الباب الثامن: الأولويات في مجال المنهيات
كفر الإلحاد والجحود
وما قلناه من تفاوت بالنظر إلى "جانب المأمورات" ودرجاتها ومستوياتها "من مستحب إلى واجب، إلى فرض كفاية، إلى فرض عين، إلى تفاوت في فروض الأعيان..الخ". نقول مثله بالنظر إلى "جانب المنهيات". فليست المنهيات كلها في مرتبة واحدة، بل هي مراتب متفاوتة غاية التفاوت. أعلاها من غير شك: الكفر بالله تعالى، وأدناها: المكروه تنزيها، أو ما يعبر عنه بـ "خلاف الأولى".
والكفر أيضا درجات بعضها دون بعض.
كفر الإلحاد والجحود
فهناك كفر الإلحاد والجحود، الذي لا يؤمن صاحبه بأن للكون ربا، ولا أن له ملائكة أو كتبا أو رسلا مبشرين ومنذرين، ولا أن هناك آخرة يجزى الناس فيها بما عملوا، خيرا أو شرا. فهؤلاء لا يعترفون بألوهية ولا نبوة ولا رسالة ولا جزاء أخروي، بل هم كما قال القرآن عن أسلاف لهم يقولون: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).
أو كما عبر بعضهم: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا شيء بعد ذلك.
وهذا هو كفر الماديين في كل عصر، وعليه قام الفكر الشيوعي، الذي انهارت قلاعه، والذي كان يقرر دستور دولته الأم: أن لا إله، والحياة مادة.
فالدين عند هؤلاء خرافة، والألوهية أسطورة، وقد اشتهر عندهم ما قاله بعض الفلاسفة الماديين المنكرين: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله!
وهذا هو الضلال البعيد، الذي يرفضه منطق العقل، ومنطق الفطرة، ومنطق العلم، ومنطق الكون، ومنطق التاريخ، فضلا عن منطق الوحي، الذي قامت البراهين القاطعة على ثبوته.
وصدق الله إذ يقول: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) وهذا هو شر أنواع الكفر.
كفر الشرك
ودون هذا الكفر ـ كفر الجحود المطلق ـ كفر الشرك، مثل شرك عرب الجاهلية، فقد كانوا يؤمنون بوجود الإله، وبخالقيته للسموات والأرض والناس، وبتدبيره لأمر الرزق والحياة والموت، ولكنهم ـ مع هذا النوع من الإقرار الذي سمى "توحيد الربوية" ـ أشركوا بالله فيما سمى "توحيد الإلهية"، وعبدوا معه ـ أو من دونه ـ آلهة أخرى، في الأرض أو في السماء.
وفي هذا يقول القرآن: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم).
(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله).
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون).
فهم يؤمنون به خالقا ورازقا ومدبرا، ولكن يعبدون معه آلهة من الشجر والحجر، والمعدن، أو غيرها، قائلين: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
وهذا الشرك بصوره المختلفة، ومنه شرك وثنيي العرب، وشرك مجوسي الفرس، الذين يقولون بإلهين اثنين: "إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة" ووثنيي الهندوس والبوذيين، وغيرهم ممن لا تزال وثنيتهم تغشى عقولهم أمم كبيرة بمئات الملايين في آسيا وإفريقيا، هو أكثر أنواع الكفر أنصارا وأتباعا.
والشرك هو: مباءة الخرافات، ووكر الأباطيل، وهو انحطاط بالإنسان، حيث يعبد ما هو مسخر له، وما يجب أن يكون في خدمته، فيغدو هو خادما، بل عبدا، مطيعا خاضعا له!
يقول تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
كفر أهل الكتاب
ودون هذا الكفر: كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكفرهم من جهة تكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب الخالد، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل من جهة، ومصححا لها من جهة أخرى، وفي هذا قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).
ومما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم: تصحيح مفاهيمهم عن الألوهية، فقد شابتها في كتبهم ومعتقداتهم شوائب كثيرة، كدرت صفاءها، وأخرجتها عن نقاء التوحيد الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء، فإذا التوراة تحفل بمعاني التجسيم والتشبيه لله الواحد الأحد، حتى لتكاد تحسبه واحدا من البشر المخلوقين، يخاف ويحسد ويغار، ويصارع إنسانا فيصرعه ويغلبه، كما فعل مع إسرائيل إلى آخر ما في أسفار التوراة وملحقاتها.
وكذلك ما دخل على عقيدة النصارى من التثليث، وما دخل من تأثير الوثنية الرومانية على الديانة المسيحية، بعد دخول الملك قسطنطين إمبراطور الروم في النصرانية، فكسبت الدولة، وخسرت دينا. حتى قال بعض علمائنا: إن روما لم تنتصر، ولكن النصرانية ترومت!
على أن اليهود والنصارى، وإن اعتبروا كفارا بسبب تكذيبهم برسالة الإسلام، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لهم وضعا خاصا، بوصفهم "أهل كتاب سماوي"، فهم يؤمنون في الجملة بالألوهية، وبالرسالات السماوية، وبالجزاء في الآخرة، ومن ثم كانوا أقرب إلى المسلمين من غيرهم. فأجاز القرآن مؤاكلتهم ومصاهرتهم: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم… ).
وهذه السورة (المائدة) نفسها هي التي تحدثت عن كفر النصارى لقولهم: (إن الله هو المسيح ابن مريم)، (إن الله ثالث ثلاثة)، فلا مجال لمن يقول: إن نصارى اليوم غير النصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، فالمعروف أن النصرانية قد "تبلورت" وتحددت معالمها العقدية منذ "مؤتمر نيقية" الشهير (سنة 325) من ميلاد المسيح.
وقد عرف الصحابة منذ العهد المكي قرب أهل الكتاب ـ وبخاصة النصارى ـ إليهم، فحزنوا لانهزام الروم البيزنطيين وهم نصارى، أمام الفرس، وهم مجوس، على حين فرح الوثنيون المشركون من أهل مكة بانتصار الفرس، فكل من الفريقين عرف من هو أقرب إليه ومن هو أبعد منه. وقد نزل قرآن يتلى يبشر المسلمين بنصر غير بعيد للروم على الفرس، وذلك في أوائل سورة الروم: (الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله).
وهذا يضع أمام أعيننا قاعدة مهمة للموازنة والترجيح في التعامل مع غير المسلمين، واعتبار أهل الكتاب ـ في الجملة ـ أقرب من الملاحدة والوثنيين، ما لم تكن هناك عوامل خاصة تجعل أهل الكتاب أشد عداوة أو حقدا للمسلمين: كما نرى حديثا عند الصرب وعند اليهود.
