العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

في فقه الأولويات، دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة (للقرضاوي)

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
مقدمة​

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلوات الله وتسليماته على رحمته المهداة للعالمين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، و على آله وصحبه ومَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد . .
فهذه الدراسة التي أقدمها اليوم تتحدث عن موضوع أعتبره غاية في الأهمية لأنه يعالج قضية اختلال النِّسب واضطراب الموازين - من الوجهة الشرعية - في تقدير الأُمور والأفكار والأعمال، وتقديم بعضها على بعض، وأيها يجب أن يُقدّم، وأيها ينبغي أن يُؤخَّر، وأيها ترتيبه الأول، وأيها ترتيبه السبعين، في سلّم الأوامر الإلَهية والتوجيهات النبوية. ولا سيما مع ظهور الخلل في ميزان الأولويات عند المسلمين في عصرنا.
وقد كنت أطلقت عليه من قبل اسم (فقه مراتب الأعمال)، واخترت له اليوم ومنذ سنوات مصطلح (فقه الأولويات)؛ لأنه أشمل وأوسع وأدل على المقصود.
وتحاول هذه الدراسة أن تلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، عسى أن تقوم بدورها في تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتأصيل هذا النوع من الفقه. وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصوا على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخرَّه، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره. لعل في هذا ما يحد من غلو الغالين، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين.
ولا أزعم أن هذه دراسة كاملة مستوعبة، فهي فتح للباب، وتمهيد للطريق. وقد يوفق الله لها مَن يزيدها تعميقاً وتأصيلاً. ولكل مجتهد نصيب.
وأختم هذه الكلمات بما قاله نبي الله شعيب عليه السلام فيما حكاه القرآن عنه: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب) (هود: 88).
الدوحة: في ربيع الآخر 1415 هـ الموافق (سبتمبر سنة 1994م)

الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي

الباب الأول : حاجة أمتنا إلى فقه الأولويات​
تمهيد
من المفاهيم المهمة في فقهنا اليوم: ما نبهتُ عليه في عدد من كتبي، وهو ما أسميته ( فقه الأولويات) وكنت أطلقت عليه قبل - وخصوصاً في كتابي: ( الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) - ( فقه مراتب الأعمال ). وأعني به: وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي، ونور العقل: ( نورٌ على نورٍ) (النور: 35).
فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل.
بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: (والسماء رفعها ووضح الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (الرحمن: 7 - 9).
وأساس هذا: أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول.
وهذا واضح من النصوص نفسها، كما في قول الله تعالى: ( أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأُولئك هم الفائزون) (التوبة: 19، 20).
وقول الرسول الكريم: (الإيمان بِضْع وسبعون شُعْبة: أعلاها "لا إله إلا الله"، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم). ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.
وأكتفي هنا بذكر حديث واحد:
عن عمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه- قال: قال رجل:يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال : (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة)، وقال: وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء)، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد)، قال: وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم)، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).
ومن تتبع ما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة في هذا المجال، جواباً عن سؤال، أو بياناً لحقيقة، رأى أنها قد وضعت أمامنا جملة معايير لبيان الأفضل والأولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير، وذكرت بعض الأحاديث نسبة، مثل (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة)، (سبق درهم مائة ألف درهم)، (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه)، (إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً).
وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله، من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين بعضها وبعض، مثل (درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).
وحذَّرت من أعمال اعتبرها شراً من غيرها، وأسوأ مما سواها، مثل حديث: (شر ما في الرجل، شُحٌ هالع وجُبنٌ خالع).
(شر الناس: الذي يسأل بالله، ثم لا يعطي).
(شرار أُمتي: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أُمتي: أحاسنهم أخلاقاً).
(أسرق الناس: الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس: مَن بخل بالسلام).
كما بيَّن القرآن أن الناس ليسوا متساوين في منازلهم، وإن كانوا متساوين في إنسانيتهم بأصل الخِلْقة، وإنما هم متفاوتون بعلومهم وأعمالهم تفاوتاً بعيداً.
يقول القرآن: ( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). (الحجرات: 13) ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). (الزمر:9) (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً، وكلاً وعد الله الحسنى، وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً، وكان الله غفوراً رحيماً). (النساء: 95، 96) (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحَرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات). (فاطر: 19 - 22) (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله). (فاطر: 32) وهكذا نجد أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون، كما تتفاوت الأعمال وتتفاضل، ولكن تفاضلهم إنما هو بالعلم والعمل والتقوى والجهاد.

اختلال ميزان الأولويات في الأمة​

من نظر إلى حياتا في جوانبها المختلفة - مادية كانت أو معنوية، فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها - وجد ميزان الأولويات فيها مختلاً كل الاختلال.
نجد في كل أقطارنا العربية والإسلامية مفارقات عجيبة:
ما يتعلق بالفن والترفيه مُقدَّم أبداً على ما يتعلق بالعلم والتعليم.
وفي الأنشطة الشبابية: نجد الاهتمام برياضة الأبدان مُقدَّماً على الاهتمام برياضة العقول، وكأن معنى رعاية الشباب: رعاية الجانب الجسماني فيهم لا غير، فهل الإنسان بجسمه أو بعقله ونفسه؟
كنا نحفظ قديماً من قصيدة أبى الفتح البستي الشهيرة:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ** أتطــلب الربح مما فيه خسـران؟
أقبل على النفس، واستكمل** فضائلها فأنت بالنفس - لا بالجسم - إنسان!

وقبله حفظنا عن زهير بن أبي سلمة في معلقته:

لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم!

ولكننا نرى اليوم: أن الإنسان بلحمه وعضلاته قبل كل شيء.
وفي الصيف الماضي (سنة 1993) لم يكن لمصر كلها حديث، إلا عن اللاعب الذي ( يُعرَض ) للبيع، وارتفع سعره في سوق المساومة بين الأندية حتى بلغ نحو ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات!
وليتهم اهتموا بكل أنوع الرياضة، وخصوصاً التي ينتفع بها جماهير الناس في حياتهم اليومية، إنما اهتموا برياضة المنافسات، وبخاصة كرة القدم ، التي يلعب فيها عدة أفراد، وسائر الناس متفرجون!!
إن نجوم المجتمع، وألمع الأسماء فيه، ليسوا هم العلماء ولا الأدباء، ولا أهل الفكر أو الدعوة ، بل هم الذين يسمونهم ( الفنانين والفنانات ) ولاعبو الكرة ، وأمثالهم .
الصحف والمجلات، والتليفزيونات والإذاعات، لا حديث لها إلا عن هؤلاء وأعمالهم ( وبطولاتهم ) ومغامراتهم وأخبارهم مهما تكن تافهة، أما غيرهم فهم في ظل الظل، بل في أودية الصمت والنسيان.
يموت الفنان، فترجّ الأرض لموته، وتمتلئ أنهار الصحف بالحديث عنه.
ويموت العالم أو الأديب أو الأستاذ الكبير ، فلا يكاد يحس به أحد!
وفي الجانب المالي : تُرصد المبالغ الهائلة ، والأموال الطائلة للرياضة والفن ورعاية الإعلام وحماية أمن الحاكم، الذي يسمونه زوراً ( أمن الدولة ) ولا يستطيع أحد أن يعارض أو يحاسب: لِمَ هذا كله؟
في حين تشكو الجوانب التعليمية والصحية والدينية والخدمات الأساسية، من التقتير عليها، وادعاء العجز والتقشف إذا طلبت بعض ما تريد لتطوير نفسها، ومواكبة عصرها، فالأمر كما قيل: تقتير هنا، وإسراف هناك! على نحو ما قاله ابن المقفع قديماً: ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع!

إخلال المتدينين اليوم بفقه الأولويات​

ولا يقف الإخلال بالأولويات اليوم عند جماهير المسلمين، أو المنحرفين منهم ، بل الإخلال واقع من المنتسبين إلى التدين ذاته ، لفقدان الفقه الرشيد، والعلم الصحيح .
إن العلم هو الذي يبين راجح الأعمال من مرجوحها، وفاضلها من مفضولها، كما يبين صحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ومسنونها من مبتدعها، ويعطي كل عمل " سعره " وقيمته في نظر الشرع.
وكثيراً من نجد الذين حُرموا نور العلم ورشد الفقه، يذيبون الحدود بين الأعمال فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع، فيُفْرطون أو يفَرطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
وكثير ما رأينا مثل هؤلاء - مع إخلاصهم - يشتغلون بمرجوح العمل، ويدعون راجحه، وينهمكون في المفضول، ويغفلون الفاضل.
وقد يكون العمل الواحد فاضلاً في وقت مفضولاً في وقت آخر، راجحاً في حال مرجوحاً في آخر، ولكنهم - لقلة علمهم وفقههم - لا يفرقون بين الوقتين، ولا يميزون بين الحالين.
رأيت من المسلمين الطيبين في أنفسهم من يتبرع ببناء مسجد في بلد حافل بالمساجد، قد يتكلف نصف مليون أو مليوناً أو أكثر من الجنيهات أو الدولارات، فإذا طالبته ببذل مثل هذا المبلغ أو نصفه أو نصف نصفه في نشر الدعوة إلى الإسلام، أو مقاومة الكفر والإلحاد، أو في تأييد العمل الإسلامي لإقامة الشرع وتمكين الدين، أو نحو ذلك من الأهداف الكبيرة التي قد تجد الرجال ولا تجد المال، فهيهات أن تجد أذناً صاغية، أو إجابة ملبية، لأنهم يؤمنون ببناء الأحجار، ولا يؤمنون ببناء الرجال!
وفي موسم الحج من كل عام أرى أعداداً غفيرةً من المسلمين الموسرين يحرصون على شهود الموسم متطوعين، وكثيراً ما يضيفون إليه العُمرة في رمضان، ينفقون في ذلك عن سخاء، وقد يصطحبون معهم أناساً من الفقراء على نفقتهم، وما كلَّف الله بالحج ولا العُمرة هؤلاء.
فإذا طالبتهم ببذل هذه النفقات السنوية ذاتها لمحاربة اليهود في فلسطين، أو الصرب في البوسنة والهرسك، أو لمقاومة الغزو التنصيري في إندونيسيا، أو بنجلاديش، أو غيرها من بلاد آسيا وإفريقيا، أو إنشاء مركز للدعوة، أو تجهيز دعاة متخصصين متفرغين، و تأليف أو ترجمة ونشر كتب إسلامية نافعة، لوَّوْا رؤوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
هذا مع أن الثابت بوضوح في القرآن الكريم أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج. كما قال تعالى: ( أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم لآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم اعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشِّرهم ربهم برحمةٍ منه ورضوانٍ وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ ) (التوبة: 19 - 21).
هذا مع أن حجهم واعتمارهم من باب التطوع والتنفل، أما جهاد الكفر والإلحاد والعَلمانية والتحلل، وما يسندها من قوى داخلية وخارجية، فهو الآن فريضة العصر. وواجب اليوم.
ومنذ ما يقرب من سنتين قبل موسم الحج، كتب صديقنا الكتاب الإسلامي المعروف الأستاذ فهمي هويدي، في مقال الثلاثاء الأسبوعي، يقول للمسلمين بصراحة: إن إنقاذ البوسنة مقدَّم على فريضة الحج!
وقد سألني كثيرون ممن قرأوا المقال عن مدى صحة هذا الكلام من الناحية الشرعية والفقهية. وقلت لهم حينذاك: إن لكلام الكاتب وجهاً صحيحاً ومعتبراً من ناحية الفقه، فإن من المقرر شرعاً: أن الواجبات المطلوبة فوراً مقدَّمة على الواجبات التي تحتمل التأخير. وفريضة الحج تحتمل التأخير، وهو واجب على التراخي عند بعض الأئمة. أما إنقاذ البوسنة من هلاك الجوع والبرد والمرض من ناحية، ومن خطر الإبادة الجَماعية التي تُحضَّر لها من ناحية أخرى، فهي فريضة فورية ناجزة، لا تقبل التأخير، ولا تحتمل التراخي، فهي فريضة الوقت، وواجب اليوم على الأمة الإسلامية كلها.
ولا ريب أن إقامة شعيرة الحج، وعدم تعطيل الموسم فريضة أيضاً لا نزاع فيها، ولكنها تتم بأهل الحرمين ومن حولهم ممن لا يكلفهم الحج كثيراً من النفقات.
ومع هذا أرى أن ما قصد إليه الأستاذ هويدي يمكن أن يتحقق بما دون هذا. فإذا أكثر الذين يزحمون موسم الحج كل عام هم من الذين أسقطوا عنهم الفريضة وحجوا من قبل. والذين لم يحجوا قبل ذلك لا يكوِّنون من مجموع الحجيج أكثر من 15% فإذا كان الحجاج نحو مليونين (000ر000ر2 ) فإن الذين يحجون منهم - عادة - لأول مرة، لا يزيدون غالباً عن ثلاثمائة ألف ( 000ر300)!
فليت الذين يتطوعون بالحج - وهم الأكثرية ! - ومثلهم الذين يتطوعون بالعمرة طوال العام، وخصوصاً في شهر رمضان، يتنازلون عن حجهم وعمرتهم، ويبذلون نفقاتهما في سبيل الله، أي في إنقاذ إخوانهم المسلمين والمسلمات، الذين يتعرضون للهلاك المادي والمعنوي، وللعدوان الغاشم، الذي يستبيح كل حرماتهم، ولا يريد أن يبقي لهم من باقية، والعالَم المتقدم: يرى ويسمع، ولا يحرك ساكناً! لأن الغلبة لحق القوة، وليس لقوة الحق!!.
ولقد عرفتُ بعض المتدينين الطيبين في قطر، وفي غيرها من بلاد الخليج، وفي مصر، يحرصون غاية الحرص على أداء شعيرة الحج كل عام، وأعرف بعضهم يحج سنوياً منذ أربعين سنة، وهم مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء والشركاء، ربما يصلون إلى مائة شخص. وقد ذكرتُ لهم في سنة ما، وكنت حاضراً لتوي من إندونيسيا، وشاهدت ما يصنعه التنصير هناك من أعمال هائلة، وحاجة المسلمين الماسة إلى مؤسسات مقابلة، تعليمية وطبية واجتماعية . . وقلت لهؤلاء الإخوة الطيبين: ما رأيكم لو نويتم هذا العام ترك الحج، والتبرع بنفقاته لمقاومة التنصير، 100 شخص كل شخص يتكلف 000ر10 جنيه = (000ر000ر1) لمليون جنيه، يمكن أن تكون نواة قوية لمشروع كبير، ولعلنا لو بدأنا مثل هذا العمل وأعلناه لقلَّدنا آخرون، فكان لنا أجر من تبعنا.
ولكن الإخوة قالوا: إننا كلما جاء ذو الحِجَّة أحسسنا برغبة - لا نستطيع مقاومتها - للحج والمناسك، ونحس بأرواحنا تحلِّق هناك، ونشعر بسعادة غامرة كلَّما شهدنا الموسم مع الشاهدين.
وهذا ما قاله من قاله لبِشْر الحافي من قديم، ولو صح الفهم، وصدق الإيمان، وعرف المسلم معنى فقه الأولويات، لكان عليه أن يشعر بسعادة أكبر، وروحانية أقوى، كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج مشروعاً إسلامياً، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين، أو يؤوي المشردين، أو يعالج المرضى، أو يُعلِّم الجاهلين، أو يُشغِّل العاطلين.
ولقد رأيت شباباً مخلصين كانوا يدرسون في كليات جامعية في الطب، أو الهندسة، أو الزراعة، أو الآداب، أو غيرها من الكليات النظرية، أو العملية، وكانوا من الناجحين بل المتفوقين فيها، فما لبثوا إلا أن أداروا ظهورهم لكلياتهم، وودعوها غير آسفين، بحجة التفرغ للدعوة والإرشاد والتبليغ، مع أن عملهم في تخصصاتهم هو من فروض الكفاية، التي تأثم الأُمة جميعها إذا فرطت فيها، ويستطيعون أن يجعلوا من عملهم عبادة وجهاداً إذا أُدِّي بإتقان، وصحَّت فيه النية، والتُزِمت حدود الله تعالى.
ولو ترك كل مسلم مهنته فمن ذا يقوم بمصالح المسلمين: ولقد بُعِث الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعملون في مهن شتَّى، فلم يطلب من أحدٍ منهم أن يدع مهنته ليتفرغ للدعوة، وبقي كل منهم في عمله وحرفته، سواء قبل الهجرة أم بعدها. فإذا دعا داعي الجهاد، واستُنْفِروا، نفروا خفافاً وثقالاً مجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد أنكر الإمام الغزالي على أهل زمنه توجُّه جمهور متعلميهم إلى الفقه ونحوه، على حين لا يوجد في البلد من بلدان المسلمين إلا طبيب يهودي أو نصراني، يوكَل إليه علاج المسلمين والمسلمات، وتوضع بين يديه الأرواح والعورات، وتؤخذ عنه الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعية، مثل جواز الفِطر للصائم، والتيمم للجريح!
ورأيت آخرين يقيمون معارك يومية يحمى وطيسها من أجل مسائل جزئية أو خلافية، مهملين معركة الإسلام الكبرى مع أعدائه الحاقدين عليه، والكارهين له، والطامعين فيه، والخائفين منه، والمتربصين به.
حتى الأقليات والجاليات التي تعيش هناك في ديار الغرب: في أمريكا وكندا وأوروبا، وجدت مَن جعلوا أكبر همهم: الساعة أين تٌلبس، أفي اليد اليمنى أم اليسرى؟
ولبس الثوب الأبيض بدل " القميص والبنطلون ": واجب أم سُنَّة؟
ودخول المرأة في المسجد: حلال أم حرام؟
والأكل على المنضدة، والجلوس على الكرسي للطعام، واستخدام الملعقة والشوكة: هل يدخل في التشبه بالكفار أو لا؟
وغيرها . . وغيرها من المسائل التي تأكل الأوقات، وتمزق الجماعات، وتخلق الحزازات، وتضيع الجهود والجهاد، لأنها جهود في غير هدف، وجهاد مع غير عدو.
ورأيت فتياناً ملتزمين متعبدين يعاملون آباءهم بقسوة، وأُمهاتهم بغلظة، وإخوانهم وأخواتهم بعنف، وحُجَّتهم أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين، ناسين أن الله تعالى أوصى بالوالدين حُسناً، وإن كانا مشركين يجاهدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه.
يقول تعالى: ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) (لقمان: 15).
فرغم المحاولة المصرة من الأبوين، التي سماها القرآن مجاهدة على الشرك، أمر بمصاحبتهما بالمعروف، لأن للوالدين حقاً لا يفوقه إلا حق الله عز وجل، ولهذا قال تعالى: ( أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير ) (لقمان: 14).
أما الطاعة لهما في الشرك فهي مرفوضة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأما المصاحبة بالمعروف فلا مناص منها، ولا عذر في التخلي عنها.
كما أوصى تعالى بالأرحام وذوي القربى، كما قال تعالى: ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً ) (النساء: 1).
ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط ولا زال قائماً إلى اليوم:
1- أ نهم - إلى حد كبير - فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأُمة: كالتفوق العلمي والصناعي والحربي، الذي يجعل الأمة مالكة لأمر نفسها وسيادتها حقاً وفعلاً، لا دعوى وقولاً . . ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام، ومثل إقامة الحكم الشورى القائم على البيعة والاختيار الحر، ومثل مقاومة السلطان الجائر، والمنحرف عن الإسلام، ناهيك بالمعادي له!
2- وأهملوا بعض الفرائض العينية، أو أعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي قدَّمها القرآن على الصلاة والزكاة في وصف مجتمع الإيمان. قال تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة . . . ) (التوبة: 71)، وجعلها السبب الأول في خيرية الأمة: ( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران: 110) ، وجعل إهمال هذه الفريضة عند بني إسرائيل سبيلاً إلى لعنتهم على لسان أنبيائهم ( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهَون عن منكرٍ فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون ) (المائدة: 78، 79).
3- واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا لم يكد يوجد مسلم مفطر في نهار رمضان ولا مسلمة. وخصوصاً في القرى والريف، ولكن وُجِد من المسلمين - والمسلمات خاصة - من يتكاسل عن الصلاة، ووُجِد من ينقضي عُمره دون أن ينحني لله راكعاً ساجداً، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله تعالى قرن بينهما في كتابه الكريم في (28) موضعاً، حتى قال ابن مسعود: أُمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومَن لم يزك فلا صلاة له!.
وقال الصِّدِّيق أبو بكر: والله لأُقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، وأجمع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، كما قاتلوا أدعياء النبوة ومن اتبعهم من المرتدين، وكانت الدولة المسلمة أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء!
4- واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات، كما هو ملاحظ عند كثير من المتدينين، الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد، ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض، وخصوصاً الاجتماعية، مثل: بر الوالدين؟ وصلة الأرحام، والإحسان بالجار، والرحمة بالضعفاء، ورعاية اليتامى والمساكين، وإنكار المنكر، ومقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي.
5- واهتموا بالعبادات الفردية، كالصلاة والذِكْر، أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالجهاد، والفقه، والإصلاح بين الناس، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى، ورعاية حقوق الإنسان عامة، والإنسان الضعيف خاصة.
6- وأخيراً أهتم كثير من الناس بفروع الأعمال، وأهملوا الأصول، مع قول الأقدمين: من ضَّيع الأصول، حُرِم الوصول. وأغفلوا أساس البناء كله، وهو العقيدة والإيمان والتوحيد، وإخلاص الدين لله.
7- ومما وقع فيه الخلل والاضطراب: اشتغال كثير من الناس بمحاربة المكروهات، أو الشبهات، أكثر مما اشتغلوا بحرب المحرَّمات المنتشرة، أو الواجبات المضيعة، ومثل ذلك: الاشتغال بما اختلف في حِلِّه وحُرمته عما هو مقطوع بتحريمه. وهناك أناس مولعون بهذه الخلافيات، مثل مسائل التصوير والغناء والنقاب ونحوها، وكأنما لا هم لهم إلا إدارة المعارك الملتهبة حولها، ومحاولة سَوْق الناس قسرا إلى رأيهم فيها، في حين هم غافلون عن القضايا المصيرية الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة ومصيرها وبقائها على الخريطة.
ومن ذلك: انصراف الكثيرين إلى مقاومة الصغائر مع إغفال الكبائر الموبقات، سواء أكانت موبقات دينية، كالعرافة، والسحر، والكهانة، واتخاذ القبور مساجد، والنذر، والذبح للموتى، والاستعانة بالمقبورين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات: ونحو ذلك مما كدر صفاء عقيدة التوحيد. أم موبقات اجتماعية وسياسية، مثل: ضياع الشورى، والعدالة الاجتماعية، وغياب الحرية، وحقوق الشعوب، وكرامة الإنسان، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، وتزوير الانتخابات، ونهب ثروة الأمة، وإقرار الامتيازات الأسرية والطبقية، وشيوع السرف والترف المدمر.
هذا الخلل الكبير الذي أصاب أمتنا اليوم في معايير أولوياتها، حتى أصبحت تُصغِّر الكبير، وتُكبِّر الصغير، وتُعظِّم الهين، وتُهوِّن الخطير، وتُؤخِّر الأول، وتُقدِّم الأخير، وتهمل الفرض وتحرص على النفل، وتكترث للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختلَف فيه، وتصمت عن تضييع المتفَق عليه .. كل هذا يجعل الأمة اليوم في أمَسِّ الحاجة - بل في أشد الضرورة - إلى " فقه الأولويات "، لتُبدئ فيه وتُعيد، وتناقش وتحاور، وتستوضح وتتبين، حتى يقتنع عقلها، ويطمئن قلبها، وتستضيء بصيرتها، وتتجه إرادتها بعد ذلك إلى عمل الخير وخير العمل.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب الثاني: ارتباط فقه الأولويات بأنواع أخرى من الفقه

علاقة فقه الأولويات بفقه المقاصد

ويرتبط فقه الأولويات كذلك بـ " فقه مقاصد الشريعة " فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشرع إلى تحقيقها. فان من أسماء الله تعالى" الحكيم " الذي تكرر في القرآن بضعاً وتسعين مرة. والحكيم لا يشرع شيئاً عبثاً ولا اعتباطاً، كما لا يخلق شيئاً باطلاً، سبحانه.
حتى التعبديات المحضة في الشرع لها مقاصدها، ولهذا علل القرآن العبادات ذاتها، فالصلاة ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت: 45)، والزكاة ( تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة: 103)، والصيام ( لعلكم تتقون ) (البقرة: 183)، والحج ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله ) (الحج: 28).
ومن حسن الفقه في دين الله أن ندرك مقصود الشرع من التكليف، حتى نعمل على تحقيقه، وحتى لا نشدد على أنفسنا وعلى الناس فيما لا يتصل بمقاصد الشرع وأهدافه.
ومن هنا لا أرى مبرراً للتشديد في ضرورة إخراج صدقة الفطر من الأطعمة في كل البيئات في عصرنا، حتى المدنية والحضرية منها، فليست هي مقصودة لذاتها، إنما المقصود إغناء الفقير في هذا اليوم الأغر عن السؤال والطواف.
ولا أرى معنى للتشديد في رمي الجمار في الحج قبل الزوال، وإن ترتب على ذلك شدة الزحام وموت المئات تحت الأقدام كما حدث في الموسم الماضي، فليس في الشرع ما يدل على أن هذا أمر مقصود لذاته. بل المقصود هو ذكر الله، والمطلوب هو التيسير ورفع الحَرَج.
ومن المهم هنا: التفريق بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، فنكون في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير. وقد وضَّحنا ذلك في كتابنا " كيف نتعامل مع السُنَّة النبوية ".

علاقة فقه الأولويات بفقه النصوص

كما يرتبط فقه الأولويات من غير شك أيضاً بـ " فقه نصوص الشريعة " الجزئية، بحيث يربط بينها وبين المقاصد الكلية، والقواعد العامة، فَتُرد الجزئيات إلى كلياتها، والفروع إلى أُصولها.
ومن الضروري هنا: التمييز بين القطعي والظني من النصوص، وبين المحكم والمتشابه منها. وفهم الظني في ضوء القطعي، والمتشابه في إطار المحكم.
وألزم ما يكون هذا الفقه بالنسبة إلى السُنَّة النبوية، فهي التي كثيراً ما يقع الخلط في فهمها أكثر من القرآن، نظراً لتعرضها للتفصيلات، ودخولها في الكثير من الجزئيات والتطبيقات. ولأن فيها ما هو للتشريع وهو الأصل، وما ليس للتشريع كحديث تأبير النخل وما على شاكلته. وفيها ما هو للتشريع الدائم، وما هو للتشريع الطارئ، وما هو للتشريع العام وما هو للتشريع الخاص، وقد فصَّل ذلك المحققون من العلماء.
وقد بيَّنا ذلك في حديثنا عن " الجانب التشريعي في السُنَّة " في مجلة مركز بحوث السُنَّة والسيرة. وفي كتابنا " السُنَّة .. مصدراً للمعرفة والحضارة " فليرجع إليهما من أراد التوسع .. وبالله التوفيق.

علاقة فقه الأولويات بفقه الموازنات​
الموازنة بين المصالح والمفاسد عند التعارض

وإذا اجتمع في أمر من الأُمور مصلحة ومفسدة، أو مضرَّة ومنفعة، فلا بد من الموازنة بينهما. والعبرة للأغلب والأكثر، فإن للأكثر حكم الكل.
فإذا كانت المفسدة أكثر وأغلب على الأمر من المنفعة أو المصلحة التي فيه - وجب منعه، لغلبة مفسدة، ولم تُعتبر المنفعة القليلة الموجودة فيه. وهذا ما ذكره القرآن في قضية الخمر والميسر في إجابته عن السائلين عنهما: ( يسئلونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة: 219).
وبالعكس إذا كانت المنفعة هي الأكبر والأغلب، فيُجاز الأمر ويشرع، وتُهدر المفسدة القليلة الموجودة به.
ومن القواعد المهمة هنا:
أن درء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
يكمل هذه قاعدة أخرى مهمة، وهي:
أن المفسدة الصغيرة تُغتفر من أجل المصلحة الكبيرة.
وتُغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة.
ولا تُترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة.
إن فقه الموازنات هذا له أهمية كبيرة في واقع الحياة، وخصوصاً في باب السياسة الشرعية، لأنها أساساً تقوم على رعايته، وهو في غاية الأهمية لفقه الأولويات.

كيف نعرف المصالح والمفاسد

والمصالح المرعية: إما مصالح دنيوية، أو مصالح أُخروية، أو مصالح دنيوية وأُخروية معاً. ومثل ذلك المفاسد من غير شك.
وكل منها له طريق إلى معرفته من العقل أو من الشرع أو من كليهما.
كلام ابن عبد السلام:
وقد فصَّل الإمام عز الدين بن عبد السلام " فيما تُعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما ".
وما أبلغ ما قاله هنا في كتابه الفريد " قواعد الأحكام في مصالح الأنام ":
" ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة من نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن.
واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال.
وإن اختُلِف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي.
وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت، فإن الطب كالشرع وُضِع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع، فإن تساوت الرّتب تخيَّر، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم.
وكما لا يحل الإقدام للتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة. فمن حرَّم ذبح الحيوان من الكفرة، رام ذلك مصلحة للحيوان فحاد عن الصواب؛ لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدَّموا الأحسن على الأخس، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح: ( فمن يهدي من أضل الله، وما لهم من ناصرين )؟! (الروم: 29). فمن وفَّقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه، فقد فاز، وقليل ما هم. قال ( الشاعر ):

وقد كنا نعُدهمو قليلاً** فقد صاروا أقل من القليل!

وكذلك المجتهدون في الأحكام، من وفَّقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة فأصاب الصواب، فأجره على قصده وصوابه، بخلاف من أخطأ الرجحان فإن أجره على قصده واجتهاده، ويُعفى عن خطئه وزلَلِه. وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول.
واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظراً لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيَّرتَ الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خُيِّر بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خُيِّر بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خُيِّر بين درهم ودينار لاختار الدينار. ولا يُقدِّم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت ".
وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تُعرف إلا بالنقل.
ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة. فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو مقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه.
فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلاً لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منهما محصلاً لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال. فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديَّان والكفر والفسوق والعصيان.
ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها. والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها، لأن مصالح الآخرة خلود الجنان ورضا الرحمن، مع النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من نعيم مقيم! ومفاسدها خلود النيران وسخط الديَّان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من عذاب أليم!
والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها مصالح المباحات، الثاني مصالح المندوبات، الثالث مصالح الواجبات.
والمفاسد نوعان: أحدهما مفاسد المكروهات، الثاني مفاسد المحرَّمات.

ما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما:

أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدهما فلا تُعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طُلِب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسُنَّة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طُلِب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهمافليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبَّد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها، مع أن الله عز وجل، لا يجب عليه جلب مصالح الحسن، ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طَوْلاً منه على عباده وتفضلاً.

المقصد من كتاب قواعد الأحكام

قال الإمام ابن عبد السلام في بيان المقصد من كتابه:
" الغرض بوضع هذا الكتاب: بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يُقدَّم من بعض المصالح على بعض، وما يُؤخَّر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قُدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه، والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعتَ الله يقول: ( يا أيها الذين آمنوا ) فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح

الموازنة بين المصالح بعضها وبعض

وفقه الأولويات هذا يرتبط بأنواع أخرى من الفقه نبهنا على أشياء منها في بعض ما كتبناه من قبل.
فهو يرتبط بـ " فقه الموازنات "، وقد تحدَّثتُ عنه في كتابي " أولويات الحركة الإسلامية "، ونقلت عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيه كلاماً نافعاً.
وأهم ما يقوم عليه فقه الموازنات:
1- الموازنة بين المصالح أو المنافع أو الخيرات المشروعة بعضها وبعض.
2- والموازنة كذلك بين المفاسد أو المضار أو الشرور الممنوعة بعضها وبعض.
3- والموازنة أيضاً بين المصالح والمفاسد أو الخيرات والشرور إذا تصادمت وتعارضت بعضها ببعض.

