الأعرابي الذي دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وشرع يبول فيه، فنهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: ”لا تزرموه، دعوه“. فتركوه حتى فرغ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ”إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن“، وأمر بدلوٍ من ماء فصبّ عليه .

11)أخرج البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل : لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً"

12) منع عمر رضي الله عنه المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة، لأنه وجد أن الغاية قد فقدت في زمنه بدفع الزكاة لهم، لأن دين الله تعالى ظهر، والأمر قد استقر، ولم يجد في عصره من يستحق التأليف في نظره، ولم يبق دور للمؤلفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون هذا السهم عندما كان الإسلام ضعيفاً وأراد أن يؤلفهم، فلما قويت دولة الإسلام زال السبب إلى إعطائهم، ولم يبق للإسلام حاجة في تأييدهم، بل صاروا على العكس في حاجة إلى الاعتزاز به، وبذلك فقد تغيرت الحاجة والمصلحة، وفقد السبب، فتغير الحكم لفقدان سببه أو توفر شرطه .



4 ) التدرج في تعليم أحكام الشريعة :

وذلك بالترفق في تعليم الأهم ثم المهم من أحكام الشريعة ، وهذا ما يبينه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، قال: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم ..."

سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون فيشهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون ؟ فقال : (أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه . (


وفي معنى ما أفتى به الإمام مالك رحمه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث جاء في فتاواه :

”فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكّن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكّن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى بياﻧﻬا .فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا. ومعلوم أن الرسول لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبّلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلّقن جميع شرائعه ويؤمر كلها. وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك. وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط .فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل، والله أعلم.“



5) التدرج في التربية على الإسلام :

والمقصود هنا على مستوى الفرد لا على مستوى المجتمع ، وتمثل الواجبات ، والمحرمات نقطة الصفر ، التي ينطلق منها المسلم ( بعد تعلم دينه بالتدرج الذي أشرت إليه سابقا ) في طريقه إلى الله ...

ومن الأدلة التي تدل على التدرج في التربية :

1) قوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا )
2) قوله تعالى : (إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)
3) وأكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرشد أحد الصحابة، فقال له: "قل: آمنت بالله ثم استقم"
4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن دين الله يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"
5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن هذا الدين متين، فأوغلوا به برفق "
6) قوله صلى الله عليه وسلم : (القصدَ القصدَ تبلغوا)
7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )


وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله ، وصحبه وسلم ...
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك

موضوع في غاية الأهمية

سنتابع وسنتفيد بإذن الله

قبل فترة ليست بالطويلة وقفت على نقل مفيد جدا في موضوعك ، لكن الآن نيسته وما أنسانيه إلا الشيطان، سأحاول استدعاءه في أقرب فرصة إن شاء الله (أقصد استدعاء النقل لا الشيطان فتنبه)

قال أبو فراس:
هذا نقل عن ابن رجب رحمه الله يفيد عن سبب تشريع الجمعة في المدينة، فاستفاد منه أن عدم تشريع الجمعة في مكة إنما كان لعدم استيفاء شروط الجمعة في دار الكفار.
وهذه فائدة عظيمة جداً في النظر إلى نصوص الشرع في تنزلها وتدرجها.
وهذا الفائدة يمكن أن ندرجها في موضوع آخر بعنوان فقه التشريع، فيستحسن ألا نقتصر في العلم بالتشريع على العلم بالزمان والمكان ولكن علينا أن ندفع أنفسنا إلى مزيد من البحث والتأمل وتلمس أسباب تأخر أو تقدم التشريع وأسباب نزول التشريع في هذه الوقت المعين الذي نزل فيه.
فالتنزيل له حكم عظيمة ودروس وعبر وهي في الحقيقة لوحدها مدرسة متكاملة يتلقى منها الدعاة والمعلمون الدروس والحكم.
يقول ابن رجب رحمه الله كما في فتح الباري:
وممن قال : إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة : أبو حامد الاسفراييني من الشافعية ، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير )) من أصحابنا ، وابن عقيل في ((عمد الادلة )) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية ، منهم : السهيلي وغيره .
وأما كونه لم يفعله بمكة ، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار الهجرة ، لا في دار الحرب ، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم ، وكانوا خائفين على أنفسهم ، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة ، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال .
وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة ، وهو : أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام ، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام .
ولهذا لا تقام الجمعة في السجن ، وإن كان فيه أربعون ، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء ، وممن قاله : الحسن ، وابن سيرين ، والنخعي ، والثوري ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق وغيرهم .
وعلى قياس هذا :لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً ، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى ؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب - وإن طالت - حكمها حكم السفر ، فتقصر فيها الصلاة أبداً ، ولو اقام المسلم باختياره ، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً ؟
وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة ، أظهر ، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام ، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة : فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام ، فحمله القاضي أبو يعلى في ((خلافه )) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها .
وهذا بعيدٌ جداً ، وإنما مراده : أنهم يصلون الظهر لوقتها ، ثم يشهدون الجمعة مع الأمراء .
وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها ،ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت ، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها ، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها .
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية : وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا ، وإلا صلوا ظهراً ، وتنفلوا بصلاتهم معهم .
قال : ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا . فتح الباري لابن رجب - (ج 6 / ص 146)
وأراد بالتجميع هنا : صلاة الظهر جماعةً ، لا صلاة الجمعة ؛ فإنه قال قبله: وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا .
والفرق بين صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة ، ممن تجب عليه وممن لا تجب عليه : أن من تجب عليه يتهم في تركها ، بخلاف من لا تجب عليه فإن عذره ظاهرٌ .
وقد روي عن ابن سيرين ، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم ، من غير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكلية ، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة .
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي : ثنا اسماعيل -هو : ابن عليه - : ثنا ايوب ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن الانصار قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم المدينة قالوا : لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا
به ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : يوم الأحد ، قالوا : لا نجامع النصارى في يومهم .
قالوا : فيوم العروبة : قال : وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة ، فذبحت لهم شاةٌ ، فكفتهم .
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عم معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل أن تنزل الجمعة ، وهم الذين سموها الجمعة ، فقالت الأنصار : لليهود يومٌ يجتمعون فيه كل ستة أيامٍ ، وللنصارى -أيضاً- مثل ذلك ، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه ، ونذكر الله عز وجل ،ونصلي ونشكره -أو كما فقالوا - ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم
العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة ، فصلى بهم وذكرهم ، فسموه : يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه ، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة ، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم ، فأنزل الله بعد ذلك : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الجمعة :9] .
فوقع في كلام الإمام أحمد : أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عميرٍ ، وهي التي ذكرها كعب بن مالكٍ في حديثه ، أنهم كانوا أربعين رجلاً .
وفي هذا نظرٌ .
ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم ، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا ، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة ، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك ، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه ، وكان باجتهاد منهم ، لا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . والله سبحانه وتعالى أعلم .
 