ومن المؤكد أن الكفار منهم مسالمون، فلهم منا المسالمة، ومنهم معادون محاربون. فنحن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به. فهناك الذين كفروا فقط، وهناك الذين "كفروا وظلموا"، أو "كفروا وصدوا عن سبيل الله" وكل له حكمه. وقد قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
ومن المقرر: أن أهل الذمة لهم حقوق المواطنة باعتبارهم من أهل "دار الإسلام"، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا في الجملة، إلا ما اقتضاه اختلاف الدين، فلا يفرض عليهم ما يلغي شخصيتهم الدينية كما لا يطلب ذلك من المسلمين.
كفر أهل الردة
ومن المقرر لدى علماء المسلمين: أن شر أنواع الكفر هو: الردة، وهو: أن يخرج المرء من الإسلام بعد أن هداه الله إليه.
فالكفر بعد الإسلام أشد من الكفر الأصلي، وهو ما لا يزال أعداء الإسلام يسعون إليه بكل ما يستطيعون، قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، ثم بين جزاء من يستجيب لهؤلاء المضلين ويتخلى عن دينه ليتبع أهواءهم، فقال: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون).
والردة تعتبر في هذه الحالة خيانة للإسلام ولأمته، لما فيها من تبديل الولاء والانتحاء، والاتجاه من أمة إلى أمة، فهو أشبه بالخيانة للوطن، إذا بدل ولاءه لوطن آخر، وقوم آخرين، فأعطى مودته ونصرته لهم، بدل وطنه وقومه.
فليست الردة إذن مجرد موقف عقلي يتغير، إنما هو تغيير للولاء والعضوية من جماعة إلى أخرى مضادة أو معادية لها.
ولهذا اشتد الإسلام في مقاومة الردة، وخصوصا إذا أعلنت عن نفسها، وأصبح المرتدون دعاة إلى ردتهم، لأنهم يمثلون خطرا على هوية المجتمع، ويهددون أسسه العقدية، ولذلك اعتبر بعض علماء السلف من التابعين وغيرهم دعاة الردة ممن (يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا).
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية أن السعي في الأرض بالفساد بنشر الكفر، وإثارة الشبهات على ملة الإسلام: أشد من السعي في الفساد بأخذ الأموال، وسفك الدماء.
وهذا صحيح، فإن ضياع هوية الأمة، وتدمير عقائدها، أشد خطرا عليها من ضياع المال، وتدمير المنازل، وقتل الأفراد.
ولهذا استثار القرآن أهل الإيمان أن يقاوموا الردة بجيل من أهل الإيمان والجهاد، لا يسكتون على الباطل، ولا يخشون في الحق لومة لائم. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).
وهدد القرآن المنافقين إذا أظهروا الكفر بقوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فتربصوا إنا معكم متربصون).
وإنما يصيبهم العذاب بأيدي المسلمين إذا ظهر منهم الكفر الذي أضمروه، فالمسلمون لا يشقون عن قلوبهم، إنما يعاملونهم بما يظهر منهم على ألسنتهم وجوارحهم.
وقد صحت الأحاديث الكثيرة في قتل المرتد عن عدد من الصحابة، وهو قول جمهور الأمة. وقد روى عن عمر ما يدل على جواز سجن المرتد واستبقائه حتى يراجع نفسه، ويتوب إلى ربه. وبه أخذ النخعي والثوري.
وهذا ما أرجحه في شأن الردة الصامتة، أما الردة المجاهرة الداعية، فلا أظن ابن الخطاب أو النخعي أو الثوري يرضى أحد منهم أن يطلق العنان للأفكار الهدامة لعقائدالأمة، دون التصدي لها، والوقوف في وجه دعاتها، وإن كان وراءهم من يسند ظهرهم ويشد أزرهم.
فالواجب أن نفرق بين الردة الخفيفة والردة الغليظة، وأن نميز بين المرتد الصامت والمرتد الداعية إلى ردته، فإنه ممن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وقد فرق العلماء في البدعة بين المخففة والمغلظة، وبين الداعية إلى بدعته وغير الداعية.
كفر النفاق
ومن أغلظ أنواع الكفر وأشدها خطرا على الحياة الإسلامية والوجود الإسلامي: كفر النفاق، لأن أصحابه يعيشون بين ظهراني المسلمين، باعتبارهم منهم، يشاركونهم في أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقامة الشعائر، وهم مع ذلك أعداء لهم في باطن الأمر، يكيدون لهم، ويمكرون بهم، ويوالون أعداءهم. ولهذا عنى القرآن ببيان أخبارهم، وكشف أستارهم، والتعريف بأوصافهم وأخلاقهم، وسميت سورة التوبة: "الفاضحة" لأنها تتبعت أصنافهم، وجلت أوصافهم، كما نزلت فيهم سورة خاصة بهم ـ "المنافقون" ـ وآيات كثيرة كثيرة من كتاب الله عز وجل.
وفي أوائل سورة البقرة تحدثت السورة عن المتقين في ثلاث آيات، أو أربع، وعن الكفار في آيتين. أما المنافقون فقد استغرق الحديث عنهم ثلاث عشرة آية.
لهذا ادخر الله لهم أسفل دركات النار، كما قال سبحانه: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا، إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين).
وفي عصرنا يوجد كثير من المرتدين الذين لا يوقرون الوحي الإلهي، ولا يعتبرون الشريعة مرجعا أعلى يضبط الفكر والسلوك والعلاقات، ويحقرون في قرارة أنفسهم الدين ودعاته وأهله، ولكنهم منافقون، يريدون أن يظلوا يحملون اسم الإسلام، وأن يبقوا في زمرة المسلمين، وهم شر من منافقي عصر النبوة، فقد كان أولئك يقومون إلى الصلاة كسالى، وهؤلاء لا يقومون إليها، لا كسالى ولا نشيطين، وأولئك كانوا لا يذكرون الله إلا قليلا. وهم لا يذكرون الله قليلا ولا كثيرا، وأولئك كانوا مع المسلمين في غزواتهم يجاهدون معهم أعداءهم، وهؤلاء مع أعداء الإسلام يحاربون معهم المسلمين. وأولئك كانوا مع المسلمين في مساجدهم ظاهرا، وهؤلاء مع الكفار في مواقع لهوهم وفجورهم.
ولو أنهم أعلنوا كفرهم بصراحة لتحدد موقفهم، واسترحنا، ولكنهم أمسوا، كما قال الله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
التفريق بين الأكبر والأصغر من الكفر والشرك والنفاق
ومن المهم هنا جدا: التفريق بين مراتب ما ذكرناه من الكفر والشرك والنفاق. فكل منها فيه أكبر وأصغر، والأكبر هو المراد عند الإطلاق.