الموازنة بين المصالح بعضها وبعض:

ففي القسم الأول - المصالح - نجد أن المصالح التي أقرَّها الشرع ليست في رتبة واحدة، بل هي - كما قرر الأُصوليون - مراتب أساسية ثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. فالضروريات: ما لا حياة بغيره والحاجيات: ما يمكن العيش بغيره ولكن مع مشقة وحرج. والتحسينات: ما يزين الحياة ويجمِّلها، وهو ما نسميه عُرفاً بـ " الكماليات ".
وفقه الموازنات - وبالتالي فقه الأولويات - يقتضي منا:
تقديم الضروريات على الحاجيات، ومن باب أولى على التحسينات.
وتقديم الحاجيات على التحسينات والمكملات.
كما أن الضروريات في نفسها متفاوتة، فهي كما ذكر العلماء خمس: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وبعضهم أضاف إليها سادسة، وهي: العِرض.
فالدين هو أولها وأهمها، وهو مُقدَّم على كل الضروريات الأخرى، حتى النفس.
كما أن النفس مقدَّمة على ما عداها.
وفي الموازنة بين المصالح:
تُقدَّم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو الموهومة.
وتُقدَّم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.
وتُقدَّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
وتُقدَّم مصلحة الكثرة على مصلحة القِلَّة.
وتُقدَّم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة.
وتُقدَّم المصلحة الجوهرية والأساسية على المصلحة الشكلية والهامشية.
وتُقدَّم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.
وفي صلح الحديبية: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم، يُغلِّب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية، على المصالح والاعتبارات الشكلية، التي يتشبث بها بعض الناس. فقبل من الشروط ما قد يظن - لأول وهلة - أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة، أو رضا بالدون .. ورضي أن تٌحذف " البسملة " المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: " باسمك اللَّهم ". وأن يُحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: " محمد رسول الله "، ويُكتفى باسم " محمد بن عبد الله "! ليكسب من وراء ذلك " الهدنة " التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة، ومخاطبة ملوك العالم. ولا غرو أن سمَّاها القرآن: " فتحاً مبيناً " .. والأمثلة على ذلك كثيرة.

الموازنة بين المفاسد و المضار بعضها وبعض

وفي القسم الثاني - المفاسد والمضار - نجد أنها كذلك متفاوتة كما تفاوتت المصالح.
فالمفسدة التي تعطل ضرورياً، غير التي تعطل حاجياً. غير التي تعطل تحسينياً.
والمفسدة التي تضر بالمال دون المفسدة التي تضر بالنفس، وهذه دون التي تضر بالدين والعقيدة.
والمفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها.
ومن هنا قرر الفقهاء جملة قواعد ضابطة لأهم أحكامها. منها:
لا ضَرر ولا ضِرار.
الضرر يُزال بقدر الإمكان.
الضرر لا يُزال بضرر مثله أو أكبر منه.
يُرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.
يُحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.
يُحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

الباب الثالث:أولوية الكيف على الكم

من الأولويات المهمة شرعا: تقديم الكيف والنوع على الكم والحجم، فليست العبرة بالكثرة في العدد، ولا بالضخامة في الحجم: إنما المدار على النوعية والكيفية.

لقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أو لا يعلمون أو لا يؤمنون أو لا يشكرون: كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله: (بل أكثرهم لا يعقلون)، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).

(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة، كما في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليل ما هم)، (وقليل من عبادي الشكور)، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)، (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم).

ولهذا ليس المهم أن يكثر عدد الناس، ولكن المهم أن يكثر عدد المؤمنين الصالحين منهم.

يذكر كثيرون الحديث النبوي: "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مكاثر بكم الأمم"، ولكن الرسول لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة". دلالة على ندرة النوع الجيد من الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع.

والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره. حتى جاء في الحديث: "ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان".

إننا مولعون بالكم وبالكثرة في كل شيء، وإبراز الأرقام بالألوف والملايين، ولا يعنينا كثيرا ما وراء هذه الكثرة، ولا ماذا تحمل هذه الأرقام.

لقد أدرك الشاعر العربي الجاهلي أهمية النوع على الكم فقال:

تعيرنا أن قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل، وجارنا
عزيز، وجار الأكثرين ذليل


والقرآن ذكر لنا كيف انتصر جنود طالوت، وهم قلة على جنود جالون وهم كثرة: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلا منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين)‎‎، إلى أن قال: (فهزموهم بإذن الله).

وذكر لنا القرآن كيف انتصر الرسول وأصحابه في بدر، وهم قلة على المشركين وهم كثرة كما قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون)، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره).

على حين كاد المسلمون يخسرون في حنين، إذ نظروا إلى الكم لا الكيف وغرتهم الكثرة، وأهملوا القوة الروحية، والحيطة العسكرية، فدارت الدائرة عليهم أولا، حتى يتعلموا وينتبهوا أو يتوبوا، ثم فتح الله عليهم وأيدهم بجنود لم يروها.

يقول الله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين).

ولقد بين القرآن أن الإنسان إذا اجتمع له الإيمان وقوة الإرادة المعبر عنها بالصبر، يمكن أن تتضاعف طاقته إلى عشرة أضعاف أعدائه ممن لا يملك إيمانه وإرادته: يقول تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).

وهذا في حالة القوة، أما في حالة الضعف فيمكن أن تكون طاقته ضعف طاقة خصمه، كما أشارت إلى ذلك الآية اللاحقة في سورة الأنفال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله).

المدار إذن على الإيمان والإرادة لا على العدو والكثرة.

ومن قرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن عنايته كانت بالنوع لا بالكم.

ومن قرأ سيرة أصحابه وخلفائه، رأى ذلك بجلاء ووضوح أيضا.

بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مددا، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة قال عمر: كل واحد منهم بألف، واعتبر المجموع اثنى عشر ألفا*! ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة.

لقد كان عمر مؤمنا بأن العبرة بنوع الرجال وقدراتهم ومواهبهم لا بأعدادهم وأحجامهم.

روى عنه أنه جلس يوما مع بعض أصحابه في دار رحبة، فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دارهم من فضة أنفقتها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهبا ينفقه في سبيل الله، أما عمر فقال: لكني أتمنى ملء هذه الدار رجالا مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة، فأستعملهم في سبيل الله.

وفي عصرنا بلغ عدد المسلمين في العالم ما يجاوز المليار وربع المليار من البشر. ولكنهم للأسف الشديد كما وصفهم الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

لقد بين هذا الحديث أن الكثرة وحدها لا تغني، إذا كانت منتفخة من الخارج، واهنة من الداخل، كما في المراحل "الغثائية" من حياة الأمة، التي تتصف الأمة فيها بما يتصف به الغثاء من الخفة، وعدم التجانس، وفقدان الهدف والطريق، كما هو شأن غثاء السيل.

العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود بـ "الكم" هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي وحده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.

وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى.

فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم ـ في النهاية ـ إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب.

وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم).

كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: (وزادكم في الخلق بسطة).

ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة).

وفي الحديث الصحيح: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)".

وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد"

ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل".

وقال حسان بن ثابت يهجو قوما:

لا بأس بالقوم من طول ومن قصر
جسم البغال وأحلام العصافير!


ليس معنى هذا: أن الإسلام لا يقيم وزنا لصحة الجسم وقوته. كلا، فهو يهتم بذلك غاية الاهتمام، وقد مدح الله طالوت بقوله: (وزاده بسطة في العلم والجسم). وفي الصحيح: "إن لبدنك عليك حقا"، "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ولكنه لا يجعلها معيار الفضل.

وكما أن ضخامة الجسم وقوته ليست هي مقياس الرجولة، ولا معيار الفضل في الإنسان، فكذلك جمال الوجه وحسن الصورة.

وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

وقد مدح أحد الشعراء عبد الملك بن مروان بقوله:

يأتلق التاج فوق مفرقه
على جبين كأنه الذهب!


فلام الشاعر، لأنه مدحه بما يشبه مدح الغيد الحسان. وقال له: هلا قلت في ما قاله الشاعر في مصعب بن الزبير:

إنما مصعب شهاب من الله
تجلت بنوره الظلماء

حكمه حكم قوة ليس فيه
جبروت منه ولا كبرياء


أجل، إنما يقاس الرجال بما في رؤوسهم من علم، وما في قلوبهم من إيمان، وما يثمره الإيمان من عمل، على أن العمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا عدده، إنما يقاس بمدى إحسانه وإتقانه، وإحسان العمل في الإسلام ليس نافلة، بل هو فريضة كتبها الله على المؤمنين، كما كتب عليهم الصيام وغيره من الفرائض.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

والأصل في كلمة "كتب": أنها تفيد الوجوب والفرضية.

ويقول: "إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن".

فكما أن الله تعالى كتب الإحسان في العمل وأوجبه، فهو يحبه ويحب صاحبه.

بل إن القرآن لا يكتفي من المكلفين بعمل "الحسن"، بل يدعوهم إلى عمل "الأحسن" قال تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم).

(فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)

بل القرآن يأمر بجدال المخالفين بالتي هي أحسن: (وجادلهم بالتي هي أحسن).

ويأمر بدفع السيئة بالتي هي أحسن: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن).

وينهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده).

بل جعل القرآن الغاية من خلق الأرض وما عليها، وخلق الموت والحياة، وخلق السموات والأرض وما بينهما: ابتلاء المكلفين: (أيهم أحسن عملا).

كما نطقت بذلك عدة آيات في كتاب الله: (هود: 7، والملك: 2، والكهف: 7)، فكأن التسابق بينهم ليس بين الحسن والسيئ، بل بين الحسن والأحسن. وينبغي أن يكون هم الإنسان المؤمن التطلع أبدا إلى الأحسن والأرفع، وفي الحديث: "إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن".

وفي حديث جبريل المشهور تفسير "الإحسان" حين سأل عنه جبريل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وهذا تفسير لمعنى الإحسان في العبادة، وأنه يعني المراقبة والإخلاص لله تعالى، فالأعمال المقبولة عند الله تعالى لا ينظر إلى صورتها ولا إلى كمها، بل إلى جوهرها وكيفها، فكم من عمل مستوف لظاهر الشكل، ولكنه فاقد للروح الذي يهبه الحياة، ولذا لا يعتد به الدين، ولا يضعه في ميزان القبول.

يقول الله تعالى: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصوم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ويقول: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس من قيامه إلا السهر".

يقول تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)، ويقول الرسول الكريم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

ولهذا عنى علماء الإسلام بهذا الحديث، وبدأ به البخاري جامعه الصحيح، واعتبره بعضهم ربع الإسلام، وبعضهم ثلث الإسلام، لما للنية من أهمية في قبول الأعمال، واعتبروه ميزانا لباطن الأعمال، كما أن حديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ـ أي مردود على صاحبه ـ يعتبر ميزانا لظاهر العمل.

وسئل أبو علي الفضيل بن عياض عن "أحسن العمل" في قوله تعالى: (أيكم أحسن عملا) فقال: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه، قيل له: ما أخلصه وما أصوبه؟ فقال: إن الله لا يقبل العمل ما لم يكن خالصا صوابا، فإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وخلوصه: أن يكون لله، وصوابه: أن يكون على السنة.

وهذا معنى أحسن العمل في أمر الدين والتعبد، وأما الإحسان في أمر الدنيا، فهو الوصول به إلى درجة الجودة التي ينافس فيها غيره، بل يتفوق عليه، فلا مجال في الحياة إلا للمتقنين.

ومن الأحاديث النبوية التي لها دلالة في هذا المقام: ما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك".

فالحديث يرشد إلى أهمية إتقان العمل وحسن أدائه، ولو كان في أمر صغير كقتل الوزغة (ما يسميه العامة: البرص)، فهذا من إحسان القتل: "فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". وفي القتل السريع إراحة للمقتول أيا كان.

وكما لا تقاس الأعمال بكمها وحجمها، كذلك لا تقاس أعمار الناس بطولها.

فقد يعمر الإنسان عمرا طويلا، ولكن لا بركة فيه. وقد لا يطول عمره، ولكنه حافل بأعمال الخير، وخير العمل.

وفي هذا يقول ابن عطاء الله في حكمه: رب عمر اتسعت آماده، وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده، كثيرة أمداده! من بورك له في عمره، أدرك في يسر من الزمن من منن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة!

وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ـ هي كل زمن البعثة ـ بارك الله في حياته فأسس أعظم دين، وربى أفضل جيل، وأنشأ خير أمة، وأقام أعدل دولة، وانتصر على الوثنية الكافرة، واليهودية الغادرة، وورث أمته ـ بعد كتاب الله ـ سنة هادية، وسيرة جامعة.

وأبو بكر رضي الله عنه في سنتين ونصف استطاع أن يسحق المتنبئين الكذابين، ويعيد المرتدين إلى حظيرة الإسلام، ويجندهم في فتح فارس والروم، وأن يؤدب مانعي الزكاة، ويحفظ للفقراء حقوقهم التي فرض الله لهم في أموال الأغنياء، ويسجل التاريخ أن الدولة الإسلامية هي أول من قاتل من أجل حقوق الفقراء.

وعمر بن الخطاب في عشر سنوات: فتح الفتوح في الخارج، وأرسى قواعد دولة العدل والشورى في الداخل، وسن سننا حسنة لمن بعده "أوليات عمر"، ورسخ دعائم الفقه الجماعي، وخصوصا فقه الدولة، القائم على اعتبار المقاصد، والموازنة بين المصالح، والتكافل بين الأجيال، وجرأ الناس على النصح للحاكم ونقده: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها" مع زهد في الدنيا، وقوة في الحق، وتحقيق للعدالة والمساواة بين الناس جميعا، إلى حد الاقتصاص من ولاة الأقاليم وأبنائهم.

وعمر بن عبد العزيز في ثلاثين شهرا (هي كل مدة خلافته): أحيا الله به من سنن العدل والهدى، وأمات به من بدع الجور والضلالة، ورد من المظالم، وأقر من الحقوق، ما أعاد للناس الثقة بالإسلام، فأمنت الأنفس من خوف، وطعم الناس من جوع، وانتشر الرخاء، حتى أصبح صاحب المال يهمه: أين يضع زكاته، فقد أغنى الله الناس.

والإمام الشافعي عاش أربعا وخمسين سنة ـ قمرية ـ (150_ 204هـ) وخلف وراءه هذه الكنوز العلمية الجليلة الأصيلة.

والإمام الغزالي عاش خمسا وخمسين سنة (450_ 505هـ)، وترك للأمة هذه الثروة العلمية المتنوعة الهائلة.

والإمام النووي عاش خمسا وأربعين سنة (631_ 676هـ) ترك فيها تراثا نفع الله به المسلمين كافة: في الحديث وفي الفقه، من الأربعين النووية في الحديث إلى شرح مسلم، ومن المنهاج في الفقه إلى روضة الطالبين والمجموع، وفي غيرها نجد له تهذيب الأسماء واللغات.

والأئمة الآخرون مثل: ابن العربي والسرخسي وابن الجوزي وابن قدامة والقرافي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن خلدون وابن حجر وابن الوزير وابن الهمام والسيوطي والدهلوي والشوكاني وغيرهم ملئوا الأرض علما وفضلا.

إن من الناس من يموت قبل موته، وينتهي عمره وهو محسوب على الأحياء، ومنهم من يحيا بعد موته، ويخلف من صالح الأعمال، أو نافع العلم، أو صالح الذرية والتلاميذ ما يضيف إلى عمره أعمارا تطول وتطول.
 
التعديل الأخير:

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب الرابع: الأولويات في مجال العلم والفكر

أولوية العلم على العمل

من أهم الأولويات المعتبرة شرعا: أولوية تقديم العلم على العمل. فالعلم يسبق العمل، وهو دليله ومرشده. وفي حديث معاذ: "العلم إمام، والعمل تابعه".

ولهذا وضع الإمام البخاري بابا في كتاب العلم من جامعه الصحيح جعل عنوانه: "باب: العلم قبل القول والعمل"، وقال شراحه: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما، مصحح للنية، المصححة للعمل. قالوا: فنبه البخاري على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن ـ من قولهم: بأن العلم لا ينفع إلا بالعمل ـ تهوين أمر العلم، والتساهل في طلبه.

واحتج البخاري لما ذكره ببعض الآيات والأحاديث الدالة على دعواه.

فمن الآيات قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات). فأمر رسوله بالعلم بالتوحيد أولا، ثم ثنى بالاستغفار، وهو عمل. والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو متناول لأمته.

ومنها قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فالعلم هو الذي يورث الخشية، الدافعة إلى العمل.

ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، لأنه إذا فقه عمل، وأحسن ما عمل.

مما يستأنس به لتقديم العلم على العمل: أن أول ما نزل من القرآن: (اقرأ)، والقراءة مفتاح العلم، ثم نزل العمل في مثل: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر).

وإنما كان العلم مقدما على العمل، لأنه هو الذي يميز الحق من الباطل في الاعتقادات، والصواب من الخطأ في المقولات، والمسنون من المبتدع في العبادات، والصحيح من الفاسد في المعاملات، والحلال من الحرام في التصرفات، والفضيلة من الرذيلة في الأخلاق، والمقبول والمردود في المعايير، والراجح والمرجوح في الأقوال والأعمال.

ولهذا وجدنا كثيرا من المصنفين من علمائنا السابقين يبدأون مصنفاتهم بـ "كتاب العلم".

مثل ما صنع الإمام الغزالي في كتابيه: "إحياء علوم الدين"، و"منهاج العابدين". وكذلك فعل الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب"، فبعد ذكر أحاديث في النية والإخلاص واتباع الكتاب والسنة ـ بدأ بكتاب "العلم".

وفقه الأولويات الذي نتحدث عنه مبناه ومداره على العلم، فبه نعرف ما حقه أن يقدم، وما شأنه أن يؤخر، وبدون هذا العلم نخبط خبط عشواء.

وما أصدق ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

وهذا واضح في بعض الفئات من المسلمين، الذين لم تكن تنقصهم التقوى أو الإخلاص والحماس، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع، وحقائق الدين.

وهذا ما وصف به الخوارج الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، على فضله ومكانته في نصرة الإسلام، وقربه من رسول الله نسبا وصهرا وحبا، واستحلوا دمه ودماء من سواهم من المسلمين، يتقربون بذلك إلى الله!!

وهؤلاء امتداد لمن اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأموال، فقال له بجلافة وجهالة: اعدل! فقال: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت إذن وخسرت إن لم أكن أعدل"!

وفي رواية: أن هذا الجلف الجافي قال له: يا رسول الله، اتق الله! قال: "أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله"؟!

لم يفقه هذا ومثله سياسة تأليف القلوب، وما تجلبه من مصالح عظيمة للأمة، وقد شرعها الله في كتابه، وأجاز الصرف فيها من الصدقات، فكيف من الغنائم والفيء؟

ولما سأل بعض الصحابة قتل هذا المتطاول منعه الرسول الكريم. وحذر من ظهور طائفة على شاكلته وصفهم بقوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

ومعنى: "لا يجاوز حناجرهم": أي لا تفقهه قلوبهم، ولا تستضئ به عقولهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، رغم كثرة الصلاة والصيام.

ومما وصفهم به كذلك: أنهم "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان".

فآفة هؤلاء ليست في ضمائرهم ولا نياتهم، بل في عقولهم وأفهامهم، ولهذا وصفوا في حديث آخر بأنهم: "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام".

وإنما أتى هؤلاء من قلة العلم، ونقص الفقه، فلم ينتفعوا بكتاب الله، مع أنه يتلونه رطبا، لكنها تلاوة بلا فقه، وربما فقهوه فقها أعوج، يناقض ما أراد به منزله تبارك وتعالى.

ولهذا حذر الإمام الجليل الحسن البصري من الإيغال في التعبد والعمل، قبل التحصن بالعلم والتفقه، وقال في ذلك كلمته البليغة المعبرة: "العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا".

العلم شرط في كل عمل قيادي (سياسي أو عسكري أو قضائي)

ومن هنا كان العلم شرطا في كل عمل قيادي، سواء أكان عملا سياسيا إداريا، مثل عمل يوسف عليه السلام الذي قال له ملك مصر: (إنك اليوم لدينا مكين، قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم)، فأشار إلى مؤهلاته الخاصة التي ترشحه لهذا العمل الكبير الذي كان يشمل المالية والاقتصاد والتخطيط والزراعة والتموين في ذلك الحين. وقوام هذه المؤهلات أمران: الحفظ (وهو يعني الأمانة)، والعلم، ويراد بالعلم، ويراد بالعلم هنا: الخبرة به والكفاية فيه.

وهذا يوافق ما جاء على لسان ابنه الشيخ الكبير في سورة القصص: (إن خير من استأجرت القوي الأمين).

أم كان العمل عسكريا: كما قال تعالى في تعليل اختيار طالوت ملكا على أولئك الملأ من بني إسرائيل: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم).

أم كان هذا العمل قضائيا، حتى إنهم اشترطوا في القاضي ـ كما اشترطوا في الخليفة ـ أن يكون مجتهدا، فلم يكتفوا في مثله أن يكون عالما مقلدا لغيره، لأن الأصل في العلم هو معرفة الحق بدليله، دون التزام بموافقة زيد أو عمرو من الناس، أما من قلد غيره من البشر من غير أن تكون له حجة، أو كانت له حجة واهية غير ناهضة، فليس هذا من العلم في شيء.

وإنما قبلوا قضاء المقلد، مثلما قبلوا ولاية من لا فقه له، للضرورة. غير أن هناك حد أدنى من العلم لابد أن يكون لديه، وإلا قضى على جهل فكان من أهل النار.

وفي الحديث الذي رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار".

ضرورة العلم للمفتي

ومثل القضاء: الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناس إلا عالم متمكن في علمه، فقيه في دينه، وإلا حرم الحلال، وأحل الحرام، وأسقط الواجبات، أو ألزم الناس بما لم يلزمهم الله، وأقر المبتدعات، أو بدع المشروعات، وكفر أهل الإيمان، أو برر كفر أهل الكفر. وهذا كله أو بعضه يقع ثمرة لغياب العلم والفقه، ولا سيما مع الجراءة على الفتيا، واستباحة حرمتها لكل من هب ودب. كما نرى ذلك في عصرنا، الذي أصبح أمر الدين فيه كلا مباحا يرعاه كل من شاء، من كل من له لسان ينطق، أو قلم يخط، مع شدة تحذير القرآن والسنة وسلف الأمة من اقتحام هذا الحمى الخطير، دون مؤهلاته وشروطه، وما أصعب استجماعها والتمكن منها!

ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من تسرعوا بالفتوى في عهده، فأفتوا رجلا به جراحة أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما به من جراح، فكان ذلك سببا في موته، فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم".

فانظر كيف اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فتواهم قتلا له، ودعا عليهم بقوله: "قتلهم الله"! الفتوى الجاهلة إذن قد تقتل، وقد تدمر. ولهذا نقل ابن القيم وغيره الإجماع على تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم، وأدخله ضمن قوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).

ونقل من الأحاديث وآثار الصحابة وأقوال السلف ما يسد الطريق على الأدعياء والمتطفلين، وأنصاف العلماء.

قال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.

وقال أبو حصين الأشعري: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر!

فكيف لو رأى جرأة أهل عصرنا؟!

وقال ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون!

وقال أبو بكر: أي سماء تقلني، وأي أرض تظلني: إذا قلت ما لا أعلم؟!

وقال علي: وأبردها على كبدي ـ ثلاث مرات ـ أن يسأل الرجل عما يعلم، فيقول: الله أعلم!

وكان ابن المسيب سيد التابعين لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني!

وهذا كله دليل على خطر الفتوى، وضرورة التأهل لها بالعلم الراسخ، والأفق الواسع، مع الورع العاصم من اتباع هوى النفس أو أهواء الغير.

ومن هنا يعجب المرء غاية العجب من شبان من طلاب العلم الشرعي ـ وكثيرا ما يكونون دخلاء عليه ـ يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل، وأخطر القضايا، ويتطاولون على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام، والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور وانتفاخ: هم رجال، ونحن رجال!!

وأول ما يفتقرون إليه هو معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع، وفقه حقائق الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ضرورة العلم للداعية والمعلم

وإذا كان العلم مطلوبا للقضاء والفتوى، فهو مطلوب كذلك للدعوة والتربية. فقد قال الله تعالى لرسوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتبعني)

فكل داع إلى الله ـ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ـ يجب أن تكون دعوته على بصيرة. ومعنى هذا: أن يكون على بينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه. فيعلم: إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟

ولهذا قالوا عن الرباني: هو الذي يعلم ويعمل ويعلم، وإليه يشير قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)، وفسر ابن عباس الربانيين فقال: حكماء فقهاء.

ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلمقبل كباره.

قالوا: والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دق منها وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل نتائجه.

والمقصود هو: التدرج في التعليم، ومراعاة ظروف المتعلمين، وقدراتهم، والترقي بهم من درجة إلى أخرى.

ومما يوجبه العلم في مقام الدعوة والتعليم: أن يأخذ الداعية والمعلم الناس بالتيسير لا التعسير، وبالتبشير لا التنفير. كما في الحديث المتفق عليه: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

قال الحافظ في شرح الحديث: المراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا، حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده.

وليس التيسير مقصورا على قريب العهد بالإسلام، كما قد يفهم من كلام الحافظ، بل هو أمر عام ودائم، ولكنه ألزم ما يكون لحديث العهد بالإسلام أو بالتوبة، أو بكل من يحتاج إلى التخفيف من مريض أو كبير سن أو ذي حاجة.

ومن مقتضيات العلم: أن يجرعوا من المعارف الدينية ما يطيقونه، وتسيغه معدتهم العقلية، ولا يحدثوا بما تنكره عقولهم، فيكون ذلك فتنة عليهم أو على بعضهم.

وفي هذا يقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون: أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة.

أولوية الفهم على مجرد الحفظ

وأحب أن أنبه هنا ـ ونحن نتحدث عن أسبقية العلم على العمل ـ على أمر مهم، يدخل في فقه الأولويات أيضا. وهو: أولوية علم الدراية على علم الرواية، وبعبارة أخرى، أولوية الفهم والفقه على مجرد الاستيعاب والحفظ: والعلم الحقيقي هو الذي يتمثل في الفهم والهضم.

والإسلام إنما يريد منا: التفقه في الدين، لا مجرد تعلم الدين، كما في قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).

وفي الحديث الصحيح: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

والفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم، والفهم الدقيق، ولذا نفاه الله تعالى عن الكفار والمنافقين، حين وصفهم بأنهم: (قوم لا يفقهون).

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

وفي حديث أبى موسى في الصحيحين: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

فالحديث يمثل ما جاءت به النبوة من الهدى والعلم بالغيث العام الذي يحيي الأرض الميتة، كما تحيي علوم الدين القلوب الميتة. كما يمثل أنواع الناس في تلقيهم لهذا العلم بأنواع الأرض المختلفة. فأعلى الأصناف هو الذي يفقه العلم وينتفع به ويعلمه، فهو كالأرض الطيبة النقية التي تشرب الماء، فتنتفع به وتنبت الكلأ والعشب الكثير. وأدنى من ذلك ـ النوع الثاني: من لهم قلوب حافظة، وليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، فهؤلاء يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به. فهؤلاء نفعوا بما بلغوا، فهذا الصنف بمنزلة الأرض الجدباء التي يستقر فيها الماء فتمسكه، حتى يأتي من يشرب منها ويسقي ويزرع، وهذا هو المشار إليه في الحديث المشهور: "نضر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".

والنوع الثالث: هم الذين ليس لهم فهم ولا حفظ، ولا علم ولا عمل، فهم كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء، ولا تمسكه لغيرها.

فدل هذا الحديث على أن أرفع أصناف الناس درجة عند الله وعند رسوله: هم أهل الفهم والفقه، وبعدهم أهل الحفظ، ومن هنا كان فضل "الدراية" على "الرواية"، وفضل "الفقهاء" على "الحفاظ".

وفي خير قرون الأمة ـ القرون الثلاثة الأولى ـ كانت المكانة والصدارة "للفقيه" وفي عصور الانحدار والتراجع كانت المكانة والصدارة "للحفاظ"!

لا أريد أن أقول: إن الحفظ ليس له أي قيمة مطلقا، وإن الذاكرة في الإنسان لا جدوى لها، فهذا غير صحيح. ولكن أقول: إن الحفظ هو مجرد خزن للحقائق والمعلومات، ليستفاد منه بعد ذلك. فالحفظ ليس مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة لغيره. والخطأ الذي وقع فيه المسلمون هو اهتمامهم بالحفظ أكثر من الفهم، وإعطاؤه أكثر من حقه وقدره.

ولهذا نجد مبالغة في تكريم حفاظ القرآن الكريم، على ما لذلك من فضل، حتى إن مسابقات تعقد في عدد من الأقطار، تقدم فيها جوائز قيمة، تبلغ عشرات الآلاف للشخص الواحد، وهذا أمر مقدر ويشكر.

ولكن لم يرصد مثل هذه الجوائز ولا نصفها ولا ربعها للنابغين في العلوم الشرعية المختلفة من التفسير والحديث والفقه وأصوله والعقيدة والدعوة، مع أن حاجة الأمة إلى هؤلاء أكثر، ونفعهم أعظم وأغزر.

ومما يعاب به التعليم العام في أوطاننا: أنه يعتمد على الحفظ و"الصم" لا على الفهم والهضم. ولهذا ينسى المرء غالبا ما تعلمه بعد أداء الامتحان، ولو أن ما تعلمه كان مبنيا على الفهم والفقه والتمثل لرسخ في ذهنه، ولم يتعرض بهذه السرعة للزوال.

أولوية المقاصد على الظواهر

ومما يدخل في "الفقه" المراد: الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، ورد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.

فمن المعلوم الذي دلت عليه النصوص المتكاثرة من الكتاب والسنة، كما دل عليه استقراء الأحكام الجزئية في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، وسائر العلاقات الأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية: أن للشارع أهدافا في كل ما شرعه أمرا أو نهيا، أو إباحة، فلم يشرع تحكما ولا اعتباطا، بل شرعه لحكمة تليق بكماله تعالى، وعلمه ورحمته وبره بخلقه. فإن من أسمائه "العليم الحكيم". فهو حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر. تتجلى حكمته في عالم الأمر، كما تجلت في عالم الخلق: (ألا له الخلق والأمر)، فكما أنه لم يخلق شيئا عبثا، كذلك لم يشرع شيئا جزافا.

وكما قال أولو الألباب في خلقه: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) نقول نحن في شرعه: ربنا ما شرعت هذا إلا لحكمة!

وآفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين: أنهم طفوا على السطح، ولم ينزلوا إلى الأعماق، لأنهم لم يؤهلوا للسباحة فيها، والغوص في قرارها، والتقاط لآلئها، فشغلتهم الظواهر، عن الأسرار والمقاصد، وألهتهم الفروع عن الأصول، وعرضوا دين الله وأحكام شريعته على عباده، تفاريق متناثرة لا يجمعها جامع، ولا ترتبط بعلة، فظهرت الشريعة على ألسنتهم وأقلامهم كأنها قاصرة عن تحقيق مصالح الخلق، والقصور ليس في الشريعة، وإنما هو في أفهامهم، التي قطعت الروابط بين الأحكام بعضها وبعض، ولم يبالوا أن يفرقوا بين المتساوين، ويجمعوا بين المختلفين، وهو ما لم تأت به الشريعة قط، كما بين ذلك المحققون الراسخون.

وكثيرا ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسع الله، وتعسير ما يسر الشرع، وتجميد ما من شأنه أن يتطور، وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر.

أولوية الاجتهاد على التقليد

ومن هذا الباب: أولوية الاجتهاد والتجديد على التكرار والتقليد. وهذا مرتبط بفقه المقاصد الذي أشرنا إليه، وبقضية الفهم والحفظ أيضا.

فالعلم عند السلف من علماء الأمة ليس هو مجرد معرفة الأحكام، وإن كان عن طريق تقليد الغير، وتبني قوله ولو لم تكن له حجة مقنعة، فهو يعرف الحق بالرجال، ويتبع الأشخاص لا الأدلة.

