ضرغام بن عيسى الجرادات
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 26 فبراير 2010
- المشاركات
- 596
- الكنية
- أبو الفضل
- التخصص
- الفقه المقارن
- المدينة
- الخليل
- المذهب الفقهي
- فقه مقارن
الحمد لله رب العالمين ، من خلق الإنسان وأودعه عقلاً ، وأعطاه فكراً، الحمد لله الذي امتن على الناس بأن أنزل لهم شرعاً كاملاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعتريه النقص طول دهره، الحمد لله القائل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]
والقائل {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] والقائل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا سيد البشرية ومعلمها، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل«إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير» .(قال أَبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب.) ... ورواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وإيمان وعلم وعمل صالح إلى يوم الدين .
وبعد:
فإن العقل الصحيح ، والعلم الشرعي يخرجان من مشكاة واحدة لأن مصدرهما واحد ، فالقاعدة أنهما يسيران معاً لا يتضادان ولا يختلفان، فإن جابه العقل صريح الشرع وخالفه فالتهمة ملتصقة بالعقل بالقصور أو الخطأ حينئذ، أو عدم بلوغ مدلول النص أو مقصد الشرع.
والله عز وجل قد كرّم الفقهاء وأعلى شأنهم ورفع ذكرهم وأحال إليهم دون غيرهم في فهم النصوص وإدراك المعقول والمردود والمقبول، { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 83].
ولأجل مكانتهم العالية ودرجتهم السامية كانوا هم القادة الحقيقيون للأمة إليهم ترجع وعن أمرهم تصدر.
فعلى الفقيه المعاصر مسؤولية عظيمة إذ لا يُعلم في تاريخ الأمة هجوم على الثوابت ولعب في الأصول وتأويل للنقول كعصرنا هذا.
هجوم على الشريعة وصلاحيتها، وهجوم على أصولها، واتهام لها بالتطرف تارة وبالغلو تارة، أو عدم المواكبة تارات، مما أدى إلى إقصائها عن واقع الناس، وإن طُبًق شيء منها تحت طلب الناس، كان تطبيقاً مجتزأ أو مشوهاً، لا يعبر عن الشريعة كمنظومة كاملة، عدا عن الهجوم على الأخلاق والمبادئ ومحاربة أهل العلم من الجهلة مرة، ومن المتربصين مرات.
والفقيه الصادق عالم عامل مشغول بقضايا أمته لا يعيش بمعزل عنها ولا ينأى بنفسه عن هموم الناس وحاجاتهم، فإن الفقه أوجده الله عز وجل ليعالج قضايا الأمة والأفراد.
وحتى لا يحدث اختلاف أو تضاد أو تناقض بين العقل والشرع لا بد للفقيه المعاصر أن يتحرك منطلقاً من منطلقات فكرية رصينة ومن وعي واقعي عميق، وبذلك يخدم الفقه ويخدم أمته، ويمكن إجمال الجواب في عشرين بنداً فيما يلي:
1-في عصر تموج فيه الفتن موجاً وتُعرض الفتن فيه على القلوب كالحصير عوداً عوداً، يجب أن يتذكر الفقيه أنه القاعدة الرصينة والصخرة الصلبة التي يتحطم عليها كل هجوم وكل زيغ وكل بدعة وكل تطرف وكل تميع، وكل غلو أو خطل.
يا علماء الدين يا ملح البلد ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد
فحقيق على الفقيه أو المتفقه أن يُسلم قلبه من العوارض التي تؤدي إلى فساده، أو تعمل على إبعاده عن الحق وأهله ، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28].
2-يجب أن يستحضر الفقيه أنه عبد ضعيف يقف بباب صاحب العلم المطلق يستلهم رشده، ويستمطر رحمته، فإن الفقيه أحوجُ الناس إلى التسديد، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول " ربما طالعت في الآية الواحدة نحو مائة تفسير ! ثم أسأل الله الفهم وأقول ( اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي) فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك" قال : وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمَرِّغ وجهي في التراب ، وأسأل الله تعالى وأقول : يا مُعَلِّم إبراهيم فَهِّمْنِي" العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 42) .