ولكن نصوص الشرع قد وردت بإطلاق كلمات الكفر والشرك والنفاق على المعاصي، ولا سيما الكبائر منها، فينبغي أن يعلم ذلك وتعرف مواقعه، حتى لا تختلط علينا الأمور، ونتهم بعض العصاة بالكفر الأكبر (المخرج من الملة) وهم من المسلمين. وحتى لا نعتبر هؤلاء أعداء لنا، ونعلن الحرب عليهم، وهم منا ونحن منهم، وإن كانوا من العاصين لله ولرسوله، فالأمر كما يقول المثل العربي: أنفك منك وإن كان أجدع!
الكفر أكبر وأصغر
فمن المعلوم أن الكفر الأكبر هو: الكفر بالله تعالى، وبرسالاته، كما ذكرنا في كفر الشيوعيين، أو الكفر برسالة محمد، كما في كفر اليهود والنصارى به، فهؤلاء يعتبرون كفارا برسالة محمد في أحكام الدنيا.
أما عقابهم في الآخرة فيتوقف على مدى مشاقتهم للرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، كما قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم، وساءت مصيرا).
فأما من لم يتبين له الهدى بأن لم تبلغه الدعوة أصلا، أو بلغته بلوغا مشوها لا يحمل على النظر والبحث فيها، فهو معذور، وقد قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
وأعتقد أن المسلمين مسؤولون ـ إلى حد كبير ـ عن ضلال أمم الأرض، وجهلهم بحقائق الإسلام، واعتناقهم لأباطيل خصومه، وعليهم أن يبذلوا جهودا أكبر وأصدق في تبليغ رسالتهم، ونشر دعوتهم لدى كل قوم بلسانهم، حتى يبينوا لهم، ويثبتوا عالمية الرسالة المحمدية حقا.
والكفر الأصغر هو المعاصي مهما يكن مقدارها في الدين.
وذلك مثل تارك الصلاة كسلا، لا جحودا لها ولا استهزاء بها، فهذا عند جمهور علماء الأمة عاص أو فاسق لا كافر، وإن أطلق عليه في بعض الأحاديث لفظة الكفر، كما في حديث: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".
وابن حزم ـ على ظاهريته ـ لا يقول بكفر تارك الصلاة. وما روى عن الإمام أحمد من القول بكفره، فإنما يحكم بذلك إذا دعاه إليها الإمام أو القاضي واستتابه، فأبى ولم يستجب.
وقد رجح الإمام ابن قدامة عدم تكفير تارك الصلاة ـ إذا لم يكن جاحدا ولا مستخفا ـ وإن كان يقتل على تركها حدا لا كفرا، وهي رواية أخرى عن أحمد، اختارها أبو عبدالله بن بطة، وأنكر قول من قال: إنه يكفر، وذكر أن لمذاهب على هذا، لم يجد في المذهب خلافا فيه.
قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر الفقهاء، قول أبى حنيفة ومالك والشافعي واستدل بالأحاديث المتفق عليها، التي تحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، والتي تخرج من النار من قالها، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة (حبة قمح)، كما استدل بآثار الصحابة، وبإجماع المسلمين قائلا: "فإنا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها.
قال: ولا نعلم بين المسلمين خلافا في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتدا لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام. وأما الأحاديث المتقدمة (يعني التي ظاهرها كفر تارك الصلاة)، فهي على سبيل التغليظ، والتشبيه به بالكفار، لا على الحقيقة، كقوله عليه السلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، "من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"، وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد، وهو أصوب القولين، والله أعلم".
كلام الإمام ابن القيم
وقال الإمام ابن القيم في "المدارج":
"فأما "الكفر" فنوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر.
فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.
والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود. كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "اثنتان في أمتي، هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة"، وقوله في السنن: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد"، وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمد"، وقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
قال ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن بالله واليوم الآخر" وكذلك قال طاووس.
وقال عطاء: "هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق".
ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له. وهو قول عكرمة. وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم.
ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام. وهذا تأويل عبد العزيز الكناني، وهو أيضا بعيد. إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل. وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.
ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل. حكاه البغوي عن العلماء عموما.
ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب. وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما. وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه.
ومنهم: من جعله كفرا ينقل عن الملة.
والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه ـ مع تيقنه أنه حكم الله ـ فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهو مخطئ، له حكم المخطئين.
والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر. فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة. فالسعي: إما شكر، وإما كفر، وإما ثالث. لا من هذا ولا من هذا، والله أعلم.
الشرك أكبر وأصغر
وكما أن الكفر فيه أكبر وأصغر، فكذلك الشرك فيه أكبر وأصغر.
فالأكبر معروف وهو كما قال ابن القيم: أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين).
وهذا الشرك لا يقبل المغفرة إلا بالتوبة منه، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه: وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه. وهو لا يعرف: أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه. فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه. ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة. ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد. ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان.
قال العلامة ابن القيم:
"وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت"، و"هذا من الله ومنك"، و"أنا بالله وبك"، و"مالي إلى الله وأنت"، و"أنا متوكل على الله وعليك"، و"لولا أنت لم يكن كذا وكذا". وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب قائله ومقصده. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده". وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ.
ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ. فإنه شرك من الساجد والمسجودله.
ومن أنواعه: حلق الرأس للشيخ. فإنه تعبد لغير الله، ولا يتعبد بحلق الرأس إلا في النسك لله خاصة.
ومن أنواعه: التوبة للشيخ. فإنها شرك عظيم. فإن التوبة لا تكون إلا لله. كالصلاة، والصيام والحج، والنسك. فهي خالص حق لله.
وفي المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله".
فالتوبة عبادة لا تنبغي إلا لله. كالسجود والصيام.
ومن أنواعه النذر لغير الله، فإنه شرك، وهو أعظم من الحلف بغير الله، فإذا كان "من حلف بغير الله فقد أشرك"، فكيف بمن نذر لغير الله؟ مع أن في السنن من حديث عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم: "النذر حلفة".
ومن أنواعه: الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله. وابتغاء الرزق من عند غيره، وحمد غيره على ما أعطى، والغنية بذلك عن حمده سبحانه، والذم والسخط على ما لم يقسمه، ولم يجر به القدر، وإضافة نعمه إلى غيره، واعتقاد أن يكون في الكون ما لا يشاؤه".
النفاق أكبر وأصغر
وإذا كان في كل من الكفر والشرك أكبر وأصغر، فمثلهما النفاق فيه أكبر وأصغر أيضا.
فالنفاق الأكبر هو نفاق العقيدة، وهو الذي يوجب الخلود في الدرك الأسفل من النار، وهو: أن يبطن الكفر ويظهر الإسلام. وهو الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحفل القرآن بهتك أستار أهله، وجلى لعباده المؤمنين أمورهم، ليكونوا منهم على حذر، وحتى يبتعد المؤمنون عن أخلاقهم ما استطاعوا.
