العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

(نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب)؛ لـ أ.د. عبد المجيد النجار

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,147
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب
أ.د. عبد المجيد النجار
الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وعضو مكلف بالبحوث به،
ورئيس المجلة الفصلية العلمية الصادرة عن المجلس .
تمهيد:
جاءت شريعة الإسلام حاكمة على حياة الناس في كل ظرف زماني ومكاني كانوا فيه، وفي كل الأحوال التي يكونون عليها، تطبيقا في ذلك لنص من نصوص الوحي، أو لاجتهاد من اجتهادات العقول وفق إرشادات الدين وتوجيهاته العامة، وعلى منهج للاجتهاد ضُبطت قواعده وأصوله في علم أصول الفقه ليكون هاديا للعقل في تحري مراد الله تعالى، المبين للناس على وجه التفصيل أو على وجه الهدي العام، إذ تعبد الله تعالى عباده بأن يتحروا مراده قدر طاقاتهم، وأن يخضعوا لذلك المراد في كل حياتهم.
وإذا كانت تعاليم الدين الحنيف قد تناولت بالبيان في شؤون الإنسان كل مناحي الحياة، فإنها لم تكن على سواء في ذلك التناول من حيث التفصيل والإجمال. فبعض تلك الشؤون فُصل البيان فيها تفصيلا، بينما أُجمل في شؤون أخرى إجمالا، صدروا في ذلك عن حكمة إلهية لعل من بعض وجوهها توافق التفصيل مع ما هو ثابت لا يتغير من وجوه الحياة، ومع ما هو خارج نطاق الاجتهاد العقلي في تحري المراد الإلهي مما يختص الوحي وحده ببيانه، وتوافق الإجمال مع ما هو متغير من أحوال الناس مما يحتاج إلى تدبير العقل في سبيل توفيق منقلبات أوضاعه إلى هدي الدين ومقاصده.
والناظر في عموم تعاليم الدين، وفي مبانيه الكلية ومقاصده العامة يجد أنه دين جاء لبناء المجتمع الإنساني وتدبير شؤونه كغاية عليا لكل تدبير جاء يتعلق بشؤون الفرد أو الفئة القليلة من الأفراد، وهو المغزى الذي انفرد به الإسلام من بين سائر الأديان، وكأنما هو مغزى مندرج ضمن الخاتمية التي أرادها الله تعالى لهذا الدين، فهي خاتمية كمال شامل بما في ذلك الكمال المتمثل في معالجة شؤون الإنسان مجتَمعا بعد معالجة شؤونه أفرادا وجماعات، وقد جاءت الدلالات على ذلك متواترة، ومنها على سبيل المثال تلك الصيغة في الخطاب الديني التي جاء بها موجها إلى جماعة الإنسان لا إلى أفراده، ومنها ذلك البعد الجماعي البين حتى في أخص مظاهر العلاقة بين الإنسان وربه من مثل الصلاة والصيام والحج، ولا غرو فإن الإسلام جاء يكلف الإنسان بمهمة الخلافة في الأرض، وهي مهمة لا ينهض بها إلا التدين الجماعي ويقصر عن أدائها مجرد التدين الفردي.
وبناء على هذا المغزى الديني القائم على المفهوم الجماعي للتدين جاءت تعاليم الدين بصفة عامة، وما يتعلق منها بوجوه التعامل بين الناس بصفة خاصة، متجهة ببيانها التفصيلي إلى مقتضى وجود جماعي للمتدينين يديرون فيه شؤون الحياة على أساس من تدينهم الجماعي، وذلك سواء فيما يشجر بين بعضهم وبعض من العلاقات، أو فيما يشجر بينهم وبين غيرهم ممن لا ينضوي تحت جماعتهم الدينية من الناس، ورتب كل ذلك على أساس أن سلطان الدين هو السلطان القيم الذي تنفذه ضمائر الأفراد فيما هو من خصائص الضمائر، والهيئة الجماعية متمثلة في الدولة فيما هو من خصائصها.
ومن المعلوم أن شؤون المسلمين لئن كان من المطلوب دينا أن تجري على هذا النحو من الوجود الجماعي الذي يخضع لسلطان الدين، فإنها قد تطوح بها الأقدار في واقع الحياة فتجري على أحوال غير تلك الأحوال، فإذا أفراد أو جماعات من المسلمين -تقل أعدادهم أو تكثر- يجدون أنفسهم في أوضاع يكونون فيها متدينين في خاصة أنفسهم أو في علاقات ضيقة تدار بينهم، ولكنهم في علاقاتهم الاجتماعية الواسعة والمتشعبة يكونون خاضعين لسلطان غير سلطان الدين، من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها ويكون السلطان فيها لدين غير دينهم، وينفذه على مجموع من ينضوي تحته من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبقون شريعته بين الناس.
وقد كان حظ هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي التي قد تطوع إليها ظروف الزمان من التفصيل في بيانات الوحي أقل من حظ تلك الحال التي يكون فيها ذلك الوجود جاريا على سلطان الدين في شؤون الجماعة كلها؛ إذ جاء ما يتعلق به راجعا إلى تصرف الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة في ذلك الوضع مع المجتمع الذي انخرطوا فيه، والسلطان الذي انضووا تحته على قدر من الكلية والإجمال والهدي العام.
ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن الوضع الذي يكون فيه للدين سلطان على الجماعة هو وضع منضبط ثابت مستقر، فناسبه البيان التفصيلي، وأما الوضع الذي يكون فيه الوجود الإسلامي خاضعا لسلطان غير سلطان الدين فإنه وضع متعددة صوره، متنوعة أحواله، مستجدة فصوله على غير انضباط، فناسبه إذن الهدي العام دون تفصيل ليكون للاجتهاد العقلي مجال في توفيقه إلى مراد الله تعالى على ضوء ذلك الهدي الديني العام.
وقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل، مثل حال الأقليات التي أشرنا إليها، بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجه ذلك النظر وتكون له ميزانا هاديا يُتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدى منها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ ما تيسر له أن يؤدي، وهي اليوم في شأن الأقليات المسلمة ملقاة على عاتق النظار من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين بأشد وأثقل مما كانت ملقاة على عاتق السابقين؛ وذلك لما حصل في هذا الشأن من تطور لم يكن له في السابق مثيل.
إن المسلمين اليوم يعيش شطر كبير منهم -لعله يناهز ثلث عددهم أو يزيد- في حال أقلية تخضع في حياتها الجماعية لسلطان غير سلطان الدين الإسلامي، وتنفذ فيها إرادة قانونية هي إرادة أكثرية غير مسلمة، وتلك أحد إفرازات العالم المتغير المتسارع التغير، الذي تقاربت أطرافه، وتداخلت شعوبه وأممه، وتمازجت ثقافاته وحضاراته، ولعل المشهد الأوربي في هذا الشأن يمثل أحد النماذج الأبرز للأقليات المسلمة.
يعيش في أوربا اليوم في هذا الوضع ما يقارب الستين مليونا من المسلمين، وإذا كانت أوربا هي قلب الحضارة الغربية ومركز الثقل فيها، وإذا كان هذا الوجود المعتبر للإسلام والمسلمين فيها يمثل المظهر الأبرز للقاء المتفاعل بين الإسلام والغرب في عالم متغير، فكيف لا يكون من الأهمية بمكان أن تتجه الهمم العلمية لاجتهاد تأصيلي فقهي يوفق هذا الوجود الإسلامي لما فيه الخير لجميع القاطنين بهذه القارة ومن وراءهم من بني الإنسان، بسطا لقيم الإسلام الخالدة، واستفادة من الكسب الحضاري الأوربي، فإذا هي علاقة بين الإسلام والغرب مؤصلة على أصول من الدين متينة، فتكون مثمرة للتعايش السلمي والتعارف الحضاري، عاصمة من الصراع وما يفرزه من المآسي التي شهدت منها العلاقة بين الطرفين مشاهد محبطة في الماضي، وتشهد اليوم منها مشاهد أخرى تنذر بالإحباط بأسباب لعل من أهمها الافتقار إلى تأصيل عقدي فقهي مرشد. إن هذا التأصيل هو الذي نعنيه في هذه الورقة بالتأصيل لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
فقه الأقليات: تحديد المفاهيم
لعله يكون من المتأكد -في هذا الصدد- أن نحدد المفاهيم التي سيدور عليها التحليل متمثلة بالأخص في مصطلح الأقليات وفقه الأقليات، فهي مصطلحات حديثة عهد بالتداول بين المهتمين بهذا الشأن، ولا يزال الحوار فيها قائما في سبيل الانتهاء فيها إلى مفاهيم بينة، بل في سبيل الانتهاء فيها إلى إقرار بمشروعيتها مبحثا علميا ذا خصوصية، فيتوارد عليها النظار والباحثون إذن على سواء في البسط والاحتجاج، ويتقدم العلم فيها درجات مثمرة لا ينقض بعضها بعضا.
لقد راج مصطلح الأقليات في عصرنا وأصبح له بعد سياسي واجتماعي وقانوني؛ وذلك لما حدث في الواقع من اختلاط بين الأمم والشعوب بفعل تفشي هجرة الأفراد والجماعات من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، لتوفر مغرياتها وليسر أسبابها، فإذا المجتمعات الأصلية في كل قارة تنضم إليها جماعات مغايرة لها ممن هاجر إليها، فتشاركها الحياة في وجوهها المختلفة، وتحدث في تلك المشاركة وجوه من الاحتكاك تسفر عن وجوه من الاضطرابات التي تطلب لها حلولا اجتماعية وسياسية، فكان ذلك من أهم أسباب رواج مصطلح الأقليات، ثم مصطلح فقه الأقليات.
أ ـ مصطلح الأقليات المسلمة:
حينما يُطلق مصطلح الأقليات فإنه يُراد به -في الغالب- المجموعات البشرية التي تعيش في مجتمع تكون فيه أقلية من حيث العدد، وتكون مختصة من بين سائر أفراد المجتمع الآخرين ببعض الخصوصيات الجامعة بينها، كأن تكون أقلية عرقية، أو أقلية ثقافية، أو أقلية لغوية، أو أقلية دينية، وإذن فإن هذا المصطلح يشير إلى عنصرين في تحقق وصف الأقلية هما: القلة العددية لمجموعة ما تعيش في مجتمع أوسع، والتميز دون سائر ذلك المجتمع بخصوصيات أصلية في الثقافة أو في العرق[1].
وفي تحديد مصطلح الأقليات المسلمة المقصود في هذا المقام، ربما تعترض بعض المشكلات، فاللفظ بظاهره حينما يندرج في المصطلح العام للأقليات يكون دالا على مدلول عددي، ومدلول تميز ثقافي، فيصبح المعنى المقصود بالأقليات المسلمة تلك المجموعة من الناس التي تشترك في التدين بالإسلام، وتعيش أقلية في عددها ضمن مجتمع أغلبه لا يتدين بهذا الدين.