إنضم
28 ديسمبر 2007
المشاركات
677
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
حنبلي
للرفع .. والتنبيه على أنني بصدد إصدار كتيّب يتناول الموضوع كدراسة تأصيلية .

فمن كان عنده ما يهديني إياه من ملاحظات، فإني سأعنى بها، والله يتولانا وإياكم وهو يتولى الصالحين .
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل
أنقل هذه الفتوى؛ حتى تكون بين يدي الأستاذ الفاضل رأفت المصري؛ لتكون بين يديه يقلب فيها نظره :


الشيخ حامد العلي

حكم التدرج فى تطبيق الشريعة وقواعدها من الفقة، وجهل محرمها؟


فضيلة الشيخ يدور كلام كثير حول حكم التدرج في تطبيق الشريعة..

فما هو الجواب في هذه المسألة ؟!

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :



قبل أن نبيـّن هذه المسألة الجليلة ، ينبغي أن ننبّه إلى أنَّ من أعظم أسباب انتشار الخلاف ، وإعقابه الفتن
هو خوض من هبّ ودبّ في مثل هذه المسائـل ، حتـَّى تقطعـوا رأيهم بينهـم زُبـُراً ، كلُّ حزب بما لديهم فرحون!
ولو أخذوا بمفهومي الإجتهاد ، والتقليد ، الذين وضعهما علماؤنا لضبط الفتوى ، فلا يخوض في هذه المسائل إلاَّ من شُهـد له بالعلم ، واشتهر بذلك ، وعـُرف شيوخـُه فيه ، ثـمَّ المقلـد يصمـت ، لقضي على أكثـر هذه الفتن .
ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه : أنَّ عمر غضب لما سمع كلاما من عامة الناس في موسم الحج عن شأن البيعة ، ‏فقال : ( إني إن شاء الله لقائم العشيَّة في الناس ، فمحذرهم ، هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، قال ‏ ‏عبد الرحمن بن عرف رضي الله عنه : ‏ ‏فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإنّ الموسم يجمع ‏رعاع ‏الناس ‏ ‏وغوغاءهم ‏ ، ‏فإنهم هم الذين يغلبون على قربك ، حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كلَّ ‏ ‏مطير ‏، ‏وأن لا يعوها ، وأن لايضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم ‏ ‏المدينة ‏ ، ‏فإنها دار الهجرة ، والسنة ، فتخلص بأهل الفقه ، وأشراف الناس ، فتقول ما قلت متمكنا ، فيعي أهل العلم مقالتك ، ويضعونها على مواضعها ، فقال ‏ ‏عمر : ‏ ‏أمَّا والله ، إن شاء الله ، لأقومن بذلك أوَّل مقام أقومه ‏‏بالمدينة).

قال ابن حجر رحمه الله : ( وفيه التنبيه على أنّ العلم لا يودع عند غير أهله , ولا يحدث به إلاّ من يعقله , ولايحدث القليل الفهم بما لا يحتمله ) .

والمصيبة اليوم أنَّ الذي يضع مقالات العلماء في غير مواضعها ، ويطير بها كــلّ مطير ، ليس الغوغاء ، ورعاع الناس فحسب ، بل أسفل منهم ، وهـم الحثالة ، ذوو الجهالة ، والأسمـاء المختصرة ، والألقـاب التي بغير شيء مفتخرة ، وهم في علوم الشرع ، أحـطّ منزلة من مجهول العين ـ فضلا عن مجهول الحال ـ أي : المبهمون ، وإذا كان من شؤم مجهول الحال أنه يسقط به إسنادٌ مسلسلٌ بالأئمة الثقات إن جرى ذكره فـيه ، فكيف بالمبهـم الذي لايُعـرف أنفـُـه من فيه ؟!!

فهذه والله فتنة لكلِّ مفتون ، وبدعةٌ عابثة عصرية من سخافات العقول ، أبتُلـي بهـم من ابتُلي من ضعاف التفكيـر ، حتـّى أخاضوه في التضليل والتكفيـر .

كما ننبـّه أنّ من خطورة هذه المسألة أنّ بعض الحكـّام يستغلّهـا للالتفاف على الشريعة .

ولهذا فيجب التفريق بين من ظاهـر حاله السعي للتغيـّير ، وهو مع ذلك يقيم الإسلام على نفسه ، ومن تحت يده ، ويعلم من حاله ذلك ، ظاهراً ، وباطنـاً ، فهو من أهل التديّن في الظاهـر ، فيبدو عليه الصدق فيما ينويه من التغيير إلى الشريعة .

وبين من هو مخالف للشرع ، بعيدٌ عنه ، في أحواله الخاصة ، والعامة، فهو يتلاعب بهذه المسألة تلاعب المنافقين بآيات ربّ العالمين ، فهذا لايجوز أن يُجـارى في عبثه بالإسلام ، ومن فعل ذلك فهو شريكه في الآثام .