العلم عندهم هو: العلم الاستقلالي، الذي يبتع فيه الحجة، ولا يبالي أوافق زيد أو عمر من الناس، فهو يسير مع الدليل حيثما سار، ويدور مع الحق الذي يقتنع به حيثما دار.

استدل ابن القيم على منع التقليد بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، قال: والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، وذكر في "إعلام الموقعين" أكثر من ثمانين وجها في إبطال التقليد، والرد على شبهات أنصاره.

وإذا كان الجمود على ظواهر النصوص مذموما، كما هو شأن الظاهرية القدامى والجدد، فأدخل منه في الذم: الجمود على ما قاله السابقون، دون مراعاة لتغير زماننا عن زمانهم، وحاجاتنا عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم. وأحسب لو تأخر بهم الزمن حتى رأوا ما رأينا، وعاشوا ما عشنا ـ وهم أهل الاجتهاد والنظر ـ لغيروا كثيرا من فتاواهم واجتهاداتهم. كيف وقد غير أصحابهم من بعدهم كثيرا منها، لاختلاف العصر والزمان، رغم قرب ما بين أولئك وهؤلاء؟ بل كيف وقد غير الأئمة أنفسهم كثيرا من أقوالهم في حياتهم، تبعا لتغير اجتهاداتهم، بتأثير السن أو النضج أو الزمان أو المكان؟

حتى إن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان له مذهب قبل أن يستقر في مصر عرف باسم "القديم"، ومذهب بعد استقراره في مصر عرف باسم "الجديد". وما ذاك إلا لأنه رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع.

والإمام أحمد قد روى عنه في القضية الواحدة عدة روايات متباينة، وما ذاك إلا لأن فتواه تختلف باختلاف الظروف والأحوال.

أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا

وإذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في شؤون الدنيا أيضا.

فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة.

فلابد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولابد من الإقناع بجدواه قبل البدء فيه، ولابد من التخطيط قبل التنفيذ، ولابد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل.

ولقد ذكرت في كتب ودراسات أخرى لي: أن الإحصاء والتخطيط والدراسة قبل العمل، كلها من صميم الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلمكان أول من أمر بعمل إحصائي منظم لمن آمن به بعد هجرته إلى المدينة. ولقد ظهر أثر التخطيط في سيرته في صور ومواقف شتى.

وأولى الناس بالتخطيط لغدهم: رجال الحركة الإسلامية، فلا يدعون الأمور تجري في أعنتها، من غير انتفاع بتجارب الأمس، ولا رصد لوقائع اليوم، ولا تقويم للصواب والخطأ في الاجتهادات، ولا مقدار المكاسب والخسائر في المسيرة بين الأمس واليوم، ولا معرفة دقيقة بما لدينا من طاقات وإمكانات، مادية ومعنوية، ظاهرة أو كامنة، مستغلة أو مهدرة. وما هي مصادر القوة ونقاط الضعف عندنا، وكذلك عند خصومنا، ومن هم خصومنا الحقيقيون؟ من الخصوم الدائمون والخصوم العارضون؟ من منهم يمكن كسبه؟ ومن لا يمكن كسبه؟ من يمكن محاورته ومن لا يمكن؟ فلا ينبغي التسوية بين الخصوم وهم ـ في الواقع ـ متفاوتون.

إن هذا كله لا يعرف إلا بالعلم والدراسة الموضوعية، البعيدة عن حكم العواطف، المتحررة من تأثيرات الظروف الشخصية والبيئية والوقتية ما استطاع الإنسان أن يتجرد، فإن التحرر الكامل والمطلق يكاد يكون مستحيلا.

الأولويات في الآراء الفقهية

وما ذكرناه من أولويات الفهم على الحفظ، وأولوية المقاصد على الظواهر، وأولوية الاجتهاد على التقليد، نحتاج إليه هنا في الأحكام الشرعية الاجتهادية، والآراء الفقهية إذا اختلفت وتباينت، فكيف نرجح بينها، ونقدم بعضها على بعض؟

إن الترجيح هنا لا يتم اعتباطا، وخبط عشواء، كما لا يتبع فيه الهوى، بل لابد فيه من معايير يرجع إليها، ويعول عليها.

وفي كتب الأصول باب طويل الذيول، كبير الأهمية، حول التعادل والترجيح، وقد يعبر عنه باسم "التعارض والترجيح".

كما تعرض له أئمة الحديث في علوم الحديث فيما يتعلق بالسنة بعضها وبعض.

ولكني هنا أريد أن أنبه على أشياء معينة لها أهمية خاصة بالنظر إلى واقعنا المعاصر، وما يمور به من أفكار، وما يعترك فيه من آراء، سواء بين المسلمين وخصومهم من المغتربين والعلمانيين. أم كان بين المدارس والتيارات الإسلامية المختلفة بعضها وبعض، ولا سيما الذين يعملون في ساحة الدعوة والإصلاح والعمل الإسلامي، بأهدافه المتنوعة، ومناهجه المتباينة، وفصائله المتعددة.

ما الآراء التي لا تحتمل الخلاف قط، ولا يقبل فيها رأي آخر، ولا مجال فيها لتسامح؟

وما الآراء التي تقبل نسبة ـ ولو ضئيلة ـ من التسامح؟

والآراء التي تتسع للكثير من الخلاف والتسامح؟

التفريق بين القطعي والظني

فمن المقرر لدى أهل العلم: أن ما ثبت بالاجتهاد غير ما ثبت بالنص، وأن ما ثبت بالنص وأيده بالإجماع المتيقن غير ما ثبت بالنص واختلف فيه، والاختلاف فيه دليل على أنه أمر اجتهادي، والأمور الاجتهادية لا ينكر فيها عالم على آخر، لكن يناقش بعضهم بعضا فيها بالاحترام المتبادل. كما أن ما ثبت بالنص يختلف كثيرا من حيث قطعيته وظنيته.

والقطعية والظنية ما هو ظني الثبوت، ظني الدلالة معا.

ومنها: ما هو ظني الثبوت، قطعي الدلالة.

ومنها: ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة.

ومنها: ما هو قطعي الثبوت، قطعي الدلالة معا.

وظنية الثبوت تختص بالسنة غير المتواترة، والمتواتر: ما رواه جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، والآحاد غيره.

ومن العلماء من قال: إن التواتر في السنة عزيز، ولا يكاد يوجد، ومنهم من توسع في ذلك، حتى ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، التي رفضها مثل الشيخين، فليحذر من دعوى التواتر بغير رهان.

ومنهم من ألحق بالمتواتر أحاديث احتفت بها القرائن مثل تلقي الأمة لها بالقبول. مثل أحاديث الصحيحين التي لم يتعقبها أحد من العلماء المعتبرين.

وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعا: فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة والمجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وتحتمل الدلالة المطابقية، والدلالة التضمنية، والدلالة الالتزامية.

وكثيرا ما تخضع الأفهام لعقول الناس وظروفهم واتجاهاتهم النفسية والعقلية. فالمشدد يفهم من النص غير ما يفهمه الميسر. ولذا عرف تراثنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس. وذو الأفق الواسع يفهم منه غير ما يفهمه ذو الأفق الضيق. والمقاصدي الذي يعنى بفحوى النص روحه، يفهم منه غير ما يفهمه الظاهري الحرفي، الذي يجمد على ظاهره لا يحيد عنه. وفي قضية الأمر بصلاة العصر في بني قريظة أبلغ دليل على ذلك.

ولله حكمة في أن جعل النصوص قابلة لمثل هذا التعدد، لتسع الناس جميعا، باتجاهاتهم المتباينة. ولهذا أنزل كتابه الخالد، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.

ولو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد، ورأي واحد، لأنزل كتابه كله آيات محكمات، وجعل النصوص كلها قاطعات.

والقرآن كله قطعي الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته ـ في جزئياتها ـ ظنية الدلالة، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها.

ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق (فضائل ورذائل)، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحو ذلك قد بينتها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.

وأكدت هذه القضايا: السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا، كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة.

ومن هنا: لا يجوز الخلط ـ جهلا أو قصدا ـ بين النصوص بعضها وبعض.

فقد يعذر من يرد نصا ظنيا في ثبوته، إذا قام لديه دليل على عدم ثبوته عنده.

وقد يعذر من يرد رأيا في نص ظني في دلالته، أو يفسره تفسيرا جديدا غير ما فسره به الأولون، ولكنه محتمل.

وقد لا يعذر هذا ولا ذاك، في ردهما النص الظني، إذا كان ظاهر التمحل، أو التلفيق. ولكنه لا يكفر ويخرج من الملة بسبب موقفه هذا، أقصى ما فيه أن يبدع، أي يرمى بالبدعة، والخروج عن النهج المعتاد لأهل السنة، وحسابه على الله تعالى. وليس هذا لكل من هب ودب، بل للمحققين من أهل العلم الثقات.

إنما الذي يرفض حقا وينبذ قائله: هو رد النصوص القطعية الثبوت والدلالة جميعا، فهذه ـ وإن كانت قليلة ـ تعتبر في غاية الأهمية في الدين، لأنها هي التي تجسد الوحدة العقيدية والفكرية والشعورية والعملية للأمة المسلمة، وهي التي يحتكم إليها عند النزاع، ويرجع إليها عند الاختلاف، فإذا غدت هي الأخرى مثار نزاع واختلاف، فإلى أي شيء يرجع الناس؟!

ومن هنا حذرنا في كتبنا من تلك المؤامرة الفكرية التي تعمل على تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات، مثل الذين يجادلون في آية تحريم الخمر: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)، والتشكيك في دلالة كلمة "فاجتنبوه" على التحريم.

ومثل الذين يجادلون في تحريم الربا، مثل الذين يجادلون في تحريم لحم الخنزير، ومثل الذين يجادلون في ميراث المرأة، أو في قوامية الرجل على الأسرة، أو في وجوب الحجاب (بمعنى لبس الخمار والملابس المحتشمة) أو غير ذلك مما ثبت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وانعقد عليها إجماع الأمة، واستقرت عليه فقها وعملا، نظرا وتطبيقا، أربعة عشر قرنا من الزمان.

إن هذه الأمور الواضحة البينة من الدين هي مما يطلق عليه العلماء "ما علم من الدين بالضرورة" أي يعرفه الخاص والعام من المسلمين، دون حاجة إلى إقامة دليل عليها، لأن أدلتها متكاثرة ومعروفة، وراسخة في وجدان الأمة.

وهذه هي التي يحكم على جاحدها بالكفر، وينبغي قبل هذا الحكم أن تزاح عن صاحبها الشبهة، وتقام عليه الحجة، ويقطع عنه العذر، وبعد ذلك يعزل عن جسم الأمة، ويقضى عليه بالانفصال منها.

فينبغي التركيز على القطعيات المجمع عليها، لا على الظنيات المختلف فيها، والذي أضاع الأمة إنما هو أضاعتها للقطعيات، والمعركة بين دعاة الإسلام اليوم في أنحاء العالم الإسلامي وبين دعاة العلمانية اللادينية إنما تدور حول القطعيات: قطعيات العقيدة، وقطعيات الشريعة، وقطعيات الفكر، وقطعيات السلوك.

إن هذه القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف، وأساس الدعوة والإعلام، وأساس التربية والتعليم، وأساس الوجود الإسلامي كله.

وإن من أخطر الأشياء على الدعوة الإسلامية، وعلى العمل الإسلامي: جر الناس باستمرار إلى الأمور الخلافية، التي لا ينتهي الخلاف فيها، وإدارة الملاحم الساخنة حولها، وتصنيف الناس على أساس مواقفهم منها، وتحديد الولاء لهم أو البراءة منهم بناء على ذلك.

هذا مع أننا قد وضحنا بالأدلة القاطعة في كتابنا "الصحوة بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" أن هذا النوع من الاختلاف ضرورة، ورحمة، وسعة، وأن إزالته غير ممكنة، وغير مفيدة.

ليس معنى كلامي ألا نتكلم في أمر خلافي قط، ولا نرجح رأيا على رأي في قضية عقدية أو فقهية أو سلوكية، فهذا مستحيل، وما عمل العلماء إذن إذا لم يصححوا ويضعفوا ويرجحوا ويختاروا؟

إنما الذي أنكره أن يكون هذا هو شغلنا الشاغل، وأن نعنى بالمختلف فيه أكثر من عنايتنا بالمتفق عليه، وأن نهتم بالظني في حين أعرض الناس عن القطعي.

كما أن من الخطل والخطر: أن نعرض على الناس القضايا المختلف فيها اختلافا كبيرا، على أنها قضايا مسلمة لا نزاع فيها ولا خلاف عليها، متجاهلين رأي الآخرين، الذين لهم وجهتهم ولهم أدلتهم، مهما يكن من رأينا نحن فيها، وعدم اعتبارنا لها.

وكثيرا ما يكون الرأي الآخر هو رأي الجمهور الأكبر من علماء الأمة، وهو ـ وإن لم يكن معصوما لأنه ليس بإجماع مستيقن ـ لا يجوز أن يهون من شأنه.

وذلك مثل الذين يدعون إلى وجوب تغطية الوجه ولبس النقاب، معتبرين أن رأيهم هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، مشددين النكير على من خالفهم، مع أنهم يخالفون رأي الجمهور الأعظم من الأئمة والفقهاء، كما يخالفون الأدلة الواضحة النيرة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة.

ولقد ساءني أن أحد الدعاة قال في خطبة له مسجلة: إن كشف وجه المرأة مثل كشف فرجها! وهذا غلو عظيم، لا يصدر من ذي فقه وبصيرة.

وأود أن أنبه هنا: أن آراء بعض العلماء المعتبرين قد تكون شاذة في بيئة معينة، وفي عصر معين، لأنها سابقة لزمنها، ثم لا يثبت أن يأتي عصر آخر تجد فيه من يؤيدها ويشهرها، حتى تغدو هي عماد الفتوى،كما حدث لآراء الإمام ابن تيمية رضي الله عنه.

يُتبع.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب الخامس : الأولويات في مجال الفتوى والدعوة​

أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير

ومن الأولويات المطلوبة هنا، وخصوصا في مجال الإفتاء والدعوة: تقديم التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير.

فقد دلت النصوص من الكتاب والسنة أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

ويقول سبحانه: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).

ويقول عز وجل: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج).

ويقول الرسول الكريم: "خير دينكم أيسره"، "أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة".

وتقول عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس عنه.

ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته".

ويتأكد ترجيح الرخصة واختيار التيسير، إذا ظهرت الحاجة إليها، لضعف أو مرض أو شيخوخة أو لشدة مشقة، أو غير ذلك من المرجحات.

روى جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا؟" فقالوا: صائم، فقال: "ليس في البر الصيام في السفر".

أما إذا لم يكن في السفر مثل هذه المشقة فيجوز له أن يصوم، بدليل ما روته عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

وكان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بشأن الصوم والفطر للمسافر، واختلاف الفقهاء: أيهما أفضل، كان يقول: أفضلهما أيسرهما عليه. وهذا قول مقبول، فمن الناس من يكون الصوم مع الناس أهون عليه من أن يقضي بعد ذلك والناس مفطرون، وغيره بعكسه، فما كان أيسر عليه فهو الأفضل في حقه.

ودعا عليه الصلاة والسلام إلى تعجيل الفطور وتأخير السحور، تيسيرا على الصائم.

ونجد كثيرا من الفقهاء في بعض الأحكام التي تختلف فيها الأنظار يرجحون منها ما يكون أيسر على الناس، وخصوصا في أبواب المعاملات، وقد اشتهرت عنهم هذه العبارة: هذا القول أرفق بالناس!!

هذا ومما أحمد الله تعالى عليه أني تبينت منهج "التيسير" في الفتوى، و"التبشير" في الدعوة، اتباعا للمنهج النبوي الكريم، فقد بعث أبا موسى ومعاذ إلى اليمن وأوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا".

وروى عن أنس أنه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

قلت مرة في إجابتي عن الأسئلة بعد إحدى المحاضرات: إنني إذا وجدت أمامي قولين متكافئين أو متقاربين في مسألة شرعية، وكان أحدهما أحوط، والآخر أيسر، فإني أفتي لعموم الناس بالأيسر، وأرجحه على الأحوط.

فقال لي بعض الإخوة الحاضرين: وما دليلك على ترجيح الأيسر على الأحوط؟

قلت: دليلي هدى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وأمره للأئمة في صلاة الجماعة أن يخففوا عن المأمومين، لأن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة.

قد يفتي العالم بالأحوط لبعض أهل العزائم والمتورعين من المتدينين، أما العموم فالأولى بهم الأيسر.

وعصرنا أكثر من غيره حاجة إلى إشاعة التيسير على الناس بدل التعسير، والتبشير بدل التنفير، ولا سيما من كان حديث عهد بإسلام، أو كان حديث عهد بتوبة.

وهذا واضح تمام الوضوح في هدى النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه الإسلام لمن يدخل فيه، فهو لا يكثر عليه الواجبات، ولا يثقله بكثرة الأوامر والنواهي، وإذا سأله عما يطلبه الإسلام منه، اكتفى بتعريفه بالفرائض الأساسية، ولم يغرقه بالنوافل، فإذا قال له الرجل: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال: "أفلح إن صدق"، أو "دخل الجنة إن صدق".

بل رأيناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشدد النكير على من يشدد على الناس، ولا يراعى ظروفهم المختلفة، كما فعل مع بعض الصحابة الذين كانوا يؤمون الناس، ويطيلون في الصلاة، طولا اشتكى منه بعض مأموميهم.

فقد أنكر على معاذ بن جبل تطويله، وقال له: "أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ".

وعن أبي مسعود الأنصاري: أن رجلا قال: والله يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة (الصبح) من أجل فلان، مما يطيل بنا! فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ! ثم قال: "إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس، فليتجوز (يخفف) فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة".

وقد ذكرت بعض الروايات أن هذا الذي طول بالناس كان أبي بن كعب، وهو من هو علما وفضلا، وأحد الذين جمعوا القرآن. ولكن هذا لم يمنع أن ينكر النبي عليه، كما أنكر على معاذ، برغم حبه له وثنائه عليه.

ويقول خادمه وصاحبه أنس: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي، فيخفف، مخافة أن تفتن أمه.

وعنه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه".

ويروي عنه أبو هريرة قوله: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون إنكارا للتشديد إذا كون اتجاها، وتبناه جماعة، ولم يكن مجرد نزعة فردية عارضة، وهذا ما نلاحظه في إنكاره على الثلاثة الذين اتخذوا خطا في التعبد غير خطه، وإن كانوا لا يريدون إلا الخير ومزيد من التقرب إلى الله تعالى.

عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال آخر: وأنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون"! قالها ثلاثا.

المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.

وعن ابن هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة" رواه البخاري، وفي رواية له: "سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، القصد القصد تبلغوا".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا غلبه": أي غلبه الدين وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه. "الغدوة": سير أول النهار. و"الروحة": آخر النهار. و"الدلجة": آخر الليل. وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات، ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب، والله أعلم.

وقد هالني ما سمعت في نشرات الأخبار، وما قرأته في الصحف: أن سلطات الحج في المملكة العربية السعودية أعلنت عن (270) مائتين وسبعين حاجا في مرمى الجمرات، قتلوا وطئا بالأقدام في غمرة الزحام الهائل على الرمي بعد الزوال!

ومع هذا العدد الكبير من القتلى لازال كثير من العلماء يفتون الناس بعدم جواز الرمي قبل الزوال بحال، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يسر في أمر الحج، وما سئل عن أمر قدم ولا أخر فيه، إلا قال: "افعل ولا حرج". والفقهاء سهلوا في أمر الرمي حتى أجازوا أن يجمع الحاج الرمي في اليوم الأخير، وأجازوا الإنابة فيه للعذر. وهو أمر يتم بعد التحلل النهائي من الإحرام.

وقد أجاز الرمي قبل الزوال ثلاثة من الأئمة الكبار: فقيه المناسك عطاء، وفقيه اليمن طاووس، وكلاهما من أصحاب ابن عباس، وأبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين من فقهاء آل البيت.

ولو لم يقل فقيه بجواز ذلك لكان فقه الضرورات يوجب علينا التسهيل على عباد الله، وإجازة الرمي خلال الأربع والعشرين ساعة حتى لا نعرض المسلمين للهلاك.

وجزى الله الشيخ عبدالله بن زيد المحمود خيرا، فقد أفتى منذ أكثر من ثلث قرن بجواز الرمي قبل الزوال في رسالته "يسر الإسلام".

الاعتراف بالضرورات الطارئة

ومن التيسير المطلوب هنا: الاعتراف بالضرورات التي تطرأ في حياة الناس، سواء أكانت ضرورات فردية أم جماعية، فقد جعلت الشريعة لهذه الضرورات أحكامها الخاصة وأباحت بها ما كان محظورا في حالة الاختيار من الأطعمة والأشربة والملبوسات والعقود والمعاملات، وأكثر من ذلك أنها نزلت الحاجة في بعض الأحيان ـ خاصة كانت أو عامة ـ منزلة الضرورة أيضا، تيسيرا على الأمة ودفعا للحرج عنها.

والأصل في ذلك ما جاء في القرآن الكريم عقب ذكر الأطعمة المحرمة في أربعة مواضع من القرآن الكريم رفع فيها الإثم عن متناولها مضطرا غير باغ ولا عاد.

(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم).

وما جاء في السنة بعد تحريم لبس الحرير على الرجال: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حكة بهما فأذن لهما بلبسه تقديرا لهذه الحاجة.

تغيير الفتوى بتغير الزمان والمكان

ومن التيسير المطلوب هنا أيضا: ضرورة الاعتراف بالتغير الذي يطرأ على الناس سواء أكان سببه فساد الزمان كما يعبر الفقهاء، أو تطور المجتمع، أو نزول ضرورات به، ومن ثم أجاز فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال، مستدلين في ذلك بهدي الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نهتدي بسنتهم ونعض عليها بالنواجذ. بل هو ما دلت عليه السنة النبوية، وقبلها القرآن الكريم، كما بينا ذلك في رسالتنا عن "عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية".

وهذا ما يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت، وآراء اتخذت في أعصار سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع، ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال. والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته.

من ذلك: تقسيم العالم إلى دار إسلام، ودار حرب، واعتبار أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وأن الجهاد فرض كفاية على الأمة إلى آخر تلك الأقوال.

والواقع أن هذه الأقوال لم تعد تصلح لزماننا، ولا يوجد من نصوص الإسلام المحكمة ما يؤيدها، بل في هذه النصوص ما يناقضها.

فالإسلام ينشد التعارف بين البشر جميعا: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).

ويعتبر السلام والكف عن الحرب نعمة. ولقد عقب على غزوة الخندق بقوله: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال).

ويعتبر صلح الحديبية فتحا مبينا يمتن به على رسوله، وينزل فيه سورة الفتح: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).

ويمتن على رسوله وعلى المؤمنين في هذه السورة أنه كف أيدي الفريقين بعضهما عن بعض، فيقول سبحانه: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم).

والرسول صلى الله عليه وسلم ينفر من كلمة "حرب" حتى إنه يقول: "أصدق الأسماء حارث وهمام، وأقبح الأسماء حرب ومرة".

والجهاد الذي شرعه الإسلام في الأزمان الماضية، كان له هدف واضح، وهو إزالة العوائق المادية من طريق الدعوة. وقد كان الأباطرة والملوك في تلك الأزمنة يقفون حائلا دون وصول دعوة الإسلام إلى شعوبهم، ولهذا بعث الرسول إليهم برسائله يدعوهم فيها إلى الإسلام، ويحملهم إثم ضلال أممهم، التي عزلوها عن الاستماع إلى أي صوت خارجي، خشية أن يوقظهم من سباتهم، ويشعرهم بذاتيتهم، فيهبوا من رقدتهم، ويتمردوا على طواغيتهم. ولهذا نجدهم قتلوا الدعاة حينا، أو بادروا المسلمين بالقتال حينا، أو أعدوا العدة لغزوهم وهددوهم في عقر دارهم.

أما اليوم، فلا عوائق أمام الدعوة، وخصوصا في البلاد المفتوحة التي تقبل التعددية، ويستطيع المسلمون أن يبلغوا دعوتهم بالكلمة المقروءة، والكلمة المسموعة، والكلمة المشاهدة. ويستطيعون بالإذاعات الموجهة أن يبلغوا العالم كله بلغاته المختلفة، وأن يتكلموا مع كل قوم بلسانهم ليبينوا لهم.

ولكنهم في الواقع مقصرون كل التقصير، وهم مسؤولون أمام الله تعالى عن جهل أمم الأرض بالإسلام.

مراعاة سنة التدرج

ومن التيسير المطلوب هنا: مراعاة سنة التدرج، جريا على سنة الله تعالى في عالم الخلق، وعالم الأمر، واتباعا لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المحرمات كذلك.

ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، لا يجهلها دارس.

ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته يبقي على "نظام الرق" الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج.

وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس عندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم، بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية.

فإذا أردنا أن نقيم "مجتمعا إسلاميا حقيقيا" فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان.

إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة التي قامت عليها مؤسسات عدة لأزمنة طويلة.

ولا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ، واتخاذ كلمة التدرج "تكأة" لتمويت فكرة المطالبة الشعبية الملحة بإقامة حكم الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها تعيين الهدف، ووضع الخطة، وتحديد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم، حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام، كل الإسلام.

وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية، كما بينا ذلك في الفصل السابق.

ومن المواقف التي لها مغزى ما رواه المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، الذي يعده علماء المسلمين "خامس الخلفاء الراشدين" وثاني العمرين، لأنه سار على نهج جده الفاروق عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الملك ـ وكان شابا تقيا متحمسا ـ قال له يوما: يا أبت، مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!!

يريد الشاب التقي الغيور من أبيه ـ وقد ولاه الله إمارة المؤمنين ـ أن يقضي على المظالم وآثار الفساد والانحراف دفعة واحدة، دون تريث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون!

ولكن الأب الراشد قال لابنه: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة!

يريد الخليفة الراشد أن يعالج الأمور بحكمة وتدرج، مهتديا بسنة الله تعالى في تحريم الخمر، فهو يجرعهم الحق جرعة جرعة، ويمضي بهم إلى المنهج المنشود خطوة خطوة. هذا هو الفقه الصحيح.

تصحيح ثقافة المسلم

ومن المهم واللازم اليوم في تثقيف المسلمين وتفقيههم في دينهم: أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يحذف من ثقافة المسلم.

في المعاهد الدينية، والجامعات والكليات الإسلامية: تدرس أشياء تستغرق من جهود الطلاب وأوقاتهم وتحصيلهم ما لو قضوا نصفه أو ربعه فيما هو أجدى عليهم في دينهم أو دنياهم لكان ذلك أحرى وأولى.

أذكر أننا كنا في كلية أصول الدين ندرس من كتاب "المواقف" للإيجي، وشرحه للجرجاني بعض الفقرات ـ ولا أقول الفصول ـ في "الطبيعيات" من الكتاب، وفي "المقدمات" ونتعنى في فهمها وهضمها، ويعاني شيوخنا في شرحها، وحل غوامضها، وكشف اللثام عن معانيها.

ولو أننا أنفقنا هذا الوقت وهذا الجهد في متابعة فلسفات العصر والرد عليها ردا علميا موضوعيا، أو في متابعة مصادر الإسلام الأساسية وشروح الأئمة الكبار عليها، أو في النبش عن الأفكار والمفاهيم الأصيلة في المدارس التجديدية في الإسلام، لعاد ذلك علينا بالخير الكثير، والنفع الغزير.

ولازال هناك قصور ملحوظ فيما يدرس في تلك المعاهد والجامعات، فهناك تمدد لبعض المواد، على حساب مواد أخرى لا تأخذ حقها.

ولازال "علم الكلام" يدرس على الطريقة القديمة نفسها، وهو في حاجة إلى أن يتجدد ليتحدث بلغة القرآن التي تخاطب الفطرة، وتخاطب العقل والقلب معا، وليس بأسلوب الفلسفة اليونانية، وقد ألف الإمام ابن الوزير كتابه القيم "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان".

كما أنه في حاجة إلى أن يتسلح بعلم العصر، وثقافة العصر، ويقتبس من البراهين والآيات المبثوثة في الكون ما يشد أزر الإيمان، ويقطع دابر الإلحاد، كما في الكتب الشهيرة في ذلك: "العلم يدعو إلى الإيمان"، "الله يتجلى في عصر العلم"، "مع الله في السماء"، "الله والعلم الحديث" وغيرها.

وعلم الفقه في حاجة إلى أن ييسر للناس، وأن يعرض عرضا جديدا، ويهتم فيه بما يهم الناس في هذا العصر، من شركات ومعاملات وأعمال بنوك، وعقود مستحدثة، وعلاقات دولية جديدة، وأن يترجم المعايير القديمة من نقود ومكاييل وأوزان وأطوال إلى لغة العصر.

وإلى جوار ذلك لابد من العناية بالثقافة التي تقدم إلى الجمهور المسلم، وضرورة تنويعها وتلوينها، فمنها ما يقدم إلى المثقفين ثقافات مدنية مختلفة.

ومنها ما يقدم إلى العامة وأشباه العامة من العمال والفلاحين، ومن قاربهم.

فكثيرا ما حشا الوعاظ والمدرسون ـ أو المؤلفون المكثرون ـ أدمغة الناس بأفكار ومعلومات دينية يرددونها، ويحفظونها عن ظهر قلب، وما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من محكمات الشرع برهان، مصدرها الإسرائيليات في التفسير، والأحاديث الواهية والموضوعة وما لا أصل له!

مثل الكلام عن "الحقيقة والشريعة"، أو "الحقيقة المحمدية" أو أن النبي هو أول خلق الله، أو الكلام المبالغ عن عالم "الأولياء" و"الكرامات" مما لم يقم عليه دليل من دين، ولا برهان من علم، ولا سند من منطق.

ونحو ذلك شغل آخرين لهم بالمسائل الخلافية بين المذاهب بعضها وبعض، أو بافتعال معركة مع التصوف كله، والمتصوفة جميعا، بما فيهم من متسنن ومبتدع، ومستقيم ومنحرف، والواجب هو التمييز والتفضيل، وعدم تعميم الأحكام في هذا المقام.

معيار لا يخطئ، الاهتمام بما اهتم به القرآن

ومن المعايير التي ينبغي الرجوع إليها في بيان ما هو أحق وأولى بالرعاية والتقديم على غيره: أن نعنى بالأمر على قدر ما عني به القرآن الكريم.

فما اهتم به القرآن كل الاهتمام، وكرره في سوره وآياته، وأكده في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، يجب أن تكون له الأولوية والتقديم والعناية في تفكيرنا وفي سلوكنا، وفي تقويمنا وتقديرنا.

وذلك مثل الإيمان بالله تعالى، وبرسالاته إلى أنبيائه، وبالدار الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، وجنة ونار.

ومثل أصول العبادات والشعائر من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصيام والحج وذكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده واستغفاره والتوبة إليه، والتوكل عليه والرجاء في رحمته والخشية من عذابه، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه. إلى آخر تلك العبادات القلبية الباطنة، والمقامات الربانية العالية.

ومثل أصول الفضائل ومكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات من الصدق والأمانة والقصد والعفاف، والحياء والتواضع، والبذل والسخاء، والذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين، والرحمة بالضعفاء، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، ورعاية المسكين واليتيم وابن السبيل.

وما اهتم به القرآن اهتماما قليلا، نعطيه مثل ذلك القدر من الاهتمام ولا نبالغ فيه، مثل "الإسراء" بالنبي عليه الصلاة والسلام، الذي أعطاه القرآن آية واحدة، وليس كالغزوات التي أخذت سورا كاملة.

أما "مولد النبي" فلم يعره القرآن التفاتا، فدل على أنه أمر غير ذي بال في الحياة الإسلامية، إذ لم يرتبط به معجزة كما ارتبط بميلاد المسيح، كما لم يرتبط به عمل أو عبادة تطلب من المسلمين على وجه الإيجاب، ولا على وجه الاستحباب.