ومما يتوجه إلى هذا المصطلح من وجوه الاستفسار: هل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك الأقليات العددية التي قد تكون هي النافذة في مجتمع غير مسلم، بحيث يكون بيدها السلطان السياسي الذي تحقق به سيادة القانون الإسلامي على عموم المجتمع؟ وهل تُعتبر من الأقليات المسلمة تلك المجموعة المسلمة التي هي من حيث العدد أكثرية، ولكنها تعيش في مجتمع تكون فيه مجموعة أخرى غير مسلمة هي النافذة بحيث تسيطر على الحكم وتطبق من خلاله قانونا غير إسلامي على سائر المجتمع؟
إن الإجابة عن هذه المشكلات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أيضا طبيعة الصفة الإسلامية في خصوصيتها من بين سائر الأديان؛ إذ إن المسلم لكي تتحقق صفته الإسلامية ينبغي أن يحكم الإسلام كل وجوه حياته الفردية والاجتماعية، وهو ما يجعل علاقة القانون العام الذي ينظم الحياة ميزانا أصليا في تحقق الصفة الإسلامية أو عدم تحققها، بينما غير المسلمين يمكن أن يتحققوا بصفة دينهم إذا ما تدينوا به في خاصة النفس مهما يكن القانون العام الذي يطبق عليهم.
إذا ما أضفنا هذا إلى ذاك أصبح مصطلح الأقليات المسلمة مصطلحا ذا خصوصية بين نظائره من المصطلحات الضابطة للأقليات؛ إذ يصبح القانون العام الذي يُطبق في المجتمع الذي توجد به الأقلية عنصرا مهما في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فيكون إذن مصطلحا ينطبق على تلك المجموعة من المسلمين التي تعيش في مجتمع تُطبق فيه قوانين غير إسلامية من قِبل سلطات حاكمة غير إسلامية، أو تسود فيه لسبب أو لآخر ثقافة وأعراف وتقاليد غير إسلامية.
وعلى هذا الاعتبار يدخل في مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأكثرية المسلمة في مجتمع يخضع لقانون وثقافة غير إسلامية إذا كانت تلك الأكثرية مغلوبة على أمرها في ذلك النمط من الحياة، ومن باب أولى أن يدخل فيه الأقلية الخاضعة لنظام غير إسلامي. وعلى هذا الاعتبار أيضا يخرج من مفهوم الأقلية المسلمة تلك الأقلية التي يكون لها نفوذ يسود به القانون الإسلامي والثقافة الإسلامية في المجتمع الذي تعيش فيه، كما يخرج منه أيضا المسلمون الأكثرية إذا كانوا يخضعون لحكم من قِبل أنفسهم، ولكن لا يُطبق فيهم القانون الإسلامي إن جزئيا أو كليا كما هي أوضاع الكثير من البلاد الإسلامية اليوم، إذ هذه الحال من عدم التطبيق الديني عليهم ليست متأتية من مغلوبيتهم لجماعة غير إسلامية، وإنما هي متأتية من جهل أو تقصير أو غير ذلك من الأسباب الذاتية.
ب ـ مصطلح فقه الأقليات:
لا يتجاوز عمر هذا المصطلح حسبما نعلم بضعة عقود، ولا يتجاوز شيوعه في الاستعمال عقدا أو عقدين. ولعل منشأه كان مرتبطا بالجالية الإسلامية بالبلاد الغربية، إذ لما تكاثرت هذه الجالية بأوربا وأمريكا، وبدأت حياتها تنتشر وعلاقاتها تتشعب، وبدأت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها الذي يعيش فيه مجتمع غير إسلامي، وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، إذ ذاك بدأت تتوق إلى أن تنظم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها، ولكن وجدت أن وجوها كثيرة من تلك الحياة لا يفي بتوفيقها إلى أحكام الدين ما هو متداول معروف من الفقه المعمول به في البلاد الإسلامية، إما لأنه لا يناسب أوضاعا مخالفة للأوضاع الموجودة بالبلاد الإسلامية، أو لأنه لا يغطي أوضاعا انفردت بها حياتهم بالمهجر، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختص في معالجة حياة هذه الأقلية أُطلق عليه مصطلح فقه الأقليات.
وليس فقه الأقليات بمنعزل عن الفقه الإسلامي العام، ولا هو مستمد من مصادر غير مصادره، أو قائم على أصول غير أصوله، وإنما هو فرع من فروعه، يشاركه ذات المصادر والأصول، ولكنه ينبني على خصوصية وضع الأقليات، فيتجه إلى التخصص في معالجتها، في نطاق الفقه الإسلامي وقواعده، استفادة منه وبناء عليه، وتطويرا له فيما يتعلق بموضوعه، وذلك سواء من حيث ثمرات ذلك الفقه من الأحكام، أو من حيث الأصول والقواعد التي بُنيت عليها واستُنبطت بها.
فمن حيث ثمرات الفقه من الأحكام فإن فقه الأقليات ينبني جسمه الأكبر على تلك الثمرات؛ إذ القدر الأكبر منها متعلق بما هو ثابت تشترك فيه أوضاع المسلمين مهما تغايرت ظروفها في الزمان والمكان، ولكن مع ذلك فإنه يعمد إلى اجتهادات كانت مرجوحة، أو غير مشهورة، أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها، وينشطها ويحييها، لما يُرى فيها من مناسبة لبعض أوضاع الأقلية المسلمة تتحقق بها المصلحة، فيعالج بها تلك الأوضاع، في غير اعتبار لمذهبية ضيقة، أو عصبية مفوتة للمصلحة، ما دام كل ذلك مستندا إلى أصل في الدين معتبر.
ومن حيث الأصول والقواعد، يعمد هذا الفقه إلى استعمال القواعد الفقهية والمبادئ الأصولية ما يُرى منها أكثر فائدة في توفيق أحوال الأقلية إلى حكم الشرع، ويوجهها توجيها أوسع في سبيل تلك الغاية، وربما استروح من مقاصد الشريعة ما يستنبط به قواعد اجتهادية لم تكن معهودة في الفقه الموروث، فيدخلها في دائرة الاستخدام الاجتهادي في هذا الفقه، أو يعمد إلى قواعد كانت معلومة ولكن استعمالها ظل محدودا جدا، فينشط العمل بها في استخدام واسع تقتضيه طبيعة أوضاع الأقليات المسلمة، ليتحصل من ذلك كله فقه للأقليات ينبني على الفقه الإسلامي المأثور، ويتجه بخصوصية في هذا الشأن، يضيف بها فقها جديدا يكون كفيلا بمعالجة هذا الوضع الجديد[2].
________________________________________
[1] راجع في شرح هذا المصطلح: يوسف القرضاوي ـ في فقه الأقليات المسلمة:25 ( ط دار الشروق/2001 )
[2] راجع في ذلك : طه جابر العلواني ـ مدخل إلى فقه الأقليات ( بحث مخطوط ).
________________________________________
فقه الأقليات في التراث الفقهي
لما نشأ الفقه الإسلامي وتوسع وتطور فإنه انبنى -في كل ذلك بوجه عام- على معالجة الحياة الواقعية للمسلمين، يروم تدبيرها في مستجداتها ومنقلبات أحوالها بأحكام الشريعة المنصوص عليها أو المستنبطة بالاجتهاد، فجاء في أنواع قضاياه ومستنبطات أحكامه، وفي منهجه وروحه العامة يعكس -إلى حد كبير- واقع الحياة الإسلامية فيما يطرأ عليها من الأطوار، وما تنقلب فيه من الأحوال، فيصوغ لكل تلك الأطوار والأحوال أحكاما شرعية من صريح النص أو من أصول الاجتهاد، ولم تكن الأحكام الافتراضية فيه إلا جارية على سبيل المران التعليمي، بل قد كانت منكرة عند بعض أئمة الفقه من كبار المجتهدين.
وواقع الوجود الإسلامي عند نشأة الفقه وطيلة فترة ازدهاره الحية بحركة الاجتهاد كان واقعا يقوم ذلك الوجود فيه على سلطان الدين الذي به تنتظم حركة العلاقات الاجتماعية كلها من تلقاء الأفراد والفئات فيما بينهم، ومن تلقاء الدولة التي تسوس الأمة سياسة شرعية، ولم يعرف ذلك الوجود جماعات واسعة من المسلمين تعيش في مجتمعات غير إسلامية يخضعون بها في علاقاتهم الاجتماعية العامة لسلطان غير سلطان دينهم، وقصارى ما كان يحصل في هذا الشأن وجود أفراد من المسلمين أو جماعات صغيرة منهم في مجتمعات غير إسلامية وجودا عارضا في الغالب بسبب ضرب في الأرض، أو إيمان بالدين ناشئ لم تتوسع دائرته ليصبح سلطانه غالبا، فلم يكن إذن ذلك الوجود للأقليات المسلمة ظاهرة بارزة ضمن الوجود الإسلامي العام.
وبسبب هذه المحدودية غير اللافتة للانتباه في ظاهرة الوجود الإسلامي الذي لا يخضع لسلطان الدين، مضافا إلى ذلك ما ذكرنا آنفا من أن البيان الديني في هذا الشأن كان بيانا جُمَليا عاما، فإن الاجتهاد الفقهي الذي كان يتصدى لحل مستجدات الواقع بأحكام الشريعة لم يتناول بشكل عميق موسع هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي بما هي ظاهرة غير ذات شأن بين في واقع المسلمين، وربما تناول قضايا جزئية محدودة منها، كانت تعرض للمجتهدين بين الحين والآخر فيصدرون فيها فتاوى وأحكاما في غير ما اهتمام شمولي عام بها كحالة من أحوال المسلمين ذات الوزن الواقعي المهم.
وربما طرأت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي ظروف أصبحت فيها حال المسلمين الخاضعين لسلطان غير سلطان دينهم ظاهرة ذات شأن واقعي، وذلك مثل ما حصل للمسلمين عند سقوط الأندلس، ومثل ما كان من أمر المسلمين ببعض البلاد الآسيوية والأفريقية حينما تزايدت أعدادهم وتوسعت جماعاتهم مع بقائهم أقليات مسلمة في مجتمعات غير إسلامية تساس بسلطان غير سلطان الإسلام، ولكن هذه المراحل التاريخية التي أفرزت هذا الواقع الجديد للأقليات المسلمة وافت بالنسبة لمراحل تاريخ الفكر الفقهي مرحلة الضعف الاجتهادي والأيلولة إلى التقليد والجمود، فلم يكن هذا الفكر قادرا على أن يتناول هذه الظاهرة الجديدة بمعالجة فقهية أصلية شاملة، وظل في نطاق التقليد والجمود يردد المعالجات الجزئية الاجتهادية القديمة في طابعها الجزئي، أو يضيف إليها إضافات من الفتاوى ذات الطابع الجزئي أيضا.