وعلى أية حال فهذه المسألة التي سأل عنها السائل ، وهي التدرج في تطبيق الشريعة ، قـد تندرج تحت واحـدة من هذه القواعد الكبار :

أحدهما : سقوط التكليف بالعجـز.
والثانية : ( فأتوا منه ما استطعتم ).
والثالثة : ارتكاب أخف الضررين.
والرابعة : تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسـد.

وإذا علم أنَّ تطبيق الشريعة في نظام الدولة ـ وليس على نفس الإنسان ومن تحت يده فحسب ـ قـد يعنـي ـ في بعض البلاد ـ تغيير واقع كبيـر مخالف للشريعة ، كثيـر التفاصيل ، في حياة معقَّدة ، تطرأ فيها آلاف المسائل الجديدة ، التي تحتاج إلى علماء ، وقضاة ، على دراية بما يقضـون فيه ، فلا يقول أنـَّه يمكن فعل ذلك بغيـر تدريج مطلـقاً إلاَّ جاهـل لـم يتصوَّر المشروع أصـلا ، وهـو لا يعرف ماذا يعني هذا العنـوان الكبيـر ، وإنما أخذ عنوانـاً وطار فيه مطار الغوغـاء ، والدهماء !


فإذا انضـمِّ إلى أنَّ المشروع في مثل هذه البيئـة ، كونها بيئــةً ذات تحفــُّز دائم لحـرب عدوّ متربّص ، وحصار خانـق منغِّـص ، مع قلـّة الإمكانات ، وضعف القدرات
فإنَّ من يظن تحريـم التدرّج مطلقـا ، فهو من أجهـل الناس ، ولا يقول هذا ـ أصـلاً ـ إلاَّ من لم يمارس الفتوى ، ولا القضاء ، ولا يعرف أعباءهما في الناس ، وإنما قصـر نظره على مسائل محددة ، وتعصّـب عليها .


وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( لاسيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف ، لنرجّح عند التزاحم ، والتمانع خير الخيرين ، وندفع عند الاجتماع شـر الشرِّين ، ونقدم عند التلازم ـ تلازم الحسنات والسيئات ما ترجح منها ـ فإنّ غالب رؤوس المتأخرين ، وغالب الأمة من الملوك ، والأمراء ، والمتكلمين ، والعلماء ، والعباد ، وأهل الأموال يقع ـ غالبا ـ فيهم ذلك ) الاستقامة (2/168)


إذا كان هذا في ذلك الزمان فكيف بنا نحن اليـوم ؟! وقد انتشر الفساد ، وعم البلاد ، وصارت القوانين الوضعية ، ربما تسري على كلِّ شيء صغيـرٍ وكبيـرٍ ، في حياة الناس.

وكيف ليت شعري يُقـال يحــرم التدرّج مطلقــا ، وأنـّه لايحـل لمن أوتي مقاليد السلطة إلاّ يجعـل الناس يستيقظون بين عشية ، وضحاها ، ليجدوا حياتهم كلّهــا صارت إلى الشريعة محتكمة ، وبالهدى في جميع مناحي الحيـاة ملتزمـة ؟!!

ولهذا فلابد أن يتناقض قائل هذا القول العجيـب في حالـه ، وهو لايشعـر
ومن الطريف أنّ شخصاً جادلني مرة في هذه المسألة ، فقلت له متى جئت من السفـر ؟
قال البارحة ، قلت بجواز دولتك ، قال نعم ، قلت بأية قوانين دوليـّة سمحوا لك بالدخول ؟ ولماذا أبرزت الجواز وعليه شعار الدولة الحاكمة بغير الشريعة ، طالبا ـ ضمنيـّا ـ العمل بتلك القوانين التي تقنن التنقل بين الدول ، للسماح لك بعبور الحدود ، فبهـت !

وقلت له : أنت تسمع من مجاهيل يكتبون في ( إنترنت ) ، وقّعـوا عقـداً ليسمح لهم بهذه الكتابة في موقـع ، يخضع لقوانيـن وضعية ، مع شركات تخضع لقوانين دول كافرة ، وقد يكونون ـ مع ذلك ـ مقيمين فيها بعد توقيعهم على لجوء سياسي تحتكم قوانينه لتلك الدول ، بما فيها من إقرار بجريانها على أنفسهم ، وأهليهم ، وكلُّ ذلك يعذرون أنفسهم فيه ، ويتأوّلـون ، ثم لايريدون أن يعذروا إخوانهـم في أيِّ تأويل تأوّلــوه ، أليس هذا من التشاحّ النفسي الذين يحصل بين الجماعات بسبب نجاح بعضها على حساب الآخر ليس إلاّ ؟!

وقلت له من يـظنُّ أنه لو قام حاكم يريد العمل بالشريعة ، في ظـلّ بلاء الناس بكلِّ هذه القوانين الوضعيّة ، والواقع المخالف للشـرع ، لايحتاج إلى التدرج حتى يغيـِّر هذا كلَّه ، ولو كان هذا التدرج في الإعلان أيضـا ، حتى إنـّه قـد يضطرّ إلى القول بخلاف ما يضمره لمن يخشى غائلته ، القول بخلاف ذلك من أجـل نجاح التغيير إلى الشرع ، حتـّى يمُضـي من شريعة الله ، ما يمكنه من غيـر أن يفسد عليه ما أراد ، وله أن يفعل ذلك ، وليس هذا من التنازل المذموم .

وليس هذا بأشدّ مما ذكـره ابن حجر في الإصابة في ترجمة الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي لما أسرته الروم : ( فقال ـ أي زعيم الروم ـ قبل رأسي وأنا أخلـّي عنك ، فقال : وعن جميع أسارى المسلمين ، قال نعم ، فقبل رأسه ، فخلّى بينهم ، فقدم بهم على عمر ، فقام عمر فقبل رأسه ، وأخرج بن عساكر لهذه القصة شاهداً من حديث بن عباس موصولاً ، وآخر من فوائد هشام بن عثمان من مرسل الزهري‏ ) ‏.

