رد: حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية في ضوء فقه الموازنات
المبحث الأول
الجنسية
مفهومها وطبيعتها وأنواعها
الجنسية مصطلح حديث، يعود ظهوره إلى القرن التاسع عشر[1]. وهو يشير إلى جماعة وطنية تقطن في إقليم، وتتبع دولة ذات سيادة.
ولم يعرف العرب مصطلح الجنسية قبل ظهور الإسلام، ولم يرد عندهم مفهومه، لأنه مصطلح مرتبط بالدولة، وهم لم يكن لهم دولة، وإنما كانوا قبائل، يربطها رباط وجداني في مقابلة العجم. وخضعوا أحيانًا للفرس، وأحيانًا للروم.
ويمكن القول: إن حقيقة الجنسية موجودة في الشريعة الإسلامية، ومعناها وارد في كتب الفقه الإسلامي، وإن لم يرد نصُّها[2].
ولم تظهر الجنسية بمعناها الحديث في الدول العربية إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث ظهر لمعظم هذه الدول كيان دولي مستقل، نتيجة لانفصالها عن الدولة العثمانية في سنة 1914م، وانفصال كل منها بجنسيتها، وإصدار تشريعاتها الخاصة[3].
تعريف الجنسية
تُدرس الجنسية ضمن مساق القانون الدولي الخاص، وهي التي تحدد مركز الفرد القانوني في تمتعه بجنسية الدولة وما له من حقوق، وما عليه من واجبات. وتصدر كل دولة قانون جنسيتها لتحدد مَن الوطني ومَن الأجنبي.
والجنس في اللغة الأصل، والجنس الضَّرب من كل شيء، وما يعم كثيرين، ورتبته أعم من النوع. يقال: الحيوان جنس، والإنسان نوع[4].
والجنسية هي الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو أمة في دولة[5].
وعرَّف فقهاء القانون الجنسية بأنها: نظام قانوني تضعه الدولة؛ لتحدد ركن الشعب فيها، ويكتسب الفرد به صفة تفيد انتسابه إليها[6].
ومن هنا، يظهر أنه لا ارتباط بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي، ولا مجال للقول بأن من شروط وحدة الجنسية وحدة الأصل البشري. فالجنسية تفيد انتساب الشخص إلى دولة معينة، وهو انتساب سياسي وقانوني. أمَّا الجنس، فيفيد انتساب الشخص إلى سلالة بشرية معينة[7].
أركان الجنسية
من تعريف الجنسية، يتضح أنها تقوم على ثلاثة أركان:
· الركن الأول: الدولة مانحة الجنسية.
· الركن الثاني: الشخص الذي تثبت له الجنسية.
· الركن الثالث: رابطة تنظيمية، تُنشئها الدولة بالقانون، وتُحدد الحقوق والواجبات بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها[8].
طبيعة الجنسية:
اختلف فقهاء القانون الدولي الخاص في تكييف طبيعة الجنسية على رأيين:
أحدهما: يرى أن الجنسية عقد يربط بين الفرد والدولة. ولها جانب قانوني باعتبارها جزءًا من الحالة المدنية للشخص. وجانب سياسي يتمثل في الحماية التي توفرها الدولة للفرد في المحيط الدولي، والحقوق السياسية التي يتمتع بها داخل دولته[9].
والرأي الآخر أن الجنسية ليست علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، وإنما هي علاقة تنظيمية، تنشئها الدولة بالتشريع، فتدخل الفرد في مركز الوطني، تمييزًا له عن الأجنبي. وهذا هو الاتجاه السائد في الفقه القانوني الحديث[10].
ومن هنا، نرى أن الجنسية ليست عقيدة ولا دينًا، ولا تعني الولاء الديني، لأنها تنظيم قانوني، ينظم العلاقة بين فرد وكيان سياسي، ويرتب حقوقًا وواجبات، لا شأن للعاطفة بها. وإنَّ الدولة الحديثة تقبل المواطن عضوًا فيها، بغض النظر عن ديانته وعرقه ولونه ولغته ونوعه.
والدليل على أن الجنسية تبعيَّة ونسبة، وليست ولاءً روحيًّا، وأنها تقوم على المنافع والمصالح المادية، كونها تُمنح للأشخاص الطبيعية، كما تُمنح للأشخاص الاعتبارية، بل إن الجنسية تطلق على الأشياء كالطائرات والسفن. فهي نسبة بين شيئين هنا، كما أنها نسبة بين الشخص والدولة هناك في معظم الأحوال.
نوعا الجنسية:
استقر الفقه القانوني على أن ثبوت الجنسية على نوعين هما:
- الجنسية الأصلية: وهي التي تثبت للفرد بمجرد الميلاد في إقليم الدولة أو بسببه. وقد عرفت الدولة الإسلامية ذلك النوع من أنواع كسب جنسيتها[11].
- الجنسية المكتسبة: وهي التي تثبت للفرد بعد ميلاده، وتقتصر على الأجانب الذين يرغبون في كسب جنسية الدولة، وتوافق الدولة على إسباغ الصفة الوطنية عليهم، طبقًا لقانون الجنسية فيها. وأهم أسبابها التجنُّس، والزواج المختلط[12].
وقد عرفت الدولة الإسلامية التجنُّس بجنسيتها المكتسبة، وذلك بالدخول في دين الدولة الإسلامية والإقامة فيها، أو الدخول في ذمَّة الدولة الإسلامية، أو الزواج من غير أهل دار الإسلام[13].