وقد أسفر هذا الوضع المتعلق بوجود الأقليات المسلمة في طوريه مع اختلاف الأسباب بينهما عن أن المدونة الفقهية الإسلامية لم يكن لفقه الأقليات فيها بيان ثري يتناول في شمولٍ أحكام العلاقات الاجتماعية للمسلمين، وتصرفاتهم الاقتصادية، وسائر أحوال شؤونهم العامة فيما له صلة بالمجتمع غير المسلم الذي يعيشون فيه، والذي يسوسه سلطان غير سلطان دينهم يكونون هم خاضعين له كما يخضع له سائر المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنما وجدت في هذه المدونة أحكام وفتاوى واجتهادات فقهية جزئية متفرقة في الغالب بين أبواب الفقه المختلفة، لا يجمعها جامع في باب موحد، ولا منهج شامل في النظر الفقهي.
وقد استصحب هذا الوضع في المدونة الفقهية بالنسبة لفقه الأقليات وضعا مشابها في مدونة أصول الفقه، إذ من المعلوم أن هذا العلم المنهجي قد نشأ متأخرا عن علم الفقه، وكان نشوؤه -في عمومه- استقراء من محررات الأحكام الفقهية، وليس وضعا ابتدائيا لقواعده المنهجية، فكان لهذا السبب متأثرا على نحو من الأنحاء بالمسار العام للفقه، وذلك فيما يتعلق بأحجام الاهتمام بقضايا الحياة الإسلامية، وشمول البيان فيها، وإن يكن هو من الناحية المنطقية الأصل الذي ينبني عليه الفقه، والذي يتوجه بتوجيهه.
ومن بين ما طاله استصحاب أصول الفقه لما جاء في المدونة الفقهية من شح في البيان المفصل ما يتعلق بالأقليات المسلمة الواقعة تحت سلطان غير إسلامي، فلئن كانت قواعد أصول الفقه وقوانينه وأحكامه ذات طابع منهجي عام، يشمل بالتقعيد المنهجي كل جزئيات الأحكام، ولا يختص ببعضها دون بعض، فإن توجه الأصولي الفقيه بكثافة وعناية إلى مجال من مجالات النظر الفقهي أكثر من توجهه إلى مجال آخر، من شأنه أن يؤثر في نظره الأصولي باستخراج قوانين وقواعد منهجية ذات علاقة أشد وأمتن بالمجال الفقهي الذي كان توجهه إليه أكثر كثافة وعناية، وبإنضاج تلك القوانين والقواعد بمحاكمتها التفصيلية التطبيقية إلى جزئيات الأحكام التي تنضوي تحت ذلك المجال.
ونتيجة لذلك فإن مدونة أصول الفقه -كما المدونة الفقهية- جاء فيها حظ التأصيل لفقه الأقليات حظا ضعيفا بالنسبة لغيره من الاهتمامات الأصولية، فهذا المجال الفقهي لم يوجه إليه التأصيل باهتمام مقدر في تقرير القواعد الفقهية وتوجيهها والتمثيل لها، وكذلك في تقرير أصول الاجتهاد فيه، وتطبيقاتها المختلفة الوجوه، وبقي الأمر في ذلك كله على حد القدر المشترك من الوجوه العامة في استنباط الأحكام من مداركها، وهو ما يلتقي عليه النظر الفقهي في كل مجال من مجالات الحياة حينما يكون سلطان الدين سائدا، دون خصوصية لأوضاع الأقليات المسلمة التي تعيش تحت سلطان غير ذلك السلطان.
التأصيل لفقه الأقليات.. ضرورته وموجهاته
طوح الزمان بالأمة الإسلامية في عهودها الأخيرة إلى وضع من الحياة جديد لم تكن له سابقة في ماضيها، وهو وضع المغلوبية الحضارية لأمم أخرى، ذلك الذي أصبحت فيه تابعة بعدما كانت متبوعة، ومغلوبة بعدما كانت غالبة. ومن إفرازات هذا الوضع الجديد أن نشأت ظواهر متعددة من وجود إسلامي لا يكون الإسلام فيه هو القيم على حياة المسلمين الاجتماعية إن بصفة كلية أو بصفة جزئية، وما عاشته كثير من الشعوب الإسلامية طيلة القرنين الماضيين من حياتها تحت استعمار الأمم الأوربية يعتبر إحدى أبرز تلك الظواهر وأكثرها توليدا وتفريعا في خصوص هذا الشأن.
وإذا كانت سنة الله تعالى في تدبير حياة الناس كثيرا ما ينساق إليهم فيها ما ينفعهم ويكون لهم فيه خير إن هم استثمروه بالاعتبار وفق تلك السنة ضمن ما يصيبهم من ضرر وهم له كارهون، فلعل من تجليات هذه السنة في خصوص ما نحن بصدده أن أفرزت تلك الحال الاستعمارية للشعوب الإسلامية التي خضعت فيها لسلطان غير سلطان الدين وضعا من الوجود الإسلامي بالبلاد الأوربية أصبح على صعيد العد يقدر بعشرات الملايين، وأصبح على صعيد الآمال يستشرف التعارف الحضاري أخذا وعطاء بما لم يتسن للمسلمين من قبل، بالرغم مما اتصفت به جهودهم من العزم والإخلاص، وكان هذا التجلي لتلك السنة يتمثل فيما ساقه الله تعالى فيها من خير نافع للإسلام والمسلمين، وذلك في ثنايا ما كان فيه كره لهم متمثل في خضوع هذه الأقليات الإسلامية الكبيرة في حياتها الاجتماعية لسلطان غير سلطان دينها، وهو سلطان القانون الوضعي في تلك البلاد التي تعيش فيها. ولكن ذلك الخير مشروط في حصول خيريته بحسن استثمار المسلمين لمقدماته حتى ينتج ثماره وفق قواعد الاعتبار وقوانينه.
أ ـ ضرورة التأصيل لفقه الأقليات:
ولعل من أهم ما يستثمر به هذا الوضع للأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية من قوانين الاستثمار المنتجة للخير منه، هو أن يؤخذ بالمعالجة الشرعية وفق منهج علمي هو منهج التأصيل الذي تُبنى فيه الأحكام والفتاوى لهذا الوجود الإسلامي كي يثمر ثماره الخيرة على أصول وقواعد من أصول الاجتهاد وقواعده، توجهها وتسددها نحو أهدافها على اعتبار خصوصية الوضع الذي تعالجه بالنسبة لعموم الوضع الإسلامي الذي جاء النظر الفقهي العام يعالجه وفق الأصول والقواعد العامة في الاجتهاد.
وقد اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوربا منذ بعض الزمن، واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقها من الفتاوى والأحكام ظلت تثري الحياة يوما بعد يوم، وتوج ذلك الاهتمام بنشوء مجمع علمي خاص بهذا الشأن هو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوربا، وما أثمره من ثمار، وما تراكم به من فقه، ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن هذا الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به، ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوربية من جهاته المختلفة.
ولا يظن ظان أن هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات سيكون بدعا مستأنفا مقطوع الصلة بالمنهج العام لأصول الفقه الذي يوجه النظر الفقهي، وإنما هو ليس إلا فرعا من فروع ذلك المنهج أو قسما من أقسامه وبابا من أبوابه يشترك مع ذلك المنهج العام فيما هو مشترك بين حياة المسلمين مطلقا عن الظروف والأحوال، ولكن توجه فيه عناية النظر التأصيلي إلى خصوصية وضع الأقليات المسلمة بأوربا من حيث واقعه الخاضع فيه لسلطان القانون الوضعي، ومن حيث ما ينطوي عليه من أبعاد دعوية وآمال مستقبلية، تلافيا في ذلك لنقص في مدونة أصول الفقه شرحنا أسبابه آنفا، ولينتج منه فقه للأقليات المسلمة يتجاوز الفتاوى الظرفية والأحكام الجزئية التي تعالج وجودا إسلاميا ظرفيا عارضا في مقاطع متفاصلة، ليكون فقها يستجيب لآمال الدعوة في تلك البلاد تحقيقا للتعارف الحضاري نفعا وانتفاعا بما لم يتحقق من قبل على الوجه المأمول.
ولا يكون هذا التأصيل الفقهي لفقه الأقليات موفيا بالغرض المبتغى منه إلا بأن يبنى في منهجه على أصول ومبادئ موجهة، تقوم عليها أركانه وتتأسس قواعده، ويتوجه بها منهجه وتنطبع بها صبغته العامة، وبأن يشتمل في محتواه على قواعد وقوانين اجتهادية تستنبط وفقها الأحكام ويتوجه بوجهتها الفقه التفصيلي، ويكون كل من تلك الأصول الموجهات وذلك المحتوى من القواعد والقوانين، مأخوذا بنظر خاص يستجيب به لخصوصية الوجود الإسلامي بأوربا، وذلك في نطاق نظر عام مستجيب للمقتضيات الشرعية للوجود الإسلامي المطلق عن الزمان والمكان.
ب ـ المبادئ الموجهة لتأصيل فقه الأقليات:
هي مبادئ أصول من المقاصد العامة للدين مصاغة باعتبارات وضع الأقليات المسلمة بحسب ما يقتضيه ذلك الوضع من مقتضيات تتحقق بها مقاصد الدين فيه، وهو ما تكون به أصولا ذات طابع كلي شمولي تهدف إلى أن تنتج فقها لا يجعل من المعالجات الشرعية الجزئية لآحاد المشاكل ونوازل الأفراد هدفا نهائيا له، وإنما يجعلها طريقا لهدف أعلى منها، وهو هدف نشر الدعوة الدينية في الربوع الأوربية لينبسط بها الدين الحنيف فيها فينقذ المسلمين فيها من الضياع، ويشهد على غير المسلمين بالتبليغ، فهي إذن ليست مجرد أصول فنية تفضي إلى قواعد للاستنباط الصحيح للأحكام والفتاوى في شؤون الأقليات المسلمة من مداركها الشرعية، وإنما هي أصول تنطوي بالإضافة إلى ذلك على بعد دعوي تبليغي تحتل فيه مقاصد الدين العامة ومغازيه الكلية الموقع المرموق. ولعل من أهم تلك الأصول التي تتأسس عليها هذه المعاني ما يلي:
أولا ـ حفظ الحياة الدينية للأقلية المسلمة:
وذلك لتكون هذه الحياة -في بعدها الفردي والجماعي- حياة إسلامية في معناها العقدي الثقافي، وفي مبناها السلوكي والأخلاقي، انتهاجا في ذلك منهج المواجهة لما تتعرض له هذه الحياة من غواية شديدة من قِبل الحضارة الغربية في بنائها الفلسفي والثقافي والسلوكي، والمواجهة أيضا لمغلوبية حضارية متمكنة في شعور تلك الأقلية من شأنها أن تبسط لتلك الغواية منافذ واسعة للتأثير الذي يعصف بالتدين في النفوس والأذهان كما في الأخلاق والأعمال، فيكون إذن من الموجهات الأساسية في التأصيل الفقهي لفقه الأقليات أن يبنى هذا التأصيل على مقصد حفظ الدين في خصوص الأقليات المسلمة بأوربا؛ وذلك حتى تحافظ على وجودها الديني الفردي والجماعي وجودا قويا صامدا في ذاته، وناميا مؤثرا في غيره.