فهذا الصحابي الجليل ـ إنْ صحت الرواية ـ تأوَّل في تقبيل رأس الطاغوت الأكبر في ذلك الزمـان ، مما ظاهره ـ والصحابة من ذلك براء ـ توقير الطاغوت ، وتعظيمـه ، لما رأى من أنه يجوز تحمّل هذه المفسدة ، في سبيل تحصيل مصلحة راجحة عظيمة.

من يظـنُّ ذلك ، فسبب أنه لم يعان هذا الأعباء العظيمة ، أعني أعباء أمة بعيدة عن دينها ، وشريعة ربها ، ولا يتصور تفاصيلها ، وإنما يجلس مع أمثاله يلقون بالأحكام بغير علم.
وقلت له لقد كان لطالبان سفيـرٌ في باكستان ، والسفير لايقبل رسميا إلاّ وفق قوانين الدولة ، بل كان لها سفير في بعض دول الخليج أيضا ، وكانت تتدرج في تغيير بعض ما يخالف الشـرع ، وتتلطـّف فيها ، حتى تنجح في تغييره ، حــذراً من أن تحصـل مفسدة راجحة

فالواجب أن نعذر الذين نعرف عنهـم ، أنهم يحملون مشروعا إسلاميا ، ويتضح ذلك على أحوالهم ، ويبدو جليـَّا من فكرهم ، ومحاضنهم التي يربـُّون فيها أنصارهم ، يجب أن نعذرهـم إن تأوّلوا في التدرج في تحويل المشروع الإسلامي إلى واقع حياتي ، لاسيما مع كثرة أعباءهم ، ومع كثرة الشرور في الناس ، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك كونهم محاربين ، ومحاصرين؟!

ومن يسـوّي بين هؤلاء الإسلاميين ، وبين العلمانيّين الذين يتبنـُّون الفكر العلماني في أحزابهم ، ويربّون عليه كوادرهم ، ويقيمون عليهم مشروعهم سـرَّا وعلانية ، من يسوّي بينهم ، فهـو متنكّب الهدى ، حاكم بالجور ، مثيـرٌ للفتن في بلاد الإسلام .

وقلت : لم يكن العلماء قـطّ يسوّون بين حملة الفكر الإسلامي الذين يتأولون في المشاركات السياسية ، السعـي للتغير عبرهـا ، وبين الأحزاب العلمانية ، فيكفـِّرون الجميع ، ويستحلـُّون دماءهم ، ويدعون إلى قتالهم !!

فهذا الفكر الغالي ، والشاذ جديد على الساحة الإسلامية ، لاندري مـَن رؤوسه ، ولايعرفون بعلم ، ولا سابقة فيه ، ولهذا لايهتدون لتناقضاتهم فيما يدّعون ، فإذا قيل لبعضهم تكفرون هذه الجماعة الإسلامية لأنها تأولت في التدرّج في الشريعة ، أو في المشاركة السياسية ، قالوا لانكفـرّهم ، ثم يعاملونهم معاملة الكفـّار ، ويسمونهـم طواغيت !

ثـمَّ يلقـون بكلامهم هذا إلى الصغار ، والجهـّال ، المتعطشين للجهاد ، ويصورن لهم إخوانهم في الحركات الأخرى كأنهم شياطين في جثمان إنس ، ويدخل بينهم شياطين حقيقية تؤجج هذه النار ، حتى تُذبـح الحركات الإسلامية ـ وبعضها جهادية كما في العراق ـ بسيوف ظاهرها إسلامية ، وحقيقتها جهل بالإسلام ، وظلم للأنام ، تحركها من حيث لاتشعر دوائر الإجرام.

والله المستعان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون


ولنعد الآن إلى إيضاح مسألة التدرج في تطبيق الشريعـة :

أما اندراج التدرج في الشريعة فيما ذكرت من قواعد الفقه ، فكما يلي :

أما سقوط التكليف بالعجز ، فهذا واضح ، فقد يعجز الحاكـم أن يغيـّر بعض الجوانب ، لعدم وجود آلات التغييـر ، فيسقط عنه ، وإذا كان محاصراً ـ مثلا ـ ولا يمكن جلب القضاة الشرعيين بما يكفـي ، فإنه يتدرَّج ، فيبدأ بما يقدر عليه ، ويؤجِّـل ما يعجـز عنه إلى القـدرة ، وأما فعل ما يقدر عليه العبد من الوجوب ، فكذلك قد يفعل بعض الواجب ، ويتدرج حتى يُكمـل ما وجـب عليه فعله إذا قـدر ، فهذا ما كُلـف به شرعا أصـلا ، وهذا كلـُّه لا إشكال فيه ، ولا يخلو عبـد من الحاجة إليه أصلا ، وهو من تيسير الشريعة السمحة التي جاءت بـ ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) .

وأما إرتكاب أخـفّ الضررين ، فقـد تقـرّر فـي الشريعة ، أنـَّه يجــوز فعل الضرر الأقـل ، إذا كان الأكبـر لايندفـع إلاَّ بذلك ، فلو كان الحاكم يعلم أنَّه لـو منـع التدرج ، لأدَّى ذلك إلى مفسدة أعظم ، هي سقوط المشروع برمِّتـه ، وفشـله ، فله أن يتـدرَّج دفعا لأعظم الضررين .

ويُستدل على قاعدة إرتكاب أخف الضررين ، بما في صحيح البخاري : ( جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد ، فزجره الناس فنهاهم النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فلمـَّا قضى بوله ، ‏ ‏أمر النبيّ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بذنوبمن ماء ‏ ‏فأهريق عليه) .

قال ابن حجر رحمه الله : (بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة ، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما . وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما).

فهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجّـل تغيير منكر هو من أعظم المنكر ، وهو البول في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام ، وفي حضرته عليه الصلاة والسلام ، لما في عدم التأجيل من مفسدة أعظـم.