فهذا معيار لا يخطئ، لأن القرآن هو عمدة الملة، وأصل الدين، وينبوع الإسلام، والسنة إنما تأتي شارحة مبينة. والله تعالى يقول: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، ويقول: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).

والمقصود: أنه بين الأصول التي لابد منها ليقوم الدين على أساس مكين، فما من أصل من الأصول الكلية التي تحتاج إليها الحياة الإسلامية، إلا وهو منبثق من القرآن، إما مباشرة أو بالاستنباط.

وقد جاء عن الخليفة الأول قوله: لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب السادس : الأولويات في مجال العمل​

أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع

لقد بين القرآن الكريم، كما وضحت السنة الشريفة: أن الأعمال عند الله متفاوتة المراتب، وأن هناك الأفضل والأحب إلى الله تعالى من غيره.

يقول الله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون).

وصحت الأحاديث: "أن الإيمان بعض وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق"، فدل هذا على أن هذه الشعب متفاوتة في القيمة والدرجة.

وهذا التفاوت ليس اعتباطيا، ولكنه مبني على معايير وأسس ينبغي أن ترعى. وهذا ما نبحث عنه هنا.

من هذه المعايير:

أن يكون العمل أدوم: ومعنى الأدوم: أن يداوم عليه فاعله ويواظب عليه، بخلاف العمل الذي يقع منه بعض المرات في بعض الأوقات.

وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "أحب العمال إلى الله أدومها وإن قل".

وروى الشيخان عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها: أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائم.

وعن عائشة أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندما امرأة، قال: "من هذه؟" قالت: فلانة تذكر من صلاتها (تعني أنها تكثر جدا من الصلاة) قال: "مه! عليكم بما تطيقون، فوالله، لا يمل الله حتى تملوا".

قالت عائشة: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.

و"مه" كلمة زجر عن تكلف المشقة الشديدة في العبادة، وتحميل النفس فوق طاقتها. وذلك أنه بالمداومة على القليل، تستمر الطاعة وتكثر بركتها، بخلاف الكثير الشاق، وربما ينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع، أضعافا كثيرة. ولهذا استقر في فطر الناس في سائر الأمور: أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو في الدين والتشدد فيه، خشية أن يأتي عليه يوم يمل فيه العمل، أو تضعف طاقته عنه، بحكم الضعف البشري، فينقطع في وسط الطريق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم من الأعمال بما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا".

وقال: "عليكم هديا قاصدا (أي متوسطا) فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه".

وسبب هذا الحديث ـ كما رواه بريدة ـ قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين يدي، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعا، فإذا نحن بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتراه يرائي"؟! فقلت: الله ورسوله أعلم! فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما ويرفعهما، ويقول: عليكم هديا قاصدا.. الحديث.

وعن سهيل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فإما هلك من كان قبلكم بشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات".

أولوية العمل المتعدي النفع على القاصر

ومن فقه الأولويات في ترجيح العمل: أن يكون أكثر نفعا من غيره. وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله. ولهذا كان جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج، لأن نفع الحج لصاحبه، ونفع الجهاد للأمة، وفي هذا جاء قول الله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون).

وكان الجهاد في سبيل الله أفضل عند الله وأعظم أجرا من الانقطاع للعبادة، مرات ومرات.

قال أبو هريرة: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة (عين صغيرة) من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب؟! (أي للعبادة) ولن أفعل حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة، وجبت له الجنة".

وفواق الناقة: ما بين رفع يدك عن ضرعها وقت الحلب ووضعها.

ومن هنا جاء تفضيل العلم على العبادة في جملة أحاديث، لأن منفعة العبادة للعابد، ومنفعة العلم للناس.. من هذه الأحاديث:

"فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".

"فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب".

"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".

ويزداد فضل العلم إذا علمه صاحبه لغيره، وتكملة الحديث السابق:

"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير".

وفي الصحيح: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

ومن هنا قرر الفقهاء: أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام، ولأن التفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة.

وعلى قدر من ينتفع بعلمه ودعوته يكون أجره ومثوبته.

يقول صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء".

وهكذا يكون العمل الأفضل ما كان أكثر نفعا للآخرين.

وجاء في الحديث: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا".

وهكذا كان كل عمل يتعلق بإصلاح المجتمع ونفعه أفضل من العمل المقصور النفع على صاحبه. وفي هذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".

ويروى: "لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"!!

ومن هنا جاء فضل عمل الإمام العادل على عبادة غيره عشرات السنين، لأنه في اليوم الواحد، قد يصدر من القرارات ما ينصف آلاف المظلومين أو ملايينهم، ويرد الحق الضائع إلى أهله، ويعيد البسمة إلى شفاه حرمت منها. وقد يصدر من العقوبات ما يقطع سبيل المجرمين، ويستأصل شأفتهم، أو يفتح لهم باب الهداية والتوبة.

وقد يهيئ للناس من الأسباب، ويفتح لهم من الأبواب: ما يرد الشاردين إلى الله، ويهدي الضالين إلى طريقه، ويعين المنحرفين على الاستقامة.

وقد يقيم من المشروعات البناءة والنافعة ما يساعد على إيجاد عمل لكل عاطل، وخبز لكل جائع، ودواء لكل مريض، وبيت لكل مشرد، وكفاية لكل محتاج.

وهذا ما جعل كثيرا من علماء السلف يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا.

ومن هنا روى الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة".

وخالفه الهيثمي في ذلك، ولكن يؤيده حديث الترمذي عن أبي سعيد: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل"، وقال الترمذي: حسن غريب.

كما يقويه حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".

وحديث في الصحيحين: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل.." الحديث.

أولوية العمل الأطول نفعا والأبقى أثرا

وإذا كان امتداد النفع واتساع دائرته مكانا، مطلوبا ومفضلا عند الله ورسوله، فكذلك امتداده وبقاؤه زمانا، فكما كان النفع به أطول زمنا، كان أفضل وأحب إلى الله.

ومن أجل ذلك فضلت الصدقة بما يطول النفع به، مثل منيحة العنز، أو طروقة الفحل (الناقة التي يطرقها الفحل)، ونحوها، مما يمكن أن تدر على المتصدق عليه من لبنها له ولعياله، ما ينفعه الله به سنين عددا.

والمثل الصيني يقول: بدل أن تهدي إلى الفقير أكلة من السمك، اهد له شبكة يصطاد به السمك.

وفي الحديث: "أفضل الصدقات: ظل فسطاط (أي خيمة) في سبيل الله عز وجل، أو منيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله".

"أربعون خصلة، أعلاهن منحة العنز، لا يعمل عبد بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله تعالى بها الجنة".

ومن هنا كان فضل "الصدقة الجارية" التي يستمر نفعها وأثرها بعد وفاة المتصدق بها، مثل الأوقاف الخيرية، التي عرفها المسلمون منذ عصر النبوة، وتميزت الحضارة الإسلامية بسعتها وكثرتها وتنوعها، حتى استوعبت كل جوانب البر، ونواحي الخير، مما شمل كل ذوي الحاجة من بني الإنسان، بل امتد خيرها إلى الحيوان.

وقد جاء في الحديث الصحيح: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

وأورد حديث آخر نماذج وأمثلة لهذه الصدقة الجارية، فعد منها سبعا، وذلك في قوله: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته".

وإذا كان عمر الإنسان قصيرا ومحدودا، فمن فضل الله عليه أن أتاح له الفرصة ليطيل من عمره، ببعض الأعمال التي يطول أمدها، ويستمر أثرها، فيحيا وهو ميت، ويبقى بصالح عمله، وربما لم يبق من جسده شيء. ولله در شوقي حين قال:

دقات قلب المرء قائلة له*** إن الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها*** فالذكر للإنسان عمر ثان

أولوية العمل في زمن الفتن

ومن الأولويات المطلوبة: أن يكون العمل في أزمان الفتن والمحن والشدائد التي تحيق بالأمة، فالعمل الصالح هنا دليل القوة في الدين، والصلابة في اليقين، والثبات على الحق. كما أن الحاجة إلى صالح العمل في هذا الزمن أشد من الحاجة إليه في سائر الأزمان.

ففي الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

وقوله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله".

"أفضل الشهداء: الذين يقاتلون في الصف الأول، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون (أي يتمرغون) في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه".

ومن أجل هذا كان فضل الثابت على دينه، في أزمان الفتن، وأيام المحن، حتى جعل بعض الأحاديث المستمسك بدينه في أيام الصبر، له أجر خمسين من بعض الصحابة.

فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم عن أبى أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني قال: قلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: (عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا). قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، زاد أبو داود والترمذي: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم".

والخطاب في الحديث لا يشمل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ومن أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وأمثالهم، فهؤلاء لا يطمع أحد بعدهم في بلوغ منزلتهم، ولكنه يستثير همم العاملين للإسلام اليوم في أجواء الفتن المتلاحقة، بما وعدهم الله على لسان رسوله من الأجر المضاعف: أجر خمسين في عصور النصر والازدهار. وقد تحقق ما نبأ به الرسول الكريم، فأصبح العامل لدينه، الصابر عليه، كالقابض على الجمر، فهو يضطهد في الداخل، ويحارب من الخارج، وتجتمع كل قوى الكفر على عداوته والكيد له، وإن اختلفت فيما بينها، والله من ورائهم محيط، ويستجيب عملاء الحكام وضعفاؤهم لكيد الأعداء في ضرب العاملين للإسلام، وتضييق الخناق عليهم، والتنكيل بهم، وتشريدهم كل مشرد، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عبادة في الهرج كهجرة إلي".

"الهرج" هو: الاختلاف والفتن، وقد فسر في بعض الأحاديث بالقتل، لأن الفتن والاختلاف من أسبابه، فأقيم المسبب مقام السبب.

أولوية عمل القلب على عمل الجوارح

ومن مرجحات العمل في ميزان الدين: أن يكون من أعمال القلوب الباطنة، فإنها مفضلة على أعمال الجوارح الظاهرة.

أولا: لأن الأعمال الظاهرة نفسها لا تقبل عند الله تعالى ما لم يصحبها عمل باطن هو أساس القبول، وهو النية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية ـ أو بالنيات".

والمراد بالنية: النية المجردة عن الرغبات الذاتية والدنيوية، الخالصة لله تعالى، فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه. كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغى به وجهه".

وفي الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى قال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه"، وفي لفظ: "فهو للذي أشرك وأنا منه برئ".

وثانيا: لأن القلب هو حقيقة الإنسان، ومدار صلاحه أو فساده عليه. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القلب هو موضع نظر الله تعالى، وعمله هو المعتبر، وذلك في قوله: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

والمراد: نظر القبول والرعاية.

وبين القرآن الكريم: أن النجاة في الآخرة، والفوز بالجنة، إنما تتم لمن سلم قلبه من الشرك والنفاق والأمراض المهلكات، وأناب قلبه إلى الله عز وجل. يقول تعالى على لسان نبيه الخليل إبراهيم: (ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم).

وقال تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).

وتقوى الله تعالى ـ التي هي وصية الله للأولين والآخرين، وهي أساس الفضائل والخيرات والمكاسب في الدنيا والآخرة ـ هي في حقيقتها ولبها أمر قلبي، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث له: "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره. ثلاثا، أي كرر الكلمة ثلاث مرات مع الإشارة الحسية بيده إلى صدره ليثبتها في العقول والأنفس.

وإلى ذلك أشار القرآن بإضافة التقوى إلى القلوب في قوله: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).

وكل الأخلاق والفضائل والمقامات الربانية التي عنى بها رجال السلوك، وأهل التصوف، ودعاة التربية الروحية: جميعها أمور تتعلق بالقلوب: من الزهد في الدنيا، وإيثار الآخرة، والإخلاص لله، ومحبة الله تعالى ومحبة رسوله، والتوكل على الله، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، والمراقبة له سبحانه، والمحاسبة للنفس، ونحوها. وهي إنما تمثل جوهر الدين وروحه، ومن لم يكن له حظ منها، فقد خسر نفسه، وخسر دينه.

وليس له منها نصيب ولا سهم!**على نفسه فليبك من ضاع عمره


يروي أنس عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار".

"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".

وعن أنس أيضا: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله! قال: "أنت مع من أحببت".

وأكد هذا حديث أبى موسى: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم؟ قال: "المرء مع من أحب".

فدلت هذه الأحاديث على أن حب الله تعالى وحب رسوله وحب عباده الصالحين من أعظم القربات إلى الله تعالى، وإن لم يكن معها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة.

وما ذاك إلا لأن هذا الحب النقي عمل من أعمال القلوب، التي لها منزلتها عند الله عز وجل.

ولأجل هذا المعنى كان بعض الأكابر يقول:

أحب الصالحين ولست منهم***عساني أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي***وإن كنا سواء في البضاعة


فالحب لله، والبغض لله من كمال الإيمان، وهما من أعمال القلوب.

وفي الحديث: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".

"أوثق عرا الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل".

ولهذا نعجب من تركيز بعض المتدينين عامة، والدعاة خاصة، على بعض الأعمال والآداب التي تتعلق بالظاهر أكثر من الباطن، وبالشكل أكثر من الجوهر، مثل تقصير الثوب، وإحفاء الشارب، وإعفاء اللحى، وصورة حجاب المرأة، وعدد درجات المنبر، وطريقة وضع اليدين أو القدمين أثناء القيام في الصلاة، إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بالصورة والشكل أكثر مما تتعلق بالجوهر والروح، فهذه ـ مهما يكن وضعها ـ لا تأخذ الأولوية في الدين.

ولقد لاحظت ـ للأسف الشديد ـ أن كثيرا ممن يدققون في تلك الأمور الظاهرة وأمثالها ـ ولا أقول: كلهم ـ يغفلون هذا التدقيق، ولا يكترثون به في أمور أشد خطرا، وأعمق أثرا، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الأمانات، ورعاية الحقوق، وإتقان العمل، وإعطاء كل ذي حق حقه، والرحمة بخلق الله، ولا سيما الضعفاء منهم، والتورع عن المحرمات اليقينية، إلى غير ذلك مما وصف الله به المؤمنين في كتابه، مثل أوائل سورة الأنفال، وأول سورة المؤمنين، وأواخر سورة الفرقان، وغيرها.

ولقد أعجبتني كلمة قالها الأخ الداعية الموفق الدكتور "حسان حتحوت" في أمريكا ينكر على بعض الأخوة المتحمسين، المشددين على أنفسهم وعلى الناس في أمور مثل اللحم الحلال المذبوح بطريقة شرعية قطعية، وتحريهم أشد التحري في ذلك، وتفتيشهم عن احتمال أن يكون في الطعام أثر من لحم الخنزير أو دهنه، ولو كان واحدا في المائة أو في الألف، وهو لا يبالي أن يأكل لحم إخوانه ميتا في اليوم عدة مرات، حتى إنه يتصيد لهم الشبهات، أو يختلق لهم التهم، أو يصدقها ويشيعها إن لم يكن هو مختلقها.

اختلاف الأفضل باختلاف الزمان والمكان​

أفضل الأعمال الدنيوية

وهنا نقطة ينبغي توضيحها، وهي: أن الأولوية والأفضلية في كثير من الأمور لا تكون أولوية مطلقة في الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإن تفاوتت.

بل الغالب أنها تتفاوت بتفاوت المؤثرات الزمانية والبيئية والشخصية، ولهذا أمثلة كثيرة.

أفضل الأعمال الدنيوية

فقد اختلف علماؤنا: أي هذه الأعمال أفضل وأكثر مثوبة عند الله: الزراعة أم الصناعة أم التجارة؟

والذي دعاهم إلى هذا الاختلاف ما ورد من أحاديث في فضل كل منها.

ففي فضل الزراعة جاء حديث: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".

وفي فضل الصناعة جاء حديث: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده".

وفي فضل التجارة جاء حديث: "التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء".

من أجل هذه الأحاديث وأمثالها وجد من العلماء من فضل واحدة من هذه الثلاث على سواها. ولكن المحققين من العلماء قالوا: لا نفضل واحدة منهن بإطلاق، بل التفضيل يكون بحسب حاجة المجتمع إليها.

فحيث تقل الأقوات، ويكون المجتمع في حاجة إلى غذائه اليومي الذي لا عيش له إلا به، تكون الزراعة أفضل من غيرها، لحماية الأمة من الجوع، الذي هو بئس الضجيع، وتوفير الأمن الغذائي لها، وخصوصا إذا كان في الزراعة بعض المشقة والصعوبة، فالصبر عليها يكون من أفضل الأعمال.

وحيث تكثر الأقوات، وتتسع دائرة الزراعة، ويحتاج الناس إلى الصناعات المختلفة، للاستغناء عن الاستيراد من غير المسلمين من ناحية، ولتشغيل الأيدي العاملة من ناحية أخرى، ولحماية حرمات الأمة وحدودها ـ بالنسبة للصناعات الحربية ـ من ناحية ثالثة. ولتفادي نقص الكفاية الإنتاجية للأمة، من ناحية رابعة، هنا تكون الصناعة أفضل.

وحين تتوافر الزراعة والصناعة، ويحتاج الناس إلى من ينقل ما تنتجه هذه وتلك من البلاد إلى آخر، فهو وسيط جيد بين المنتج والمستهلك. وكذلك عندما يسيطر على السوق التجار الجشعون المحتكرون والمستغلون لحاجات جماهير الخلق، والمتلاعبون بأسعار السلع، فهنا تكون التجارة أفضل، وخصوصا إذا كان من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

وأحوج ما تحتاج إليه أمتنا في عصرنا، هو التكنولوجيا المتطورة، أن تدخل الأمة هذا العصر، وهي مسلحة بعلمه، غير غائبة ولا متخلفة، فلا تستطيع الأمة أن تنهض برسالة الإسلام الذي أكرمها الله به، وأتم عليها به النعمة، وأن تحمل دعوته إلى العالمين، وهي عالة على غيرها في أدوات العصر، وأسلحة العصر.

ولابد أن تطور مناهجها ونظمها التعليمية بما يحقق هذه الغاية، ويعيد إليها مكانتها العالمية، يوم كانت لها حضارة متميزة، عميقة الجذور، باسقة الفروع، وأن تستشرف المستقبل، وتنظر إليه من خلال ما يطلبه منها الإسلام، وما ينشده أهله، وما يتطلع إليه العالم من المعرفة به عقيدة ونظاما وحضارة.

إن تحصيل هذه التكنولوجيا المتقدمة والتفوق فيها، وفي العلوم الموصلة إليها، أصبح فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع. وهي في مقدمة الأولويات للأمة اليوم.


أفضل العبادات

ومثل ذلك يقال بالنسبة لأفضل العبادات بالنسبة للفرد.

فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا بعيدا، وتعددت أقوالهم وتباينت.

والقول المرجح عندي ما ذكره الإمام ابن القيم، وهو أن ذلك يختلف من شخص إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن حال إلى آخر.

يقول الإمام ابن القيم في "المدارج":

"ثم أهل مقام "إياك نعبد" لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف:

الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها.

قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد.

قالوا: والأجر على قدر المشقة. ورووا حديثا لا أصل له: "أفضل الأعمال أحمزها" أي أصعبها وأشقها.

وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.

قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك. إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض. فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.

الصنف الثاني، قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها. ثم هؤلاء قسمان:

فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه، ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.

وخواصهم: رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله، وجمع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته. فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.

ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على الله. فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه.

وربما يقول قائلهم:

يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟

ثم هؤلاء أيضا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته. ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل، وتعلم العلم النافع لجمعيته.

وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا، فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟

فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي الله، ثم عد إلى موضعك. وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي حق الرب. ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل "إياك نعبد".

الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر. فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم حيلة" رواه أبو يعلى.

واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفاع متعد إلى الغير. وأين أحدهما من الآخر؟

قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.

قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"، وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة في جحرها".

واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم. لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب. ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس. ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.

الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار. بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.

والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب. وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.

والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.

والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.

والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع. وإن بعد كان أفضل.

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.

والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.

والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.

والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.

والأفضل خلطتهم في الخير. فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق. والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد. وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات. بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه. فهذا هو المتحقق (إياك نعبد وإياك نستعين) حقا، القائم بهما صدقا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع. وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس. بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها. فواها له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان".
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب السابع: الأولويات في مجال المأمورات

أولوية الأصول على الفروع

أول ما ينبغي الاهتمام به في مجال المأمورات الشرعية، هو: تقديم الأصول على الفروع.

ونعني بتقديم الأصول: تقديم ما يتصل بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي أركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم.

يقول تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين).

وقال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).

وقال تعالى: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا).

وإنما لم تذكر الآيات الإيمان بالقدر ضمن أصول العقيدة، لأنه داخل في مضمون الإيمان بالله تعالى. فالإيمان بالقدر إيمان بمقتضى الكمال الإلهي، وشمول علمه، وعموم إرادته، ونفوذ قدرته.

والعقيدة هي الأصل، والتشريع فرع عنه.

والإيمان هو الأصل، والعمل فرع عنه.

ولا نريد أن ندخل في جدل المتكلمين حول علاقة العمل بالإيمان: أهو جزء منه أم ثمرة له؟ أهو شرط لتحققه أم دليل كماله؟

فالإيمان الحق لابد أن يثمر عملا، وعلى قدر تمكن الإيمان ورسوخه تكون الأعمال، من فعل المأمور، أو اجتناب المحظور.

والعلم الذي لم يؤسس على إيمان صحيح لا وزن له عند الله، وهو كما صوره القرآن: (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب).

لهذا كان الأمر الأحق بالتقديم والأولى بالعناية من غيره، هو تصحيح العقيدة، وتجريد التوحيد، ومطاردة الشرك والخرافة، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، وحتى تغدو كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" حقيقة في النفس، ونورا في الحياة، يبدد ظلمات الفكر، وظلمات السلوك.

يقول المحقق ابن القيم:

"اعلم أن أشعة: "لا إله إلا الله" تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور. وتفاوت أهلها في ذلك ـ قوة وضعفا ـ لا يحصيه إلا الله تعالى".

فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.

ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري.

ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.

وآخر: كالسراج المضيء. وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته. حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة، ولا ذنبا، إلا أحرقه. وهذا حال الصادق في توحيده. الذي لم يشرك بالله شيئا.

ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله"، وقوله: "لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله"، ما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي، واستقرار الشرع. وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار. وأول بعضهم الدخول بالخلود. وقال: المعنى لا يدخلها خالدا. ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة.

والشارع ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط. فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام. فلابد من قول القلب، وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن من معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته ـ من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب ـ علما ومعرفة ويقيا وحالا ـ ما يوجب تحريم قائلها على النار.

نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا مع ذلك ثوابها، حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض. والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض".

أولوية الفرائض على السنن والنوافل

ومن المعلوم ـ في مجال الفروع ـ أن الأعمال تتفاوت في رتبة طلبها من جهة الشرع تفاوتا بينا.

فمنها: المأمور به على جهة الندب والاستحباب.

ومنها: المأمور به على جهة الفرض والإيجاب.

ومنها: ما هو بين بين (ما كان فوق المستحب ودون الفرض، ويسميه بعض الفقهاء: الواجب).

ومن الواجب المفروض: ما هو مفروض على الكفاية، والمراد به: ما إذا قام به فرد أو عدد كاف سقط الإثم عن الباقين.

ومنه ما هو فرض عين، وهو ما يتوجه فيه الخطاب إلى كل مكلف مستوف لشروطه.

وفروض الأعيان نفسها تتفاوت، فمنها ما نسميه: "الفرائض الركنية" التي عدت من أركان الإسلام، مثل الشعائر العبادية الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج. ومنها ما ليس كذلك.

قال العلامة ابن رجب في شرح حديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها..":

"وقد اختلف العلماء: هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا؟ فمنهم من قال: هما سواء، وكل واجب بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع، فهو فرض، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي وغيرهم، وحكى رواية عن أحمد، لأنه قال: كل ما في الصلاة فهو فرض.

ومنهم من قال: بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به، والواجب ما ثبت بغير مقطوع به، وهو قول الحنفية وغيرهم.

وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال: لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى، وقال في صدقة الفطر: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض، مع أنه يقول بوجوبها، فمن أصحابنا من قال: مراده أن الفرض: ما ثبت بالكتاب، والواجب: ما ثبت بالسنة، ومنهم من قال: أراد أن الفرض: ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر، والواجب: ما ثبت من جهة الاجتهاد، وساغ الخلاف في وجوبه".

التساهل في السنن والمستحبات

وفقه الأولويات يقتضي أن نقدم الأوجب على الواجب، والواجب على المستحب، وأن نتساهل في السنن والمستحبات ما لا نتساهل في الفرائض والواجبات، وأن نؤكد أمر الفرائض الأساسية أكثر من غيرها، وبخاصة الصلاة والزكاة، الفريضتان الأساسيتان، اللتان قرن بينهما القرآن في ثمانية وعشرين موضعا. وجاءت عدة أحاديث صحيحة في ذلك، منها:

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان".

وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة" قال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع" قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تطوع"، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" (متفق عليه).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق".

وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصل الرحم".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".

فدل هذا الحديث وحديث طلحة قبله: أن هذه الفرائض هي الأساس العملي للدين، وأن من أداها كاملة، ولم ينقص منها شيئا، فقد فتح أمامه باب الجنة، وإن قصر فيما وراءها من السنن، وكان المنهج النبوي في التعليم: التركيز على الأركان والأساسيات، لا على الجزئيات والتفصيلات التي لا تتناهى.

خطأ الاشتغال بالسنن عن الفرائض

ومن الخطأ إذن اشتغال الناس بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض.

فنرى من المنتسبين إلى الدين من يقوم الليل، ثم يذهب إلى عمله الذي يتقاضى عليه أجرا متعبا كليل القوة، فلا يقوم بواجبه كما ينبغي. ولو علم أن إحسان العمل فريضة: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وأن التفريط فيه خيانة للأمانة، وأكل للمال ـ آخر الشهر ـ بالباطل، لوفر على نفسه قيام ليله، لأنه ليس أكثر من نفل، لم يلزمه الله به ولا رسوله.

ومثله من يصوم الاثنين والخميس، فيجهده الصيام، وخصوصا في أيام الصيف، فيمضي إلى عمله مكدودا مهدودا، وكثيرا ما يؤخر مصالح الناس بتأثير الصوم عليه. والصوم نفل غير واجب ولا لازم. وإنجاز مصالح الخلق واجب ولازم.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها شاهدا ـ حاضر غير مسافر ـ إلا بإذنه، لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.

ومثل ذلك حج التطوع، وعمرة التطوع، فمن المتدينين من يحج الحجة الخامسة أو العاشرة أو العشرين وربما الأربعين. ويعتمر كل عام في شهر رمضان، وينفق ألوف الجنيهات أو الدنانير أو الريالات، وهناك مسلمون يموتون من الجوع ـ حقيقة لا مجازا ـ في بعض الأقطار كالصومال، وآخرون يتعرضون للإبادة الجماعية، والتصفية الجسدية، كما رأينا في البوسنة والهرسك وفلسطين وكشمير وغيرها ـ وهم في حاجة إلى أي معونة من إخوانهم، لإطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، وإيواء المشرد، وكفالة اليتيم، ورعاية الشيخ والأرملة والمعوق، أو لشراء السلاح الضروري للدفاع عن النفس.

وآخرون يتعرضون للغزو التنصيري، ولا يجدون مدرسة للتعليم، ولا مسجدا للصلاة، ولا دارا للرعاية، ولا مستوصفا للعلاج، ولا مركزا للدعوة، ولا كتابا للقراءة .. على حين نجد سبعين في المائة من الحجاج كل عام ممن حجوا قبل ذلك، أي يحجون تطوعا، ينفقون مئات الملايين طيبة بها أنفسهم!!

ولو فقهوا دينهم، وعرفوا شيئا من فقه الأولويات، لقدموا إنقاذ إخوانهم المسلمين على استمتاعهم الروحي بالحج والعمرة، ولو تدبروا لعلموا أن الاستمتاع بإنقاذ المسلمين أعمق وأعظم من استمتاع عارض قد يشوبه بعض التظاهر أو الرياء، وصاحبه لا يشعر.

كلمات منيرة للإمام الراغب

لقد قرر فقهاء الإسلام: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.

وذكر الإمام الراغب في المقارنة بين فرائض العبادات، ونوافل المكارم فقال، وأحسن فيما قال: "واعلم أن العبادة أعم من المكرمة، فإن كل مكرمة عبادة، وليس كل عبادة مكرمة، ومن الفرق بينهما أن للعبادات فرائض معلومة، وحدودا مرسومة، وتاركها يصير ظالما متعديا، والمكارم بخلافها. ولن يستكمل الإنسان مكارم الشرع ما لم يقم بوظائف العبادات، فتحرى العبادات من باب العدل، وتحرى المكارم من باب الفضل والنفل، ولا يقبل تنفل من أهمل الفرض، ولا تفضل من ترك العدل، بل لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب. وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته، ولهذا قيل: لا يستطيع الوصول من ضيع الأصول.

فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).

أولوية فرض العين على فرض الكفاية

وكما أن الفرائض مقدمة في الرتبة على النوافل، بلا نزاع. فالفرائض في نفسها متفاوتة.

فمن المؤكد أن فرض العين مقدم على فرض الكفاية. وذلك لأن فرض الكفاية قد يوجد من يقوم به، فيسقط الإثم والحرج عن الآخرين، أما فرض العين فلا بديل له، ولا يقوم أحد مقام من تعين عليه.

وقد دلت الأحاديث النبوية على تقديم فرض العين على فرض الكفاية.

وأظهر مثال لذلك: ما جاء في شأن بر الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية، وهو جهاد الطلب لا جهاد الدفاع. وجهاد الطلب: أن يكون العدو في أرضه، ونحن الذين نطلبه، من باب الحرب الوقائية، ومبادرته بالهجوم إذا ظهرت منه بوادر التربص بنا والطمع فينا. فهنا يغني البعض عن الكل، إلا إذا طلب الإمام النفير من الجميع.

في جهاد الطلب يكون بر الوالدين والقيام على خدمتهما أوجب من الانضمام إلى الجيش المقاتل. وهذا ما نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك"؟ قال: نعم، قال: "فيهما فجاهد".

وفي رواية لمسلم قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: "فهل من والديك أحد حي"؟ قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: "فتبتغي الأجر من الله"؟ قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما".

وعنه أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أوي يبكيان، فقال: "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما".

وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: "هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: "قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد".

وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها، فإن الجنة عند رجلها".

ورواه الطبراني بإسناد جيد، ولفظه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك والدان"؟ قلت: نعم، قال: "الزمهما، فإن الجنة تحت أرجلهما".

فروض الكفاية تتفاوت

وأحب أن أوضح هنا: أن فروض الكفاية تتفاوت أيضا.

فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض.

وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كاف، أو لم يقم بها أحد قط.

ففي زمن الإمام الغزالي عاب على أهل عصره أنهم تكدسوا في طلب الفقه، وطلب فرض كفاية، على حين تخلفوا عن ثغرة في واجب كفائي آخر، مثل علم الطب، حتى إن البلدة يوجد بها خمسون متفقها، ولا يوجد بها إلا طبيب من أهل الذمة، مع ضرورة الطب الدنيوية، ومع أن للطب مدخلا في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية.

ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به بعض، ولو لم يسد كل الحاجة، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كاف يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كاف، وربما زائد عن الحاجة.

وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرو من الناس، لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه.

كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده الذي تعلم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.

ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة، يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره.

ومثل ذلك إذا كان ذا خبرة عسكرية معينة، وجيش المسلمين يحتاج إليها، ولا يسد غيره مسده، فيجب عليه أن يقدم نفسه لأداء هذه الخدمة.

أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد

وإذا كان فرض العين مقدما على فرض الكفاية، فإن فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضا. ولذا رأينا الشرع يؤكد في كثير من أحكامه تعظيم ما يتعلق بحقوق العباد.