وإذا كان هذا الموجه المقصدي للتأصيل لفقه الأقليات يعتبر موجها لعموم التأصيل الفقهي، ما تعلق منه بفقه الأقليات وما تعلق بغيره، إلا أنه في توجيهه لتأصيل فقه الأقليات يكون مستصحبا لمقتضيات ما يكون به حفظ الوجود الديني للأقليات المسلمة بناء على خصوصية الظروف التي تعيشها والتحديات التي تواجهها، وهي مقتضيات قد تختلف في كثير أو قليل عن مقتضيات حفظ الدين في الوجود الإسلامي الذي يكون فيه المسلمون يملكون أمر أنفسهم في تطبيق سلطان الدين على حياتهم، إذ الظروف غير الظروف والتحديات غير التحديات، فتكون إذن مقتضيات الحفظ غير المقتضيات، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الأصل الموجه لتأصيل فقه الأقليات.
ثانيا ـ مراعاة خصوصية أوضاع الأقليات:
الأقليات المسلمة بالغرب -على وجه الخصوص- تكونت في أساسها بموجة من الهجرات من البلاد الإسلامية عبر مراحل متتالية من القرن العشرين، ولم يكن المنضمون إليهم من الذين أسلموا من أهل الغرب إلا أعدادا قليلة بالنسبة لعدد المهاجرين. وقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين إلى أوربا على وجه الخصوص من طبقة العمال، ثم انضم إلى العمال طلبة العلم، ثم انضم إليهم المضطهدون السياسيون، ثم انضمت إليهم أعداد من العقول المهاجرة، وبالتراكم الزمني أصبح لهؤلاء المهاجرين أبناء وأحفاد شكلوا ما يُعرف بالجيل الثاني وأصبح الآن الجيل الثالث قيد التشكل.
إن القاعدة العريضة للأقليات المسلمة بالغرب هي قاعدة مهاجرة بدوافع الحاجة، إما طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، فكان هذا الوجود الإسلامي بالغرب هو في عمومه وجود حاجة لا وجود اختيار، وليست فكرة المواطنة الشائعة اليوم بين هؤلاء المهاجرين مشيرة إلى ضرب من الاختيار إلا تطورا لا يتجاوز عمره سنوات قليلة، وهي فكرة لم يعتنقها بعد القسم الأكبر من الأقلية المسلمة بالغرب. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأقلية جاءت تحمل معها هويتها الثقافية، وقد ظلت محافظة عليها بشكل أو بآخر من أشكال المحافظة، وهي بذلك وجدت نفسها في خضم ثقافة غربية مغايرة لثقافتها، بل مناقضة لها في بعض مفاصلها المهمة، وليست هذه الهوية في مستكن المسلم هي مجرد هوية انتماء شخصي، بل هي أيضا هوية تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري.
ومن هذه العناصر المتعددة في وجود الأقلية المسلمة بالغرب تكونت خصوصيات عديدة يجب أخذها بعين الاعتبار في التأصيل لفقه الأقليات، حتى يكون هذا التأصيل موجها ذلك الفقه بحسب ما تقتضيه الظروف الواقعية، إذ من المعلوم أن الاجتهاد ينبغي أن يكون مبنيا على فقه الواقع كما هو مبني على فقه الأحكام.
ولعل من أهم تلك الخصوصيات التي ينبغي اعتبارها في هذا التأصيل ما يلي:
ـ خصوصية الضعف:
تتصف الأقليات المسلمة -بوجه عام- بصفة الضعف التي لا تكاد تفارق أي أقلية إسلامية في العالم، وإذا كانت حال الضعف حالا ملازمة للأكثر من الأقليات في العالم، فإنها ليست حالا لجميعها، بل من الأقليات من هي على حال من القوة تفوق قوة الأكثرية التي تعيش بينها، ولكن الأقليات المسلمة تفوق في حال ضعفها الأكثر من الأقليات في العالم لأسباب متعددة سنذكر بعضها لاحقا.
ويبدو هذا الضعف أول ما يبدو في الضعف النفسي، فهذه الأقليات هي -في أغلبها- منتقلة من أوساطها الإسلامية إلى وسط ثقافي واجتماعي وحضاري غريب عنها، وهذه النقلة إلى مناخ غريب من شأنها -لا محالة- أن تحدث في النفس شعورا بالغربة الثقافية والاجتماعية، فالاستقرار بالمنبت في المجال الإنساني كما في المجال الطبيعي هو دائما مبعث للشعور بالاطمئنان النفسي المتأتي من الانسجام مع المحيط، والهجرة في المجالين أيضا مبعث للشعور بضرب من القلق النفسي جراء عدم الانسجام مع المحيط الجديد إلى أن يتطاول العهد، وينشأ الانسجام. والشعور بالاغتراب والقلق هو ضرب من الضعف النفسي.
وينضاف إلى هذا المظهر من مظاهر الضعف النفسي ما يستكن في نفوس الأقليات المهاجرة من شعور بالدونية الحضارية أو المغلوبية الحضارية، فالمهاجرون المسلمون إلى الغرب، وهم أكثر الأقلية، انتقلوا من مناخ حضاري متخلف في وسائله المادية والإدارية، إلى مناخ حضاري باهر التقدم في ذلك، وهذه النقلة بين المناخين مع ما يصحبها من مقارنة دائمة تسفر عن تبين استمرارية دائمة في الفوارق من شأنها لا محالة أن تشيع في النفوس شعورا نفسيا بالدونية والانهزام، وذلك ضرب من ضروب الضعف النفسي.
وينضاف إلى ذلك الضعف النفسي ضعف اقتصادي، إذ الأقلية المسلمة في أوربا على وجه الخصوص هي من أكثر الأقليات ضعفا اقتصاديا، إذ هي -في أكثرها- من اليد العاملة أو من الحرفيين، أو من الموظفين في قلة قليلة، وكل أولئك هم على حافة الكفاية إن لم تكن حافة الكفاف، وهو ما انعكس على طريقة الحياة كلها من السكن وسائر المرافق الأخرى، كما انعكس أيضا بصفة سلبية على قدرة هذه الأقلية على تطوير نفسها وتحقيق برامجها وأهدافها التربوية والثقافية والاجتماعية، وقدرتها على الاندماج في الحركة الحضارية والاستفادة منها الاستفادة المثلى.
ومن مظاهر الضعف أيضا الضعف السياسي والاجتماعي، فبالرغم من أن عددا كبيرا من الأقلية المسلمة أصبح من المواطنين الأوربيين، فإن المشاركة السياسية لهؤلاء ما تزال ضعيفة جدا، إن لم تكن معدومة، فالتأثير السياسي الذي من شأنه أن ينشأ عن تلك المشاركة هو أيضا على غاية من الضعف، ولذلك فإن هذه الأقلية يكاد لا يكون لها اعتبار يُذكر في القرار السياسي في البلاد التي تعيش فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للوضع الاجتماعي، فليس لهذه الأقلية مؤسسات اجتماعية ذات أهمية وتأثير لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، واندماجها في المؤسسات الاجتماعية العامة اندماج ضعيف لا يكاد يُلحظ له أثر، ومحصلة ذلك كله أن الأقلية المسلمة بالغرب هي من الضعف السياسي والاجتماعي بحيث يكاد لا يُلمح لها وجود، ولا يكون لها أثر، وشتان في ذلك بينها وبين أقليات أخرى أقل منها بكثير عددا، ولكنها لقوتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ترى آثارها فتحسبها هي الأغلبية وليست الأقلية. وهذا الوضع من الضعف المتعدد الوجوه ينبغي أن يكون ملحَظا معتَبرا عند التأصيل لفقه الأقليات.
ـ خصوصية الإلزام القانوني:
البلاد الغربية بصفة عامة يحظى فيها القانون باحترام كبير، سواء في الحس الجماعي، أو في دوائر التنفيذ؛ ولذلك فإن سيادة القانون فيها يُعتبر أحد الثوابت التي بُنيت عليها ثقافتها وحضارتها، ومن ثم فإن أيما منتم إلى هذه البلاد من فرد أو جماعة، سواء بالإقامة أو بالمواطنة، فإنه سيصبح تحت سيادة القانون السيادة الكاملة، مهما كان وضعه العرقي أو الديني أو الثقافي.
والقانون في هذه البلاد مبني على ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه، وهو منظم للحياة العامة على أساس تلك الثقافة والمبادئ والقيم، ويطبق هذا القانون على الأقلية المسلمة كما يُطبق على سائر أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو تطبيق يمتد من أحوال الفرد إلى أحوال الأسرة إلى أحوال المجتمع بأكمله في قدر كبير من الصرامة النظرية والفعلية، بحيث يكاد لا يترك استثناء لخصوصية فرد أو مجموعة تمارس فيها تلك الخصوصية خارج سلطان القانون، وهو ديدن الدولة الحديثة في السيطرة الإدارية المحكمة على المجتمع، وإن تكن تلك السيطرة بتفويض من المجتمع نفسه.
في هذا الوضع تجد الأقلية المسلمة نفسها ملزمة بالخضوع للقانون، وتطبيقه في حياتها حيثما يكون له تدخل في تلك الحياة، وخاصة ما كان يتعلق بالعلاقات العامة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، والحال أن تلك القوانين كثير منها يخالف المبادئ الدينية والثقافية التي تكون هويتها، وتشكل التزامها العقدي، وهكذا ينتهي الأمر إلى سيادة قانونية على حياة الأقلية معارضة في كثير من الأحيان لقوانين هويتها، فإذا هي ملزمة بالخضوع لتلك القوانين، أو هي إذا كان الموقف موقف خيار بين الدخول في معاملات يحكمها القانون وبين عدم الدخول فيها فإن عدم الدخول يحرمها أحيانا كثيرة من ميزات مادية وأدبية يتمتع بها سائر أفراد المجتمع، وهو ما يعطل كثيرا من مصالحها، ويعرقل من سبل تقدمها.
