د. نعمان مبارك جغيم
:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
- إنضم
- 4 سبتمبر 2010
- المشاركات
- 193
- الجنس
- ذكر
- التخصص
- أصول الفقه
- الدولة
- الجزائر
- المدينة
- -
- المذهب الفقهي
- من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
الخروج من ثنائية التحليل والتحريم
توجد مسائل ليس فيها نصوص صريحة بالجواز أو المنع، وهي أمور مترددة بين النفع والضرر قد تختلف فيها التقديرات بين الناس ويحدث فيها استقطاب بين وجهات النظر المتباينة، ومثال ذلك مسائل دخول الانتخابات والاشتراك في المجالس المنتَخَبة والحكومات، والمنتجات المعدَّلة وراثيا، وزيارة القدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وما يشبهها، وهي مسائل اعتقد أن المستحسن فيها الخروج من ثنائية التحليل والتحريم. فليس من اللازم أن نحكم على الشيء دائما بالحلّ أو الحرمة، وبدلا من ذلك يمكن أن يكون الحكم في صورة توصية باجتناب ما نرى أن ضرره واضح، والحثّ على منع تداول ما فيه ضرر فردي أو جماعي دون لجوء إلى إصدار الفتاوى الجازمة بالتحريم. وفي المقابل نعبر بإمكانية فعل ما نرى منفعته ظاهرة على مضاره، وفي كل الأحوال لا نجزم بالتحريم أو التحليل، ولكن نعبِّر بعبارات تدل على أن هذا اجتهاد منّا في تقدير المصالح والمفاسد نوصي بناء عليه باجتناب الشيء أو بإمكانية إتيانه.
إن المسارعة إلى إصدار الفتاوى الحاسمة في القضايا التي ليس فيها نصوص صريحة له محذوران:
أحدهما: التضارب الحاصل في الفتاوى، فكثيرا ما تجد في نوازل العصر فتاوى متضاربة: البعض يحلّل والآخر يحرم، ويسعى كل طرف إلى الاستظهار بما يظنه دليلا على رأيه، وقد رأينا في بعض النوازل مؤتمرا يُعقد في مكان يُصدر فتوى بالحرمة ويشدِّد فيها، وفي المقابل يُعقد مؤتمر آخر في مكان آخر ليصدر فتوى مناقضة للفتوى التي أصدرها المؤتمر الأول. وقد رأينا مجمع الفقه يصدر فتوى وبعد سنوات ينقضها بفتوى أخرى. وهذا يوقع الناس في حيرة من أمرهم، ويؤدي في نهاية المطاف إلى أن تفقد الفتوى مصداقيتها. وكيف لا؟ والشيء الواحد يفعله شخص مستظهرا بفتوى الإباحة، ويشدِّد آخر في النكير عليه مستظهرا بفتوى التحريم.
إن الأحكام الحدية بالتحريم والإباحة وصدور الفتاوى المتناقضة في ذلك يؤدي إلى تجرؤ الناس على ما يُوصف بالحُرمة؛ لاعتقادهم أن هذا التحريم مجرد رأي لذلك الشخص وليس حكما شرعيا قطعيا، وقد يقول مشايخ آخرون بإباحته.
والمحذور الثاني: التجرؤ على تحريم ما لم يثبت تحريمه، أو إباحة ما فيه ضرر بالناس وتشـجيعهم بفتاوى الإباحة على فعل ما فيه ضرر لهم، بل ما قد يكون فيه هلاك لهم، تحت شعار "الأصل في الأشياء الإباحة".
ولنا في السلف قدوة عندما كانوا يحتاطون في إطلاق لفظ التحريم، ومن ذلك ما ذكره ابن وهب قال: "سمعت مالك بن أنس يقول: أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل: أكره هذا ولا أحبه، ولا يقول حلال وحرام."[1]
وقد يقول قائل إن التورع عن إطلاق لفظ التحريم كان مناسبا عندما كانت سمة الناس الورع، فلما تجرأ الناس على الشبهات، كان المناسب إشهار سيف التحريم في وجوههم. والواقع أن هذا ليس هو الحلّ الأمثل، فربما كان سلوك المفتين في إصدار الفتاوى الحدية والاضطراب في ذلك هو الذي ولّد ذلك السلوك لدى الناس. وواجب علماء الشرع ليس مجرد إصدار الفتاوى، فهذا قدر بسيط من مهمتهم، والمهمة الكبرى هي توعية الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى أحسن السبل في الحياة، وأن يرسخوا في أنفسهم أن الإسلام دين يدعو أصحابه إلى تحقيق المعالي والمسابقة في الخيرات، وأن يعلموهم أن من مقتضيات الإسلام السعي إلى المعالي والمسابقة في تحقيق الفضائل، حيث يسعى المسلم جهده إلى تحقيق ما فيه نفع خاص أو عام سواء حُكِم عليه بالوجوب أم لا، واجتناب ما فيه ضرر خاص أو عام سواء حُكِم عليه بالتحريم أم لا.