وأما النفاق الأصغر، فهو نفاق العمل والسلوك، وهو الذي يتخلق بأخلاق المنافقين، ويسلك سلوكهم، وإن كانت عقيدته سليمة. وهو ما حذرت منه الأحاديث الصحاح.
مثل الحديث المتفق عليه: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
والحديث الآخر: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
وفي رواية لمسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم".
وهذه الأحاديث وأمثالها التي جعلت الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق، حتى قال الحسن: ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق.
وحتى كان عمر يقول لحذيفة الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين: أتجدني منهم؟!
وكان عمر يحذر من المنافق العليم، فقيل له: كيف يكون منافقا وعليما؟! قال: عليم اللسان، جاهل القلب.
وقال بعضهم: اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق. قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع!
الكبائر
وبعد الكفر بدرجاته ومستوياته تأتي المعاصي، وهي مرتبتان: كبائر وصغائر. والكبائر: هي الذنوب الجسيمة الخطر، التي توجب لفاعلها غضب الله ولعنته، واستحقاق نار جهنم، وقد توجب على صاحبها حدا في الدنيا.
وقد اختلف العلماء في تحديدها اختلافا كبيرا، لعل أقربها: أنها كل معصية شرع الله لها حدا في الدنيا، أو أوعد عليها في الآخرة بوعيد شديد كدخول النار، أو الحرمان من الجنة، أو استحقاق غضب الله تعالى ولعنته. فهذا يدل على كبر المعصية.
على أن النصوص قد ذكرت عددا منها حددته بالتعيين مثل الموبقات السبع، وهي ـ بعد الشرك ـ: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف (يوم لقاء العدو في المعركة)، ومثلها: ما صحت به الأحاديث، من عقوق الوالدين، وقطع الرحم، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وشرب الخمر، والزنى، وعمل قوم لوط، والانتحار، وقطع الطريق، والغصب، والغلول، والرشوة، والنميمة.
ومنها: ترك الفرائض الأساسية، مثل: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والإفطار بلا عذر في نهار رمضان، والإصرار على ترك الحج لمن استطاع إليه سبيلا.
ومما أثبتته الأحاديث: أن الكبائر ذاتها تتفاوت. ولهذا صح في الحديث: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟، وعدد لهم بعد الشرك: عقوق الوالدين، وشهادة الزور".
وصح أيضا: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه". قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه".
أي أنه سبهما، حين سب الآخرين، مما أدى إلى الرد عليه بمثله، بل كال له الصاع صاعين، فقد سب أبا الآخر، فسب الآخر أباه، وسب أمه معه.
لقد اعتبر الحديث الشريف التسبب في جلب السب إلى الوالدين من أكبر الكبائر، ليس مجرد حرام، ولا مجرد كبيرة، فكيف بمن باشر والديه بالسب؟ وكيف بمن باشرهما بالإيذاء والضرب؟ وكيف بمن جعل حياتهما جحيما لا يطاق بسبب الجفاء والعقوق؟
وقد فرق الشرع بين المعصية التي يدفع إليها الضعف، والمعصية التي يدفع إليها البغي، فالأولى مثل الزنى، والأخرى مثل الربا، فجعل الربا أشد إثما عند الله تعالى، حتى إن القرآن لم يقل في معصية ما قال في الربا من قوله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).
ولعن الرسول الكريم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية"، وجعل الربا سبعين أو اثنين أو ثلاثة وسبعين بابا، أدناها وأيسرها: أن ينكح الرجل أمه.
وليست الكبائر مقصورة على الأعمال الظاهرة، كما قد يتوهم، بل كبائر معاصي القلوب أشد أثما، وأعظم خطرا.
فكما أن أعمال القلوب أعظم وأفضل من أعمال الجوارح في الطاعات، نجد أعمال القلوب في جانب المعاصي أعظم وأبعد أثرا، وأكبر خطرا.
كبائر معاصي القلوب
وليست الكبائر مقصورة على الأعمال الظاهرة، كما قد يتوهم، بل كبائر معاصي القلوب أشد أثما، وأعظم خطرا.
فكما أن أعمال القلوب أعظم وأفضل من أعمال الجوارح في الطاعات، نجد أعمال القلوب في جانب المعاصي أعظم وأبعد أثرا، وأكبر خطرا.
وقد ذكر لنا القرآن أول معصيتين حدثتا بعد خلق آدم وإسكانه الجنة.
إحداهما: معصية آدم وزوجه حين أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها، وهي معصية تتعلق بأعمال الجوارح الظاهرة، دفع إليها النسيان وضعف العزيمة. كما قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). وقد استغل إبليس اللعين هذا النسيان وذاك الضعف، فزين له ولزوجه الأكل من الشجرة، ودلاهما بغرور، وأكد تغريره بالإيمان، حتى سقطا في المخالفة.
ولكن سرعان ما استيقظ الإيمان المستكن في آدم وزوجه، فعرفا مخالفتهما، وتابا إلى ربهما، وقبل الله توبتهما: (وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى).
(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم).
والأخرى: معصية إبليس حين أمره الله ـ مع الملائكة ـ بالسجود، تكريما وتحية لآدم، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين).
هذه معصية إباء واستكبار عن أمر الله، كما جاء في سورة البقرة: (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).
ومن تبجحه أنه قال لربه في وقاحة: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
لقد كان الفرق بين المعصيتين: أن معصية آدم معصية جارحة ظاهرة، فما أسرع ما تاب منها. أما معصية إبليس فمعصية قلب باطنة، وتلك خطورتها التي انتهت به إلى سوء العاقبة، والعياذ بالله تعالى.
ولا غرو أن جاء التحذير الشديد، والترهيب المتكرر، من معاصي القلوب، التي تعد من كبائر الذنوب، وموبقات الآثام، وكثيرا ما تكون هي الدافعة الأصلية لارتكاب كبائر المعاصي الظاهرة، من ترك الأمور، أو اقتراف المحظور.
معصية آدم ومعصية إبليس
وقد ذكر لنا القرآن أول معصيتين حدثتا بعد خلق آدم وإسكانه الجنة.
إحداهما: معصية آدم وزوجه حين أكلا من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها، وهي معصية تتعلق بأعمال الجوارح الظاهرة، دفع إليها النسيان وضعف العزيمة. كما قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). وقد استغل إبليس اللعين هذا النسيان وذاك الضعف، فزين له ولزوجه الأكل من الشجرة، ودلاهما بغرور، وأكد تغريره بالإيمان، حتى سقطا في المخالفة.
ولكن سرعان ما استيقظ الإيمان المستكن في آدم وزوجه، فعرفا مخالفتهما، وتابا إلى ربهما، وقبل الله توبتهما: (وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى).