إن هذه السيادة القانونية على الأقلية المسلمة المعارضة في كثير من محطاتها لضميرها الديني والتزامها العقدي تمثل وضعا خاصا لهذه الأقلية من بين أوضاع عامة المسلمين، فالمسلم وضعه الأصلي أن يكون خاضعا لسيادة القانون الإسلامي، والتكاليف الدينية التي كلف بها إنما كلف بها باعتباره يعيش تحت سيادة ذلك القانون، إذ تلك التكاليف هي -في أغلبها- ذات بعد جماعي كما هي الطبيعة الجماعية للدين الإسلامي، فإذا ما وجد المسلم نفسه ضمن مجموعة من المسلمين هي تلك الأقلية موضوع البحث، ووجد أنه ملزم بأن يكون تحت سيادة غير سيادة القانون الإسلامي الذي هو الوضع الطبيعي لتنظيم حياته الجماعية، فإنه سيجد نفسه لا محالة في تناقض بين واقعه وبين مقتضيات هويته الجماعية، وهو ما يمثل ظرفا خاصا في حياة الأقلية المسلمة بالبلاد الغربية على وجه الخصوص يقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي في شؤونها.
ـ خصوصية الضغط الثقافي:
تعيش الأقليات المسلمة في مناخ مجتمع ذي ثقافة مخالفة لثقافتها في الكثير من أوجه الحياة، وهي تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك الثقافة في كل حين وفي كل حال، فمن الإعلام، إلى التعليم، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى المعاملات الاجتماعية، إلى المعاملات الاقتصادية والإدارية، إلى المناخ العام في الشارع من عادات وتقاليد وتصرفات فردية واجتماعية، بحيث تطغى تلك الثقافة على أحوال المسلم أينما حل، بل تطغى عليه حتى داخل بيته.
ومما يزيد من سطوة تلك الثقافة على الأقلية المسلمة أن هذه الأقلية لم تنتظم أمورها الاجتماعية بحيث تكون لها فضاءات خاصة بها، تسود فيها ثقافتها، فتخفف بذلك من سطوة الثقافة الغربية عليها، ففي فرنسا يعيش أكثر من 5 ملايين مسلم، ولكن ليس لهم مدرسة واحدة منتظمة كامل أيام الأسبوع تمثل فضاء ثقافيا خاصا بهم يخفف عن أبنائهم ما يتعرضون له من غلبة الثقافة الاجتماعية السائدة، ناهيك عن النوادي والمؤسسات الترفيهية إذا ما استثنينا المساجد والمراكز الدينية.
إن هذه الثقافة المغايرة التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في بلاد الغرب بوجوهها المختلفة، وبوسائلها الجذابة المغرية، وبطرق إنفاذها المتقنة، تسلط ضغطا هائلا عليها، وبصورة خاصة على أجيالها الناشئة، وهذا الضغط يصطدم بالموروث الثقافي الذي تحمله هذه الأقلية إن بصفة ظاهرة معبرة عن نفسها أو بصفة مضمرة مختزنة، وفي كل الصور يحصل من ذلك تدافع بين الثقافتين، وينتهي هذا التدافع في الغالب إما إلى الانسلاخ من الثقافة الأصل والذوبان في الثقافة المغايرة، أو إلى التقوقع والانزواء اعتصاما بذلك من الابتلاع الثقافي، أو إلى رد الفعل العنيف على هذه السطوة الثقافية يجد له تعبيرات مختلفة من جيل الشباب على وجه الخصوص.
ومهما يكن من رد فعل على هذه السطوة الثقافية فإنها تُحدث في نفوس الأقلية المسلمة -وبالأخص في نفوس الشباب منها- ضربا من الاضطراب والقلق في الضمير الفردي والجماعي على حد سواء، وهو ما يصبغ الحياة العامة للأقلية بصبغة التأرجح التي ينتفي معها وضع الاستقرار النفسي والجماعي، فلا هذه الأقلية اندمجت في جسم المجتمع الذي تعيش فيه حتى صارت خيوطا من نسيجه، ولا هي كونت هيكلا متجانسا يتفاعل مع المجتمع من منطلق تلك الهيكلية المتماسكة فيما بينها كما هو شأن الأقليات في بعض البلاد الآسيوية مثل الهند، وهو وضع يكتسب من معنى الخصوصية ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في التأصيل الفقهي.
ـ خصوصية التبليغ الحضاري:
مهما يكن من وضع الأقلية المسلمة بالغرب من قوة أو ضعف، ومن استقرار أو اضطراب، فإن مجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين بالبلاد الغربية يُعتبر ضربا من الصلة الحضارية بين الحضارة الإسلامية -مهما يكن تمثيلها ضعيفا- وبين الحضارة الغربية المستقرة؛ فالمسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد لا يمثلون مجرد كمية بشرية انتقلت من مكان إلى مكان، شأن كثير من الهجرات التي تقع قديما وحديثا، وإنما هجرتهم تحمل معها دلالة حضارية، وهي دلالة تتأكد باطراد بارتقاء نوعية المهاجرين وتعزز تلك النوعية بهجرة العقول وتمكن المهاجرين في مواقعهم العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على وجه العموم.
وإنما كان الأمر كذلك من بين كثير من الأقليات المشابهة في وجودها بالغرب للأقلية المسلمة لأن هذه الأقلية تحمل معها ميراثا حضاريا ضخما، لئن لم يكن حاضرا الحضور البين الفاعل في واقع التدافع الحضاري، إلا أنه حي في النفوس، مختزن فيها بقيمه ومبادئه الروحية، وبرؤيته في تفسير الوجود وتنظيم الحياة، وبتاريخه الممتد لألف ونصف من الأعوام، فهذا الميراث لم يتركه المهاجرون إلى البلاد الغربية خلف البحار ليصلوا إليها غفلا من التشكل الحضاري، بل أولئك الذين نشئوا بهذه البلاد من الجيل الثاني والثالث لم يكونوا كذلك أيضا، وإنما هم يحملون أقدارا من ذلك الميراث منحدرا إليهم من الانتماء الأسري ومن الانتماء الحضاري العام، ومهما بدا في الظاهر أحيانا من ملامح التخلص من هذا الميراث كما هو متمثل في بعض مظاهر التنصل من مقتضيات ذلك الميراث الحضاري فإنه ليس إلا مظاهر سطحية، أما الضمير فهو مختزن لذلك الميراث.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الميراث الحضاري الذي تحمله الأقلية المسلمة ليس ميراثا طبيعته الانكفاء والسكون، وإنما طبيعته الظهور والعرض؛ وذلك لما انبنى عليه من أصول عقدية توجب على حاملها في ذاتها وحامل مقتضياتها الحضارية أن يعرف الناس بها، وأن يعرضها عليهم عرض بيان واختيار، عسى أن يجدوا فيها من الخير ما يقنعهم فيأخذون به، فيعم إذن نفعه، ولا يبقى حكرا على أصحابه، وذلك هو معنى الشهادة على الناس التي تضمنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمة وَسَطا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة: 143).
ومن جهة أخرى فإن هذه الأقلية المسلمة ليس وجودها بمهجرها وجود انبتات عن الجسم الأكبر لأمتها، وإنما هو وجود انتماء إليها وتواصل معها مهما شط بها المكان، ونأى بها المقام، ومهما اتخذت لها من مجتمعاتها الجديدة موطن تفاعل واستقرار، ويقتضي هذا الانتماء والتواصل بمقتضى امتزاجها بالحضارة الغربية امتزاج عيش يومي، ووقوفها عليها وقوفا عن كثب أن تكون أيضا واسطة اقتباس لما هو خير في هذه الحضارة في وجوهها المادية والمعنوية لتبلغها إلى أمتها الإسلامية قصد تعريفها بها، والانتفاع منها في بناء نهضتها.
يتحصل من ذلك إذن أن الأقلية المسلمة في أي موقع وجدت فيه بصفة عامة، وفي موقعها بالبلاد الغربية بصفة خاصة، تمثل حلقة وصل حضاري بين حضارتين، ومن مهامها باعتبار ذلك الموقع أن تقوم بدور تنقل فيه المنافع النظرية من قيم ومبادئ تشرح الوجود وتبين الحياة، والمنافع العملية في وجوهها المختلفة من طرف إلى آخر، وأن تعمل على تأكيد معنى التعارف الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، لتكون سببا من أسباب العمل على البناء الحضاري المشترك لما فيه خير الإنسان، وبهذا الموقع الذي هي فيه، وهذا الدور المناط بعهدتها تكتسب خصوصية ينبغي اعتبارها في التأصيل لفقه الأقليات.
ثالثا ـ التطلع إلى تبليغ الإسلام:
وذلك انطلاقا من وجوده بالبلاد الأوربية في حال الأقلية، وسعيا إلى التعريف به لدى غير المسلمين، انتهاجا في ذلك لمنهج يأخذ بعين الاعتبار المسالك النفسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي منها يمكن أن يأخذ الدين طريقه إلى النفوس بينا واضحا، فينتفع به من أراد الانتفاع، فيكون إذن من الموجهات الأساسية لتأصيل فقه الأقليات أن يبنى ذلك التأصيل على مقصد دعوي لا يقف عند حد حفظ تدين الأقليات وتدعيمه، وإنما يتخذ منه منطلقا للتوسع والانتشار ليراه الناس على حقيقته، فيؤمن به من يختار الإيمان، ويستفيد منه من يرى فيه الفوائد.
ولهذا الأصل الموجه مقتضيات يقتضيها في التأصيل لفقه الأقليات قد لا تكون مقتضاة أصلا في التأصيل للفقه العام، أو قد لا تكون مقتضاة فيه بالحجم نفسه وعلى القدر نفسه؛ وذلك لأن هذا التأصيل إذا كان ملاحظا فيه البعد الدعوي على نحو ما ذكرنا ينبغي أن يستصحب خصوصيات ما تقوم به الدعوة في الظروف الأوربية بمعطياتها النفسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، لينشأ منه بهذا الاستصحاب فقه للأقليات ذو صبغة دعوية لا يقتصر على أحكام وفتاوى تحفظ على الأقليات دينها فحسب، وإنما تصاغ فيه تلك الأحكام والفتاوى صياغة فقهية تبسط من روحها الدينية السمحة إلى النفوس الحائرة والأفكار الضالة والعلاقات الاجتماعية المتأزمة ما تنفتح له طبيعتها بما تجد فيها من أمل العلاج لأزمتها، فتقبل على الدين من خلال ذلك الفقه، ويحقق مقصد الدعوة هدفه بفقه للأقلية موجه في تأصيله بتطلع دعوي يروم التعريف بالإسلام في الربوع الأوربية.