أهمية الجنسية:
في عصرنا الذي يتسم بالتنظيم الشديد، صارت الجنسية ضرورة من الضرورات للفرد والدولة، حيث إن المجتمع الدولي يتكون من عدة دول، كل دولة منها لها مقوماتها الذاتية (الإقليم- الشعب- السلطة). ومن هنا، كانت فكرة الجنسية ضرورة للتمييز بين هذه الشعوب، كلٌ في إقليمه الجغرافي الذي يختص به، ما دام العالم لا يتجه إلى تحقيق فكرة الدولة العالمية، التي تصهر جميع البشر في جنسية واحدة.
ويتمتع الفرد بحقوق الوطني داخل الدولة التي يتمتع بجنسيتها. مثل الحقوق السياسية، والحق في شغل الوظائف العامة، والحق في الإقامة الدائمة في إقليم الدولة، والحق في التملك، والحق في الحماية الدبلوماسية للدولة في أثناء إقامته خارج حدود دولته، حيث يخضع المواطنون لولايتها القضائية والمدنية والدبلوماسية.
ويجب على المواطن الولاء والإخلاص للدولة والوطن، والدفاع عنه، وبذل النفس والمال في ذلك، واحترام نظام الدولة ودستورها[14].
وتحقق الجنسية المساواة بين جميع المواطنين في هذه الحقوق والواجبات، حيث إن الدساتير تنصُّ على المساواة بين جميع مواطني الدولة، بغض النظر عن الجنس أو النوع أو الأصل أو الدين أو اللغة. كما تنصُّ أيضًا على تكافؤ الفرص للجميع.
الجنسية في الشريعة الإسلامية:
يرى بعض الفقهاء- ومنهم الشيخ محمد عبده- أن الجنسية غير معروفة عند المسلمين، وأنه لا جنسية في الإسلام[15]. باعتبار أنه دين ينهض على العقيدة العالمية، التي لا تقبل مثل هذا الحاجز السياسي والقانوني.
والرأي الغالب، أن الجنسية مفهوم عرفته الشريعة الإسلامية، وإن لم يطلق عليه الفقهاء اصطلاح الجنسية. حيث أسس النبيr الأمة والدولة. والدولة الإسلامية هي التي سماها الفقهاء دار الإسلام، وصارت موطنًا لجميع المقيمين فيها إقامة دائمة من المسلمين والذميين. فالمسلم مشمول بها بإسلامه وإقامته بدار الإسلام، وغير المسلم مشمول بها بالتزامه أحكام الإسلام. وقد وضعت وثيقة المدينة- التي وضعها النبي r لتكون دستورًا للمدينة المنورة بجميع قاطنيها من المسلمين واليهود- أسس فكرة الجنسيَّة كما عرفها الفقه المعاصر[16].
وقد صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام، جاء في المادة الثامنة منها: "لكل إنسان الحق في التمتع بجنسية، ولا يجوز حرمانه من جنسيته تعسفًا"[17].
[1] الجنسية والتجنس: د. سميح عواد الحسن، ص20. أحكام الجنسية: د. أحمد عشوش، ود. عمر باخشب، ص69.
[2] الجنسية في الشريعة الإسلامية: د. رحيل غرايبة، ص33.
[3] المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 26 لسنة 1975م، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، ص36. تنظيم أحكام الجنسية: د. السيد عبد المنعم حافظ، ص41- 42.
[4] مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي، ص113. والتهانوي: (مختصر) كشاف اصطلاحات الفنون، ص80- 81. المعجم الكبير: مجمع اللغة العربية 4/594.
[5] المعجم الوجيز: مجمع اللغة العربية، ص121.
[6] القانون الدولي الخاص: د. أحمد عبد الكريم سلامة، ص29. النظام القانوني للجنسية: د. أبو العلا النمر، ص7.
[7] أحكام الجنسية: د. أحمد عشوش، ود. عمر باخشب، ص73.
[8] نظام الجنسية في القانون المقارن: د. حسام الدين ناصف، ص19. القانون الدولي الخاص: د. صلاح الدين جمال الدين، ص49.
[9] طرق اكتساب الجنسية: د. جمال عاطف رضوان، ص29- 30.
[10] أحكام تنظيم الجنسية: د.السيد عبد المنعم حافظ، ص86. نظام الجنسية في القانون المقارن: د.حسام الدين فتحي ناصف، ص31، 32. النظام القانوني للجنسية: د.أبو العلا النمر، ص59. أحكام الجنسية: د.أحمد عشوش، ود.عمر باخشب، ص80. الجنسية والتجنس: د.سميح عواد الحسن، ص30.
[11] طرق اكتساب الجنسية: جمال عاطف رضوان، ص203، أحكام تنظيم الجنسية: د. عبد المنعم حافظ، ص131.
[12] نظام الجنسية في القانون المقارن: د. حسام الدين فتحي ناصف، ص99. الجنسية والتجنس: د. سميح عواد الحسن، ص82.
[13] طرق اكتساب الجنسية: جمال عاطف رضوان، ص204، التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة 1/308.
[14] آثار الحرب في الفقه الإسلامي: د. وهبة الزحيلي، ص744- 745.
[15] الأعمال الكاملة- الكتابات الاجتماعية: محمد عبده، ص498- 500.
[16] أحكام الذميين والمستأمنين: د. عبد الكريم زيدان، ص51. طرق اكتساب الجنسية: جمال عاطف رضوان، ص33، 36، 204. القانون الدولي الخاص: د.أحمد عبد الكريم سلامة، ص44. أحكام الجنسية: د.أحمد عشوش، ود. عمر باخشب، ص26، 33. آثار الحرب: د. وهبة الزحيلي، ص198- 199. الجديد في الفقه السياسي المعاصر: د. سعد الدين هلالي، 149- 151.
[17] نشرت بمجلة المسلم المعاصر، ع50، س13، ربيع الثاني- جمادى الآخرة 1408هـ، ص173.