(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم).
والأخرى: معصية إبليس حين أمره الله ـ مع الملائكة ـ بالسجود، تكريما وتحية لآدم، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين).
هذه معصية إباء واستكبار عن أمر الله، كما جاء في سورة البقرة: (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).
ومن تبجحه أنه قال لربه في وقاحة: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
لقد كان الفرق بين المعصيتين: أن معصية آدم معصية جارحة ظاهرة، فما أسرع ما تاب منها. أما معصية إبليس فمعصية قلب باطنة، وتلك خطورتها التي انتهت به إلى سوء العاقبة، والعياذ بالله تعالى.
ولا غرو أن جاء التحذير الشديد، والترهيب المتكرر، من معاصي القلوب، التي تعد من كبائر الذنوب، وموبقات الآثام، وكثيرا ما تكون هي الدافعة الأصلية لارتكاب كبائر المعاصي الظاهرة، من ترك الأمور، أو اقتراف المحظور.
موبقة الكبر
كما رأينا في قصة إبليس مع آدم، كيف دفعه "الكبر" إلى رفض أمر الله تعالى، وقال: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون)، (أنا خير منه).
ومن هنا جاء الترهيب الشديد من الكبر والتكبر واحتقار الغير، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
وفي الحديث الصحيح: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه (الضمير لله تعالى).
وفي حديث آخر: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".
وقد ذم القرآن الكبر والمستكبرين في آيات شتى. وبين أن الكبر هو الذي منع الكثيرين من الإيمان بالرسل وانتهى بهم إلى جهنم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).
(فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فلبئس مثوى المتكبرين).
(إنه لا يحب المستكبرين).
(كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار).
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق).
الحسد والبغضاء
وفي قصة ابني آدم التي قصها القرآن علينا بالحق، نجد "الحسد" هو الدافع إلى قتل الأخ الخبيث لأخيه الطيب.
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي، فأصبح من النادمين).
وقد أمر القرآن بالاستعاذة من شر الحاسد: (ومن شر حاسد إذا حسد).
كما وصف بالحسد اليهود في قوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
وجعل الحسد من موانع الإيمان بالإسلام، وأسباب الكيد له: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق).
والرسول الكريم يجعل الحسد والبغضاء من "أدواء" الأمم وأمراضها الخطيرة، المؤثرة في الدين أبلغ التأثير. يقول: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر ولكن حالقة الدين".
وفي حديث آخر: "لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد".
وقال: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا".
الشح المطاع
ومن كبائر معاصي القلوب: المهلكات الثلاث، التي حذر منها الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
وقد ورد في ذم الشح جملة أحاديث منها:
"لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا".
"شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع".
"اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم".
"إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
قال العلماء: الشح بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الضنة بالمال، والشح في كل ما يمنع النفس عن الاسترسال فيه، من بذل مال أو معروف أو طاعة. والشح الهالع: هو الذي يصيب صاحبه بالهلع، وهو أفحش الجزع. ومعناه أنه يجزع في شحه أشد الجزع على استخراج الحق منه. قالوا: ولا يجتمع الشح مع معرفة الله أبدا، فإن المانع من الإنفاق والجود خوف الفقر، وهو جهل بالله، وعدم وثوقه بوعده وضمانه. ومن هنا نفى الحديث اجتماع الشح والإيمان في قلب الإنسان. فكلاهما يطرد الآخر.
الإعجاب بالنفس
وثالث المهلكات التي ذكرها الحديث: العجب، أو إعجاب المرء بنفسه. فإن المعجب بنفسه لا يرى عيوبها وإن كبرت، وينظر إلى مزاياها ومحاسنها من وراء "ميكروسكوب"، فيضخمها ويهول من شأنها.
وقد ذكر القرآن كيف أدى الإعجاب بالمسلمين في غزوة حنين إلى الهزيمة حتى ثابوا إلى رشدهم، ورجعوا إلى ربهم: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها)
وقال علي كرم الله وجهه: سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.
أخذ هذا المعنى ابن عطاء وعبر عنه في حكمه بقوله: ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية، فكانت سببا في الوصول: معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا.
الهوى المتبع
ومن المهلكات التي ذكرها الحديث: الهوى المتبع. وهو ما حذر منه القرآن في مواضع شتى. وقال الله لداود: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
وقال لخاتم رسله: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).
وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
وذم قوما فقال: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم).
وبين القرآن أن اتباع الهوى يعمي ويصم، ويضل المرء على علم، ويطمس على بصيرته، فلا يرى ولا يسمع ولا يعي: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله).
ولذا قال ابن عباس: شر إله عبد في الأرض: الهوى!
وجعل القرآن في طليعة أسباب دخول الجنة: نهى النفس عن الهوى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى).
حب الدنيا وإرادتها
ومن كبائر معاصي القلوب: حب الدنيا وإرادتها وإيثارها على الآخرة، وهو رأس كل خطيئة. والخطر هنا ليس في امتلاك الدنيا، بل في إرادتها والحرص عليها وعلى متاعها وزخرفتها وزينتها. وإذا اجتمعت الدنيا والآخرة آثر الأولى على الآخرة. وهذا هو سبب الهلاك والدمار في الدارين.
يقول تعالى في شأن الآخرة: (فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى)
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).
(فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم).
(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى، أفلا تعقلون).
وفي الدنيا بين الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: سر الوهن الذي يحيق بالأمة برغم كثرة أعدادها، فقال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
حب المال والجاه والمنصب
وحب الدنيا يتمثل في حب المال والثروة، وحب الجاه والمنزلة والشرف، والحرص عليهما حرصا يجعل صاحبه يتنازل عن قيمه ومبادئه في سبيل الحصول عليهما، وفي هذا ضياع الدين والإيمان. وفي هذا ورد الحديث: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف ـ لدينه".
والحرص يحتاج إليه الإنسان، ولكن بقدر معلوم، فإذا لم يكن لحرصه وثاق، وهبت رياحه، استنفرت النفس، فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد، كما يفسد الذئبان الجائعان في غنم أضاعها ربها. وذلك لاستدعاء هذا الحرص العلو والفساد المذمومين شرعا. وقد قال تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين).
ومن مظاهر حب الدنيا وإرادتها: الحرص على المناصب، والتكالب على الإمارة، والرغبة في الظهور، التي طالما قصمت الظهور.
وهو ما رهب منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وقال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة".
شبه ما يحصل من نفع الولاية حال ملابستها بالرضاع (على سبيل الاستعارة)، وشبه الفطام انقطاع ذلك عنها عند الانفصال عنها بعزل أو موت، فهي تدر على صاحبها بعض المنافع واللذات العاجلة ثم سرعان ما تنقطع عنه، وتبقى عليه الحسرة والتبعة، فلا ينبغي لعاقل أن يحرص على لذة تتبعها حسرات.