رابعا ـ التأصيل لفقه حضاري:
وهو فقه لا يقتصر على التشريع لعبادة الله تعالى بالمعنى الخاص للعبادة، وإنما يتجاوز ذلك ليشرع في حياة الأقليات المسلمة عبادة لله تعالى بمعناها العام الذي يشمل كل وجوه الحياة الفردية والجماعية في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، وعلاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، وعلاقتهم بالمحيط البيئي الذي هو مجال حركتهم، بحيث تتناول أحكام الشريعة في هذا الفقه ما به تترقى جماعة المسلمين في ذاتها الإنسانية ترقية فردية بالعلم والفضيلة، وترقية جماعية بالتراحم والتعاون والتكافل، وما به تكون شاهدة على الناس شهادة قول وشهادة فعل بتبليغ الخير الديني والدعوة إليه، وما به تكون مرتفقة للمقدرات الكونية: استثمارا لها ومحافظة عليها من الدمار، بحيث ينشأ من هذا المبدأ الموجه للتأصيل فقه من شأنه أن يصنع من حياة المسلمين بأوربا أنموذجا حضاريا إسلاميا شاملا خاضعا لله تعالى في شموله لوجوه الحياة.
وهذا الأصل الموجه لفقه حضاري على نحو ما وصفنا يقتضي في فقه الأقليات الإسلامية بأوربا ما يقتضيه النظر الفقهي العام ويقتضي زيادة عليه؛ ذلك لأنه يستلزم أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير الحالة الحضارية العاتية التي يعيش في كنفها المسلمون بأوربا، والتي تغالب في نفوسهم وسلوكهم منزع التدين بسلطان ذي سطوة شديدة، فإذا لم يؤخذوا بفقه حضاري على نحو ما وصفنا يكافئ في عيونهم نفسيا وفكريا، وفي أثره على حياتهم نفعيا ذلك الأنموذج الحضاري الذي يتعرضون لسطوته أو يشف عليه، وترك الأمر لمجرد أن تعالج حياتهم معالجة فقهية تعبدية بالمعنى الخاص، أفضى الأمر إلى أن تكون لتلك السطوة غلبة على النفوس، فتنساق حياتهم في أكثر وجوهها على غير شريعة الله تعالى حتى إن انتظمت فيها شعائر العبادة.
وكذلك يقتضي هذا الموجه أيضا أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير ما هو مترسب في أذهان الأوربيين وأذهان بعض المسلمين المتأثرين بهم من صورة للدين لا يدخل فيها إلا ما هو علاقة روحية بين العبد وربه، ويخرج منها ما هو تنظيم للحياة الاجتماعية وتنظيم لعلاقة الإنسان بالمقدرات الكونية، فتخلو بذلك من البعد الحضاري للتدين الذي يكاد يتمحض فيها للبعد الروحي من حياة الإنسان، وإذا ما لم يؤصل فقه الأقليات تأصيلا حضاريا واقتصر على أبعاده التعبدية الروحية والأخلاقية كرست في الأذهان تلك الصورة المنقوصة للتدين فلم يبق لها أثر ذو بال في التمكين للدين الذي هو مقصد أساسي لفقه الأقليات كما بينا آنفا.
خامسا ـ التأصيل لفقه جماعي:
وهو فقه لا يقف عند حد تزكية الفرد في خوافي نفسه وظواهر أعماله بأحكام الشريعة ليظفر بخلاصه الفردي، وإنما يتخذ من ذلك منطلقا لتزكية الجماعة المسلمة والجماعة الإنسانية في حياتها المشتركة لتكون مهدية فيها بحكم الشريعة، فتجري على التعاون على البر والتقوى، وتنأى عن الإثم والعدوان، وتنتهي إلى الفلاح الجماعي في إثمار الحياة بالتعمير في الأرض، وإلى الخلاص الجماعي من شرور الدنيا وحساب الآخرة.
وهذا التوجيه إلى فقه جماعي يستلزم في التأصيل لفقه الأقليات المسلمة بأوربا ما يستلزمه التأصيل للفقه العام مع زيادة عليه؛ لأن هذه الأقليات تعيش في المناخ الاجتماعي الأوربي الذي تطورت فيه بأقدار كبيرة مظاهر التعاون الجماعي، وبنيت فيه القوانين على ذلك التعاون، كما يبدو إداريا في مظهر المؤسسات الجماعية التي تدير الحياة الاجتماعية الأوربية برمتها، وكما يبدو إنسانيا في تحقيق التكافل بما يحقق الكفاية في إقامة الحياة لكل المنخرطين في المجتمع الأوربي، فإذا لم يكن الفقه المبتغى منه معالجة حياة المسلمين بالمجتمع الأوربي فقها جماعيا يشرع للإدارة المؤسسية، كما يشرع للتكافل المادي والمعنوي بحيث يكافئ في بعده الجماعي جماعية القانون الوضعي أو يفوقها ضعف في إدارة حياة المسلمين من جهة، وضعف في تقديم أنموذج حضاري إسلامي من جهة أخرى، فقصر إذن عن تحقيق حفظ الدين في حياة المسلمين، فضلا عن تمكين الإسلام ونشره بالديار الأوربية.
إن التأصيل لقواعد فقه الأقليات الذي نحن بصدد الحديث فيه إذا ما توجه بهذه الموجهات الخمسة التي نعدها من أهم موجهاته المنهجية، فإننا نحسب أنه تنشأ منه قواعد أصولية فقهية تشكل منهجا في النظر الفقهي بخصوص الوجود الإسلامي بأوربا من شأنه أن يثمر فقها للأقليات يثرى في نطاق النظر الفقهي العام بخصوصيات كفيلة بأن تحقق قدرا كبيرا من النفع بالديار الأوربية.
إن الموجه الأول يؤسس لما به حفظ الدين في حياة الأقليات في مناخ يغري بانحلاله. والموجه الثاني يؤسس للانطلاق من الفقه الواقعي فيكون الاجتهاد مبنيا على علم بالموضوع المبتغى علاجه. والموجه الثالث ينتج فقها دعويا ينتقل بحفظ التدين في حياة المسلمين إلى بسط الدين لينبسط بدائرته إلى غير المسلمين فيقفوا على حقيقته. والموجه الرابع يثمر قواعد أصولية ينشأ منها فقه حضاري يقدم من حياة المسلمين أنموذجا حيا للإسلام الحضاري الشامل في الممارسة الفردية والاجتماعية والكونية يكافئ الأنموذج الحضاري الغالب اليوم. والموجه الخامس يثمر قواعد ينشأ منها فقه جماعي ينشد فلاح الجماعة الإسلامية والإنسانية من خلال فلاح الفرد بما يشرع من الإدارة الجماعية ومن التكافل الاجتماعي، كما ينشد الخلاص الجماعي لنوع الإنسان من خلال الخلاص الفردي، فكيف يمكن لهذه الموجهات المبدئية العامة أن تؤسس قواعد أصولية تتضمن من المواصفات المنهجية ما تثمر به فقها يمكن من التعريف بالدين في البلاد الأوربية؟
القواعد الأصولية لفقه الأقليات.. وأمثلتها
إن المنهج الأصولي الذي تضبط قواعده طرق الاستنباط للأحكام الشرعية هو -بفروعه المختلفة- متمثل بالأخص في أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، تراكم فيه عبر تطوره وتوسعه من الأصول والضوابط والقواعد المنهجية التي توجه الاستنباط الشرعي تراث في هذا الشأن أصبح يغطي كل مجالات النظر الفقهي دون استثناء، فما من فقيه رام استنباط حكم شرعي في أي مجال من مجالات الحياة إلا وجد من الأصول والقواعد المنهجية الفقهية ما يساعده ويوجهه في استنباط ذلك الحكم من مدركه النصي أو الاجتهادي.
وعلى هذا الاعتبار فإن ما قدمناه آنفا من موجهات أصولية منهجية حسبنا أنها تؤسس لقواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تُستحدث به استحداثا بعد أن لم تكن موجودة في المدونة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة بقدر ما يقصد منه تأسيس يُستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتُستخلص جملةٌ منها تؤلف في بناء جديد، وتوجه توجيها جديدا، بحيث يتكون منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات، ويوجهه ليثمر ثماره في التعريف بالإسلام كما سبق بيانه.
أ ـ التكييف الأصولي لقواعد فقه الأقليات:
من المعلوم أن القواعد الأصولية الكثيرة التي اشتملت عليها فروع علم الأصول لئن كانت تغطي بتنوعها كل مجالات الاستنباط الفقهي إلا أنها مع ذلك لم تكن على سواء في طبيعتها من حيث الشمول والجزئية؛ إذ منها ما هو ذو طابع شمولي يمكن أن تُستخدم به في كل نظر فقهي في أي مجال من مجالات الحياة، ومنها ما هو دون ذلك في الشمول، فيستخدم بحسب طبيعته في بعض مجالات النظر الفقهي أكثر مما يستخدم في البعض الآخر. وبالإضافة إلى هذا الفارق المرشح للتفاوت في استخدام تلك القواعد من تلقاء الفارق في طبيعتها فإن بعضا منها كان أوفر حظا في الاستخدام الفعلي من بعض، وذلك تبعا للتفاوت في حجم الاهتمام الذي وقع به تناول أوجه الحياة بالنظر الاجتهادي الفقهي لأسباب راجعة إلى ظروف وملابسات النظر الفقهي نفسه، لا إلى تفاوت طبيعة القواعد في ذاتها، وذلك على سبيل المثال على نحو ما نرى من تفاوت في حجم الاهتمام بالاجتهاد الفقهي بين مجال العبادات والأنكحة والبيوع من جهة، وبين مجال السياسة الشرعية وأوضاع الأقليات المسلمة من جهة أخرى.
وهذا التفاوت في الاستخدام للقواعد الأصولية منهجا للاجتهاد الفقهي -بقطع النظر عن أسبابه- أفضى إلى تفاوت بينها في النضج باعتبارها آلات منهجية للاجتهاد، وذلك سواء من حيث صياغتها وتحريرها، أو من حيث تفريعها وترتيبها، أو من حيث صناعتها المنهجية، كما أفضى أيضا إلى تفاوت بينها في درجة حضورها في الذهنية الفقهية الاجتهادية، وفي مقدار تأثيرها فيها وأثرها في نتائجها من الأحكام تبعا لذلك، كما هو ملحوظ -على سبيل المثال- من تفاوت في كل ذلك بين قواعد الدلالات وقواعد القياس وقواعد التحوط من جهة، وبين قواعد مآلات الأفعال وقواعد الموازنات والقواعد التي تجوز في بعض الحالات ما لا تجوزه في بعض من جهة أخرى، وكان من نتيجة ذلك أن بعضا من القواعد الفقهية الاجتهادية لئن كان مدرجا ضمن المدونة الأصولية ذكرا وعدا وربما محاورة ودرسا، إلا أنه بقي مغمورا في الاستخدام الاجتهادي، وضعيف الأثر في المدونة الفقهية، كما أنه بقي تبعا لذلك يختزن طاقات اجتهادية لم يكتمل الكشف عنها، أو لم يكتمل نضجها بالتقرير والتحرير والترتيب، وتلك سنة جارية، فالآلات -على اختلاف أجناسها- تتطور وتنضج وتزكو ثمرتها بالاستعمال، وتؤول إلى خلاف ذلك بالإهمال.