وقال في مراقي السعود :

وارتكب الأخفّ من ضرين
وخيـّرنْ لدى استــوا هذين
كمن على الجريح في الجرحى سقط
وضعف المكث عليه من ضبط

وهذا كما ذكر الذهبي عن ميمون بن مهران ، سمعت عمر بن عبد العزيز يقول :
( لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل ، إني لأريد الأمر من أمر العامة ، فأخاف ألا تحمله قلوبهم ، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا ، فإن أنكرت قلوبهم هذا ، سكنت إلى هذا ) تاريخ الذهبي 4/170

وفي البداية والنهاية ( وإني لأريد الأمر ، فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا ، حتى تسكن قلوبهم ) 9/200

وورد عنه أنه قال : ( ما طاوعني الناس على ماأردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً) حليـة الأولياء 5/290

وقال لإبنه أيضا : ( إنّ قومك قد شدّوا وهذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم ، لم آمن أن يفتقوا على فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي ، من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أو ما ترضي أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ، ويحيي فيه سنة ، حتى يحكم الله بيننا ، وبين قومنا بالحق وهو خيرالحاكمين )حلية الأولياء 5/282، وصفة الصفوة لابن الجوزي 2/128

ولا ريب أنّ إصلاح العوائد المخالفة للشرع ، بالتدريج شيئاً فشيئاً ، مع مفسدة بقاء المظالم بأيدي أصحابها حينـاً من الوقت ، خير من ترك الإصلاح كلّه ، أو الوقوع في فتنة يعقبها فساد كلّ شيء.

وأما العمل بالأرجح عند تعارض المصالح مع المفاسد ، فقد يكون التعجل في التطبيق مفسدته راجحة على مصلحة التدرج ، فيجب سلوك الأرجح.

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قــد لا يترك الحرام البيـِّن ، أوالمشتبه ، إلاَّ عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة ، أعظم من تلك السيئة ،مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة ، والجماعة والحج ، والغزو ـ يعني وحينئذ فلا يترك هذا الحرام بل يفعل ـ وكذلك قد لا يؤدّي الواجب البيـّن ، أو المشتبه ، إلاَّ بفعل سيئة أعظم إثمـا منتركه ، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكرلذوي السلطان ، إلاَّ بقتال فيـه من الفساد أعظم من فساد ظلمه ) ويعني أنه لايفعل هذا الواجب بل يتـرك في هذه الحالة.

فإذا نظر الحاكـم إلى مآلات الأمور ، وثمارها ، وتبين له أنَّ المصلحة في التدرج أرجح من مفسدة التأجيل ، جاز له فعل ما ترجحت مصلحته .

قال العلامة عبدالرحمن السعدي : ( ومما يؤيد ذلك ما قاله غيرواحد من أهل العلم ، منهم شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم أنه إذا أشكل عليك شيء ، هل هو حلالٌ أم حرام ، أو مأمور به أو منهي عنه ؟
فانظر إلى أسبابه الموجبة ، وآثاره ، ونتائجه الحاصلة ، فإذا كانت منافع ، ومصالح ، وخيرات ، وثمراتها طيبة ، كان من قسم المباح ، أو المأمور به ، وإذا كان بالعكس ،كانت بعكس ذلك ، طبق هذه المسألة على هذا الأصل ، وأنظر أسبابها وثمراتها ، تجدها أسبابا لا محذور فيها ، وثمراتها خير الثمرات).


والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ، ونعـم النصيــر.

الشيخ حامد بن عبدالله العلى

التاريخ: 18/08/2009
 
إنضم
17 نوفمبر 2009
المشاركات
439
التخصص
باحث إسلامي
المدينة
الجيزة
المذهب الفقهي
مستقل
أنقل هذه الفتوى؛ حتى تكون بين يدي الأستاذ الفاضل رأفت المصري؛ لتكون بين يديه يقلب فيها نظره :


الشيخ حامد العلي

حكم التدرج فى تطبيق الشريعة وقواعدها من الفقة، وجهل محرمها؟


فضيلة الشيخ يدور كلام كثير حول حكم التدرج في تطبيق الشريعة..

فما هو الجواب في هذه المسألة ؟!

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :



قبل أن نبيـّن هذه المسألة الجليلة ، ينبغي أن ننبّه إلى أنَّ من أعظم أسباب انتشار الخلاف ، وإعقابه الفتن
هو خوض من هبّ ودبّ في مثل هذه المسائـل ، حتـَّى تقطعـوا رأيهم بينهـم زُبـُراً ، كلُّ حزب بما لديهم فرحون!
ولو أخذوا بمفهومي الإجتهاد ، والتقليد ، الذين وضعهما علماؤنا لضبط الفتوى ، فلا يخوض في هذه المسائل إلاَّ من شُهـد له بالعلم ، واشتهر بذلك ، وعـُرف شيوخـُه فيه ، ثـمَّ المقلـد يصمـت ، لقضي على أكثـر هذه الفتن .
ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه : أنَّ عمر غضب لما سمع كلاما من عامة الناس في موسم الحج عن شأن البيعة ، ‏فقال : ( إني إن شاء الله لقائم العشيَّة في الناس ، فمحذرهم ، هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، قال ‏ ‏عبد الرحمن بن عرف رضي الله عنه : ‏ ‏فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإنّ الموسم يجمع ‏رعاع ‏الناس ‏ ‏وغوغاءهم ‏ ، ‏فإنهم هم الذين يغلبون على قربك ، حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كلَّ ‏ ‏مطير ‏، ‏وأن لا يعوها ، وأن لايضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم ‏ ‏المدينة ‏ ، ‏فإنها دار الهجرة ، والسنة ، فتخلص بأهل الفقه ، وأشراف الناس ، فتقول ما قلت متمكنا ، فيعي أهل العلم مقالتك ، ويضعونها على مواضعها ، فقال ‏ ‏عمر : ‏ ‏أمَّا والله ، إن شاء الله ، لأقومن بذلك أوَّل مقام أقومه ‏‏بالمدينة).