ففرض العين، المتعلق بحق الله تعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة.

ولهذا إذا كان الحج مثلا واجبا، وأداء الدين واجبا، فإن أداء الدين مقدم. فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه. إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلا، وهو واثق من قدرته على الوفاء به.

ولأهمية حقوق العباد هنا ـ وبخاصة الحقوق المالية ـ صح الحديث أن الشهادة في سبيل الله ـ وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه ـ لا تسقط عنه الدين.

ففي الصحيح: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين".

وفيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت"؟ فأعاد الرجل سؤاله، وأعاد الرسول الكريم جوابه وزاد عليه: "إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".

وأعجب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين؟! والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى دينه".

ومثل هذا من غل من الغنيمة، وهو في سبيل الله، أي في الجهاد (أي أخذ من الغنيمة لنفسه وهي من حق الجيش كله) فإن مد يده إلى مال الغنيمة قبل أن يقسم، ولو كان شيئا تافها، يحرمه فضل الجهاد، وأجر المجاهد، وإذا قتل يحرمه شرف الشهادة، وأجر الشهيد.

كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثقل: الغنيمة) رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار"، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها.

وتوفى رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صلوا على صاحبكم"، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" (أي وهو في الجهاد) ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين.

من أجل درهمين أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قل أو كثر.

وعن ابن عباس قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار، في بردة غلها ـ أو في عباءة غلهاـ "، ثم قال: "يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".

علام تدل هذه الأحاديث؟ إنها تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصا أم عاما، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافها، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد

ومما يذكر هنا أيضا في فقه الأولويات: أن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد. فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهو مدني بطبعه، كما قال القدماء، أو هو حيوان اجتماعي كما قال المحدثون. فالمرء قليل بنفسه، كثير بجماعته، بل هو عدم نفسه، موجود بجماعته.

ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة أوكد من الواجب المتعلق بحق الفرد.

ولهذا قرر العلماء في التعارض بين الجهاد ـ إذا كان فرض كفاية ـ وبين بر الوالدين، أن بر الوالدين مقدم، كما ثبت من الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها. ولكن إذا كان الجهاد فرض عين، كما إذا غزا الأعداء الكفار بلدا من بلاد الإسلام، ففرض على أهله كافة أن يهبوا للدفاع عن بلدهم. فإذا عارض بعض الآباء أو الأمهات ـ بمقتضى عواطفهم ـ في اشتراك أبنائهم في هذا الجهاد الدفاعي، فلا عبرة بمعارضتهم شرعا.

صحيح أن برهما وطاعتهما فرض عين، كما أن الجهاد هنا فرض عين، ولكن فرض الجهاد هنا، لحماية الأمة كلها، ومنها الوالدان، فلو سقط البلد، أو هلك أهله، لهلك الأبوان فيمن هلك. فالجهاد هنا لمصلحة الجميع.

وقد يعبر عن ذلك بأن الجهاد هنا حق الله، والبر حق الوالدين، وحق الله تعالى مقدم على حق خلقه.

وهذا تأكيد للمقولة السابقة، فكثيرا ما تكون كلمة "حق الله" تعبيرا عن حق الجماعة أو الأمة، إذ أن الله تعالى لا تعود عليه مصلحة من وراء هذه الأحكام، فإنما هي أولا وأخيرا لمصلحة عباده.

وتطبيقا لهذه القاعدة: تقديم حق الأمة على حق الفرد، أجاز الإمام الغزالي وغيره رمي المسلمين إذا تترس العدو بهم (أي احتمى بهم وجعلهم ترسا له في مقدمة جيشه) بشروط معينة، مع أن من المقرر الذي لا نزاع فيه: أن حقن دماء المسلمين واجب، وأنه لا يجوز سفك دم من مسلم بغير حق. فكيف استجاز مثل الغزالي رمي هؤلاء المسلمين البرآء في جيش العدو الكافر؟

إنما استجاز ذلك وكل من وافقه، صيانة للجماعة، وحفظا للأمة من الهلاك، فإن الفرد يمكن أن يعوض. أما الأمة فلا عوض عنها.

يقول الفقهاء: لو أن الأعداء تترسوا ببعض المسلمين، كأن كانوا أسرى عندهم أو نحو ذلك، وجعلوهم في مواجهة الجيش المسلم، ليتقوا به، وكان في ترك هؤلاء الغزاة خطر على الأمة الإسلامية جاز قتالهم، وإن قتلوا المسلمين الذين معهم، مع أنهم معصومو الدم لا ذنب لهم، ولكن ضرورة الدفاع عن الأمة كلها اقتضت التضحية بهؤلاء الأفراد خشية استئصال الإسلام واستعلاء الكفر، وأجر هؤلاء الأفراد على الله.

ولهذا، رد الإمام الغزالي اعتراض من يقول في هذه الصورة: هذا سفك دم معصوم محرم، بأنه معارض، لأن في الكف عنه إحلال دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع.

وهذا ـ كما رأينا ـ مبني على فقه الموازنات.

ومثل ذلك إذا اقتضت ظروف الحرب فرض ضرائب على القادرين وأهل اليسار لتمويل الجهاد، وإمداد الجيوش، وإعداد الحصون، ونحو ذلك من احتياجات الحرب، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة. واستدل الغزالي لذلك بقوله: "لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي المكلفين بالضرائب الإضافية) قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام (أي بلاده) عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور".

ومثل ذلك فك أسرى المسلمين، وتخليصهم من ذل أسر الكفار، مهما كلف ذلك من الأموال. قال الإمام مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.

هذا، لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد.

أولوية الولاء للجماعة والأمة على القبيلة والفرد

ومما يؤكد هذا المعنى: ما جاء به القرآن، وأكدته السنة من تقديم الولاء للجماعة، والشعور بمعنى الأمة، على الولاء للقبيلة والعشيرة، فلا فردية، ولا عصبية، ولا شرود عن الجماعة.

كانت القبيلة في المجتمع الجاهلي هي أساس الانتماء، ومحور الولاء. وكان ولاء الرجل لقبيلته في الحق وفي الباطل، يعبر عن ذلك قول الشاعر:

لا يسألون أخاهم حين ندبهم ***في النائبات على ما قال برهانا


وكان شعار كل منهم: "انصر أخاك، ظالما أو مظلوما"! على ظاهر معناها.

فلما جاء الإسلام جعل الولاء لله ولرسوله، ولجماعة المؤمنين، أعني أمة الإسلام. وقال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).

ورباهم القرآن والسنة على القيام لله شهداء بالقسط، لا يمنعهم من ذلك عاطفة الحب لقريب، ولا عاطفة البغض لعدو، فالعدل يجب أن يكون فوق العواطف، وأن يكون لله، فلا يحابي من يحب، ولا يحيف على من يكره.

يقول تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله).

واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عبارات الجاهلية، وأعطاها مفهوما جديدا، لم يكن لهم به عهد قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره".

وبهذا عدل مفهوم النصرة للظالم فأصبح نصره المطلوب أن ينصره على هوى نفسه، وإغواء شيطانه، ويأخذ على يديه، حتى لا يسقط في هوة الظلم، وهو وبال في الدنيا، وظلمات يوم القيامة.

كما حذر عليه الصلاة والسلام من الدعوة للعصبية، أو القتال تحت رايتها، فمن قتل تحت فقتلته جاهلية.

جاء في الصحيح عند عليه الصلاة والسلام: "من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، وينصر عصبية، فقتلته جاهلية".

والعمية ـ بضم العين ـ هو الأمر الأعمى لا يتبين وجهه.

وفي حديث آخر: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتله جاهلية".

وفي حديث رواه أبو داود: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".

وعن واثلة بن الأسقع، قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: "أن تعين قومك على الظلم".

وروى ابن مسعود موقوفا ومرفوعا: "من نصر قومه على غير الحق، فهو كالبعير الذي ردى، فهو ينزع بذنبه".

قال الإمام الخطابي: معناه: أنه قد وقع في الإثم وهلك، كالبعير إذا تردى في بئر، فصار ينزع ذنبه، ولا يقدر على خلاصه.

وكما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم "العصبية" وبرئ منها، وممن دعا إليها، أو قاتل عليها، أو مات عليها: دعا إلى "الجماعة" وأكد أمرها، بقوله وفعله وتقريره، وحذر من الفرقة والخلاف والانفراد والشذوذ. من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:

"يد الله على الجماعة".

"الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".

وفي لفظ آخر: "الجماعة بركة والفرقة عذاب".

"عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".

غرس روح الجماعة في أفراد الأمة

ويتبع ما ذكرناه من غرس الولاء للجماعة المسلمة، والأمة المسلمة، إبراز العناية بكل ما يتعلق بأمر المجتمع والأمة، وإعطاؤه أولوية في سلم المصالح والمطالب.

فالملاحظ أن الشريعة الإسلامية لم تغفل أمر المجتمع في عباداتها ومعاملاتها وآدابها وجميع أحكامها.

إنما هي تعد الفرد ليكون "لبنة" في بنيان المجتمع، أو "عضوا" في بنية جسده الحي.

وتصوير الفرد باللبنة في البناء أو العضو في الجسد، ليس من عندي، إنما هو تصوير نبوي بليغ، جاء به الحديث الصحيح.

فعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".

وعن النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم: كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

إن الإسلام بقرآنه وسنة نبيه: يغرس في نفس المسلم الشعور بالجماعة في كل أحكامه، وفي كل تعاليمه.

ففي الصلاة شرع الجماعة والعيدين والأذان والمساجد، ولم يرخص الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل أعمى يصلي في بيته مادام يسمع النداء للصلاة. وهم أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعة.

وفي المسجد يكره للمسلم أن يصلي وحده خلف الصفوف، لما في ذلك من الظهور بصورة الانفراد والشذوذ عن الجماعة، ولو من جهة المظهر.

وقد روى وابصة بن معبد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة.

وعن علي بن شيبان رضي الله عنه قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلا فردا يصلي خلف الصف قال: فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف، قال: "استقبل صلاتك، ولا صلاة للذي صلى خلف الصف".

فعلى المسلم إذا دخل المسجد ووجد الصفوف مكتملة أن يلتمس فرجة فيدخل فيها، أو يجر واحدا من المصلين ليصلي بجانبه، ولا يصلي منفردا، وعلى الآخر أن يلين في يده، ويستجيب له، وله في ذلك أجر.

وقد أخذ بعض الأئمة بظاهر الحديث فأبطلوا صلاة المنفرد وراء الصف، وقال آخرون بكراهتها.

والمقصود بما ذكرناه هو: إظهار حرص الإسلام عل الوحدة والجماعة مضمونا وشكلا، جوهرا ومظهرا.

على أن المسلم إذا صلى وحده، فإنه يتمثل جماعة المسلمين في ضميره، ويناجي ربه إذا وقف بين يديه باسم الجماعة فيقرأ: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم)، فهو لا يسأل الهداية لنفسه، بل يسألها لنفسه وللجماعة معه: "اهدنا".

وفي الصيام لا يصوم المسلم وحده، ولو رأى هو هلال رمضان، ولا يفطر وحده، وإن رأىبعينه هلال شوال، وإنما الصيام يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس كما صح ذلك في الحديث.

وكذلك الوقوف بعرفة يقف يوم يقف جماعة المسلمين.

وسئل ابن تيمية عن أهل قرية رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند ولي الأمر بالمدينة، هل لهم أن يصوموا اليوم الذي هو التاسع في الظاهر، وإن كان هو العاشر في الواقع حسب رأيهم؟ فكانت إجابته: "نعم، يصومون التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا، ولو قدر ثبوت تلك الرؤية، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس".

وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم. فإن الناس لو وقفوا خطأ بعرفة في العاشر، أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم هو يوم عرفة في حقهم.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب الثامن: الأولويات في مجال المنهيات​

كفر الإلحاد والجحود

وما قلناه من تفاوت بالنظر إلى "جانب المأمورات" ودرجاتها ومستوياتها "من مستحب إلى واجب، إلى فرض كفاية، إلى فرض عين، إلى تفاوت في فروض الأعيان..الخ". نقول مثله بالنظر إلى "جانب المنهيات". فليست المنهيات كلها في مرتبة واحدة، بل هي مراتب متفاوتة غاية التفاوت. أعلاها من غير شك: الكفر بالله تعالى، وأدناها: المكروه تنزيها، أو ما يعبر عنه بـ "خلاف الأولى".
والكفر أيضا درجات بعضها دون بعض.

كفر الإلحاد والجحود

فهناك كفر الإلحاد والجحود، الذي لا يؤمن صاحبه بأن للكون ربا، ولا أن له ملائكة أو كتبا أو رسلا مبشرين ومنذرين، ولا أن هناك آخرة يجزى الناس فيها بما عملوا، خيرا أو شرا. فهؤلاء لا يعترفون بألوهية ولا نبوة ولا رسالة ولا جزاء أخروي، بل هم كما قال القرآن عن أسلاف لهم يقولون: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).

أو كما عبر بعضهم: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا شيء بعد ذلك.

وهذا هو كفر الماديين في كل عصر، وعليه قام الفكر الشيوعي، الذي انهارت قلاعه، والذي كان يقرر دستور دولته الأم: أن لا إله، والحياة مادة.

فالدين عند هؤلاء خرافة، والألوهية أسطورة، وقد اشتهر عندهم ما قاله بعض الفلاسفة الماديين المنكرين: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله!

وهذا هو الضلال البعيد، الذي يرفضه منطق العقل، ومنطق الفطرة، ومنطق العلم، ومنطق الكون، ومنطق التاريخ، فضلا عن منطق الوحي، الذي قامت البراهين القاطعة على ثبوته.

وصدق الله إذ يقول: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) وهذا هو شر أنواع الكفر.

كفر الشرك

ودون هذا الكفر ـ كفر الجحود المطلق ـ كفر الشرك، مثل شرك عرب الجاهلية، فقد كانوا يؤمنون بوجود الإله، وبخالقيته للسموات والأرض والناس، وبتدبيره لأمر الرزق والحياة والموت، ولكنهم ـ مع هذا النوع من الإقرار الذي سمى "توحيد الربوية" ـ أشركوا بالله فيما سمى "توحيد الإلهية"، وعبدوا معه ـ أو من دونه ـ آلهة أخرى، في الأرض أو في السماء.

وفي هذا يقول القرآن: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم).

(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله).

(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون).

فهم يؤمنون به خالقا ورازقا ومدبرا، ولكن يعبدون معه آلهة من الشجر والحجر، والمعدن، أو غيرها، قائلين: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

وهذا الشرك بصوره المختلفة، ومنه شرك وثنيي العرب، وشرك مجوسي الفرس، الذين يقولون بإلهين اثنين: "إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة" ووثنيي الهندوس والبوذيين، وغيرهم ممن لا تزال وثنيتهم تغشى عقولهم أمم كبيرة بمئات الملايين في آسيا وإفريقيا، هو أكثر أنواع الكفر أنصارا وأتباعا.

والشرك هو: مباءة الخرافات، ووكر الأباطيل، وهو انحطاط بالإنسان، حيث يعبد ما هو مسخر له، وما يجب أن يكون في خدمته، فيغدو هو خادما، بل عبدا، مطيعا خاضعا له!

يقول تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

كفر أهل الكتاب

ودون هذا الكفر: كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكفرهم من جهة تكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب الخالد، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل من جهة، ومصححا لها من جهة أخرى، وفي هذا قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).

ومما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم: تصحيح مفاهيمهم عن الألوهية، فقد شابتها في كتبهم ومعتقداتهم شوائب كثيرة، كدرت صفاءها، وأخرجتها عن نقاء التوحيد الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء، فإذا التوراة تحفل بمعاني التجسيم والتشبيه لله الواحد الأحد، حتى لتكاد تحسبه واحدا من البشر المخلوقين، يخاف ويحسد ويغار، ويصارع إنسانا فيصرعه ويغلبه، كما فعل مع إسرائيل إلى آخر ما في أسفار التوراة وملحقاتها.

وكذلك ما دخل على عقيدة النصارى من التثليث، وما دخل من تأثير الوثنية الرومانية على الديانة المسيحية، بعد دخول الملك قسطنطين إمبراطور الروم في النصرانية، فكسبت الدولة، وخسرت دينا. حتى قال بعض علمائنا: إن روما لم تنتصر، ولكن النصرانية ترومت!

على أن اليهود والنصارى، وإن اعتبروا كفارا بسبب تكذيبهم برسالة الإسلام، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لهم وضعا خاصا، بوصفهم "أهل كتاب سماوي"، فهم يؤمنون في الجملة بالألوهية، وبالرسالات السماوية، وبالجزاء في الآخرة، ومن ثم كانوا أقرب إلى المسلمين من غيرهم. فأجاز القرآن مؤاكلتهم ومصاهرتهم: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم… ).

وهذه السورة (المائدة) نفسها هي التي تحدثت عن كفر النصارى لقولهم: (إن الله هو المسيح ابن مريم)، (إن الله ثالث ثلاثة)، فلا مجال لمن يقول: إن نصارى اليوم غير النصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، فالمعروف أن النصرانية قد "تبلورت" وتحددت معالمها العقدية منذ "مؤتمر نيقية" الشهير (سنة 325) من ميلاد المسيح.

وقد عرف الصحابة منذ العهد المكي قرب أهل الكتاب ـ وبخاصة النصارى ـ إليهم، فحزنوا لانهزام الروم البيزنطيين وهم نصارى، أمام الفرس، وهم مجوس، على حين فرح الوثنيون المشركون من أهل مكة بانتصار الفرس، فكل من الفريقين عرف من هو أقرب إليه ومن هو أبعد منه. وقد نزل قرآن يتلى يبشر المسلمين بنصر غير بعيد للروم على الفرس، وذلك في أوائل سورة الروم: (الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله).

وهذا يضع أمام أعيننا قاعدة مهمة للموازنة والترجيح في التعامل مع غير المسلمين، واعتبار أهل الكتاب ـ في الجملة ـ أقرب من الملاحدة والوثنيين، ما لم تكن هناك عوامل خاصة تجعل أهل الكتاب أشد عداوة أو حقدا للمسلمين: كما نرى حديثا عند الصرب وعند اليهود.

ومن المؤكد أن الكفار منهم مسالمون، فلهم منا المسالمة، ومنهم معادون محاربون. فنحن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به. فهناك الذين كفروا فقط، وهناك الذين "كفروا وظلموا"، أو "كفروا وصدوا عن سبيل الله" وكل له حكمه. وقد قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

ومن المقرر: أن أهل الذمة لهم حقوق المواطنة باعتبارهم من أهل "دار الإسلام"، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا في الجملة، إلا ما اقتضاه اختلاف الدين، فلا يفرض عليهم ما يلغي شخصيتهم الدينية كما لا يطلب ذلك من المسلمين.

كفر أهل الردة

ومن المقرر لدى علماء المسلمين: أن شر أنواع الكفر هو: الردة، وهو: أن يخرج المرء من الإسلام بعد أن هداه الله إليه.

فالكفر بعد الإسلام أشد من الكفر الأصلي، وهو ما لا يزال أعداء الإسلام يسعون إليه بكل ما يستطيعون، قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، ثم بين جزاء من يستجيب لهؤلاء المضلين ويتخلى عن دينه ليتبع أهواءهم، فقال: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون).

والردة تعتبر في هذه الحالة خيانة للإسلام ولأمته، لما فيها من تبديل الولاء والانتحاء، والاتجاه من أمة إلى أمة، فهو أشبه بالخيانة للوطن، إذا بدل ولاءه لوطن آخر، وقوم آخرين، فأعطى مودته ونصرته لهم، بدل وطنه وقومه.

فليست الردة إذن مجرد موقف عقلي يتغير، إنما هو تغيير للولاء والعضوية من جماعة إلى أخرى مضادة أو معادية لها.

ولهذا اشتد الإسلام في مقاومة الردة، وخصوصا إذا أعلنت عن نفسها، وأصبح المرتدون دعاة إلى ردتهم، لأنهم يمثلون خطرا على هوية المجتمع، ويهددون أسسه العقدية، ولذلك اعتبر بعض علماء السلف من التابعين وغيرهم دعاة الردة ممن (يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا).

وبين شيخ الإسلام ابن تيمية أن السعي في الأرض بالفساد بنشر الكفر، وإثارة الشبهات على ملة الإسلام: أشد من السعي في الفساد بأخذ الأموال، وسفك الدماء.

وهذا صحيح، فإن ضياع هوية الأمة، وتدمير عقائدها، أشد خطرا عليها من ضياع المال، وتدمير المنازل، وقتل الأفراد.

ولهذا استثار القرآن أهل الإيمان أن يقاوموا الردة بجيل من أهل الإيمان والجهاد، لا يسكتون على الباطل، ولا يخشون في الحق لومة لائم. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).

وهدد القرآن المنافقين إذا أظهروا الكفر بقوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فتربصوا إنا معكم متربصون).

وإنما يصيبهم العذاب بأيدي المسلمين إذا ظهر منهم الكفر الذي أضمروه، فالمسلمون لا يشقون عن قلوبهم، إنما يعاملونهم بما يظهر منهم على ألسنتهم وجوارحهم.

وقد صحت الأحاديث الكثيرة في قتل المرتد عن عدد من الصحابة، وهو قول جمهور الأمة. وقد روى عن عمر ما يدل على جواز سجن المرتد واستبقائه حتى يراجع نفسه، ويتوب إلى ربه. وبه أخذ النخعي والثوري.

وهذا ما أرجحه في شأن الردة الصامتة، أما الردة المجاهرة الداعية، فلا أظن ابن الخطاب أو النخعي أو الثوري يرضى أحد منهم أن يطلق العنان للأفكار الهدامة لعقائدالأمة، دون التصدي لها، والوقوف في وجه دعاتها، وإن كان وراءهم من يسند ظهرهم ويشد أزرهم.

فالواجب أن نفرق بين الردة الخفيفة والردة الغليظة، وأن نميز بين المرتد الصامت والمرتد الداعية إلى ردته، فإنه ممن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وقد فرق العلماء في البدعة بين المخففة والمغلظة، وبين الداعية إلى بدعته وغير الداعية.

كفر النفاق

ومن أغلظ أنواع الكفر وأشدها خطرا على الحياة الإسلامية والوجود الإسلامي: كفر النفاق، لأن أصحابه يعيشون بين ظهراني المسلمين، باعتبارهم منهم، يشاركونهم في أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقامة الشعائر، وهم مع ذلك أعداء لهم في باطن الأمر، يكيدون لهم، ويمكرون بهم، ويوالون أعداءهم. ولهذا عنى القرآن ببيان أخبارهم، وكشف أستارهم، والتعريف بأوصافهم وأخلاقهم، وسميت سورة التوبة: "الفاضحة" لأنها تتبعت أصنافهم، وجلت أوصافهم، كما نزلت فيهم سورة خاصة بهم ـ "المنافقون" ـ وآيات كثيرة كثيرة من كتاب الله عز وجل.

وفي أوائل سورة البقرة تحدثت السورة عن المتقين في ثلاث آيات، أو أربع، وعن الكفار في آيتين. أما المنافقون فقد استغرق الحديث عنهم ثلاث عشرة آية.

لهذا ادخر الله لهم أسفل دركات النار، كما قال سبحانه: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا، إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين).

وفي عصرنا يوجد كثير من المرتدين الذين لا يوقرون الوحي الإلهي، ولا يعتبرون الشريعة مرجعا أعلى يضبط الفكر والسلوك والعلاقات، ويحقرون في قرارة أنفسهم الدين ودعاته وأهله، ولكنهم منافقون، يريدون أن يظلوا يحملون اسم الإسلام، وأن يبقوا في زمرة المسلمين، وهم شر من منافقي عصر النبوة، فقد كان أولئك يقومون إلى الصلاة كسالى، وهؤلاء لا يقومون إليها، لا كسالى ولا نشيطين، وأولئك كانوا لا يذكرون الله إلا قليلا. وهم لا يذكرون الله قليلا ولا كثيرا، وأولئك كانوا مع المسلمين في غزواتهم يجاهدون معهم أعداءهم، وهؤلاء مع أعداء الإسلام يحاربون معهم المسلمين. وأولئك كانوا مع المسلمين في مساجدهم ظاهرا، وهؤلاء مع الكفار في مواقع لهوهم وفجورهم.

ولو أنهم أعلنوا كفرهم بصراحة لتحدد موقفهم، واسترحنا، ولكنهم أمسوا، كما قال الله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).

التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق

ومن المهم هنا جدا: التفريق بين مراتب ما ذكرناه من الكفر والشرك والنفاق. فكل منها فيه أكبر وأصغر، والأكبر هو المراد عند الإطلاق.

ولكن نصوص الشرع قد وردت بإطلاق كلمات الكفر والشرك والنفاق على المعاصي، ولا سيما الكبائر منها، فينبغي أن يعلم ذلك وتعرف مواقعه، حتى لا تختلط علينا الأمور، ونتهم بعض العصاة بالكفر الأكبر (المخرج من الملة) وهم من المسلمين. وحتى لا نعتبر هؤلاء أعداء لنا، ونعلن الحرب عليهم، وهم منا ونحن منهم، وإن كانوا من العاصين لله ولرسوله، فالأمر كما يقول المثل العربي: أنفك منك وإن كان أجدع!

الكفر أكبر وأصغر

فمن المعلوم أن الكفر الأكبر هو: الكفر بالله تعالى، وبرسالاته، كما ذكرنا في كفر الشيوعيين، أو الكفر برسالة محمد، كما في كفر اليهود والنصارى به، فهؤلاء يعتبرون كفارا برسالة محمد في أحكام الدنيا.

أما عقابهم في الآخرة فيتوقف على مدى مشاقتهم للرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، كما قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم، وساءت مصيرا).

فأما من لم يتبين له الهدى بأن لم تبلغه الدعوة أصلا، أو بلغته بلوغا مشوها لا يحمل على النظر والبحث فيها، فهو معذور، وقد قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

وأعتقد أن المسلمين مسؤولون ـ إلى حد كبير ـ عن ضلال أمم الأرض، وجهلهم بحقائق الإسلام، واعتناقهم لأباطيل خصومه، وعليهم أن يبذلوا جهودا أكبر وأصدق في تبليغ رسالتهم، ونشر دعوتهم لدى كل قوم بلسانهم، حتى يبينوا لهم، ويثبتوا عالمية الرسالة المحمدية حقا.

والكفر الأصغر هو المعاصي مهما يكن مقدارها في الدين.

وذلك مثل تارك الصلاة كسلا، لا جحودا لها ولا استهزاء بها، فهذا عند جمهور علماء الأمة عاص أو فاسق لا كافر، وإن أطلق عليه في بعض الأحاديث لفظة الكفر، كما في حديث: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".

وابن حزم ـ على ظاهريته ـ لا يقول بكفر تارك الصلاة. وما روى عن الإمام أحمد من القول بكفره، فإنما يحكم بذلك إذا دعاه إليها الإمام أو القاضي واستتابه، فأبى ولم يستجب.

وقد رجح الإمام ابن قدامة عدم تكفير تارك الصلاة ـ إذا لم يكن جاحدا ولا مستخفا ـ وإن كان يقتل على تركها حدا لا كفرا، وهي رواية أخرى عن أحمد، اختارها أبو عبدالله بن بطة، وأنكر قول من قال: إنه يكفر، وذكر أن لمذاهب على هذا، لم يجد في المذهب خلافا فيه.

قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر الفقهاء، قول أبى حنيفة ومالك والشافعي واستدل بالأحاديث المتفق عليها، التي تحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، والتي تخرج من النار من قالها، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة (حبة قمح)، كما استدل بآثار الصحابة، وبإجماع المسلمين قائلا: "فإنا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها.

قال: ولا نعلم بين المسلمين خلافا في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتدا لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام. وأما الأحاديث المتقدمة (يعني التي ظاهرها كفر تارك الصلاة)، فهي على سبيل التغليظ، والتشبيه به بالكفار، لا على الحقيقة، كقوله عليه السلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"، وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد، وهو أصوب القولين، والله أعلم".

كلام الإمام ابن القيم

وقال الإمام ابن القيم في "المدارج":

"فأما "الكفر" فنوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر.

فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.

والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود. كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "اثنتان في أمتي، هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة"، وقوله في السنن: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد"، وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمد"، وقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).

قال ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن بالله واليوم الآخر" وكذلك قال طاووس.

وقال عطاء: "هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق".

ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له. وهو قول عكرمة. وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم.

ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام. وهذا تأويل عبد العزيز الكناني، وهو أيضا بعيد. إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل. وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.

ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل. حكاه البغوي عن العلماء عموما.

ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب. وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما. وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه.

ومنهم: من جعله كفرا ينقل عن الملة.

والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه ـ مع تيقنه أنه حكم الله ـ فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهو مخطئ، له حكم المخطئين.

والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر. فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة. فالسعي: إما شكر، وإما كفر، وإما ثالث. لا من هذا ولا من هذا، والله أعلم.

الشرك أكبر وأصغر

وكما أن الكفر فيه أكبر وأصغر، فكذلك الشرك فيه أكبر وأصغر.

فالأكبر معروف وهو كما قال ابن القيم: أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين).

وهذا الشرك لا يقبل المغفرة إلا بالتوبة منه، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه: وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه. وهو لا يعرف: أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه. فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه. ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة. ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد. ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان.

قال العلامة ابن القيم:

"وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت"، و"هذا من الله ومنك"، و"أنا بالله وبك"، و"مالي إلى الله وأنت"، و"أنا متوكل على الله وعليك"، و"لولا أنت لم يكن كذا وكذا". وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب قائله ومقصده. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده". وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ.

ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ. فإنه شرك من الساجد والمسجودله.

ومن أنواعه: حلق الرأس للشيخ. فإنه تعبد لغير الله، ولا يتعبد بحلق الرأس إلا في النسك لله خاصة.

ومن أنواعه: التوبة للشيخ. فإنها شرك عظيم. فإن التوبة لا تكون إلا لله. كالصلاة، والصيام والحج، والنسك. فهي خالص حق لله.

وفي المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله".

فالتوبة عبادة لا تنبغي إلا لله. كالسجود والصيام.

ومن أنواعه النذر لغير الله، فإنه شرك، وهو أعظم من الحلف بغير الله، فإذا كان "من حلف بغير الله فقد أشرك"، فكيف بمن نذر لغير الله؟ مع أن في السنن من حديث عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم: "النذر حلفة".

ومن أنواعه: الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله. وابتغاء الرزق من عند غيره، وحمد غيره على ما أعطى، والغنية بذلك عن حمده سبحانه، والذم والسخط على ما لم يقسمه، ولم يجر به القدر، وإضافة نعمه إلى غيره، واعتقاد أن يكون في الكون ما لا يشاؤه".

النفاق أكبر وأصغر

وإذا كان في كل من الكفر والشرك أكبر وأصغر، فمثلهما النفاق فيه أكبر وأصغر أيضا.

فالنفاق الأكبر هو نفاق العقيدة، وهو الذي يوجب الخلود في الدرك الأسفل من النار، وهو: أن يبطن الكفر ويظهر الإسلام. وهو الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحفل القرآن بهتك أستار أهله، وجلى لعباده المؤمنين أمورهم، ليكونوا منهم على حذر، وحتى يبتعد المؤمنون عن أخلاقهم ما استطاعوا.

وأما النفاق الأصغر، فهو نفاق العمل والسلوك، وهو الذي يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسلك سلوكهم، وإن كانت عقيدته سليمة. وهو ما حذرت منه الأحاديث الصحاح.

مثل الحديث المتفق عليه: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

والحديث الآخر: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".

وفي رواية لمسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم".

وهذه الأحاديث وأمثالها التي جعلت الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق، حتى قال الحسن: ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق.

وحتى كان عمر يقول لحذيفة الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين: أتجدني منهم؟!

وكان عمر يحذر من المنافق العليم، فقيل له: كيف يكون منافقا وعليما؟! قال: عليم اللسان، جاهل القلب.

وقال بعضهم: اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق. قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع!