ومن القواعد الأصولية التي اشتملت عليها مدونة أصول الفقه قواعد ذات فوائد اجتهادية كبيرة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها، سواء كان ذلك بصفة خاصة تتمحض بها على قدر كبير للإفادة في هذا المجال الفقهي، أو كان بصفة عامة تشترك بها في الإفادة الاجتهادية مع مجالات أخرى من مجالات النظر الفقهي. ولكن لما كانت أحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها لم تحظ من الاهتمام بالنظر الفقهي الاجتهادي إلا بالقدر القليل بالنسبة لسائر مجالات الفقه العام للأسباب التي ذكرناها آنفا، فإن تلك القواعد الأصولية لم يكن استخدامها في الاجتهاد الفقهي بصفة عامة، وفي الاجتهاد لجهة فقه الأقليات بصفة خاصة إلا استخداما محدودا، فظلت لذلك السبب قواعد مغمورة، ضعيفة في أثرها الفقهي، غير نضيجة التقرير والتحرير والترتيب، وذلك بالرغم من أنها تنطوي على طاقة منهجية اجتهادية كبيرة في مجال فقه الأقليات على وجه الخصوص.
وما نطرحه في هذه الورقة من فكرة التأسيس لقواعد أصولية لفقه الأقليات إنما نعني به أول ما نعني أن يقع الاتجاه البحثي على تلك القواعد الأصولية التي من شأنها أن تفيد إفادة كبيرة في فقه الأقليات، فتؤخذ بعناية دراسية خاصة، واهتمام بحثي مستقل، وتعالج بالنظر المنهجي وفق الموجهات الأصولية الأربعة التي شرحناها آنفا، لينشأ من ذلك فرع متميز من علم الأصول، أو باب مستقل من أبوابه، لئن كان يشترك في الأسس العامة مع سائر فروع هذا العلم وأبوابه إلا أنه يختص بخصوصية التوجه لخدمة فقه الأقليات وتطويره وإنضاجه ليبلغ هدفه المرتجى منه، وما تقتضيه تلك الخصوصية من مقتضيات التوجيه والتكيف والترتيب. وإن هذا التوجه بالبحث الأصولي المختص بمجال فقه الأقليات المسلمة لكفيل -على ما نحسب- بأن يثمر في ذلك الفقه من الحكمة الاجتهادية الموفية بالتمكين للدين ما لا يتم لو ترك الأمر لأنظار فقهية في مجال الأقليات تجري على القواعد الأصولية العامة كما هي عليه في مدونة علم الأصول في غير تميز وتوجيه خاص.
ويمكن أن تتم تلك المعالجة الأصولية للقواعد المتعلقة بفقه الأقليات بوجوه متعددة. منها أن يجمع منها ما هو شديد الصلة في مقاصده بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعهم، وما هو بين الإفادة في المعالجة الشرعية لتلك الأحوال، ثم يرتب في نسق متكامل ينظمه منهجيا الغرض المشترك والوجهة الجامعة.
ومنها أن تشرح تلك القواعد شرحا يكشف عما تختزنه من إمكانيات اجتهادية في الاستنباط الفقهي، ومن مقاصد وحكم تنطوي عليها تلك الإمكانيات، ما كان من ذلك معلوما متداولا وما قد يكون منه غير معلوم ولا متداول. ومنها أن تكيف تلك القواعد في صياغتها وفي ترتيبها وفي شرح حكمها وارتياد أبعادها بما تكون به مهيأة للإفادة في فقه الأقليات، وأن توجه في كل ذلك توجيها يخدم ذلك الغرض بما يضرب لها من الأمثلة التطبيقية الموضحة لمعانيها والشارحة لمغازيها، وبما يُكشف من آثار لمقاصدها متعلقة على وجه الخصوص بأحوال الأقليات وأوضاعهم.
ويمكن أن يكون من بين تلك الوجوه أيضا أن يُستروح من مجموع القواعد الأصولية المتداولة على وجه العموم ومن بعضها على وجه الخصوص بعض الحكم والأسرار التشريعية مما هو مصرح به في صياغتها وشروحها أو مضمن في مقاصدها وروحها العامة لتصاغ منه قواعد وضوابط خاصة بمعالجة أحوال الأقليات المسلمة فيما يشبه التوليد منها أو التفريع عليها أو التطوير لها. ومن كل تلك المعالجة بوجوهها المختلفة يتكون كيان معرفي متجانس منهجيا موحد غائيا يمكن أن يسمى على سبيل المثال بكيان "القواعد الأصولية لفقه الأقليات" أو ما يشبه ذلك من الأسماء.
ب ـ نماذج من قواعد فقه الأقليات:
إذا كان هذا المقام ليس مقام محاولة تطبيقية لنظم ذلك الكيان في أبوابه ومحتوياته ومنهج بنائه على المقصد الذي بيناه، فإننا نورد تاليا بعض النماذج من القواعد الأصولية التي يمكن أن تدرج ضمن ما اقترحنا من كيان أصولي لقواعد فقه الأقليات، اقتصارا على ذكر عناوينها مما هو متداول في الأصول الفقهية العامة، أو مما يمكن أن يولد من ذلك المعلوم المتداول من الفروع، مع بيان بعض الوجوه التي تبرر اختيارها لتدرج ضمن ذلك الكيان، وتبرر انتظامها في مقاصده وأهدافه.
أولا ـ قاعدة مآلات الأفعال:
هي قاعدة أصولية في استنباط الأحكام الشرعية متداولة في مدونة أصول الفقه، ولها بعض الأثر في الاجتهاد الفقهي، وإن يكن على ما نحسب ليس على مقدار حجم أهميتها. وتقريرها -في الجملة- أن الأحكام الشرعية تبنى في صيغتها النظرية المجردة أمرا ونهيا على اعتبار ما تؤدي إليه مناطاتها من الأفعال باعتبار أجناسها المجردة من مصلحة أو مفسدة، ولكن تلك الأفعال في حال تشخصها العيني قد يطرأ عليها من الملابسات ما يجعل بعض أعيانها تؤول إلى عكس ما قُدر نظريا أنه تؤول إليه أجناسها، فإذا ما قدر باعتبار جنسه أنه يحقق مصلحة فوضع له حكم الأمر أصبح لتلك الملابسات يؤول باعتبار عينه إلى تحقيق مفسدة، والعكس صحيح، وحينئذ فإن الفقيه المجتهد يعدل فيه بالنظر الاجتهادي عن حكم الأمر إلى حكم النهي، أو يعدل عن حكم النهي إلى حكم الأمر اعتبارا لذلك المآل الذي غلب على ظنه أنه يؤول إليه في الواقع.
ولهذه القاعدة الأصولية مجال استعمال واسع في المعالجة الفقهية لأحوال الأقليات المسلمة بالبلاد الأوربية؛ ذلك لأن أحكام الشريعة في مجال التعامل الاجتماعي بمعناه العام الذي تتشابك فيه العلاقات بين الناس جاءت في عمومها أحكاما تعالج أوضاع تلك العلاقات على اعتبار أنها علاقات يحكمها سلطان الدين في نطاق الأمة المسلمة فيما بين بعض أفرادها وفئاتها وبعض، أو في نطاق علاقتها كأمة مسلمة بشعوب وأمم ودول غير مسلمة، وكانت تلك المعالجة الشرعية مبنية على وضوح في مآلات الأفعال المحكوم عليها، إذ مسالكها بينة في ظل وضع يحتكم في عمومه لسلطان الدين.
ولكن كثيرا من تلك الأحكام حينما تطبق في أوضاع الأقلية المسلمة التي تعيش في مجتمع لا يحكمه سلطان الشرع، وإنما يحكمه سلطان قانون وضعي وضعه وينفذه غير المسلمين عليهم وعلى غيرهم، فإنها تؤول -عند التطبيق الواقعي- إلى عكس مقصدها، فإذا ما شُرع للمصلحة يؤول تطبيقه في هذا الوضع إلى مفسدة والعكس صحيح، وهو ما يدعو إلى أن تستخدم هذه القاعدة، قاعدة مآلات الأفعال، استخداما واسعا في الاجتهاد الفقهي الذي يعالج أوضاع الأقليات المسلمة، وأن توجه بمعالجة أصولية لتكون إحدى القواعد الأصولية في الاستنباط الفقهي المتعلق بتلك الأوضاع.
ثانيا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:
هي قاعدة أصولية واسعة التداول في النظر الفقهي، بالغة الأثر فيه، وتقريرها في الجملة أن الحكم الشرعي إذا أدى تطبيقه إلى إهدار المصالح الضرورية للإنسان التي تحفظ له ما به قوام حياته المادية والمعنوية، فإن النظر الفقهي يعدل عن الحكم بالحظر إلى الحكم بالإباحة بسبب تلك الضرورة، وقد ألحقت بالضرورة في هذا الشأن لإباحة المحظور الحاجةُ الشديدة القريبة من الضرورة، ولهذه القاعدة تطبيقات مشهورة في عموم الفقه الإسلامي.
ولعل مجال استعمال هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة هو أوسع من أي مجال آخر من مجالات النظر الفقهي؛ ذلك لأن الضرورة في حياة الأقليات المسلمة يختلف تطبيقها عنه بالنسبة لحياة المسلمين في المجتمع الإسلامي، بل قد يتسع مفهومها أيضا بين الوضعين، إذ المسلمون بالبلاد الأوربية محكومون بقانون الوضع المخالف في كثير منه لأحكام الشرع، وهم ملزمون بأن ينفذوا ذلك القانون في حياتهم الاجتماعية، وذلك مجال واسع للضرورة لا نظير له في البلاد الإسلامية، ثم إن الضرورة في ذاتها تخضع في ميزان التقدير لنسبية واسعة، فبعض ما يكون غير ضروري في مجتمع ما لإقامة الحياة يكون ضروريا لذلك في مجتمع آخر، وذلك بالنظر إلى تفاوت المجتمعات في بنائها الأساسي من بساطة وتعقيد، وانفتاح وانغلاق، وتلاحم وتفكك، وغير ذلك من الصيغ التي تبنى عليها المجتمعات، وكل تلك الفروق فروق قائمة بشكل بين بين المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقليات المسلمة وبين المجتمع الإسلامي في البلاد الإسلامية.