ومن كبائر معاصي القلوب: اليأس والقنوط من رحمة الله، فقد قال تعالى على لسان نبيه يعقوب: (ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).
وقال على لسان خليله إبراهيم: (قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون).
ومن هذه الكبائر: الأمن من مكر الله سبحانه، فقد قال تعالى: (أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).
ومنها: محبة أن تشيع الفاحشة في مجتمع المؤمنين، فقد قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).
تلك هي بعض الكبائر الموبقات أو المهلكات الخاصة بمعاصي القلوب، والتي يغفل الكثيرون عنها، موجهين أكبر همهم إلى الأعمال الظاهرة، طاعات مطلوبة، أو معاصي محذورة. وهذه المعاصي هي التي سماها الإمام الغزالي "المهلكات"، وخصص لها الربع الثالث من موسوعته "إحياء علوم الدين". فما أجدر أهل الدين ودعاته أن يولوها من العناية ما أولاه لها الشرع، وأنه يوجهوا إليها العقول والضمائر، وأن تكون محور التوعية والتربية والتثقيف.
الرياء الممقوت
ومن كبائر معاصي القلوب: الرياء، الذي يحبط العمل، ويسلبه القبول عند الله، وإن يكن ظاهره مزوقا مزينا للناس.
وقد قال تعالى في شأن المنافقين: (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا).
وقال: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون).
وصور القرآن إنفاق المرائي بقوله: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا).
وقد ذكرت الأحاديث أن الرياء ضرب من الشرك، فالمرائي لا يقصد بعمله وجه الله تعالى، بل وجوه الخلق ومحمدتهم ومرضاتهم.
ولذا يقول تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه". وفي رواية: "فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك".
ومن الأحاديث الشهيرة ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن الثلاثة الذين أمر بهم يوم القيامة فسحبوا على وجههم إلى النار، أحدهم قاتل حتى استشهد، والثاني تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، والثالث أنفق ماله في وجوه الخير، ولكن الله العليم بالنيات والسرائر، كذبهم على رؤوس الأشهاد، وقال لكل منهم: كذبت، إنما فعلت ما فعلت ليقول الناس عنك كذا وكذا. فقد قيل!
إن التزوير من إنسان على مثله من شر الرذائل وأشنع الجرائم، فإذا كان التزوير من المخلوق على خالقه، فالجريمة أبشع وأشنع. وهذا هو عمل المرائي، يعمل لإرضاء الناس، وهو يريهم أنه يعمل لإرضاء رب الناس، كذبا وزورا، فلا غرو أن يفضحه الله سبحانه يوم تبلى السرائر، ويكبه على وجهه في النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صغائر المحرمات
وبعد الكبائر تأتي صغائر المحرمات المقطوع بحرمتها. والشارع سماها "لمما"، و"محقرات".
وهذه لا يكاد أحد يسلم من الإلمام بها حينا من الزمن، ولهذا تفترق عن الكبائر بأنها تكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، كما جاء في الحديث الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
وفي الصحيحين: "أرأيتم لو أن نهرا على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله به الخطايا".
وفي الصحيحين: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
بل ذكر القرآن الكريم أن مجرد اجتناب الكبائر يكفر السيئات الصغائر، فقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما).
أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح.
وشأن الصغائر أن البشر عامة مبتلون بها، ولهذا حين وصف الله المحسنين والأخيار من عباده لم يصفهم إلا باجتناب كبائر الإثم والفواحش.
يقول تعالى في سورة الشورى: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
ويقول سبحانه في سورة النجم: (ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع المغفرة).
فهذا هو وصف الذين أحسنوا، والذين لهم الحسنى، أنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم. وقد روى عن جماعة من السلف في تفسير "اللمم": أنه الإلمام بالذنب مرة ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيرا.
قال أبو صالح: سئلت عن قول الله: "اللمم" فقلت: هو الذي يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس. فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم.
والجمهور على أن اللمم ما دون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس كما في صحيح البخاري عنه: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، ورواه مسلم، وفيه: "العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا".
قال الإمام ابن القيم: والصحيح قول الجمهور أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك، هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم. وهو قول أبى هريرة وابن مسعود وابن عباس ومسروق والشعبي، ولا ينافي هذا قول أبى هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: أنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها. فإن اللمم إما أنه يتناول هذا وهذا. ويكون على وجهين، أو أن أبا هريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة، ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره ـ باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة. وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم، وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث. وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته. وتكرر منه مرارا كثيرة.
على أن الشرع وإن سامح وخفف في اللمم أو الصغائر، فقد حذر من الاستهانة بها، والإصرار والمواظبة عليها، فإن الصغير إذا أضيف إلى الصغير كبر، ثم إن الصغائر تجر إلى الكبائر، والكبائر تجر إلى الكفر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
ولهذا روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب، كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".
ورواه ابن مسعود بلفظ: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا، كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجئ بالعود، والرجل يجئ بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، وأنضجوا ما قدموا فيها".
وخلاصة التشبيه: أن العيدان الصغيرة المتفرقة حين اجتمعت، أججت نارا ملتهبة، وكذلك تصنع الصغائر المحقرات من الذنوب.
وعن ابن مسعود: المؤمن يرى ذنبه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا، أي ذبة وطيره بحركة يده.
وقد ذكر الإمام الغزالي في "كتاب التوبة" من "الإحياء" جملة أمور تكبر الصغائر، وتزيد الكبائر كبرا، منها: استصغار الذنب، واستحقار المعصية، حتى قال بعض السلف: إن الذنب الذي نخشى ألا يغفر هو الذي يقول لصاحبه: ليت كل ذنب فعلته مثل هذا! ومنها: المجاهرة والتبجح بها، ففي الصحيح: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
وقد قال ابن القيم: وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة ـ من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ـ ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.
كما أن المعصية الواحدة يختلف إثمها باختلاف شخص مرتكبها وظروفه. فالزنى من العزب غيره من المحصن. ومن الشاب غيره من الشيخ، والزنى بحليلة الجار أو ممن غاب عنها زوجها في الجهاد، أو بمحرم له، أو في نهار رمضان أو في الحرم. غير الزنى في الظروف المغايرة، وكل شيء له حسابه عند الله عز وجل.
وللعلامة ابن رجب هنا كلام جيد نافع يحسن بي أن أنقله هنا لعظيم فائدته. قال رحمه الله:
"والمحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق).. إلى آخر الآيات الثلاثة، وقوله تعالى: (قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
وقد ذكر في بعض الآيات المحرمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرمات من المطاعم في مواضع، منها قوله تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به)، وفي الآية الأخرى: (وما أهل لغير الله به)، وقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام).