هذا، والله أعلم.
[1] ابن رجب، جامع العلوم والحكم، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر، ط2، 1424هـ) ص822-823.
توجد مسائل ليس فيها نصوص صريحة بالجواز أو المنع، وهي أمور مترددة بين النفع والضرر قد تختلف فيها التقديرات بين الناس ويحدث فيها استقطاب بين وجهات النظر المتباينة، ومثال ذلك مسائل دخول الانتخابات والاشتراك في المجالس المنتَخَبة والحكومات، والمنتجات المعدَّلة وراثيا، وزيارة القدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وما يشبهها، وهي مسائل اعتقد أن المستحسن فيها الخروج من ثنائية التحليل والتحريم. فليس من اللازم أن نحكم على الشيء دائما بالحلّ أو الحرمة، وبدلا من ذلك يمكن أن يكون الحكم في صورة توصية باجتناب ما نرى أن ضرره واضح، والحثّ على منع تداول ما فيه ضرر فردي أو جماعي دون لجوء إلى إصدار الفتاوى الجازمة بالتحريم. وفي المقابل نعبر بإمكانية فعل ما نرى منفعته ظاهرة على مضاره، وفي كل الأحوال لا نجزم بالتحريم أو التحليل، ولكن نعبِّر بعبارات تدل على أن هذا اجتهاد منّا في تقدير المصالح والمفاسد نوصي بناء عليه باجتناب الشيء أو بإمكانية إتيانه.
إن المسارعة إلى إصدار الفتاوى الحاسمة في القضايا التي ليس فيها نصوص صريحة له محذوران:
أحدهما: التضارب الحاصل في الفتاوى، فكثيرا ما تجد في نوازل العصر فتاوى متضاربة: البعض يحلّل والآخر يحرم، ويسعى كل طرف إلى الاستظهار بما يظنه دليلا على رأيه، وقد رأينا في بعض النوازل مؤتمرا يُعقد في مكان يُصدر فتوى بالحرمة ويشدِّد فيها، وفي المقابل يُعقد مؤتمر آخر في مكان آخر ليصدر فتوى مناقضة للفتوى التي أصدرها المؤتمر الأول. وقد رأينا مجمع الفقه يصدر فتوى وبعد سنوات ينقضها بفتوى أخرى. وهذا يوقع الناس في حيرة من أمرهم، ويؤدي في نهاية المطاف إلى أن تفقد الفتوى مصداقيتها. وكيف لا؟ والشيء الواحد يفعله شخص مستظهرا بفتوى الإباحة، ويشدِّد آخر في النكير عليه مستظهرا بفتوى التحريم.
إن الأحكام الحدية بالتحريم والإباحة وصدور الفتاوى المتناقضة في ذلك يؤدي إلى تجرؤ الناس على ما يُوصف بالحُرمة؛ لاعتقادهم أن هذا التحريم مجرد رأي لذلك الشخص وليس حكما شرعيا قطعيا، وقد يقول مشايخ آخرون بإباحته.
والمحذور الثاني: التجرؤ على تحريم ما لم يثبت تحريمه، أو إباحة ما فيه ضرر بالناس وتشـجيعهم بفتاوى الإباحة على فعل ما فيه ضرر لهم، بل ما قد يكون فيه هلاك لهم، تحت شعار "الأصل في الأشياء الإباحة".
ولنا في السلف قدوة عندما كانوا يحتاطون في إطلاق لفظ التحريم، ومن ذلك ما ذكره ابن وهب قال: "سمعت مالك بن أنس يقول: أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل: أكره هذا ولا أحبه، ولا يقول حلال وحرام."[1]
وقد يقول قائل إن التورع عن إطلاق لفظ التحريم كان مناسبا عندما كانت سمة الناس الورع، فلما تجرأ الناس على الشبهات، كان المناسب إشهار سيف التحريم في وجوههم. والواقع أن هذا ليس هو الحلّ الأمثل، فربما كان سلوك المفتين في إصدار الفتاوى الحدية والاضطراب في ذلك هو الذي ولّد ذلك السلوك لدى الناس. وواجب علماء الشرع ليس مجرد إصدار الفتاوى، فهذا قدر بسيط من مهمتهم، والمهمة الكبرى هي توعية الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى أحسن السبل في الحياة، وأن يرسخوا في أنفسهم أن الإسلام دين يدعو أصحابه إلى تحقيق المعالي والمسابقة في الخيرات، وأن يعلموهم أن من مقتضيات الإسلام السعي إلى المعالي والمسابقة في تحقيق الفضائل، حيث يسعى المسلم جهده إلى تحقيق ما فيه نفع خاص أو عام سواء حُكِم عليه بالوجوب أم لا، واجتناب ما فيه ضرر خاص أو عام سواء حُكِم عليه بالتحريم أم لا.
هذا، والله أعلم.
[1] ابن رجب، جامع العلوم والحكم، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر، ط2، 1424هـ) ص822-823.