قال ابن حجر رحمه الله : ( وفيه التنبيه على أنّ العلم لا يودع عند غير أهله , ولا يحدث به إلاّ من يعقله , ولايحدث القليل الفهم بما لا يحتمله ) .

والمصيبة اليوم أنَّ الذي يضع مقالات العلماء في غير مواضعها ، ويطير بها كــلّ مطير ، ليس الغوغاء ، ورعاع الناس فحسب ، بل أسفل منهم ، وهـم الحثالة ، ذوو الجهالة ، والأسمـاء المختصرة ، والألقـاب التي بغير شيء مفتخرة ، وهم في علوم الشرع ، أحـطّ منزلة من مجهول العين ـ فضلا عن مجهول الحال ـ أي : المبهمون ، وإذا كان من شؤم مجهول الحال أنه يسقط به إسنادٌ مسلسلٌ بالأئمة الثقات إن جرى ذكره فـيه ، فكيف بالمبهـم الذي لايُعـرف أنفـُـه من فيه ؟!!

فهذه والله فتنة لكلِّ مفتون ، وبدعةٌ عابثة عصرية من سخافات العقول ، أبتُلـي بهـم من ابتُلي من ضعاف التفكيـر ، حتـّى أخاضوه في التضليل والتكفيـر .

كما ننبـّه أنّ من خطورة هذه المسألة أنّ بعض الحكـّام يستغلّهـا للالتفاف على الشريعة .

ولهذا فيجب التفريق بين من ظاهـر حاله السعي للتغيـّير ، وهو مع ذلك يقيم الإسلام على نفسه ، ومن تحت يده ، ويعلم من حاله ذلك ، ظاهراً ، وباطنـاً ، فهو من أهل التديّن في الظاهـر ، فيبدو عليه الصدق فيما ينويه من التغيير إلى الشريعة .

وبين من هو مخالف للشرع ، بعيدٌ عنه ، في أحواله الخاصة ، والعامة، فهو يتلاعب بهذه المسألة تلاعب المنافقين بآيات ربّ العالمين ، فهذا لايجوز أن يُجـارى في عبثه بالإسلام ، ومن فعل ذلك فهو شريكه في الآثام .

وعلى أية حال فهذه المسألة التي سأل عنها السائل ، وهي التدرج في تطبيق الشريعة ، قـد تندرج تحت واحـدة من هذه القواعد الكبار :

أحدهما : سقوط التكليف بالعجـز.
والثانية : ( فأتوا منه ما استطعتم ).
والثالثة : ارتكاب أخف الضررين.
والرابعة : تقديم الأرجح عند التعارض بين المصالح والمفاسـد.

وإذا علم أنَّ تطبيق الشريعة في نظام الدولة ـ وليس على نفس الإنسان ومن تحت يده فحسب ـ قـد يعنـي ـ في بعض البلاد ـ تغيير واقع كبيـر مخالف للشريعة ، كثيـر التفاصيل ، في حياة معقَّدة ، تطرأ فيها آلاف المسائل الجديدة ، التي تحتاج إلى علماء ، وقضاة ، على دراية بما يقضـون فيه ، فلا يقول أنـَّه يمكن فعل ذلك بغيـر تدريج مطلـقاً إلاَّ جاهـل لـم يتصوَّر المشروع أصـلا ، وهـو لا يعرف ماذا يعني هذا العنـوان الكبيـر ، وإنما أخذ عنوانـاً وطار فيه مطار الغوغـاء ، والدهماء !


فإذا انضـمِّ إلى أنَّ المشروع في مثل هذه البيئـة ، كونها بيئــةً ذات تحفــُّز دائم لحـرب عدوّ متربّص ، وحصار خانـق منغِّـص ، مع قلـّة الإمكانات ، وضعف القدرات
فإنَّ من يظن تحريـم التدرّج مطلقـا ، فهو من أجهـل الناس ، ولا يقول هذا ـ أصـلاً ـ إلاَّ من لم يمارس الفتوى ، ولا القضاء ، ولا يعرف أعباءهما في الناس ، وإنما قصـر نظره على مسائل محددة ، وتعصّـب عليها .


وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( لاسيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف ، لنرجّح عند التزاحم ، والتمانع خير الخيرين ، وندفع عند الاجتماع شـر الشرِّين ، ونقدم عند التلازم ـ تلازم الحسنات والسيئات ما ترجح منها ـ فإنّ غالب رؤوس المتأخرين ، وغالب الأمة من الملوك ، والأمراء ، والمتكلمين ، والعلماء ، والعباد ، وأهل الأموال يقع ـ غالبا ـ فيهم ذلك ) الاستقامة (2/168)


إذا كان هذا في ذلك الزمان فكيف بنا نحن اليـوم ؟! وقد انتشر الفساد ، وعم البلاد ، وصارت القوانين الوضعية ، ربما تسري على كلِّ شيء صغيـرٍ وكبيـرٍ ، في حياة الناس.

وكيف ليت شعري يُقـال يحــرم التدرّج مطلقــا ، وأنـّه لايحـل لمن أوتي مقاليد السلطة إلاّ يجعـل الناس يستيقظون بين عشية ، وضحاها ، ليجدوا حياتهم كلّهــا صارت إلى الشريعة محتكمة ، وبالهدى في جميع مناحي الحيـاة ملتزمـة ؟!!

ولهذا فلابد أن يتناقض قائل هذا القول العجيـب في حالـه ، وهو لايشعـر
ومن الطريف أنّ شخصاً جادلني مرة في هذه المسألة ، فقلت له متى جئت من السفـر ؟
قال البارحة ، قلت بجواز دولتك ، قال نعم ، قلت بأية قوانين دوليـّة سمحوا لك بالدخول ؟ ولماذا أبرزت الجواز وعليه شعار الدولة الحاكمة بغير الشريعة ، طالبا ـ ضمنيـّا ـ العمل بتلك القوانين التي تقنن التنقل بين الدول ، للسماح لك بعبور الحدود ، فبهـت !