وتبعا لذلك فإنه مما يقتضيه التأصيل لفقه الأقليات أن تؤخذ هذه القاعدة الأصولية العامة بمعالجة خاصة توجه فيها توجيها تطبيقيا على أحوال الأقليات المسلمة بأوربا، فتدرس في نطاقها وبحسب مقاصدها أحوال الضرورات في حياة المسلمين بهذه البلاد، وتقدر مقاديرها بالقسط، منظورا فيها إلى معطيات من خصوصيات الأوضاع في تلك الحياة مما لم يكن منظورا في حياة المسلمين بالمجتمع الإسلامي الخاضع لسلطان الدين، لتصبح بتلك المعالجة الخاصة موجها أصوليا مهما في فقه الأقليات.
ثالثا ـ قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد:
هي جملة من القواعد الأصولية التي تلتقي عند معنى الموازنة بين ما ينتهي إليه فعل ما من الأفعال أو وضع ما من الأوضاع من المصلحة وما ينتهي إليه من المفسدة، فيبنى الحكم الشرعي على نتيجة تلك الموازنة أمرا إذا رجحت المصلحة، ونهيا إذا رجحت المفسدة، وذلك من مثل قاعدة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وقاعدة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الأفراد، وقاعدة المصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة الظرفية، وقاعدة أن الحرام القليل لا يحرم به الحلال الكثير إذا اختلط به، وما شابهها من قواعد أخرى مبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وإذا كان لجملة قواعد الموازنات هذه تطبيقات مقدرة في الاجتهاد الفقهي العام، وتوجيهات مؤثرة فيه، ونتائج بينة في الأحكام الناتجة به، فإن لها مجال استعمال أوسع من ذلك في النظر الفقهي بأحوال الأقليات المسلمة؛ وذلك لأن المجتمع حينما يكون إسلاميا محكوما بسلطان الشرع يكون تمايز المصالح والمفاسد فيه على قدر من الوضوح، ويكون مجال المتشابهات بينهما ضيقا، فظواهر الصلاح وآثاره الناتجة من المواقف والأفعال، وكذلك ظواهر الفساد وآثاره تكون قريبة الوقوع من زمن حدوث أسبابها، فتبدو متمايزة جلية التمايز، مما يسهل على الفقيه الموازنة بينها، وبناء حكمه الفقهي على تلك الموازنة، ولكن المجتمع الأوربي الذي تعيش به الأقلية المسلمة لا تتمايز فيه بسرعة وجلاء مظاهر الفساد وآثاره من مظاهر الصلاح وآثاره لشدة تشابكه وتعقيده، ولا يغرنك في ذلك ما يبدو من تمايز صارخ بين الصلاح والفساد في التصرفات الأخلاقية السلوكية، فإن مجال الصلاح والفساد الذي نعنيه في هذا المقام هو مجال الحياة الاجتماعية بمعناه الشامل سياسة واقتصادا وتربية وعلاقات إنسانية، وهو أوسع بكثير من المجال الأخلاقي.
وبناء على ذلك فإن هذه القواعد الأصولية المتعلقة بالموازنة بين المصالح والمفاسد يقتضي النظر التأصيلي لفقه الأقليات أن يأخذها بالعناية، فيصوغها بما يستجيب لمقتضيات ذلك الفقه، ويوجهها بالدرس والتحليل والإثراء لتكون معيارا منهجيا أصوليا يمكن من الموازنة بين المصالح والمفاسد في نطاق خصوصيات الوجود الإسلامي بالمجتمع الأوربي، ويكشف عما قد يخفى عن كثير من الأنظار في غياب هذا التأصيل من وجوه التراجح بين ما يحدثه موقف أو فعل من مفسدة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مصلحة كبيرة مستقبلية تمكن للإسلام والمسلمين، أو بين ما يحدثه موقف أو فعل آخر من مصلحة صغيرة آنية وما يؤول إليه من مفسدة كبيرة مستقبلية تتعلق بتشتيت الإسلام والمسلمين، فيبنى الفقه إذن على ما فيه من الأحكام رجحان للمصالح الحقيقية بمقاييسها الشرعية.
رابعا ـ قاعدة: يجوز فيما لا يمكن تغييره ما لا يجوز فيما يمكن تغييره:
هي قاعدة قد لا تكون صياغتها على هذا النحو واردة في القواعد الأصولية، ولكنها في روحها ومقاصدها مستروحة من جملة من القواعد والمبادئ الأصولية، والمعني بها أن المجتهد الفقهي إذا عرض عليه وضع من أوضاع المسلمين كان جاريا على بنائه العام نسق مخالف لمقتضيات الشرع وأحكامه، وهم في ذلك الوضع لا يملكون إمكان تغيير النسق الجاري عليه لسبب أو لآخر من الأسباب، فإنهم إذا عرض لهم ما قد تتحقق به مصلحة بحسب ظروفهم مما هو ممنوع شرعا يجوز أن يفعلوه طالما أنهم لا يستطيعون تغيير نسقه العام المندرج فيه، وهو ما لا يجوز لهم فعله لو كانوا يملكون القدرة على تغيير نسقه المندرج فيه.
ومن البين أن هذه القاعدة تختص بمجال ما يحل من الأفعال بالإحلال، أما ما لا يحل بالإحلال فإنها لا تصح فيه؛ وذلك لأنه لا تكون فيه مصلحة معتبرة أصلا.
ومما استروحت منه هذه القاعدة ما ورد في المدونة الأصولية من قواعد ذات مقاصد مشابهة، وذلك مثل قاعدة ما عمت به البلوى، وقاعدة يغتفر في الانتهاء ما لا يغتفر في الابتداء، وغيرهما من القواعد المشابهة، وما نظن التصرف النبوي مع الأعرابي الذي تبول في المسجد إذ نهى أصحابه عن أن يزرموه إلا تصرفا مؤسسا لهذه القاعدة، كما لا نظن ما ذهب إليه الأحناف من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب إلا مستروحا أيضا من روح هذه القاعدة في صياغتها التي أوردناها بها.
وفي أحوال الأقليات المسلمة بالديار الأوربية مجال واسع لتطبيق هذه القاعدة في النظر الفقهي المتعلق بها؛ ذلك لأن هذه الأحوال في شطر كبير من جوانبها الاجتماعية خاضعة لقوانين الوضع بسلطان الدولة الملزم، وليس لهذه الأقلية المسلمة القدرة على تغيير تلك القوانين، ولا حتى الحق في المطالبة بتغييرها في بعض الأحيان، ولكن بعضا من تلك القوانين المنضوية تحت المنظومة القانونية العامة بالرغم من أنها من حيث ذاتها في وضعها المجرد تخالف الأحكام الشرعية، إلا أن العمل بمقتضاها قد تحصل به للمسلم مصلحة معتبرة، فيجوز له إذن أن يعمل بها بالرغم من أنه ليس ملزما بذلك العمل وإنما هو مختار فيه. ومثاله ما ذهب إليه بعض الفقهاء المحدثين من إجازة الاقتراض بالفائدة لأجل شراء المساكن بالبلاد الأوربية، طالما تحققت من ذلك الاقتراض مصلحة بينة، وطالما كان المقترض المسلم وكل المسلمين معه غير قادرين على تغيير النظام الربوي الذي تقوم عليه الحياة الأوربية. ولهذا المثال نظائر كثيرة تمثل مجالا فسيحا لتطبيقات هذه القاعدة.
مثل هذه المبادئ والقواعد الأصولية، ما يكون منها مأخوذا بصيغته من مدونة أصول الفقه، وما تستروح له صياغة جديدة من معان ومقاصد وأسرار مبثوثة في تلك المدونة، إذا ما عولجت بمعالجة علمية جادة، توجهها المبادئ المنهجية المقصدية الآنفة البيان، فإنها يمكن أن تتألف منها منظومة متكاملة ذات غاية مشتركة تلتقي فيها جميعا عند هدف التأسيس لمنهج أصولي متميز ومتخصص يكون منهجا علميا شرعيا يعتمده النظر الفقهي في شأن الأقليات المسلمة، لينشأ منه فقه يعالج ذلك الشأن معالجة تبلغ به الآمال المعلقة عليه تعريفا بالإسلام في الديار الغربية فيما يشبه دورة جديدة للتعارف الحضاري بين الإسلام والغرب، ولكنها دورة تتأسس على أسس علمية، هي هذه القواعد الأصولية المنهجية التي تؤسس لفقه الأقليات، وهي في الحقيقة تؤسس لتبليغ الإسلام بالدعوة الحضارية السلمية.
ولو ترك الأمر في هذا الشأن عفوا يجري على غير تأصيل علمي، ويقتصر على الأحكام الشرعية الجزئية والفتاوى العارضة التي تستنبط من القواعد الأصولية العامة في غير توجيه خاص، لكان قاصرا دون تحقيق هذا الهدف الأسمى، بل ولأدى الأمر مع اتساع الوجود الإسلامي بالغرب إلى مضاعفات قد تنفلت بها مظاهر من هذا الوجود إلى ما هو مخالف لمقاصد الدين ومناقض لمصلحة الإسلام والمسلمين والمجتمعات الغربية، وذلك تحت تبريرات دينية ولكنها تبريرات خاطئة بسبب عدم التأصيل، وهو ما لا تخطئ عين الناظر عينات منه قد تتنامى مع الأيام، ولكان ذلك تفريطا في فرصة عظيمة للتعارف هيأها الله تعالى للدعوة إلى الإسلام والشهود على الناس من حيث لا يتوقع أهلها.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
فتح الله علينا وعليكم من فضله.
 
إنضم
24 نوفمبر 2012
المشاركات
24
الجنس
ذكر
الكنية
-
التخصص
-
الدولة
الكويت
المدينة
الكويت
المذهب الفقهي
غير معروف
رد: (نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب)؛ لـ أ.د. عبد المجيد النجار

جزاكم الله خيراً
 
إنضم
16 سبتمبر 2015
المشاركات
4
التخصص
التربية
المدينة
مكة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: (نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب)؛ لـ أ.د. عبد المجيد النجار

موضوع مهم في مجاله،، لو كتب فيه حول جميع القواعد القفهية التي يمكن أن تتطرق لما يتعلق بفقه الأقليات المسلمة إضافة إلى التمييز بين تلك الأقليات التي تختلف في وضعها من حيث علاقتها بالبلدان التي تعيش فيها، وما تلاقيه من عقبات أو تسهيلات في سبيل قيامها بالشعائر الدينية، والمعاملات المالية وغيرها؛ فإن الأقليات -كما هو معلوم- تختلف أوضاعها من بلد لآخر، وربما انطبقت بعض هذه القواعد على بعضها دون البعض الآخر، والله أعلم
 
أعلى