وذكر المحرمات في النكاح في قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم..) الآية.
وذكر المحرمات من المكاسب في قوله: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
وأما السنة، ففيها ذكر كثير من المحرمات، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، وقوله: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه"، وقوله: "كل مسكر حرام"، وقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".
فما ورد التصريح بتحريمه في الكتاب والسنة، فهو محرم.
وقد يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد، كما في قوله عز وجل: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون).
وأما النهي المجرد، فقد اختلف الناس: هل يستفاد منه التحريم أم لا؟ وقد روى عن ابن عمر إنكار استفادة التحريم منه. قال ابن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلة، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر ـ يعني: أن يخلطا ـ فقال لي رجل من خلفي: من قال؟ فقلت: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب والتمر، فقال عبدالله بن عمر: كذبت، فقلت: ألم تقل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فهو حرام؟ فقال: أنت تشهد بذاك؟ قال سلام: كأنه يقول: من نهى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أدب.
وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقى إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه مما فيه نوع شبهة أو اختلاف.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها، وقال ابن عون: قال لي مكحول: ما تقولون في الفاكهة تلقى بين القوم فينتهبونها؟ قلت: إن ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي! قلت: إن ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي! قال ابن عون: فاستجفينا ذلك من قول مكحول.
وقال جعفر بن محمد: سمعت رجلا يسأل القاسم بن محمد: الغناء أحرام هو؟ فسكت عنه القاسم، ثم عاد، فسكت عنه، ثم عاد، فقال له: إن الحرام ما حرم في القرآن! أرأيت إذا أتى بالحق والباطل إلى الله، في أيهما يكون الغناء؟ فقال الرجل: في الباطل، فقال: فأنت، فأفت نفسك.
قال عبدالله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: أما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم فمنها أشياء حرام، مثل قوله: "نهى أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها"، فهذا حرام، ونهى عن جلود السباع، فهذا حرام، وذكر أشياء من نحو هذا، ومنها أشياء نهى عنها، فهي أدب.
البدع الاعتقادية والعملية
ويلحق بالمعاصي هنا: ما عرف في الشرع باسم "البدع". وهي ما أحدثه الناس واخترعوه في أمر الدين. سواء أكانت بدعا اعتقادية، وهي التي تسمى "بدع الأقوال"، أم بدعا عملية، وهي التي تسمى "بدع الأفعال".
وهي نوع من المحرمات يختلف عن المعاصي العادية، فإن فاعلها يتقرب بها إلى الله تعالى، ويعتقد أنه ببدعته يطيع الله ويتعبد له، وهذا هو خطرها.
والبدعة تكون، إما باعتقاد خلاف الحق، الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. وهذه هي البدعة الاعتقادية أو القولية، ومنشؤها من القول على الله بلا علم. وهذا من أعظم المحرمات، بل هو ـ كما يقول ابن القيم ـ أعظمها. كما قال الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
ويدخل في هذا الباب تحريم ما أحل الله بغير بينة. كما قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم، أم على الله تفترون).
وإما أن تكون بالتعبد لله تعالى بما لم يشرعه من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، كما قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).
وفي الحديث: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
والبدعتان ـ كما قال العلامة ابن القيم ـ متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنى يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينها خسران الدنيا والآخرة.
والبدعة أحب إلى ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد بينها خسران الدنيا والآخرة.
والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لمناقضتها للدين، ولأن صاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها، بل يدعو الخلق إليها، وتضمنها اعتبار ما رده الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه، وإثبات ما نفاه، ونفى ما أثبته.
على أن البدع ليست كلها في مرتبة واحدة، فهناك بدع مغلظة، وبدع مخففة، وبدع متفق عليها، وبدع مختلف فيها.
والبدع المغلظة: منها ما يصل بصاحبه إلى درجة الكفر، والعياذ بالله تعالى، مثل الفرق التي خرجت على أصول الملة، وانشقت من الأمة، مثل النصيرية والدروز، وغلاة الشيعة والإسماعيلية الباطنية وغيرهم ممن قال فيهم الإمام الغزالي: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنهم أشد كفرا من اليهود والنصارى، ولهذا لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، على حين تؤكل ذبائح أهل الكتاب، وتنكح نساؤهم.
وهناك بدع غليظة، ولكنها لا تصل بصاحبها إلى الكفر، وإنما تصل به إلى الفسق، وهو فسق اعتقاد لا فسق سلوك.فقد يكون هذا المبتدع من أطول الناس صلاة، وأكثرهم صياما وتلاوة، كما كان الخوارج: "يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم"، ولكن آفتهم ليست في ضمائرهم، بل في عقولهم وفي تحجرهم وجمودهم، حتى إنهم "ليقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان".
ومثل هؤلاء الخوارج كثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم، كما قال ابن القيم.
وهناك بدع خفيفة أدى إليها خطأ في الاجتهاد، أو التباس في الاستدلال، فهذه تقابل الصغائر في باب المعاصي.
وهناك بدع مختلف فيها، أقرها قوم، وأنكرها آخرون، مثل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والصالحين من عباد الله، فهذه من مسائل العمل والفروع لا من مسائل العقيدة والأصول، كما قال الإمام حسن البنا بحق، وهو منقول عن الإمام محمد بن عبد الوهاب.
ومثل ذلك: الالتزام في العبادات: أيدخل في البدعة أم لا؟
فليست البدع كلها في مستوى واحد ودرجة واحدة، وليس المبتدعون كلهم كذلك: بل هناك الداعية إلى البدعة، والتابع المبتدع في نفسه ولا يدعو غيره. ولكل منهما حكمه.
الشبهات
وبعد صغائر المحرمات تأتي الشبهات، وهل ما لا يعلم حكمه كثير من الناس، ويشتبهون في حله وتحريمه، فهذه ليست كالمحرمات المقطوع بها.
فمن كان من أهل الاجتهاد وأداه اجتهاده إلى رأي في إباحتها أو تحريمها فعليه أن يلتزم به، ولا يسوغ له أن يتنازل عن اجتهاده من أجل خواطر الآخرين. فالله إنما يتعبد الناس باجتهاد أنفسهم إذا كانوا أهلا لذلك. ولو كان اجتهادهم خطأ فهم معذورون فيه، بل مأجورون عليه أجرا واحدا.
ومن كان من أهل التقليد وسعه أن يقلد من يثق به من العلماء، ولا حرج عليه في ذلك ما دام قلبه مطمئنا إلى علم مقلده ودينه.