وقلت له : أنت تسمع من مجاهيل يكتبون في ( إنترنت ) ، وقّعـوا عقـداً ليسمح لهم بهذه الكتابة في موقـع ، يخضع لقوانيـن وضعية ، مع شركات تخضع لقوانين دول كافرة ، وقد يكونون ـ مع ذلك ـ مقيمين فيها بعد توقيعهم على لجوء سياسي تحتكم قوانينه لتلك الدول ، بما فيها من إقرار بجريانها على أنفسهم ، وأهليهم ، وكلُّ ذلك يعذرون أنفسهم فيه ، ويتأوّلـون ، ثم لايريدون أن يعذروا إخوانهـم في أيِّ تأويل تأوّلــوه ، أليس هذا من التشاحّ النفسي الذين يحصل بين الجماعات بسبب نجاح بعضها على حساب الآخر ليس إلاّ ؟!

وقلت له من يـظنُّ أنه لو قام حاكم يريد العمل بالشريعة ، في ظـلّ بلاء الناس بكلِّ هذه القوانين الوضعيّة ، والواقع المخالف للشـرع ، لايحتاج إلى التدرج حتى يغيـِّر هذا كلَّه ، ولو كان هذا التدرج في الإعلان أيضـا ، حتى إنـّه قـد يضطرّ إلى القول بخلاف ما يضمره لمن يخشى غائلته ، القول بخلاف ذلك من أجـل نجاح التغيير إلى الشرع ، حتـّى يمُضـي من شريعة الله ، ما يمكنه من غيـر أن يفسد عليه ما أراد ، وله أن يفعل ذلك ، وليس هذا من التنازل المذموم .

وليس هذا بأشدّ مما ذكـره ابن حجر في الإصابة في ترجمة الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي لما أسرته الروم : ( فقال ـ أي زعيم الروم ـ قبل رأسي وأنا أخلـّي عنك ، فقال : وعن جميع أسارى المسلمين ، قال نعم ، فقبل رأسه ، فخلّى بينهم ، فقدم بهم على عمر ، فقام عمر فقبل رأسه ، وأخرج بن عساكر لهذه القصة شاهداً من حديث بن عباس موصولاً ، وآخر من فوائد هشام بن عثمان من مرسل الزهري‏ ) ‏.

فهذا الصحابي الجليل ـ إنْ صحت الرواية ـ تأوَّل في تقبيل رأس الطاغوت الأكبر في ذلك الزمـان ، مما ظاهره ـ والصحابة من ذلك براء ـ توقير الطاغوت ، وتعظيمـه ، لما رأى من أنه يجوز تحمّل هذه المفسدة ، في سبيل تحصيل مصلحة راجحة عظيمة.

من يظـنُّ ذلك ، فسبب أنه لم يعان هذا الأعباء العظيمة ، أعني أعباء أمة بعيدة عن دينها ، وشريعة ربها ، ولا يتصور تفاصيلها ، وإنما يجلس مع أمثاله يلقون بالأحكام بغير علم.
وقلت له لقد كان لطالبان سفيـرٌ في باكستان ، والسفير لايقبل رسميا إلاّ وفق قوانين الدولة ، بل كان لها سفير في بعض دول الخليج أيضا ، وكانت تتدرج في تغيير بعض ما يخالف الشـرع ، وتتلطـّف فيها ، حتى تنجح في تغييره ، حــذراً من أن تحصـل مفسدة راجحة

فالواجب أن نعذر الذين نعرف عنهـم ، أنهم يحملون مشروعا إسلاميا ، ويتضح ذلك على أحوالهم ، ويبدو جليـَّا من فكرهم ، ومحاضنهم التي يربـُّون فيها أنصارهم ، يجب أن نعذرهـم إن تأوّلوا في التدرج في تحويل المشروع الإسلامي إلى واقع حياتي ، لاسيما مع كثرة أعباءهم ، ومع كثرة الشرور في الناس ، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك كونهم محاربين ، ومحاصرين؟!

ومن يسـوّي بين هؤلاء الإسلاميين ، وبين العلمانيّين الذين يتبنـُّون الفكر العلماني في أحزابهم ، ويربّون عليه كوادرهم ، ويقيمون عليهم مشروعهم سـرَّا وعلانية ، من يسوّي بينهم ، فهـو متنكّب الهدى ، حاكم بالجور ، مثيـرٌ للفتن في بلاد الإسلام .

وقلت : لم يكن العلماء قـطّ يسوّون بين حملة الفكر الإسلامي الذين يتأولون في المشاركات السياسية ، السعـي للتغير عبرهـا ، وبين الأحزاب العلمانية ، فيكفـِّرون الجميع ، ويستحلـُّون دماءهم ، ويدعون إلى قتالهم !!

فهذا الفكر الغالي ، والشاذ جديد على الساحة الإسلامية ، لاندري مـَن رؤوسه ، ولايعرفون بعلم ، ولا سابقة فيه ، ولهذا لايهتدون لتناقضاتهم فيما يدّعون ، فإذا قيل لبعضهم تكفرون هذه الجماعة الإسلامية لأنها تأولت في التدرّج في الشريعة ، أو في المشاركة السياسية ، قالوا لانكفـرّهم ، ثم يعاملونهم معاملة الكفـّار ، ويسمونهـم طواغيت !

ثـمَّ يلقـون بكلامهم هذا إلى الصغار ، والجهـّال ، المتعطشين للجهاد ، ويصورن لهم إخوانهم في الحركات الأخرى كأنهم شياطين في جثمان إنس ، ويدخل بينهم شياطين حقيقية تؤجج هذه النار ، حتى تُذبـح الحركات الإسلامية ـ وبعضها جهادية كما في العراق ـ بسيوف ظاهرها إسلامية ، وحقيقتها جهل بالإسلام ، وظلم للأنام ، تحركها من حيث لاتشعر دوائر الإجرام.