الكبائر

وبعد الكفر بدرجاته ومستوياته تأتي المعاصي، وهي مرتبتان: كبائر وصغائر. والكبائر: هي الذنوب الجسيمة الخطر، التي توجب لفاعلها غضب الله ولعنته، واستحقاق نار جهنم، وقد توجب على صاحبها حدا في الدنيا.

وقد اختلف العلماء في تحديدها اختلافا كبيرا، لعل أقربها: أنها كل معصية شرع الله لها حدا في الدنيا، أو أوعد عليها في الآخرة بوعيد شديد كدخول النار، أو الحرمان من الجنة، أو استحقاق غضب الله تعالى ولعنته. فهذا يدل على كبر المعصية.

على أن النصوص قد ذكرت عددا منها حددته بالتعيين مثل الموبقات السبع، وهي ـ بعد الشرك ـ: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف (يوم لقاء العدو في المعركة)، ومثلها: ما صحت به الأحاديث، من عقوق الوالدين، وقطع الرحم، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وشرب الخمر، والزنى، وعمل قوم لوط، والانتحار، وقطع الطريق، والغصب، والغلول، والرشوة، والنميمة.

ومنها: ترك الفرائض الأساسية، مثل: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والإفطار بلا عذر في نهار رمضان، والإصرار على ترك الحج لمن استطاع إليه سبيلا.

ومما أثبتته الأحاديث: أن الكبائر ذاتها تتفاوت. ولهذا صح في الحديث: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟، وعدد لهم بعد الشرك: عقوق الوالدين، وشهادة الزور".

وصح أيضا: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه". قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه".

أي أنه سبهما، حين سب الآخرين، مما أدى إلى الرد عليه بمثله، بل كال له الصاع صاعين، فقد سب أبا الآخر، فسب الآخر أباه، وسب أمه معه.

لقد اعتبر الحديث الشريف التسبب في جلب السب إلى الوالدين من أكبر الكبائر، ليس مجرد حرام، ولا مجرد كبيرة، فكيف بمن باشر والديه بالسب؟ وكيف بمن باشرهما بالإيذاء والضرب؟ وكيف بمن جعل حياتهما جحيما لا يطاق بسبب الجفاء والعقوق؟

وقد فرق الشرع بين المعصية التي يدفع إليها الضعف، والمعصية التي يدفع إليها البغي، فالأولى مثل الزنى، والأخرى مثل الربا، فجعل الربا أشد إثما عند الله تعالى، حتى إن القرآن لم يقل في معصية ما قال في الربا من قوله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

ولعن الرسول الكريم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية"، وجعل الربا سبعين أو اثنين أو ثلاثة وسبعين بابا، أدناها وأيسرها: أن ينكح الرجل أمه.

وليست الكبائر مقصورة على الأعمال الظاهرة، كما قد يتوهم، بل كبائر معاصي القلوب أشد أثما، وأعظم خطرا.

فكما أن أعمال القلوب أعظم وأفضل من أعمال الجوارح في الطاعات، نجد أعمال القلوب في جانب المعاصي أعظم وأبعد أثرا، وأكبر خطرا.

كبائر معاصي القلوب

وليست الكبائر مقصورة على الأعمال الظاهرة، كما قد يتوهم، بل كبائر معاصي القلوب أشد أثما، وأعظم خطرا.

فكما أن أعمال القلوب أعظم وأفضل من أعمال الجوارح في الطاعات، نجد أعمال القلوب في جانب المعاصي أعظم وأبعد أثرا، وأكبر خطرا.



وقد ذكر لنا القرآن أول معصيتين حدثتا بعد خلق آدم وإسكانه الجنة.

إحداهما: معصية آدم وزوجه حين أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها، وهي معصية تتعلق بأعمال الجوارح الظاهرة، دفع إليها النسيان وضعف العزيمة. كما قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). وقد استغل إبليس اللعين هذا النسيان وذاك الضعف، فزين له ولزوجه الأكل من الشجرة، ودلاهما بغرور، وأكد تغريره بالإيمان، حتى سقطا في المخالفة.

ولكن سرعان ما استيقظ الإيمان المستكن في آدم وزوجه، فعرفا مخالفتهما، وتابا إلى ربهما، وقبل الله توبتهما: (وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى).

(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم).

والأخرى: معصية إبليس حين أمره الله ـ مع الملائكة ـ بالسجود، تكريما وتحية لآدم، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين).

هذه معصية إباء واستكبار عن أمر الله، كما جاء في سورة البقرة: (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).

ومن تبجحه أنه قال لربه في وقاحة: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).

لقد كان الفرق بين المعصيتين: أن معصية آدم معصية جارحة ظاهرة، فما أسرع ما تاب منها. أما معصية إبليس فمعصية قلب باطنة، وتلك خطورتها التي انتهت به إلى سوء العاقبة، والعياذ بالله تعالى.

ولا غرو أن جاء التحذير الشديد، والترهيب المتكرر، من معاصي القلوب، التي تعد من كبائر الذنوب، وموبقات الآثام، وكثيرا ما تكون هي الدافعة الأصلية لارتكاب كبائر المعاصي الظاهرة، من ترك الأمور، أو اقتراف المحظور.

معصية آدم ومعصية إبليس

وقد ذكر لنا القرآن أول معصيتين حدثتا بعد خلق آدم وإسكانه الجنة.

إحداهما: معصية آدم وزوجه حين أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها، وهي معصية تتعلق بأعمال الجوارح الظاهرة، دفع إليها النسيان وضعف العزيمة. كما قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). وقد استغل إبليس اللعين هذا النسيان وذاك الضعف، فزين له ولزوجه الأكل من الشجرة، ودلاهما بغرور، وأكد تغريره بالإيمان، حتى سقطا في المخالفة.

ولكن سرعان ما استيقظ الإيمان المستكن في آدم وزوجه، فعرفا مخالفتهما، وتابا إلى ربهما، وقبل الله توبتهما: (وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى).

(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم).

والأخرى: معصية إبليس حين أمره الله ـ مع الملائكة ـ بالسجود، تكريما وتحية لآدم، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين).

هذه معصية إباء واستكبار عن أمر الله، كما جاء في سورة البقرة: (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).

ومن تبجحه أنه قال لربه في وقاحة: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).

لقد كان الفرق بين المعصيتين: أن معصية آدم معصية جارحة ظاهرة، فما أسرع ما تاب منها. أما معصية إبليس فمعصية قلب باطنة، وتلك خطورتها التي انتهت به إلى سوء العاقبة، والعياذ بالله تعالى.

ولا غرو أن جاء التحذير الشديد، والترهيب المتكرر، من معاصي القلوب، التي تعد من كبائر الذنوب، وموبقات الآثام، وكثيرا ما تكون هي الدافعة الأصلية لارتكاب كبائر المعاصي الظاهرة، من ترك الأمور، أو اقتراف المحظور.

موبقة الكبر

كما رأينا في قصة إبليس مع آدم، كيف دفعه "الكبر" إلى رفض أمر الله تعالى، وقال: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون)، (أنا خير منه).

ومن هنا جاء الترهيب الشديد من الكبر والتكبر واحتقار الغير، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".

وفي الحديث الصحيح: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه (الضمير لله تعالى).

وفي حديث آخر: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".

وقد ذم القرآن الكبر والمستكبرين في آيات شتى. وبين أن الكبر هو الذي منع الكثيرين من الإيمان بالرسل وانتهى بهم إلى جهنم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).

(فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فلبئس مثوى المتكبرين).

(إنه لا يحب المستكبرين).

(كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار).

(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق).

الحسد والبغضاء

وفي قصة ابني آدم التي قصها القرآن علينا بالحق، نجد "الحسد" هو الدافع إلى قتل الأخ الخبيث لأخيه الطيب.

(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي، فأصبح من النادمين).

وقد أمر القرآن بالاستعاذة من شر الحاسد: (ومن شر حاسد إذا حسد).

كما وصف بالحسد اليهود في قوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

وجعل الحسد من موانع الإيمان بالإسلام، وأسباب الكيد له: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق).

والرسول الكريم يجعل الحسد والبغضاء من "أدواء" الأمم وأمراضها الخطيرة، المؤثرة في الدين أبلغ التأثير. يقول: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر ولكن حالقة الدين".
وفي حديث آخر: "لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد".

وقال: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا".


الشح المطاع

ومن كبائر معاصي القلوب: المهلكات الثلاث، التي حذر منها الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".

وقد ورد في ذم الشح جملة أحاديث منها:

"لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا".

"شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع".

"اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم".

"إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".

قال العلماء: الشح بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الضنة بالمال، والشح في كل ما يمنع النفس عن الاسترسال فيه، من بذل مال أو معروف أو طاعة. والشح الهالع: هو الذي يصيب صاحبه بالهلع، وهو أفحش الجزع. ومعناه أنه يجزع في شحه أشد الجزع على استخراج الحق منه. قالوا: ولا يجتمع الشح مع معرفة الله أبدا، فإن المانع من الإنفاق والجود خوف الفقر، وهو جهل بالله، وعدم وثوقه بوعده وضمانه. ومن هنا نفى الحديث اجتماع الشح والإيمان في قلب الإنسان. فكلاهما يطرد الآخر.

الإعجاب بالنفس

وثالث المهلكات التي ذكرها الحديث: العجب، أو إعجاب المرء بنفسه. فإن المعجب بنفسه لا يرى عيوبها وإن كبرت، وينظر إلى مزاياها ومحاسنها من وراء "ميكروسكوب"، فيضخمها ويهول من شأنها.

وقد ذكر القرآن كيف أدى الإعجاب بالمسلمين في غزوة حنين إلى الهزيمة حتى ثابوا إلى رشدهم، ورجعوا إلى ربهم: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها)

وقال علي كرم الله وجهه: سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.

أخذ هذا المعنى ابن عطاء وعبر عنه في حكمه بقوله: ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية، فكانت سببا في الوصول: معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا.

الهوى المتبع

ومن المهلكات التي ذكرها الحديث: الهوى المتبع. وهو ما حذر منه القرآن في مواضع شتى. وقال الله لداود: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).

وقال لخاتم رسله: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).

وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).

وذم قوما فقال: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم).

وبين القرآن أن اتباع الهوى يعمي ويصم، ويضل المرء على علم، ويطمس على بصيرته، فلا يرى ولا يسمع ولا يعي: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله).

ولذا قال ابن عباس: شر إله عبد في الأرض: الهوى!

وجعل القرآن في طليعة أسباب دخول الجنة: نهى النفس عن الهوى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى).

حب الدنيا وإرادتها

ومن كبائر معاصي القلوب: حب الدنيا وإرادتها وإيثارها على الآخرة، وهو رأس كل خطيئة. والخطر هنا ليس في امتلاك الدنيا، بل في إرادتها والحرص عليها وعلى متاعها وزخرفتها وزينتها. وإذا اجتمعت الدنيا والآخرة آثر الأولى على الآخرة. وهذا هو سبب الهلاك والدمار في الدارين.

يقول تعالى في شأن الآخرة: (فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى)

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).

(فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم).

(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى، أفلا تعقلون).

وفي الدنيا بين الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: سر الوهن الذي يحيق بالأمة برغم كثرة أعدادها، فقال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

حب المال والجاه والمنصب

وحب الدنيا يتمثل في حب المال والثروة، وحب الجاه والمنزلة والشرف، والحرص عليهما حرصا يجعل صاحبه يتنازل عن قيمه ومبادئه في سبيل الحصول عليهما، وفي هذا ضياع الدين والإيمان. وفي هذا ورد الحديث: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف ـ لدينه".

والحرص يحتاج إليه الإنسان، ولكن بقدر معلوم، فإذا لم يكن لحرصه وثاق، وهبت رياحه، استنفرت النفس، فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد، كما يفسد الذئبان الجائعان في غنم أضاعها ربها. وذلك لاستدعاء هذا الحرص العلو والفساد المذمومين شرعا. وقد قال تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين).

ومن مظاهر حب الدنيا وإرادتها: الحرص على المناصب، والتكالب على الإمارة، والرغبة في الظهور، التي طالما قصمت الظهور.

وهو ما رهب منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وقال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة".

شبه ما يحصل من نفع الولاية حال ملابستها بالرضاع (على سبيل الاستعارة)، وشبه الفطام انقطاع ذلك عنها عند الانفصال عنها بعزل أو موت، فهي تدر على صاحبها بعض المنافع واللذات العاجلة ثم سرعان ما تنقطع عنه، وتبقى عليه الحسرة والتبعة، فلا ينبغي لعاقل أن يحرص على لذة تتبعها حسرات.

ومن كبائر معاصي القلوب: اليأس والقنوط من رحمة الله، فقد قال تعالى على لسان نبيه يعقوب: (ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

وقال على لسان خليله إبراهيم: (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون).

ومن هذه الكبائر: الأمن من مكر الله سبحانه، فقد قال تعالى: (أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).

ومنها: محبة أن تشيع الفاحشة في مجتمع المؤمنين، فقد قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).

تلك هي بعض الكبائر الموبقات أو المهلكات الخاصة بمعاصي القلوب، والتي يغفل الكثيرون عنها، موجهين أكبر همهم إلى الأعمال الظاهرة، طاعات مطلوبة، أو معاصي محذورة. وهذه المعاصي هي التي سماها الإمام الغزالي "المهلكات"، وخصص لها الربع الثالث من موسوعته "إحياء علوم الدين". فما أجدر أهل الدين ودعاته أن يولوها من العناية ما أولاه لها الشرع، وأنه يوجهوا إليها العقول والضمائر، وأن تكون محور التوعية والتربية والتثقيف.

الرياء الممقوت

ومن كبائر معاصي القلوب: الرياء، الذي يحبط العمل، ويسلبه القبول عند الله، وإن يكن ظاهره مزوقا مزينا للناس.

وقد قال تعالى في شأن المنافقين: (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا).

وقال: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون).

وصور القرآن إنفاق المرائي بقوله: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا).

وقد ذكرت الأحاديث أن الرياء ضرب من الشرك، فالمرائي لا يقصد بعمله وجه الله تعالى، بل وجوه الخلق ومحمدتهم ومرضاتهم.

ولذا يقول تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه". وفي رواية: "فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك".

ومن الأحاديث الشهيرة ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن الثلاثة الذين أمر بهم يوم القيامة فسحبوا على وجههم إلى النار، أحدهم قاتل حتى استشهد، والثاني تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، والثالث أنفق ماله في وجوه الخير، ولكن الله العليم بالنيات والسرائر، كذبهم على رؤوس الأشهاد، وقال لكل منهم: كذبت، إنما فعلت ما فعلت ليقول الناس عنك كذا وكذا. فقد قيل!

إن التزوير من إنسان على مثله من شر الرذائل وأشنع الجرائم، فإذا كان التزوير من المخلوق على خالقه، فالجريمة أبشع وأشنع. وهذا هو عمل المرائي، يعمل لإرضاء الناس، وهو يريهم أنه يعمل لإرضاء رب الناس، كذبا وزورا، فلا غرو أن يفضحه الله سبحانه يوم تبلى السرائر، ويكبه على وجهه في النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

صغائر المحرمات

وبعد الكبائر تأتي صغائر المحرمات المقطوع بحرمتها. والشارع سماها "لمما"، و"محقرات".

وهذه لا يكاد أحد يسلم من الإلمام بها حينا من الزمن، ولهذا تفترق عن الكبائر بأنها تكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، كما جاء في الحديث الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".

وفي الصحيحين: "أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله به الخطايا".

وفي الصحيحين: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

بل ذكر القرآن الكريم أن مجرد اجتناب الكبائر يكفر السيئات الصغائر، فقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما).

أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح.

وشأن الصغائر أن البشر عامة مبتلون بها، ولهذا حين وصف الله المحسنين والأخيار من عباده لم يصفهم إلا باجتناب كبائر الإثم والفواحش.

يقول تعالى في سورة الشورى: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون).

ويقول سبحانه في سورة النجم: (ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع المغفرة).

فهذا هو وصف الذين أحسنوا، والذين لهم الحسنى، أنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم. وقد روى عن جماعة من السلف في تفسير "اللمم": أنه الإلمام بالذنب مرة ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيرا.

قال أبو صالح: سئلت عن قول الله: "اللمم" فقلت: هو الذي يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس. فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم.

والجمهور على أن اللمم ما دون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس كما في صحيح البخاري عنه: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، ورواه مسلم، وفيه: "العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا".

قال الإمام ابن القيم: والصحيح قول الجمهور أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك، هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم. وهو قول أبى هريرة وابن مسعود وابن عباس ومسروق والشعبي، ولا ينافي هذا قول أبى هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: أنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها. فإن اللمم إما أنه يتناول هذا وهذا. ويكون على وجهين، أو أن أبا هريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة، ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره ـ باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة. وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم، وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث. وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته. وتكرر منه مرارا كثيرة.

على أن الشرع وإن سامح وخفف في اللمم أو الصغائر، فقد حذر من الاستهانة بها، والإصرار والمواظبة عليها، فإن الصغير إذا أضيف إلى الصغير كبر، ثم إن الصغائر تجر إلى الكبائر، والكبائر تجر إلى الكفر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

ولهذا روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب، كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".

ورواه ابن مسعود بلفظ: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا، كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجئ بالعود، والرجل يجئ بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، وأنضجوا ما قدموا فيها".

وخلاصة التشبيه: أن العيدان الصغيرة المتفرقة حين اجتمعت، أججت نارا ملتهبة، وكذلك تصنع الصغائر المحقرات من الذنوب.

وعن ابن مسعود: المؤمن يرى ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا، أي ذبة وطيره بحركة يده.

وقد ذكر الإمام الغزالي في "كتاب التوبة" من "الإحياء" جملة أمور تكبر الصغائر، وتزيد الكبائر كبرا، منها: استصغار الذنب، واستحقار المعصية، حتى قال بعض السلف: إن الذنب الذي نخشى ألا يغفر هو الذي يقول لصاحبه: ليت كل ذنب فعلته مثل هذا! ومنها: المجاهرة والتبجح بها، ففي الصحيح: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".

وقد قال ابن القيم: وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة ـ من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ـ ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.

كما أن المعصية الواحدة يختلف إثمها باختلاف شخص مرتكبها وظروفه. فالزنى من العزب غيره من المحصن. ومن الشاب غيره من الشيخ، والزنى بحليلة الجار أو ممن غاب عنها زوجها في الجهاد، أو بمحرم له، أو في نهار رمضان أو في الحرم. غير الزنى في الظروف المغايرة، وكل شيء له حسابه عند الله عز وجل.

وللعلامة ابن رجب هنا كلام جيد نافع يحسن بي أن أنقله هنا لعظيم فائدته. قال رحمه الله:

"والمحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق).. إلى آخر الآيات الثلاثة، وقوله تعالى: (قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).

وقد ذكر في بعض الآيات المحرمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرمات من المطاعم في مواضع، منها قوله تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به)، وفي الآية الأخرى: (وما أهل لغير الله به)، وقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام).

وذكر المحرمات في النكاح في قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم..) الآية.

وذكر المحرمات من المكاسب في قوله: (وأحل الله البيع وحرم الربا).

وأما السنة، ففيها ذكر كثير من المحرمات، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، وقوله: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه"، وقوله: "كل مسكر حرام"، وقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".

فما ورد التصريح بتحريمه في الكتاب والسنة، فهو محرم.

وقد يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد، كما في قوله عز وجل: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون).

وأما النهي المجرد، فقد اختلف الناس: هل يستفاد منه التحريم أم لا؟ وقد روى عن ابن عمر إنكار استفادة التحريم منه. قال ابن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلة، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر ـ يعني: أن يخلطا ـ فقال لي رجل من خلفي: من قال؟ فقلت: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب والتمر، فقال عبدالله بن عمر: كذبت، فقلت: ألم تقل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فهو حرام؟ فقال: أنت تشهد بذاك؟ قال سلام: كأنه يقول: من نهى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أدب.

وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقى إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه مما فيه نوع شبهة أو اختلاف.

وقال النخعي: كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها، وقال ابن عون: قال لي مكحول: ما تقولون في الفاكهة تلقى بين القوم فينتهبونها؟ قلت: إن ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي! قلت: إن ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي! قال ابن عون: فاستجفينا ذلك من قول مكحول.

وقال جعفر بن محمد: سمعت رجلا يسأل القاسم بن محمد: الغناء أحرام هو؟ فسكت عنه القاسم، ثم عاد، فسكت عنه، ثم عاد، فقال له: إن الحرام ما حرم في القرآن! أرأيت إذا أتى بالحق والباطل إلى الله، في أيهما يكون الغناء؟ فقال الرجل: في الباطل، فقال: فأنت، فأفت نفسك.

قال عبدالله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: أما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم فمنها أشياء حرام، مثل قوله: "نهى أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها"، فهذا حرام، ونهى عن جلود السباع، فهذا حرام، وذكر أشياء من نحو هذا، ومنها أشياء نهى عنها، فهي أدب.

البدع الاعتقادية والعملية

ويلحق بالمعاصي هنا: ما عرف في الشرع باسم "البدع". وهي ما أحدثه الناس واخترعوه في أمر الدين. سواء أكانت بدعا اعتقادية، وهي التي تسمى "بدع الأقوال"، أم بدعا عملية، وهي التي تسمى "بدع الأفعال".

وهي نوع من المحرمات يختلف عن المعاصي العادية، فإن فاعلها يتقرب بها إلى الله تعالى، ويعتقد أنه ببدعته يطيع الله ويتعبد له، وهذا هو خطرها.

والبدعة تكون، إما باعتقاد خلاف الحق، الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. وهذه هي البدعة الاعتقادية أو القولية، ومنشؤها من القول على الله بلا علم. وهذا من أعظم المحرمات، بل هو ـ كما يقول ابن القيم ـ أعظمها. كما قال الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).

ويدخل في هذا الباب تحريم ما أحل الله بغير بينة. كما قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم، أم على الله تفترون).

وإما أن تكون بالتعبد لله تعالى بما لم يشرعه من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، كما قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).

وفي الحديث: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".

"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

والبدعتان ـ كما قال العلامة ابن القيم ـ متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنى يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينها خسران الدنيا والآخرة.

والبدعة أحب إلى ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينها خسران الدنيا والآخرة.

والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لمناقضتها للدين، ولأن صاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها، بل يدعو الخلق إليها، وتضمنها اعتبار ما رده الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه، وإثبات ما نفاه، ونفى ما أثبته.

على أن البدع ليست كلها في مرتبة واحدة، فهناك بدع مغلظة، وبدع مخففة، وبدع متفق عليها، وبدع مختلف فيها.

والبدع المغلظة: منها ما يصل بصاحبه إلى درجة الكفر، والعياذ بالله تعالى، مثل الفرق التي خرجت على أصول الملة، وانشقت من الأمة، مثل النصيرية والدروز، وغلاة الشيعة والإسماعيلية الباطنية وغيرهم ممن قال فيهم الإمام الغزالي: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنهم أشد كفرا من اليهود والنصارى، ولهذا لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، على حين تؤكل ذبائح أهل الكتاب، وتنكح نساؤهم.

وهناك بدع غليظة، ولكنها لا تصل بصاحبها إلى الكفر، وإنما تصل به إلى الفسق، وهو فسق اعتقاد لا فسق سلوك.فقد يكون هذا المبتدع من أطول الناس صلاة، وأكثرهم صياما وتلاوة، كما كان الخوارج: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم"، ولكن آفتهم ليست في ضمائرهم، بل في عقولهم وفي تحجرهم وجمودهم، حتى إنهم "ليقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان".

ومثل هؤلاء الخوارج كثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم، كما قال ابن القيم.

وهناك بدع خفيفة أدى إليها خطأ في الاجتهاد، أو التباس في الاستدلال، فهذه تقابل الصغائر في باب المعاصي.

وهناك بدع مختلف فيها، أقرها قوم، وأنكرها آخرون، مثل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصالحين من عباد الله، فهذه من مسائل العمل والفروع لا من مسائل العقيدة والأصول، كما قال الإمام حسن البنا بحق، وهو منقول عن الإمام محمد بن عبد الوهاب.

ومثل ذلك: الالتزام في العبادات: أيدخل في البدعة أم لا؟

فليست البدع كلها في مستوى واحد ودرجة واحدة، وليس المبتدعون كلهم كذلك: بل هناك الداعية إلى البدعة، والتابع المبتدع في نفسه ولا يدعو غيره. ولكل منهما حكمه.

الشبهات

وبعد صغائر المحرمات تأتي الشبهات، وهل ما لا يعلم حكمه كثير من الناس، ويشتبهون في حله وتحريمه، فهذه ليست كالمحرمات المقطوع بها.

فمن كان من أهل الاجتهاد وأداه اجتهاده إلى رأي في إباحتها أو تحريمها فعليه أن يلتزم به، ولا يسوغ له أن يتنازل عن اجتهاده من أجل خواطر الآخرين. فالله إنما يتعبد الناس باجتهاد أنفسهم إذا كانوا أهلا لذلك. ولو كان اجتهادهم خطأ فهم معذورون فيه، بل مأجورون عليه أجرا واحدا.

ومن كان من أهل التقليد وسعه أن يقلد من يثق به من العلماء، ولا حرج عليه في ذلك ما دام قلبه مطمئنا إلى علم مقلده ودينه.

ومن اضطرب عليه الأمر، ولم يستبن له الحق، كان الأمر شبهة في حقه ينبغي أن يتقيها استبراء لدينه وعرضه كما جاء في الحديث المتفق عليه: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه".

ويجب على الجاهل في الأمر المشتبه فيه أن يسأل فيه العالم الثقة، حتى يقف على حقيقة حكمه منه. قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

وفي الحديث: "ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال".

والناس في موقفهم من الشبهات جد مختلفين، نظرا لاختلاف أنظارهم من ناحية، ولاختلاف طبائعهم من ناحية، واختلاف مواقفهم من الورع وغيره.

فهناك الموسوسون الذين يبحثون عن الشبهات لأدنى ملابسة حتى يجدوها، كالذين يشككون في الذبائح في بلاد الغرب لأوهى سبب، ويفترضون البعيد قريبا، وشبه المستحيل واقعا ، ويظلون يسألون حتى يضيقوا على أنفسهم ما وسع الله عز وجل.

والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وليس المسلم مطالبا بهذا التدقيق.

وفي الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا. قال: "سموا الله عليه وكلوا".

أخذ الإمام ابن حزم من هذا الحديث قاعدة: أن ما غاب عنا لا نسأل عنه.

وقد روى أن عمر رضي الله عنه مر في طريق فوقع عليه ماء من ميزاب، وكان معه رفيق، فقال هذا الرفيق: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا فقد نهينا عن التكلف.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة أو في المسجد. فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".

ومن هذا أخذ العلماء قاعدة: أن اليقين لا يزال بالشك، وأنه يعمل بالأصل، ويطرح الشك، وهذا قطع لدابر الوسوسة.

وقد أجاب الرسول الكريم دعوة يهودي، وأكل طعامه ولم يسأل: أهو حلال أم لا؟ وهل آنيته طاهرة أم لا؟ وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب عليهم مما نسجه الكفار من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ويستعملونها، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة (قربة) مشركة.

وفي المقابل من أجاز ذلك وجد من تشدد مستدلا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب، الذين يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فقال: "إن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء، ثم كلوا فيها".

وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام، يعني الحلال المحض، والحرام المحض، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.

قال العلامة ابن رجب: ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام، فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين.

وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله. وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.

وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إلي.

وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل.

وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روى عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روى عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضى من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور.

وقال الإمام أحمد في المال المشبته حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا، أخرج منه قدر الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير. ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.

ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري. وروى مثله عن الفضيل ابن عياض.

وروى في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه ويدعوه إلى طعام، قال: أجيبوه، فإنما المهنأ لكم والوزر عليه، وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روى عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

وبكل حال، فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام، لما عنده من ذلك من مزيد علم، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:

أحدهما: من يتوقف فيها، لاشتباهها عليه.

والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلا، ويكون مأجورا على اجتهاده، ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام" قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو من لا يعلمها.

فأما من كان عالما بها، واتبع ما دله علمه عليها، فذلك قسم ثالث، لم يذكره لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة، لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس، واتبع علمه في ذلك.

وأما من لم يعلم حكم الله فيها، فهو قسمان:

أحدهما: من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.

ومعنى "استبرأ": طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين.

وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد: "أن من وقى به المرء عرضه، فهو صدقة".

القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئا مما يظنه الناس شبهة، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركها حينئذ استبراءا لعرضه، فيكون حسنا، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية: "إنها صفية بنت حيي". وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد صلوا ورجعوا، فاستحيا، ودخل موضعا لا يراه الناس فيه، وقال: "من لا يستحي من الناس، لا يستحي من الله".

وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئا في اعتقاده، فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفا، أو التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه.

والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام، وهذا يفسر بمعنيين:

أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة ـ مع اعتقاده أنها شبهة ـ ذريعة إلى ارتكابه الحرام ـ الذي يعتقد أنه حرام ـ بالتدريج والتسامح.

وفي رواية في "الصحيحين" لهذا الحديث: "ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان".

والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام.

والله عز وجل حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده،وجعل من يرعى حول الحمى وقريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا.

وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبدالله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"، وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى، وروى عن ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها.

وقال ميمون بن مهران: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال".

وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.

وهنا ينبغي أن يعامل كل إنسان في حدود مرتبته، فمن الناس من لا ينكر عليه الوقوع في الشبهات، لأنه غارق في المحرمات وربما في كبائرها، والعياذ بالله. كما يجب أن تظل الشبهة في رتبتها الشرعية، ولا نرفعها إلى رتبة الحرام الصريح أو المقطوع به، فإن من أخطر الأمور تذويب الحدود بين مراتب الأحكام الشرعية، مع ما جعل الشارع بينها من فروق في النتائج والآثار.

المكروهات

وفي أدنى مراتب المنهيات تأتي المكروهات، والمقصود بها: المكروهات التنزيهية، فمن المعلوم: أن هناك مكروهات تحريمية، ومكروهات تنزيهية، والمكروه التحريمي هو: ما كان إلى الحرام أقرب، والمكروه التنزيهي هو: ما كان إلى الحلال أقرب، وهو المراد بكلمة المكروه عند الإطلاق.

وله أمثلة كثيرة ومعروفة، ومن تتبع كتابا مثل "رياض الصالحين" للإمام النووي رضي الله عنه وجد أمثلة كثيرة يذكرها للمكروهات، مثل كراهية الأكل متكئا، وكراهية الشرب من قم القربة ونحوها، وكراهية النفخ في الشراب، وكراهية الاستنجاء باليمين، ومس الفرج باليمين من غير عذر، وكراهية المشي في نعل واحدة، وكراهية الخصومة في المسجد، ورفع الصوت فيه، وكراهية الاحتباء في المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، وكراهية سب الحمى، وكراهية سب الديك، وكراهية التقعر في الكلام بالتشدق، وكراهية قول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت، وكراهية قول: ما شاء الله وشاء فلان، وكراهية الحديث بعد العشاء الآخرة، وكراهية الصلاة بحضرة الطعام، وكراهية تخصيص يوم الجمعة بصيام، أو ليلته بقيام من بين الليالي، وكراهية رد الريحان لغير عذر..الخ.

إن المكروه ـ كما يعرفه العلماء ـ هو ما كان في تركه أجر، ولم يكن فعله وزر.

فلا عقاب إذن على من ارتكب المكروه التنزيهي، إنما قد يعاتب إذا كان في مرتبة من يعاتب على مثل ذلك، ولا سيما إذا تكرر منه.

لكن لا ينبغي أن ينكر مثل ذلك، فضلا عن أن يشدد في إنكاره.