ومن اضطرب عليه الأمر، ولم يستبن له الحق، كان الأمر شبهة في حقه ينبغي أن يتقيها استبراء لدينه وعرضه كما جاء في الحديث المتفق عليه: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه".
ويجب على الجاهل في الأمر المشتبه فيه أن يسأل فيه العالم الثقة، حتى يقف على حقيقة حكمه منه. قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
وفي الحديث: "ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال".
والناس في موقفهم من الشبهات جد مختلفين، نظرا لاختلاف أنظارهم من ناحية، ولاختلاف طبائعهم من ناحية، واختلاف مواقفهم من الورع وغيره.
فهناك الموسوسون الذين يبحثون عن الشبهات لأدنى ملابسة حتى يجدوها، كالذين يشككون في الذبائح في بلاد الغرب لأوهى سبب، ويفترضون البعيد قريبا، وشبه المستحيل واقعا ، ويظلون يسألون حتى يضيقوا على أنفسهم ما وسع الله عز وجل.
والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وليس المسلم مطالبا بهذا التدقيق.
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا. قال: "سموا الله عليه وكلوا".
أخذ الإمام ابن حزم من هذا الحديث قاعدة: أن ما غاب عنا لا نسأل عنه.
وقد روى أن عمر رضي الله عنه مر في طريق فوقع عليه ماء من ميزاب، وكان معه رفيق، فقال هذا الرفيق: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا فقد نهينا عن التكلف.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة أو في المسجد. فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".
ومن هذا أخذ العلماء قاعدة: أن اليقين لا يزال بالشك، وأنه يعمل بالأصل، ويطرح الشك، وهذا قطع لدابر الوسوسة.
وقد أجاب الرسول الكريم دعوة يهودي، وأكل طعامه ولم يسأل: أهو حلال أم لا؟ وهل آنيته طاهرة أم لا؟ وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب عليهم مما نسجه الكفار من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب ويستعملونها، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة (قربة) مشركة.
وفي المقابل من أجاز ذلك وجد من تشدد مستدلا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب، الذين يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فقال: "إن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء، ثم كلوا فيها".
وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام، يعني الحلال المحض، والحرام المحض، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.
قال العلامة ابن رجب: ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام، فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين.
وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله. وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.
وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إلي.
وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل.
وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روى عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روى عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضى من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور.
وقال الإمام أحمد في المال المشبته حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا، أخرج منه قدر الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير. ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.
ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري. وروى مثله عن الفضيل ابن عياض.
وروى في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه ويدعوه إلى طعام، قال: أجيبوه، فإنما المهنأ لكم والوزر عليه، وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روى عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.
وبكل حال، فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام، لما عنده من ذلك من مزيد علم، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان:
أحدهما: من يتوقف فيها، لاشتباهها عليه.
والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلا، ويكون مأجورا على اجتهاده، ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام" قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو من لا يعلمها.
فأما من كان عالما بها، واتبع ما دله علمه عليها، فذلك قسم ثالث، لم يذكره لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة، لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس، واتبع علمه في ذلك.
وأما من لم يعلم حكم الله فيها، فهو قسمان:
أحدهما: من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه.
ومعنى "استبرأ": طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين.
وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد: "أن من وقى به المرء عرضه، فهو صدقة".
القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئا مما يظنه الناس شبهة، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركها حينئذ استبراءا لعرضه، فيكون حسنا، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية: "إنها صفية بنت حيي". وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد صلوا ورجعوا، فاستحيا، ودخل موضعا لا يراه الناس فيه، وقال: "من لا يستحي من الناس، لا يستحي من الله".
وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئا في اعتقاده، فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفا، أو التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه.
والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام، وهذا يفسر بمعنيين:
أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة ـ مع اعتقاده أنها شبهة ـ ذريعة إلى ارتكابه الحرام ـ الذي يعتقد أنه حرام ـ بالتدريج والتسامح.
وفي رواية في "الصحيحين" لهذا الحديث: "ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان".
والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام.
والله عز وجل حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده،وجعل من يرعى حول الحمى وقريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا.
وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبدالله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"، وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين الحرام.
وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى، وروى عن ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها.
وقال ميمون بن مهران: "لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال".
وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
وهنا ينبغي أن يعامل كل إنسان في حدود مرتبته، فمن الناس من لا ينكر عليه الوقوع في الشبهات، لأنه غارق في المحرمات وربما في كبائرها، والعياذ بالله. كما يجب أن تظل الشبهة في رتبتها الشرعية، ولا نرفعها إلى رتبة الحرام الصريح أو المقطوع به، فإن من أخطر الأمور تذويب الحدود بين مراتب الأحكام الشرعية، مع ما جعل الشارع بينها من فروق في النتائج والآثار.
المكروهات
وفي أدنى مراتب المنهيات تأتي المكروهات، والمقصود بها: المكروهات التنزيهية، فمن المعلوم: أن هناك مكروهات تحريمية، ومكروهات تنزيهية، والمكروه التحريمي هو: ما كان إلى الحرام أقرب، والمكروه التنزيهي هو: ما كان إلى الحلال أقرب، وهو المراد بكلمة المكروه عند الإطلاق.
وله أمثلة كثيرة ومعروفة، ومن تتبع كتابا مثل "رياض الصالحين" للإمام النووي رضي الله عنه وجد أمثلة كثيرة يذكرها للمكروهات، مثل كراهية الأكل متكئا، وكراهية الشرب من قم القربة ونحوها، وكراهية النفخ في الشراب، وكراهية الاستنجاء باليمين، ومس الفرج باليمين من غير عذر، وكراهية المشي في نعل واحدة، وكراهية الخصومة في المسجد، ورفع الصوت فيه، وكراهية الاحتباء في المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، وكراهية سب الحمى، وكراهية سب الديك، وكراهية التقعر في الكلام بالتشدق، وكراهية قول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت، وكراهية قول: ما شاء الله وشاء فلان، وكراهية الحديث بعد العشاء الآخرة، وكراهية الصلاة بحضرة الطعام، وكراهية تخصيص يوم الجمعة بصيام، أو ليلته بقيام من بين الليالي، وكراهية رد الريحان لغير عذر..الخ.
إن المكروه ـ كما يعرفه العلماء ـ هو ما كان في تركه أجر، ولم يكن فعله وزر.
فلا عقاب إذن على من ارتكب المكروه التنزيهي، إنما قد يعاتب إذا كان في مرتبة من يعاتب على مثل ذلك، ولا سيما إذا تكرر منه.
لكن لا ينبغي أن ينكر مثل ذلك، فضلا عن أن يشدد في إنكاره.
كما لا يجوز أن يشغل الناس بمحاربة المكروهات، وهم واقعون في صرائح المحرمات.