والله المستعان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون


ولنعد الآن إلى إيضاح مسألة التدرج في تطبيق الشريعـة :

أما اندراج التدرج في الشريعة فيما ذكرت من قواعد الفقه ، فكما يلي :

أما سقوط التكليف بالعجز ، فهذا واضح ، فقد يعجز الحاكـم أن يغيـّر بعض الجوانب ، لعدم وجود آلات التغييـر ، فيسقط عنه ، وإذا كان محاصراً ـ مثلا ـ ولا يمكن جلب القضاة الشرعيين بما يكفـي ، فإنه يتدرَّج ، فيبدأ بما يقدر عليه ، ويؤجِّـل ما يعجـز عنه إلى القـدرة ، وأما فعل ما يقدر عليه العبد من الوجوب ، فكذلك قد يفعل بعض الواجب ، ويتدرج حتى يُكمـل ما وجـب عليه فعله إذا قـدر ، فهذا ما كُلـف به شرعا أصـلا ، وهذا كلـُّه لا إشكال فيه ، ولا يخلو عبـد من الحاجة إليه أصلا ، وهو من تيسير الشريعة السمحة التي جاءت بـ ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) .

وأما إرتكاب أخـفّ الضررين ، فقـد تقـرّر فـي الشريعة ، أنـَّه يجــوز فعل الضرر الأقـل ، إذا كان الأكبـر لايندفـع إلاَّ بذلك ، فلو كان الحاكم يعلم أنَّه لـو منـع التدرج ، لأدَّى ذلك إلى مفسدة أعظم ، هي سقوط المشروع برمِّتـه ، وفشـله ، فله أن يتـدرَّج دفعا لأعظم الضررين .

ويُستدل على قاعدة إرتكاب أخف الضررين ، بما في صحيح البخاري : ( جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد ، فزجره الناس فنهاهم النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فلمـَّا قضى بوله ، ‏ ‏أمر النبيّ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بذنوبمن ماء ‏ ‏فأهريق عليه) .

قال ابن حجر رحمه الله : (بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة ، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما . وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما).

فهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجّـل تغيير منكر هو من أعظم المنكر ، وهو البول في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام ، وفي حضرته عليه الصلاة والسلام ، لما في عدم التأجيل من مفسدة أعظـم.

وقال في مراقي السعود :

وارتكب الأخفّ من ضرين
وخيـّرنْ لدى استــوا هذين
كمن على الجريح في الجرحى سقط
وضعف المكث عليه من ضبط

وهذا كما ذكر الذهبي عن ميمون بن مهران ، سمعت عمر بن عبد العزيز يقول :
( لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل ، إني لأريد الأمر من أمر العامة ، فأخاف ألا تحمله قلوبهم ، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا ، فإن أنكرت قلوبهم هذا ، سكنت إلى هذا ) تاريخ الذهبي 4/170

وفي البداية والنهاية ( وإني لأريد الأمر ، فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا ، حتى تسكن قلوبهم ) 9/200

وورد عنه أنه قال : ( ما طاوعني الناس على ماأردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً) حليـة الأولياء 5/290

وقال لإبنه أيضا : ( إنّ قومك قد شدّوا وهذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم ، لم آمن أن يفتقوا على فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي ، من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أو ما ترضي أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ، ويحيي فيه سنة ، حتى يحكم الله بيننا ، وبين قومنا بالحق وهو خيرالحاكمين )حلية الأولياء 5/282، وصفة الصفوة لابن الجوزي 2/128

ولا ريب أنّ إصلاح العوائد المخالفة للشرع ، بالتدريج شيئاً فشيئاً ، مع مفسدة بقاء المظالم بأيدي أصحابها حينـاً من الوقت ، خير من ترك الإصلاح كلّه ، أو الوقوع في فتنة يعقبها فساد كلّ شيء.

وأما العمل بالأرجح عند تعارض المصالح مع المفاسد ، فقد يكون التعجل في التطبيق مفسدته راجحة على مصلحة التدرج ، فيجب سلوك الأرجح.

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قــد لا يترك الحرام البيـِّن ، أوالمشتبه ، إلاَّ عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة ، أعظم من تلك السيئة ،مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة ، والجماعة والحج ، والغزو ـ يعني وحينئذ فلا يترك هذا الحرام بل يفعل ـ وكذلك قد لا يؤدّي الواجب البيـّن ، أو المشتبه ، إلاَّ بفعل سيئة أعظم إثمـا منتركه ، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكرلذوي السلطان ، إلاَّ بقتال فيـه من الفساد أعظم من فساد ظلمه ) ويعني أنه لايفعل هذا الواجب بل يتـرك في هذه الحالة.

فإذا نظر الحاكـم إلى مآلات الأمور ، وثمارها ، وتبين له أنَّ المصلحة في التدرج أرجح من مفسدة التأجيل ، جاز له فعل ما ترجحت مصلحته .

قال العلامة عبدالرحمن السعدي : ( ومما يؤيد ذلك ما قاله غيرواحد من أهل العلم ، منهم شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم أنه إذا أشكل عليك شيء ، هل هو حلالٌ أم حرام ، أو مأمور به أو منهي عنه ؟
فانظر إلى أسبابه الموجبة ، وآثاره ، ونتائجه الحاصلة ، فإذا كانت منافع ، ومصالح ، وخيرات ، وثمراتها طيبة ، كان من قسم المباح ، أو المأمور به ، وإذا كان بالعكس ،كانت بعكس ذلك ، طبق هذه المسألة على هذا الأصل ، وأنظر أسبابها وثمراتها ، تجدها أسبابا لا محذور فيها ، وثمراتها خير الثمرات).


والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ، ونعـم النصيــر.

الشيخ حامد بن عبدالله العلى

التاريخ: 18/08/2009
 
أعلى