كما لا يجوز أن يشغل الناس بمحاربة المكروهات، وهم واقعون في صرائح المحرمات.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب التاسع : الأولويات في مجال الإصلاح

تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة

تمهيد

ومن الأولويات المهمة في مجال الإصلاح: العناية ببناء الفرد قبل بناء المجتمع، أو بتغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات، والأفضل أن نستخدم التعبير القرآني وهو تغيير ما بالأنفس: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهذا أساس كل إصلاح أو تغيير أو بناء اجتماعي: البداءة بالفرد، فهو أساس البناء كله، إذ لا أمل في إقامة بناء سليم متين، إذا كانت لبناته واهية أو فاسدة.

والإنسان الفرد هو اللبنة الأولى في جدار المجتمع، ولهذا كان كل جهد يبذل لتكوين الإنسان المسلم الحق وتربيته ـ تربية إسلامية كاملة ـ له الأولوية على ما سواه. لأنه مقدمة ضرورية لكل أنواع البناء والإصلاح، وهذا هو تغيير ما بالنفس.

إن بناء الإنسان الفرد الصالح هو مهمة الأنبياء الأولى، ومهمة خلفاء الأنبياء وورثتهم من بعدهم.

وإنما يبنى الإنسان أول ما يبنى بالإيمان، أي بغرس العقيدة الصحيحة في قلبه، التي تصحح له نظرته إلى العالم وإلى الإنسان، وإلى الحياة وإلى رب العالم، وبارئ الإنسان، وواهب الحياة، وتعرف الإنسان بمبدئه ومصيره ورسالته، وتجيبه عن الأسئلة المحيرة لمن لا دين له: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أصير؟ ولماذا وجدت؟ وما الحياة وما الموت؟ وماذا قبل الحياة؟ وماذا بعد الموت؟ وما رسالتي في هذا الكوكب منذ عقلت حتى يدركني الموت؟

الإيمان ـ ولا شيء غيره ـ هو الذي يمنح الإنسان إجابات شافية عن هذه الأسئلة المصيرية الكبرى، ويجعل للحياة هدفا ومعنى وقيمة. وبدون هذا الإيمان سيظل الإنسان هباءة تائهة، أو ذرة تافهة، في هذا الوجود، لا قيمة له من حيث الحجم أمام مجموعات هذا الكون الكبير، ولا من حيث العمر، أمام الأزمة الجيولوجية المتطاولة، والأزمنة المستقبلية اللانهائية، ولا من حيث القدرة، أمام أحداث الطبيعة التي رآها تهدده، بالزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات التي تدمر وتقتل، والإنسان أمامها عاجز أشل اليدين، رغم ما يملك من علم وإرادة وتكنولوجيا متطورة.

الإيمان هو طوق النجاة دائما، وبه يمكن تغيير الإنسان من داخله، وإصلاحه من باطنه، فالإنسان لا يقاد كما تقاد الأنعام، ولا يصنع كما تصنع الآلات من حديد أو نحاس أو معدن.

إنما يحرك من عقله وقلبه، يقنع فيقتنع، ويهدى فيهتدي، ويرغب ويرهب، فيرغب ويرهب. والإيمان هو الذي يحرك الإنسان ويوجهه ويولد فيه طاقات هائلة، لم تكن لتظهر بدونه، بل هو ينشئه خلقا جديدا، بروح جديدة، وعقل جديد، وعزم جديد، وفلسفة جديدة. كما رأينا ذلك في سحرة فرعون حين آمنوا برب موسى وهارون، وتحدوا جبروت فرعون، وقالوا له في شموخ واستعلاء: (فاقض ما أنت بقاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).

ورأيناه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلهم إيمانهم من الجاهلية إلى الإسلام: من عبادة الصنم، ورعاية الغنم، إلى رعاية الأمم، وقيادة البشرية إلى هداية الله، وإخراجها من الظلمات إلى النور.

ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما في مكة كل همه فيها وكل عمله ـ من التبليغ والدعوة ـ بناء الجيل الأول على معاني الإيمان.

تلك السنون كلها لم تنزل فيها تشريعات تنظم المجتمع وتضبط علاقاته الأسرية والاجتماعية، وتعاقب من ينحرف عن قوانينه. بل كان عمل القرآن، وعمل الرسول هو بناء هذا الإنسان وهذا الجيل من أصحابه، وتربيته وتكوينه، ليربى العالم كله بعد ذلك.

كانت دار الأرقم بين أبي الأرقم تقوم بدورها. وكان كتاب الله الذي يتنزل عليه منجما حسب الوقائع، ليقرأه على الناس على مكث، ويثبت به فؤاده، وأفئدة الذين آمنوا معه، ويرد على أسئلة المشركين ويعقب على مواقفهم ـ يقوم بالدور الأكبر في تربية الفئة المؤمنة، وحسن تسييرها، وترشيد سيرها. قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).

إن أهم ما ينبغي أن نشغل به اليوم إذا أردنا إصلاح حالنا: أن نبدأ البداية الصحيحة، وذلك ببناء الإنسان، بناءا حقيقيا لا صوريا، نبني عقله وروحه وجسمه وخلقه، بناء متوازنا لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان، نبنيه عقليا بالثقافة وروحيا بالعبادة، وجسميا بالرياضة، وخلقيا بالفضيلة، وعسكريا بالخشونة، واجتماعيا بالمشاركة، وسياسيا بالتوعية، ونعده للدين وللدنيا معا، وليكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره، حتى ينجو من خسر الدنيا والآخرة، الذي ذكره الله في سورة العصر: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

ولا يتم ذلك إلا في ضوء تصور كلي للوجود، وفلسفة واضحة للحياة، ومشروع متكامل للحضارة، تؤمن به الأمة، وتربي أبناءها وبناتها على اليقين به، والعمل وفق حكمه، والسير على نهجه، تتعاون على ذلك كل المؤسسات: الجامع والجامعة، والكتاب والصحيفة، والتلفاز والإذاعة، فلا تشرق مؤسسة في حين تغرب أخرى، ويبني جهاز على حين يهدم آخر.

ويصدق فينا قول الشاعر قديما:

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟!*** وهل يبلغ البنيان يوما تمامه

التربية قبل الجهاد

وهذا ما جعل دعاة الإصلاح الأصلاء ينادون اليوم بوجوب تقديم التربية على الجهاد، والتكوين على التمكين.

ونعني بالتربية والتكوين: بناء الإنسان المؤمن، الذي يستطيع أن ينهض بعبء الدعوة، وتكاليف الرسالة، لا يبخل بمال، ولا يضن بنفس، ولا يبالي بما يصيبه في سبيل الله. وهو في الوقت نفسه نموذج عملي، تتجسد فيه قيم دينه، وأخلاق دعوته. ففيه يرى الناس الإسلام حيا ملموسا.

وبناء هذا الإنسان أو تربيته وتكوينه أمر مطلوب دائما، ولكنه أشد ما يكون طلبا عندما يراد تأسيس دين جديد، أو أمة جديدة ذات رسالة جديدة. وكذلك عندما يضعف دين ما، ويدرك الوهن أمته، ويحتاج الدين إلى تجديد، والأمة إلى إحياء، فلا مناص من البداية الضرورية للتجديد والإحياء والإصلاح، وهي تربية جيل جديد، يمثل طلائع الأمة المنشودة.

هذا البناء والتكوين للإنسان، في صورة جيل مؤمن حقا، مؤهل لحمل راية الإصلاح والبعث، لابد أن يسبق كل دعوة إلى الجهاد المسلح لتغيير المجتمع، وإقامة الدولة.

ولهذا كانت مهمة القرآن المكي ـ طيلة ثلاثة عشر عاما ـ العمل على بناء هذا الإنسان، وتربية جيل الطلائع، تربية إيمانية أخلاقية عقلية متكاملة. وكان المثل الكامل لهذا الجيل هو الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

كانت مهمة القرآن في العهد المكي ترسيخ أصول العقيدة، وأصول الفضائل، ومكارم الأخلاق، وتأصيل منهج النظر السليم، والتفكير الرشيد، ومطاردة عقائد الجاهلية، وأصول رذائلها وآفاتها في الفكر والسلوك، وربط الإنسان بربه ربطا لا تنفصم عراه.

يقول الله تعالى في سورة المزمل، وهي من أوائل ما نزل من القرآن: (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).

فهذه التربية العميقة في مدرسة الليل، ومدرسة القرآن، إنما هي تهيئة لتحمل "القول الثقيل" الذي ينتظره، وما كان ثقله إلا لثقل الأمانة التي يعبر عنها.

وظلت آيات القرآن تتنزل على هذا المنهج، تغرس العقائد والمفاهيم، وتزرع القيم والفضائل، وتطهر العقول والقلوب من رجس الجاهلية، وتربيها على معاني الإيمان وما يتطلبه من صبر ومصابرة، وثبات، وبذل في نصرة الحق، ومجاهدة الباطل، وتنقية العقول من التقليد الأعمى للأجداد والآباء، أو للسادة والكبراء، قبل أن تنزل آية واحدة تأمر بالجهاد المسلح، والصراع الدامي مع أهل الشرك وعبدة الطاغوت.

بل كانوا يجيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج ومجروح، يشكون إليه ما أصابهم، مطالبين بحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم، وحربا لعدوهم وعدو دينهم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم ما حكاه القرآن: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة).

ليس معنى هذا التهوين من شأن الجهاد، فهو ذروة سنام الإسلام، ولكن حديثنا عن الأولويات، والأولوية هنا للتربية والتكوين.

ومن حسن التربية: إعداد الأنفس للجهاد عندما يجئ أوانه. كما في سورة المزمل: (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله).

على أن الجهاد المؤجل هو الجهاد المسلح فحسب، الجهاد بالسيف والسنان، أما الجهاد بالدعوة والبيان، أو الجهاد بالقرآن، فهو مطلوب وقائم من أول يوم، وفي سورة الفرقان ـ وهي مكية ـ يقول تعالى لرسوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا).

ومثل ذلك جهاد الصبر والثبات واحتمال الأذى في سبيل الدعوة إلى الله. وهو ما نوهت به أوائل سورة العنكبوت: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) إلى أن قال: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، إن الله لغني عن العالمين).

والتربية التي نتحدث عنها تدخل في هذا النوع وذلك من الجهاد.

وقد ذكر الإمام ابن القيم في الهدي النبوي ثلاث عشرة مرتبة من مراتب الجهاد، منها أربع مراتب في جهاد النفس، واثنتان في جهاد الشيطان، وثلاث في جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، وأربع في جهاد الكفار، منها الجهاد بالقلب واللسان والمال. فالمؤجل منها هو الجهاد بالنفس أو باليد.

يقول رحمه الله: "لما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سلطته وأذاه، كان للرسل ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من ذلك أكمل الجهاد وأتمه".

ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج، وأصلا له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله؟ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه، حتى يجاهد نفسه على الخروج.

فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يخيل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا). والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أمر العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بلى بمحاربتها في هذه الدار، وسلطت عليه امتحانا من الله وابتلاء، وجعل بعضهم لبعض فتنة، ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله، ممن يتولى الشيطان وحزبه.

وأمر المؤمنين أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون كله لله، وبالله، لا لنفسه، ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده، ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعد الأماني، ويمني الغرور، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن التقى والهدى، والعفة والصبر، وأخلاق الإيمان كلها، فجاهده بتكذيب وعده، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعدة، يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله، لتكون كلمة الله هي العليا.

قال ابن القيم: إذا عرف هذا، فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه، شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.

وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان، إحداهما: جهاد على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعدة اليقين، والثاني يكون بعدة الصبر. قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون)، فأخبر أن إمامة الدين، إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز، انتقل إلى اللسان، فإن عجز، جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و"من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".

ولا ريب أن المراتب الست الأولى داخلة كلها في التربية المنشودة هنا. فهي ـ في الدرجة الأولى ـ جهاد للنفس، وجهاد للشيطان.

لماذا كان للتربية الأولوية؟

ولكن لماذا كان للتربية الأولوية على الجهاد؟

يمكننا أن نوضح هذا في جملة نقاط أو أسباب:

أولا: أن الجهاد في الإسلام ليس أي جهاد، ولكنه جهاد بنية خاصة، لغاية خاصة، فهو جهاد "في سبيل الله". وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية (عصبية لقومه)، والرجل يقاتل ليرى مكانه (ليذكر بالشجاعة) والرجل يقاتل للمغنم: أيهم في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله".

وهذا النوع من التجرد من كل دافع دنيوي، لا ينشأ اعتباطا، بل لابد من تربية طويلة المدى، حتى يخلص دينه لله، ويخلصه الله لدينه.

ثانيا: أن ثمرة الجهاد التي يتطلع إليها المجاهد المسلم في الدنيا هي التمكين والنصر. وهذا التمكين لا يؤتى أكله إلا على أيدي مؤمنين صادقين، يستحقون التمكين، ويقومون بواجباته. وهم الذين ذكرهم الله بقوله: (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا).

إن الذين يمكنون وينتصرون قبل أن تنضجهم التربية، قد يفسدون أكثر مما يصلحون.

ثالثا: إن سنة الله ألا يتحقق هذا التمكين إلا بعد أن يصهر أهله في بوتقة الابتلاء، وتصقلهم المحن والشدائد، ليبتلي الله ما في صدورهم، ويمحص ما في قلوبهم، ويميز الخبيث من الطيب، وهذا لون من التربية العملية، جرى به القدر على الأنبياء وأصحاب الدعوات في كل العصور. وقد سئل الإمام الشافعي: أيهما أولى للؤمن: أن يبتلى أو يمكّن؟ فقال: وهل يكون تمكين إلا بعد ابتلاء؟ إن الله ابتلى يوسف عليه السلام ثم مكّن له، كما قال تعالى: (وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء).

إن التمكين الذي يجئ سهل المأخذ، داني القطوف، يخشى أن يضيعه أهله، أو يفرطوا في ثمراته، على عكس ما لو بذلوا فيه من أنفسهم وأموالهم وراحتهم، ومستهم البأساء والضراء والزلزلة حتى أتى نصر الله.

أولوية المعركة الفكرية

المعركة الفكرية داخل الساحة الإسلامية

ومما يجب لفت الأنظار إليه في مجال الإصلاح: تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر، وتصحيح التصور، وتصويب منهج النظر والعمل. فهذا بلا ريب هو الأساس المكين لكل إصلاح يرتجى. إذ من غير المعقول أن يستقيم العمل على منهج سليم، والفكر غير مستقيم. كما قال الشاعر:

متى يستقيم الظل والعود أعوج؟

فمن ساء تصوره لأمر ما، فالمتوقع أن يسوء سلوكه في شأنه، فإن السلوك أثر للتصور، حسنا أو قبحا.

ومن هنا كانت المعركة الفكرية ـ التي تعنى بتصحيح الأفكار المعوجة، والمفاهيم المغلوطة ـ لها الأولوية وحق التقديم على غيرها. وهو ضرب من "الجهاد الكبير" بالقرآن، الذي ذكرته سورة الفرقان المكية، ومن الجهاد باللسان والبيان، الذي ذكره الحديث النبوي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".

المعركة الفكرية داخل الساحة الإسلامية

وللمعركة الفكرية مجالان أساسيان:

الأول: خارج الساحة الإسلامية، مع الملاحدة والمنصرين والمستشرقين الذين يهاجمون الإسلام: عقيدة وشريعة، وتراثا وحضارة، ويحاربون أي نهضة أو بعث على أساس الإسلام.

والثاني: داخل الساحة الإسلامية نفسها، لتصحيح الاتجاه في فصائل العمل الإسلامي، وترشيد مسيرته، وتصويب حركته، حتى تسير في الطريق الصحيح للهدف الصحيح. وسنقصر الحديث عليه، فإن إصلاح الداخل هو الأساس، وله الأولوية.

فما لا شك فيه أن لدينا تيارات عدة، منها:

التيار الخرافي

التيار أو التوجه الخرافي، الذي يقوم على أسس أو خصائص يتفرد بها، منها:

أ. الخرافة في الاعتقاد.

ب. الابتداع في العبادة.

ج. الجمود في الفكر.

د. التقليد في الفقه.

هـ. السلبية في السلوك.

و. المسايرة أو المداهنة في السياسة.

التيار الحرفي

وهناك التيار أو التوجه الحرفي، وهذا له ـ رغم تشدده في أمر الدين ودفاعه عنه ـ خصائص غلبت على أكثر أتباعه تميزه أيضا، منها:

أ. الجدلية في العقيدة.

ب. الشكلية في العبادة.

ج. الظاهرية في الفقه.

د. الجزئية في الاهتمام.

هـ. الجفاف في الروح.

و. الخشونة في الدعوة.

ز. الضيق بالخلاف .

تيار الرفض والعنف

وهناك التوجه الذي يقوم على رفض المجتمع كله بجميع مؤسساته، وله ـ رغم تميز جل أفراده بالحماس والإخلاص ـ خصائصه أيضا، منها:

أ. الشدة والصرامة في الالتزام بالدين.

ب. الاعتزاز بالذات اعتزازا يؤدي إلى نزعة الاستعلاء على المجتمع.

ج. سوء الظن بالآخرين جميعا.

د. ضيق الأفق في فهم الدين، وفهم الواقع، وفهم السنن الكونية والاجتماعية.

هـ. استعجال الأشياء قبل أوانها.

و. المسارعة إلى التكفير بغير تحفظ.

ز. اتخاذ القوة سبيلا إلى تحقيق الأهداف.

التيار الوسطي

وهناك التيار الوسطي، الذي يقوم على التوازن والوسطية في فهم الدين والحياة والعمل لتمكين الدين، وله خصائص أيضا تميزه عن سواه، منها تأكيده وتركيزه على المبادئ التالية:

أ. فقهه للدين فقها يتميز بالشمول والاتزان والعمق.

ب. فقهه لواقع الحياة دون تهوين ولا تهويل: واقع المسلمين، وواقع أعدائهم.

ج. فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل، وخصوصا سنن الإجماع البشري.

د. فقه مقاصد الشريعة وعدم الجمود على ظواهرها.

هـ. فقه الأولويات، وهو مرتبط بفقه الموازنات.

و. فقه الاختلاف وأدبه مع الفصائل الإسلامية الأخرى (التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف فيه).

ز. الجمع بين السلفية والتجديد (أو بين الأصالة والمعاصرة).

ح. الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.

ط. الإيمان بأن التغيير الفكري والنفسي والخلقي أساس كل تغيير حضاري.

ي. تقدير الإسلام مشروعا حضاريا متكاملا، لبعث الأمة، وإنقاذ البشرية من الفلسفات المادية المعاصرة.

ك. اتخاذ منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.

ل. إبراز القيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام، مثل: الحرية والكرامة والشورى والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

م. الحوار بالحسنى مع الآخر، أي مع المخالفين من غير المسلمين، أو من المسلمين المغزوين عقليا، والمهزومين روحيا.

ن. اتخاذ الجهاد سبيلا للدفاع عن حرمات المسلمين وديار الإسلام.

وهذا هو التيار الذي نؤمن به، وندعو إليه، ونعتبر أنه هو المعبر الحقيقي عن الإسلام، كما أنزله الله في كتابه، وكما هدى إليه رسوله في سنته وسيرته، وكما فهمه وطبقه الراشدون المهديون من أصحابه، وكما فقهه التابعون لهم بإحسان من خير قرون هذه الأمة.

واجب تيار الوسطية

ولا مراء في أن هذا التيار هو موطن الأمل، ومعقد الرجاء في الغد، وعليه أن يبذل جهودا مكثفة في إبراز دعوته، وتربية أنصاره، وإقناع خصومه، والحوار مع معارضيه، والاجتهاد في الإفلات من الشباك التي تنصب له لإيقاعه فيما لا يريد ولا يحب.

ومما أصبح معلوما الآن بالشواهد الوفيرة: أن القوى العادية ـ في الداخل والخارج ـ تخاف هذا التيار أكثر من غيره، بل تكرهه وتكن له العداء أكثر من التيارات الأخرى.

فقد كانوا من قبل يحذرون من تيارات التشدد والعنف. أما اليوم فقد ظهرت نغمة جديدة تقول: احذروا الإسلام المعتدل! فهو أشد خطرا من غيره. إن التيارات الأخرى قصيرة العمر لن تدوم طويلا. أما هذا فهو الذي يستمر ويدوم. واعتداله ـ في زعمهم ـ ليس مأمونا. إنه يبدأ معتدلا ثم يتطرف، لأن التطرف كامن في الإسلام ذاته كما يقولون!

ومن هنا بدأوا يخوفون من خطر الإسلام الزاحف، ويسمونه "الخطر الأخضر" ويجعلون منه عدوا جديدا، بدل "الخطر الأحمر" الذي زال بزوال الشيوعية من أوروبا كلها. وهو ما رد عليه المنصفون منهم مؤكدين أن الخطر الإسلامي وهم لا حقيقة.

ولابد لتيار الوسطية أن يواجه هؤلاء ويكشف تزييفهم، ويحاور المعتدلين من قومهم.

كما لابد له من مواجهة آخرين من فروخهم وتلاميذهم في داخل دار الإسلام نفسها، وممن يحملون أسماء المسلمين، ولكنهم يعادون بكل قوة المشروع الحضاري للإسلام، ويقفون في صف أعداء الأمة ودينها. وهم الذين وصفهم الرسول الكريم في حديث حذيفة المتفق عليه بأنهم: "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قيل: صفهم لنا يا رسول الله، قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا".

لهذا كانت ضرورة مواجهة هؤلاء الذين يفسدون فكر الأمة، ويضللونها عن حقيقتها وعن أصالة هويتها، ويضعون لها السم الزعاف، في العسل الحلو، والدسم المشتهى، مما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، فيعمل في عقول أبناء الأمة ما تعمل الأوبئة القتالة في الأجسام.

إن هؤلاء "المستغربين" من قومنا يحملون أفكار الاستعمار، بعد أن حمل الاستعمار عصاه ورحل عن ديارنا، والذين يتبنون أخبث مفاهيم المستشرقين والمنصرين، الذين لم يخلص أكثرهم لحضارتنا يوما، ومن أخلص منهم لم يملك أدوات الفهم الصحيح لهذه الحضارة ومصادرها وتراثها، وأهمها اللغة وتذوقها.

إن معركتنا الحقيقية في داخل أرضنا يجب أن تكون مع هؤلاء "الغلاة" حقا، من العلمانيين وبقايا الماركسيين، الذين لبسوا اليوم لبوس الليبرالية الغربية، والذين جندوا أقلامهم وأسلحتهم كلها لشن الحرب على صحوة الإسلام، وانبعاثه الجديد، وتشويه دعوته، والتشويش على دعاته، واختراع مصطلحات جديدة لتنفير الناس منه، مثل "الإسلام السياسي" أو "الأصولية"، والإيقاع بينهم وبين الأنظمة الحاكمة، لاستنزاف قوى البلاد في صراعات دامية لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد، في صورة أخرى، وباسم آخر.

إن أي تحويل للمعركة عن هذا المسار، ومحاولة اختراع أعداء من الإسلاميين أنفسهم، ممن يخالفون بعض الناس في فروع الفقه، أو حتى في فروع العقيدة، أو في أولويات العمل، أو في المواقف من القضايا الجزئية المختلفة .. يعتبر غفلة شديدة عن حقيقة العدو الذي يتربص بالجميع الدوائر، ويريد أن يضرب بعضهم ببعض، وهو يتفرج عليهم، ثم يضربهم جميعا في النهاية الضربة القاصمة. فمن فعل ذلك من الدعاة إلى الإسلام عن جهل فهي مصيبة، لأن الجهل بمثل هذه القضية خطر كبير، ومن فعل ذلك عن علم وقصد فهي مصيبة أعظم، وخطرها أكبر، لأنها تكون بمثابة الخيانة للإسلام وأمته وصحوته. ورحم الله الشاعر الذي قال:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة**وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!

وأعتقد أن على تيار الوسطية واجبا كبيرا، يجب أن يسعى إليه، ويحرص عليه، ويجاهد من أجله، وهو العمل بصدق وإخلاص لتجميع الصف الإسلامي ـ صف العاملين للإسلام ـ على الأصول التي لا ينبغي الخلاف عليها، أي على أركان العقيدة الستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعلى الأركان العملية الخمسة: الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وعلى أصول فضائل وأمهات الأخلاق، وعلى اجتناب أصول الرذائل والمحرمات، وبخاصة الكبائر والموبقات.

وبحسبنا اللقاء الإجمالي على هذه الكليات، ولا بأس أن نختلف في الجزئيات والتفاصيل، لا بأس أن نختلف في الفروع، ونختلف في المواقف، ونختلف في الاجتهادات، فهذا اختلاف تقتضيه طبيعة الدين، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة، كما فصلت ذلك في كتابي "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم".

وقد ذكرت في أكثر من كتاب لي: أنه لا مانع من أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام، مادام تعددها تنوع وتخصص، لا تعدد تضارب وتناقض، فتعدد التنوع يؤدي إلى مزيد من الإثراء والنماء، وتعدد التناقض إنما يؤدي إلى التآكل والفناء.

لابد من جهد يبذل لتجميع العاملين لخدمة الإسلام، ونصرة دعوته، وتحكيم شريعته، وتوحيد أمته: جهد فكري، وجهد عملي، لتقريب الشقة، وزرع الثقة، وغرس روح التسامح وحسن الظن، وتنقية الأنفس من آفات العجب والغرور واتهام الآخرين واحتقارهم. "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

وفي رأيي أن هذا العمل من الأولويات المهمة والمقدمة في الساحة الإسلامية اليوم. وإذا لم ينتبه الإسلاميون لخطر التمزق الذي يعيشونه، فسيؤكلون جميعا، ستفترسهم المخالب والأنياب الحادة للقوى المعادية للإسلام وأمته، سيضربون تيارا بعد تيار، ومجموعة بعد مجموعة، حتى يقضى عليهم جميعا.

وإذا كنا لا نملك اليوم القدرة على تجميع قوى أمتنا الكبرى من المحيط إلى المحيط، فلنجتهد ـ على الأقل ـ في تجميع قوى الفصائل الكبرى في الصحوة الإسلامية، القابلة للحوار والتفاهم، وذلك بإزالة النتوءات، وتقليص التطرفات، وتقريب المفاهيم، وتنسيق المواقف، والوقوف صفا واحدا في القضايا المصيرية، يتعاون الجميع في المتفق عليه، ويتسامحون في المختلف فيه، فهذا التفاهم والتعاون والتجمع: فريضة دينية، وضرورة حيوية، فإذا لم تجمعنا الفكرة الواحدة، فلتجمعنا المحنة المشتركة. على نحو ما قال شوقي:

فإن يك الجنس يا ابن الطلح فرقنا ***إن المصائب يجمعن المصابين!

التطبيق القانوني للشريعة أم التربية والإعلام؟

ومما وقع فيه الخلل هنا: أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي ـ وبخاصة المتحمسون منهم ـ أعطوا عناية كبرى لقضية ما أسموه "تطبيق الشريعة الإسلامية" يعنون الجانب القانوني من الشريعة، ولا سيما في العقوبات: أي الحدود والقصاص والتعازير.

وهذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، ولا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه.

ولكن المبالغة في المطالبة به والحديث عنه، واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، كان له آثار سيئة على التفكير الإسلامي، والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، واستغل ذلك خصوم الإسلام وشريعته ودعوته. وطالما قلت: إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبنى الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم: التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجا وحماية.

فالواجب ـ إذن ـ أن نعطي هذه القضية حجمها الحقيقي من الفكر والعمل، وأن تعطى مساحات مناسبة للاشتغال والإعداد والمطالبة بـ "تربية إسلامية متكاملة معاصرة" تتابع الطفل المسلم من سن الحضانة، وتستمر معه، حتى يتخرج من الجامعة، مستخدمة المناهج الملائمة، والأساليب المشوقة، والوسائل السمعية والبصرية، والتكنولوجيا المتطورة، بما يحقق ضرورة الدين للحياة، ويؤكد كمال الإسلام وعدالة أحكامه، وإعجاز كتابه، وعظمة رسوله، وتوازن حضارته، وخلود أمته.

وليست هذه التربية مطلوبة في درس الدين أو التربية الإسلامية فحسب، بل هي مطلوبة، في كل الدروس والمواد العلمية والأدبية، دون افتعال. فلتلتمس في العلوم والمواد الاجتماعية واللغة والأدب، وتلتمس في الأنشطة المدرسية، وفي الجو العام، حتى يساعد على تنشئة جيل مسلم مؤمن بالله معتز بدينه وأمته، متكامل النماء بروحه وعقله وجسمه ووجدانه، مخلص لربه، خادم لوطنه، متسامح مع غيره، عامل لخير الإنسانية جمعاء.

ولابد من الوقوف في وجه الفلسفات والمناهج المادية واللادينية المستوردة، الفارغة من روح الدين، والمناقضة لفلسفة الإسلام عن الله وعن الإنسان، وعن الحياة والعالم، وعن الدين والدنيا.

كما يجب أن تعطى مساحات أخرى مناسبة كذلك، لقضية الإعلام والثقافة، التي غدت من أشد المؤثرات في حياتنا الفردية والاجتماعية، وأصبحت أدوات الإعلام هي التي تصنع العقول والميول والأذواق والاتجاهات الفكرية والنفسية عند جماهير الناس.

فلا يجوز بحال من الأحوال أن تترك هذه في أيدي من لا يؤمنون بالإسلام مرجعا أعلى لحياة الإنسان المسلم وحياة الجماعة المسلمة، في التعامل والفكر والسلوك.

ولابد من العمل على محورين اثنين متكاملين:

الأول: إعداد إعلاميين إسلاميين في كل المجالات، وعلى كل المستويات، قادرين على أن يمثلوا الإسلام، ويمثلوا العصر بإمكاناته الهائلة.

ويدخل في ذلك أهل الفنون المختلفة من غناء ومسرح وتمثيل.

وهنا نحتاج إلى من يكتب النص، ومن يحوله إلى حوار (سيناريو)، ومن يخرجه ويمثله، ومن يصوره، ومن ينفذه.

وهذه أمور ليست بالسهلة، وفيها عقبات شرعية وغير شرعية. يجب العمل على تذليلها، ولو بقبول المرحلية فيها، ووضع خطة محددة الأهداف، بينة الوسائل، معروفة المراحل، لاستكمال الناقص، وإتمام البناء.

الثاني: محاولة كسب الإعلاميين والفنانين الحاليين، فلاشك أن فيهم من المسلمين المصلين الصائمين، ولكنهم ـ بحكم تربيتهم وثقافتهم ـ يحسبون أن ما يصنعونه ليس مخالفا للإسلام، ولا يجلب سخط الله عليهم، وربما عرف بعضهم شيئا من ذلك، ولكن العيشة التي يعيش فيها، والحياة التي تعودها، غلبت عليه.

والواجب هنا بذل الجهد مع هؤلاء، حتى يتفقهوا في دينهم، ويتوبوا إلى ربهم، وينضموا إلى قافلة الداعين إلى الإسلام وفضائله.

ولقد عرفت السنوات الأخيرة توبة عدد من الفنانين، وعدد أكبر من الفنانات، ولكن أكثرهم اعتزلوا الفن وأهله، نجاة بأنفسهم، وفرارا بدينهم.

وأولى من ذلك أن يثبتوا في هذا المعترك الصعب، وهذا الميدان الشاق، وأن يقولوا ما قال عمر بن الخطاب بعد إسلامه: "والله لا يبقى مكان كنت أعلن فيه الجاهلية إلا أعلنت فيه الإسلام". وهذا لا يكون إلا بالتعاون بين الجميع، والتغلب على المعوقات وما أكثرها.

الباب العاشر : فقه الأولويات في تراثنا​

من جال في تراث هذه الأمة الرحب، وجد لعلمائها اهتماما بفقه الأولويات والتنبيه على الاختلال فيه، في صور شتى متناثرة في المصادر المختلفة، تذكر في مناسباتها.

السائلون عن قتل المحرم الذباب!

ولعل من أوائل ما نرى فيه هذا الاهتمام، ما صح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فيما رواه عنه ابن أبي نعيم، قال: جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض! وفي رواية: "فسأله عن المحرم يقتل الذباب"! فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ها، انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ـ يعني الحسن والحسين ـ ريحانتي من الدنيا". وفي الرواية الأخرى: "أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله.." الحديث.

قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في فتح الباري: "أورد ابن عمر هذا متعجبا من حرص أهل العراق على السؤال عن الشيء اليسير، وتفريطهم في الشيء الجليل"، وقال ابن بطال: "يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه، لإنكار ابن عمر على من يسأله عن دم البعوض، مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين، فوبخه بذلك. وإنما خصه بالذكر، لعظم قدر الحسين، ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم".
فليس المقصود الإنكار على شخص السائل بعينه، إنما المقصود الإنكار على اتجاه سائد لدى فئة من الناس، يدققون في الأمور الصغيرة، ويشغلون أنفسهم والناس معهم بالتوافه، على حين يضيعون الأمور الكبار!!

وما حدث لابن عمر حدث لابنه سالم، مع أهل العراق أيضا، فيبدو أنهم سألوه عن بعض صغائر الأمور، في حين أنهم سقطوا في عظائم الأمور، من الاقتتال وسفك بعضهم دماء بعض، مع التحذير الشديد من ذلك في الحديث المتفق عليه: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"!

فقد روى مسلم في كتاب الفتن عن سالم بن عبدالله أنه قال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجئ من ههنا ـ وأومأ بيده نحو المشرق ـ من حيث يطلع قرنا للشيطان"! وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل خطأ، فقال الله عز وجل له: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا).

ومما يذكر في فقه الأولويات في تراثنا: هذه الرسالة النابضة التي رواها الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبدالله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملي علي عبدالله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع سبعين ومائة:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا** لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه** فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا** رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول** صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في** أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا** ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني! ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم. قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبى عبد الرحمن إلينا، وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله، علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله؟ فقال: "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟" فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله! أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله، فكتب له بذلك الحسنات".

ذكرت هذه القصة في أحد ملتقيات الكفر الإسلامي بالجزائر، فاعترض عليها أحد الدعاة الكبار، وأنكر أن يكون لها أصل صحيح!! إذ كيف يسمى ابن المبارك العبادة في الحرمين لعبا؟!

والحق أن القصة صحيحة، ذكرها ابن عساكر بسندها في ترجمة عبدالله بن المبارك، ونقلها الحافظ ابن كثير في تفسيره في آخر سورة آل عمران مقرا لها. كما ذكرها الحافظ الذهبي في ترجمة ابن المبارك في موسوعته "سير أعلام النبلاء". وليس فيها ما يخالف أصول الإسلام أو نصوصه، بل استدل ابن المبارك في شعره بالكتاب والسنة، كما أيد ذلك العابد الزاهد الفضيل بما أملى من حديث على ناقل الرسالة.

وقد ذكرها شيخنا البهي الخولي في كتابه الرائد "تذكرة الدعاة" وعلق عليها بقوله: "كتب ابن المبارك هذا الكلام لصديقه "الفضيل" في وقت لم يكن الجهاد فيه فرض عين، ومع هذا وصف عبادته بأنها لعب، وهي عبادة تقع في أشرف بقعة على ظهر الأرض! ترى ماذا يقول ابن المبارك لصديقه لو كان الجهاد فرض عين؟! وماذا كان يقول عن العبادة لو أنها كانت في غير المسجد الحرام"؟!

الاختلاط عند الفساد أم العزلة؟

ومن ذلك بحثهم: أيهما أولى بالمسلم في أزمان الفتن وانتشار المعاصي والفساد: الاختلاط بالمجتمع ومحاولة إصلاحه أم العزلة والنجاة بالنفس؟

أما الصوفية .. ففضل جمهورهم الاختيار الثاني، وأما العلماء الربانيون المجاهدون ففضلوا طريق الأنبياء، وهو المخالطة والمجاهدة والصبر على أذى الناس.

روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

وللإمام أبي حامد الغزالي كتاب في "إحيائه" حول العزلة والخلطة، وما في كل منهما من فوائد، وما يحذر من آفات.

ومنها: بحثهم حول الدنيا ومتاعها أيهما أولى بالنسبة لها: الدخول في معمعتها، والمشي في مناكبها ومزاحمة أهلها والاستمتاع بطيباتها مع الالتزام بحدود الله، أم الانصراف عنها والزهد فيها وفي أهلها وزينتها وأموالها؟

آثر جمهور الصوفية الاختيار الثاني، لكن الربانيين المحققين من علماء الأمة آثروا الاختيار الأول، وهو الذي مضى عليه الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان، وكبار الصحابة مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وغيرهم.

ورد العلامة أبو الفرج الجوزي (المتوفى سنة 597هـ) على الصوفية الذين ذموا المال بإطلاق، واعتبروه شرا وآفة، وأنكروا على من ملكه واكتسب الغنى ولو من حلال. واستدل ابن الجوزي في كتابه النقدي الرائع "تلبيس إبليس" بالكتاب والسنة وهدي الصحابة، وقواعد الشريعة.

ترك المنهيات أم فعل الطاعات؟

ومن ذلك بحثهم: أيهما أولى وأفضل عند الله: ترك المناهي والمحرمات أم فعل الأوامر والطاعات؟

قال بعضهم: ترك المناهي أهم وأشد خطرا من فعل الأوامر، واستدلوا بالحديث الصحيح المتفق عليه، الذي ذكره النووي في أربعينه، وشرحه ابن رجب في جامعه، وهو: "إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" .. قالوا: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر، لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب الاستطاعة، وروى هذا عن الإمام أحمد.

ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصي، فلا يتركها إلا صديق.

وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اتق المحارم، تكن أعبد الناس".

وقالت عائشة رضي الله عنها: "من سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف عن الذنوب"، وروى عنها مرفوعا.

وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه.

والظاهر أن ما ورد في تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات، إنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات، لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية، بخلاف الأعمال، ولذلك كان جنس ترك الأعمال قد يكون كفرا كترك التوحيد، وكترك أركان الإسلام أو بعضها، على ما سبق، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر: لرد دانق حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله.

وعن بعض السلف قال: ترك دانق مما يكره الله أحب إلي من خمسمائة حجة.

وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أنه يذكر الله العبد عند المعصية فيمسك عنها.

وقال ابن المبارك: لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف.

وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان مع ذلك عمل، فهو خير إلى خير، أو كما قال.

وقال أيضا: وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر، وأن أودي الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان ولا أصوم بعده يوما أبدا، وأن أحج حجة الإسلام ثم لا أحج بعدها أبدا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله فيما حرم الله علي، فأمسك عنه.

وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات ـ وإن قلّت ـ أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات، فإن ذاك فرض، وهذا نفل.

وقالت طائفة من المتأخرين: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يستطاع، فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وقال في الحج: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).

وأما النهي: فالمطلوب عدمه، وذلك هو الأصل، والمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع، وهذا أيضا فيه نظر، فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا، لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية مع القدرة عليها، فيحتاج الكف عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة، ربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعة، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات. وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية ولا يعلمون بها، فقال: "أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم".

وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: "أيها الشاب التارك شهوته، المبتذل شبابه لأجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي".

وقال: "ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون"؟

والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي، فلم يعذر أحدا بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، إنما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إن النهي أشد من الأمر. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره أنه قال: "استقيموا ولن تحصلوا".

يعني: لو تقدروا على الاستقامة كلها.

الغنى مع الشكر أم الفقر مع الصبر؟

ومن المباحث التي تدخل هنا في فقه الموازنات أو فقه الأولويات: ما بحثه العلماء قديما حول الإجابة عن هذا السؤال: أيهما أفضل وأكثر أجرا: الغنى مع الشكر أم الفقر مع الصبر؟ وبعبارة أخرى: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟

تفاوتت الإجابة على السؤال ما بين مرجح للأول، ومرجح للآخر.

والذي يترجح لي من خلال التدبر في النصوص والمقارنة بينها: أن الغنى مع الشكر هو الأولى، والأفضل، وليس هو بالشيء الهين، كما قد يظن. فقد قال الله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور).

وقال تعالى على لسان إبليس لعنه الله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله الغنى، ويتعوذ بالله من الفقر.

قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى".

"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم".

"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق".

"اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع".

وقال لسعد: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".

وقال لعمرو: "يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح".

ودل حديث: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا.." على أن الأغنياء إذا شكروا نعمة الله، وقاموا بحقها، كان لهم من فرص الطاعات ما ليس للفقراء، ولذا قال في الحديث: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

وقد أثنى الله تعالى على عدد من رسله الأكرمين فوصفهم بفضيلة الشكر.

مثل شيخ المرسلين نوح عليه السلام، حيث مدحه بقوله: (إنه كان عبدا شكورا).

وإبراهيم أبي الأنبياء وأبي المسلمين، حين مدحه بقوله: (شاكرا لأنعمه، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم).

وداود وسليمان في قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور).

وحكى عن سليمان أنه قال بعد أن سمع كلام النملة: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي).

وحكى عن يوسف قوله: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث).

وامتن على خاتم رسله بقوله: (ووجدك عائلا فأغنى)، ثم قال له: (وأما بنعمة ربك فحدث).

وامتن على أصحابه فقال: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).

الإمام الغزالي وفقه الأولويات

نموذج من الإخلال بالترتيب الشرعي للأعمال

ومن العلماء الذين عنوا بفقه الأولويات، ونقدوا المجتمع المسلم بالتفريط فيه: الإمام الغزالي. وهذا ظاهر في موسوعته "إحياء علوم القرآن" يجدها قارئه في "أرباعه" الأربعة، وفي كتبه الأربعين، ولكنه يجدها أوضح ما تكون في كتابه "ذم الغرور" وهو العاشر من ربع "المهلكات".

وفيه ذكر أصنافا من الذين أوبقهم الغرور، وهم لا يشعرون.

فذكر من هؤلاء أرباب العلم، وأرباب العبادة والعمل، وأرباب التصوف، وأرباب الأموال، وآخرين من العوام، وذكر فرق المغترين من كل صنف، وكيف خدعتهم أنفسهم، أو زينت لهم شياطينهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وقد أبدع في الوصف والتصوير هنا أيما إبداع. كما أشار إلى العلاج الواجب الاتباع.

واكتفى هنا بذكر نموذجين من نماذج نقده القوي العميق البصير، لنرى منه مقدار فقهه في دين الله، وفهمه لدنيا الناس، وحرصه على إصلاحهم في ظواهرهم وبواطنهم، وعنايته ـ رضي الله عنه ـ بفقه الأولويات.

نموذج من الإخلال بالترتيب الشرعي للأعمال

النموذج الأول: من فرق المغترين من المتدينين من أهل العبادة والعمل يقول فيه:

"فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان والسرف، كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه، ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في فتوى التشريع، ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة، وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة! وربما أكل الحرام المحض، ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة، فقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية، مع ظهور احتمال النجاسة، وكان ـ مع هذا ـ يدع أبوابا من الحلال، مخافة من الوقوع في الحرام".

وفرقة أخرى حرصت على النوافل، ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "ما تقرب المقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم"، وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور.

بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان، أحدهما يضيق وقته، والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورا.

ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فإن المعصية ظاهرة، والطاعة ظاهرة، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض، كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد، إذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: من أبرّ يا رسول الله؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك"، قال: ثم من؟ قال: "أدناك فأدناك"، فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأتقى والأورع.

وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج، فربما يحج، وهو مغرور، بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج، وهذا من تقديم فرض أهم على فرض هو دونه.

وكذلك إذا كان على العبد ميعاد، ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوت، والاشتغال بالوفاء بالوعد "حينئذ" معصية، وإن كان هو طاعة في نفسه.

وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة، فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك، فالنجاسة محذورة، وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة.

وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر، ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور. وهذا غرور في غاية الغموض، لأن المغرور فيه في طاعة، إلا أنه لا يفطن، لصيرورة الطاعة معصية، حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها.

وهذا الذي ذكره الغزالي الفقيه في غاية الأهمية، وما أحوج دعاة الصحوة الإسلامية إلى فقهه ووعيه، وطالما دعوت منذ مدة شباب الصحوة والجماعات الدينية إلى ما سميته "فقه مراتب الأعمال"، وإعطاء كل عمل "سعره" الشرعي، ومكانه في سلم المأمورات والمنهيات، ولم أكن قرأت ما كتبه الغزالي هنا بهذا العمق والوضوح، وعبر عنه بهذه الكلمة الناصعة: "ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور". وسيأتي في كلامه مزيد أمثلة.

نموذج من إنفاق الأموال في غير ما هو أولى بها

والنموذج الآخر: يتمثل في بعض أرباب الأموال، والمغترون منهم فرق: (ففرقة بينهم) يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر، وما يظهر للناس كافة، ويكتبون أساميهم بالآجر عليهم، ليتخلد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، وقد اغتروا فيه من وجهين:

أحدهما: أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها. وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها، فإذ قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله، وردها إلى ملاكها، إما بأعيانها، وإما برد بدلها عند العجز، فإن عجزوا عن الملاك، كان الواجب ردها إلى الورثة، فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح، وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين، وهم لا يفعلون ذلك، خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس، فيبنون الأبنية بالآجر، وغرضهم من بنائها الرياء، وجلب الثناء، وحرصهم على بقائها، لبقاء أسمائهم المكتوبة فيها لإبقاء الخير.

والوجه الثاني: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص، وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية. ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا، ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه ذلك، لم تسمح به نفسه، والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب، ولولا أنه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك.

اشتغال الأغنياء بالعبادات البدنية

وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال، ويمسكونها بحكم البخل، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة، كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن، وهم مغرورون، لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم، فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها! ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية، وقد أشرف على الهلاك، وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجبين؟

ولذلك قيل لبشر: إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة! فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره! وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياعـ والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه، من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء.

إنفاق المال في حج التطوع

ومما عاب الغزالي كذلك على المتدينين من أرباب الأموال: أنهم ربما يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيحجون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعا!

فلذلك قال ابن مسعود: في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين. يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور على جنبه لا يواسيه!

وكأن ابن مسعود رضي الله عنه ينظر إلى زماننا هذا من وراء الغيب، ويصف ما فيه. وقال أبو نصر التمار: إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟

فقال: ألفي درهم.

قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله.

قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى، وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟

قال: نعم.

قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضى دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف، أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام! قم فأخرجها كما أمرناك، وإلا فقل لنا ما في قلبك؟

فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي.

فتبسم بشر رحمه الله، وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس أن تقضي به وطرا، فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين!

(ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم).

علماء آخرون شاركوا في فقه الأولويات

ومن معاصري الغزالي: العلامة الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) وله كلمات مشرقة في فقه الأولويات نقلنا شيئا منها في الاشتغال بالسنن عن الفرائض، وقوله: من شغله الفرض عن الفضل (النفل) فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.

وبعده نجد الإمام النقاد أبا الفرج ابن الجوزي (ت 597هـ) وله باع طويل في نقد المجتمع وفئاته المختلفة، واختلال الأولويات عندها، وتلبيس الشيطان عليهم في ذلك، وهذا ما نراه في كتبه "تبليس إبليس"، و"صيد الخاطر"، و"ذم الهوى" وغيرها. وقد تنبه ابن الجوزي إلى جانب مهم له أثره في الإخلال بالأولويات عند عموم الناس، وهو الأحاديث الواهية والموضوعة، فألف كتابيه الكبيرين: "الموضوعات"، و"العلل المتناهية في الأحاديث الواهية".

وبعده نجد سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (ت 660هـ) وله نظر ثاقب، وفكر صائب، في فقه الموازنات، وفقه الأولويات، تجلت آثاره في كتابه الأصيل "قواعد الأحكام في مصالح الأنام". وقد نقلنا عنه في الفصل الثاني فقرات مضيئة تدل على المقصود.

ابن تيمية وفقه الأولويات

ومن أئمة الهدى الذين كان لهم قدم راسخة في فقه الأولويات ـ وفقه الموازنات ـ شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 827هـ) ومضى على دربه تلميذه المحقق الإمام ابن القيم (ت 751هـ) رحمهما الله.

وقد نقلت في كتابي "أولويات الحركة الإسلامية" فصلين من كتابات شيخ الإسلام، يمثلان فقهه وفكره في هذا المجال، جعلتهما ملحقين في آخر كتاب.

وللشيخ في كتبه ورسائله وفتاويه ومواقفه: الكثير الطيب مما يحسن الاستشهاد به فيقنع ويشبع، لاتصاله بمنابع الهدى الإلهي، والهدي النبوي. ولكني أكتفي هنا بذكر نموذجين من كلام هذا الإمام، ففيهما ما يكفي ويغني إن شاء الله.

اختلاف فضل العمل باختلاف الظروف

النموذج الأول: كنت ذكرت خلاصته في كتابي "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" وهو يتعلق باختلاف فضل العمل باختلاف الأحوال والملابسات، ومراعاة تأليف القلوب.

يقول رحمه الله بعد بحث ومناقشة:

"فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه" والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.

ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله، مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا.

وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنا، مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو بالبسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة، كما ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح، فكان يكبر ويقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة، فكان يكبّر، ثم يقول ذلك، رواه مسلم في صحيحه. ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس، وكذلك كان ابن عمر وابن عباس يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة. وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان ليعلم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة، وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين:

منهم من لا يرى فيها قراءة بحال، كما قاله كثير من السلف، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك.

ومنهم من يرى القراءة فيها سنة، كقول الشافعي، وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره.

ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة.

ومنهم من يقول: بل هي سنة مستحبة، ليست واجبة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة، فإن السلف فعلوا هذا، وهذا، وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وغير قراءة، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة، وتارة بغير جهر بها، وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة، وتارة بغير رفع اليدين، وتارة يسلمون تسليمتين، وتارة تسليمة واحدة، وتارة يقرأون خلف الإمام بالسر، وتارة لا يقرأون، وتارة يكبّرون على الجنازة أربعا، وتارة خمسا، وتارة سبعا كان فيهم من يفعل هذا، وفيهم من يفعل هذا، كل هذا ثابت عن الصحابة.

كما ثبت عنهم أن منهم من كان يرجع في الأذان، ومنهم من لم يرجع فيه.

ومنهم من كان يوتر الإقامة، ومنهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا. وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة.

وهذا واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل، قد يكون في مواطن غيره أفضل منه، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والذكر والدعاء أفضل منها في تلك الأوقات، وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر، وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين، لكونه عاجزا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل، في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه، كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه، وإن كان جنس ذلك أفضل.

ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرا من القراءة، والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرا من الصلاة، وأمثال ذلك، لكمال انتفاعه به، لا لأنه في جنسه أفضل.

وهذا الباب "باب تفضيل بعض الأعمال على بعض" إن لم يعرف فيه التفصيل، وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال، وإلا وقع فيها اضطراب كثير، فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات، حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه.

ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل، يحافظ أيضا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات، حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية، كما تجده فيمن يرى الترك شعارا لمذهبه، وأمثال ذلك، وهذا كله خطأ.

والواجب أن يعطي كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسعه الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية، والمقاصد الشرعية، ويعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله بعثه رحمة للعالمين، بعثه بسعادة الدنيا والآخرة، في كل أمر من الأمور، وأن يكون مع الإنسان من التفصيل ما يحفظ به هذا الإجمال، وإلا فكثيرا من الناس يعتقد هذا مجملا، ويدعه عند التفصيل:

إما جهلا، وإما ظلما، وإما اتباعا للهوى، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".

وفي ضوء هذا الفقه كانت فتوى الإمام حسن البنا رحمه الله، حين سأله المختلفون في صلاة التراويح: أتصلي عشرين كما في الحرمين وغيرهما، وهو المشهور عن المذاهب الأربعة، أم تصلي ثمانية، كما يصر على ذلك بعض دعاة السلفية؟ وكاد أهل القرية الذين سألوا الشيخ البنا يقتتلون من أجل هذه القضية.

وكان فقه الشيخ أن التراويح سنة وأن اتحاد المسلمين فريضة، فكيف نضيع فريضة من أجل سنة؟! وأنهم لو صلوا في بيوتهم دون أن يتعادوا ويتشاجروا، لكان خيرا لهم وأقوم.

تعارض الحسنات والسيئات

والنموذج الثاني ذكرته في ملحق رقم (2) في ختام كتاب "أولويات الحركة الإسلامية" تحت عنوان: "فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية من فصل في تعارض الحسنات والسيئات:

"إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض الحسنات، فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما: فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما: بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

فالأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين، وفرض الكفاية مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع.

والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على مواقيتها" قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"، وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة، متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع.

والثالث: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن).

وكذلك في "باب الجهاد" وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما، فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك، كما جاءت في السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله.

وكذلك "مسألة التترس" التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي (إلى) قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك، وإن لم يخف الضرر لكن لم يكن إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان.

وأما الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج، لقيام غيره مقامه، ولأن البراء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء.

فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها، إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها. والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية.

وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط

محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض. فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه
مرضان مختلفان داوى الأخطرا


وهذا ثابت في سائر الأمور.

ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان.

ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن، لكن أقول هنا: إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة، جازت له الولاية، وربما وجبت! وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل، كان فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.

وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا، فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا.

وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات، لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح.

ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة، فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب، أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة، واستحبابا أخرى.

ومن هذا الباب تولى يوسف الصديق على خزائن الأرض، لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به) .. الآية، وقال تعالى عنه: (يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم) .. الآية. ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).

فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة.

وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب، وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم.

وهذا باب التعارض باب واسع جدا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل. ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين.

فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها ـ كما بينته فيما تقدم ـ العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في أمره بطاعة فعل لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات ترك لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر".
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الباب الحادي عشر: فقه الأولويات في دعوات الصالحين في العصر الحديث​

من نظر إلى سير الدعاة والمصلحين في العصر الحديث، يجد ـ من الناحية العلمية ـ أن كلا منهم عنى بجانب معين في مجال الدعوة والإصلاح، وقدمه على غيره، ووجه إليه جل فكره وجهده، بناء على ما فهمه من حقائق الإسلام من ناحية، وعلى ما يراه من نقص وقصور في هذا الجانب في الحياة الإسلامية، وحاجة الأمة إلى إحيائه وإعلائه وتبنيه.

الإمام ابن عبد الوهاب

فالإمام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية كانت الأولوية عنده للعقيدة، لحماية حمى التوحيد من الشركيات والخرافيات التي لوثت نبعه، وكدرت صفاءه، وألف في ذلك كتبه ورسائله، وقام بحملاته الدعوية والعملية في هدم مظاهر الشرك.

الزعيم محمد أحمد المهدي

والزعيم محمد أحمد المهدي في السودان كانت الأولوية عنده للجهاد، وتربية الأتباع على الخشونة والتجرد، ومقاومة الاستعمار البريطاني وأتباعه.

السيد/جمال الدين

والسيد جمال الدين الأفغاني كانت الأولوية عنده لإيقاظ الأمة، وتهييجها على الاستعمار، الذي يمثل خطرا على دينها ودنياها، وإشعارها بأنها أمة واحدة تشترك في القبلة، وفي العقيدة، وفي التوجه، وفي المصير. وقد تجلى ذلك في مسيرته وسيرته، وفي مجلة "العروة الوثقى" التي كان يصدرها هو تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده.

الإمام محمد عبده

والإمام محمد عبده، اهتم بتحرير العقل المسلم من أسر التقليد، وربطه بالمنابع الإسلامية الصافية، كما قال هو عن نفسه وأهدافه: "وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم رحمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم، باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل، كل هذا أعده أمرا واحدا، وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم ـ أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية.

وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة .. أن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظلم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد".

الإمام حسن البنا

والإمام الشهيد حسن البنا عنى ـ أول ما عنى ـ بتصحيح فهم الإسلام لدى المسلمين، وإعادة ما حذف منه على أيدي المتغربين والعلمانيين، فقد أرادوه عقيدة بلا شريعة، ودينا بلا دولة، وحقا بلا قوة، وسلاما ـ أو استسلاما ـ بلا جهاد، وأراده هو ـ كما أراده شارعه ـ عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وحقا وقوة، وسلاما وجهادا، ومصحفا وسيفا. وبذل جهدا كبيرا ليبين للناس: أن السياسة جزء من الإسلام، وأن الحرية فريضة من فرائضه، كما وجه عنايته وجهوده لتكوين جيل مسلم جديد رباني الغاية، إسلامي الوجهة، محمدي الأسوة، جيل يفهم الإسلام فهما دقيقا، ويؤمن به إيمانا عميقا، ويترابط عليه ترابطا وثيقا، ويعمل به في نفسه، ثم يعمل ويجاهد لتوجيه النهضة إليه، وصبغ الحياة به. وفي سبيل هذه الغاية يريد أن يجمع ولا يفرق، وأن يوحد ولا يشتت، ولهذا لا يثير الموضوعات التي من شأنها أن تمزق الصف، وتفرق الكلمة، وتقسم الناس شيعا وأحزابا، وحسبه أن يجتمع الناس على الأساسيات والأصول الكلية للإسلام.

وقد حكى في مذكراته موقفا فيه عبرة يدل على وعيه المبكر ـ وهو في أول العشرينات من عمره ـ بقضية الوحدة وضرورة تجميع أبناء الأمة على أمهات العقائد والشرائع والأخلاق، وتجنب الخلافات الفرعية التي لا تنتهي.

فقد كانت هناك زاوية (مسجد صغير) يلقي فيها الأستاذ دروسه، وفيها يقول: "كانت هذه الزاوية الثانية هي الزاوية التي بناها الحاج مصطفى تقربا إلى الله تبارك وتعالى، وفيها اجتمع هذا النفر من طلاب العلم يتدارسون آيات الله والحكمة في أخوة وصفاء تام.

ولم يمض وقت طويل حتى ذاع نبأ هذا الدرس، الذي كان يستغرق ما بين المغرب والعشاء، وبعده يخرج إلى درس القهاوي حتى قصد إليه كثير من الناس ومنهم هواة الخلاف وأحلاس الجدل وبقايا الفتنة الأولى.

وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة، روح تحفز وفرقة، ورأيت المستمعين قد تميز بعضهم من بعض، حتى في الأماكن، ولم أكد أبدأ حتى فوجئت بسؤال: ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل؟ فقلت له: "يا أخي، أظنك لا تريد أن تسألني عن هذه المسألة وحدها، ولكنك تريد أن تسألني كذلك في الصلاة والسلام بعد الأذان، وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، وفي لفظ السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد، وفي أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وأين مقرهما؟ وفي قراءة القرآن وهل يصل ثوابها إلى الميت أو لا يصل؟ وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق وهل هي معصية أو قربة إلى الله"؟ وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعا التي كانت مثار فتنة سابقة وخلاف شديد فيما بينهم، فاستغرب الرجل، وقال: نعم أريد الجواب على هذا كله!

فقلت له: يا أخي، إني لست بعالم، ولكني رجل مدرس مدني أحفظ بعض الآيات، وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب، وأتطوع بتدريسها للناس. فإذا خرجت بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال لا أدري فقد أفتى، فإذا أعجبك ما أقول، ورأيت فيه خيرا، فاسمع مشكورا، وإذا أردت التوسع في المعرفة، فسل غير من العلماء والفضلاء المختصين، فهم يستطيعون إفتاءك فيما تريد، وأما أنا فهذا مبلغ علمي، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فأخذ الرجل بهذا القول، ولم يجد جوابا، وأخذت عليه بهذا الأسلوب، سبيل الاسترسال، وارتاح الحاضرون أو معظمهم إلى هذا التخلص.

ولكني لم أرد أن تضيع الفرصة فالتفت إليهم وقلت لهم: "يا إخواني، أنا أعلم تماما أن هذا الأخ السائل، وأن الكثير من حضراتكم، ما كان يريد من وراء هذا السؤال إلا أن يعرف هذا المدرس الجديد من أي حزب هو؟ أمن حزب الشيخ موسى أو من حزب الشيخ عبد السميع؟! وهذه المعرفة لا تفيدكم شيئا، وقد قضيتم في جو الفتنة ثماني سنوات وفيها الكفاية. وهذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين ولا زالوا مختلفين والله تبارك وتعالى يرضى منا بالحب والوحدة ويكره منا الخلاف والفرقة، فأرجو أن تعاهدوا الله أن تدعوا هذه الأمور الآن وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده، ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة وإرشاداته المجمع عليها، ونؤدي الفرائض والسنن وندع التكلف والتعمق، حتى تصفو النفوس، ويكون غرضنا جميعا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي، وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص، وأرجو أن تتقبلوا مني هذا الرأي ويكون عهدا فيما بيننا على ذلك". وقد كان، ولم نخرج من الدرس إلا ونحن متعاهدون على أن تكون وجهتنا التعاون وخدمة الإسلام الحنيف، والعمل له يدا واحدة، وطرح معاني الخلاف، واحتفاظ كل برأيه فيها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

واستمر درس الزاوية بعد ذلك بعيدا عن الجو الخلافي فعلا بتوفيق الله، وتخيرت بعد ذلك في كل موضوع معنى من معاني الأخوة بين المؤمنين، أجعله موضوع الحديث أولا تثبيتا لحق الإخاء في النفوس، كما أختار معنى من معاني الخلافيات، التي لم تكن محل جدل بينهم والتي هي موضع احترام الجميع وتقدير الجميع، أطرقه وأتخذ منه مثلا لتسامح السلف الصالح رضوان الله عليه، ولوجوب التسامح واحترام الآراء الخلافية فيما بيننا.

وأذكر أنني ضربت لهم مثلا علميا فقلت لهم: أيكم حنفي المذهب؟ فجاءني أحدهم فقلت: وأيكم شافعي المذهب؟ فتقدم آخر، فقلت لهم: سأصلي إماما بهذين الأخوين فكيف تصنع في قراءة الفاتحة أيها الحنفي؟ فقال: أسكت ولا أقرأ، فقلت: وأنت أيها الشافعي ما تصنع؟ فقال: أقرأ ولابد. فقلت: وإذا انتهينا من الصلاة فما رأيك أيها الشافعي في صلاة أخيك الحنفي؟ فقال: باطلة، لأنه لم يقرأ الفاتحة وهي ركن من أركان الصلاة، فقلت: وما رأيك أنت أيها الحنفي في عمل أخيك الشافعي؟ فقال: لقد أتى بمكروه تحريما، فإن قراءة الفاتحة للمأموم مكروهة تحريما. فقلت: هل ينكر أحدكما على الآخر؟ فقالا: لا، فقلت للمجتمعين: هل تنكرون على أحدهما؟ فقالوا: لا، فقلت: "يا سبحان الله! يسعكم السكوت في مثل هذا وهو أمر بطلان الصلاة أو صحتها ولا يسعكم أن تتسامحوا مع المصلي إذا قال في التشهد: اللهم صل على محمد، أو اللهم صل على سيدنا محمد، وتجعلون من ذلك خلافا تقوم له الدنيا وتقعد"، وكان لهذا الأسلوب أثره فأخذوا يعيدون النظر في موقف بعضهم من بعض، وعلموا أن دين الله أوسع وأيسر من أن يتحكم فيه عقل فرد أو جماعة، وإنما مرد كل شيء إلى الله ورسوله وجماعة المسلمين وإمامهم، إن كان لهم جماعة وإمام".

الإمام المودودي

والإمام أبو الأعلى المودودي كانت الأولوية عنده لمحاربة "الجاهلية" الحديثة، ورد الناس إلى الدين والعبادة بمعناها الشامل، والخضوع لـ "حاكمية الله" وحده، ورفض حاكمية المخلوقين، أيا كانت منزلتهم أو وظيفتهم، مفكرين أو قادة سياسيين، وإنشاء إسلامية متميزة، ترفض فكرة الغرب في المدنية والاقتصاد والسياسة وحياة الفرد والأسرة والمجتمع، وتتخذ منهجا خاصا في الانقلاب أو التغيير، وظهر له في ذلك كتب ورسائل جمة، عبرت عن فلسفته في الدعوة إلى الإسلام وتجديده، وقامت جماعته على تبنيها ونشرها.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
أعلى