3-لا يغيب عن بال الفقيه أن قدوة، والقدوة النظر إليه متجه، والناس محتاجة إليه، والقدوة صاحب مهمة لا ينساها ولا يغفل عنها، يعالج قضايا البشرية ومشكلاتها، يضعها على الجادة، يصل الأرض بالسماء ، لأنه -إن صدق- بصدقٍ وريث الأنبياء.
وعليه: فلا ينطلق الفقيه من منطلقات فئوية أو نظرة ضيقة، فيتسع للكل ويسمع للكل ويعالج مشاكل الكل، وحتى لو مال إلى فئة لا يجوز أبداً لميوله أن يكون آخذاً به إلى طرف فيحيدَ به عن الإنصاف أو جادة العلم والموضوعية.
4-يفكر الفقيه في تغيير الواقع الأليم بالطرق الشرعية المتاحة، ويعمل لما ليس متاحاً بالطرق الشرعية، فالفقيه رجل عاقل لا تستفزه الأحداث للغلو ولا تدعوه الفتن وأغراض العامة للتمييع، بل هو متوازن بعلم لا يتحرك إلا بعلم ولا يسكن إلا بعلم.
5-يعتقد الفقيه أن في الشريعة المطهرة علاج كل المشاكل العصرية، ولكنه بحاجة إلى تشخيص دقيق ومعرفة بالواقع ودراسته دراسة ميدانية، وتشخيص الداء علم في حد ذاته، ومعرفة لما يجب لعلاج الواقع، قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين (1/ 69) "وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ:
أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".
6-يؤصل الفقيه لفقه التغيير من وعي بمراتب الأدلة ومنازلها، فيعرف ما ينكر ويعرف مراتب الإنكار ، ويستخدم معرفته للتغيير، ولذلك يجب عليه أن يكون عارفاً بالثوابت والمتغيرات، مطلعاً على العادات، مطلعاً اطلاعاً تاماً على المستحدثات، وقبل ذلك لا يُغفل –أبداً- معرفة النصوص وفقهها، والأصول والقواعد الفقهية وحدودها، وفقه الأولويات، والمصالح والمفاسد، وفقه الموازنات ، وفقه المآلات.
يقول ابن القيم " انَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إيجَابَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ...فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ"إعلام الموقعين(3/ 13).
7-يبين الفقيه للأمة بل للدنيا محاسن الشريعة ومآثرها ، قدر ما يستطيع لأن الإحاطة بالمحاسن مستحيلة، ولله در ابن القيم-رحمه الله- حيث قال" فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بِهَا الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، وَلَوْلَا رُسُومٌ قَدْ بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا وَطُوِيَ الْعَالَمُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ رُسُومِهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" إعلام الموقعين (3/ 11).
8-لا يغيب عن بال الفقيه الواعي النظر في مقاصد الشريعة فينطلق من فهم صحيح للمقاصد ودراسة عميقة لها ، دون إهدار للنصوص ودلالاتها، فقد زلت في ذلك أفهام وطاشت في ذلك أقلام.
9-يؤصل الفقيه فقه الوسطية التي لا تعني التساهل أو التمييع ولا الغلو أو الجفو، بل تعني الفهم الصحيح لسماحة الإسلام ، والجمع بين النصوص ومقاصد الشريعة العامة والخاصة، وترتيب الأدلة ترتيباً يناسب سماحتها، ويراعي أصولها ولا يهدر نصوصها.
10-يجدد الفقيه النظر في الواقعات، ويبقى مستعداً لمنازلة النوازل المستحدثات، وعدم الجمود على الموجود، غير غافل في منازلته فقه المقاصد والمآلات، وتغير العادات ، يقول العلامة القرافي المالكي" فَمَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبِرْهُ وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقِطْهُ وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك لَا تَجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَدُونَ الْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ" الفروق (1/191).
11-يصل الفقيه الفقه المعاصر بجذوره ، ولا يبني قصراً في الهواء، لا يبني إلا على أساس متين، ولا ينسى جهود السابقين، وكذا يصل الفقيه طلبته بسابقيهم، كي تترابط الحلقات ويتصلُ السند.
12-ولكي لا يقع التناقض مع العقل ، لا بد من ترسيخ فهم النصوص لدى الفقيه وطلابه، فإن أكثر الخطأ المنسوبِ للشريعة من سوء فهم النص أو عدم إدراك لدلالته الناتج عن عدم معرفة موارد ورودها، أو جهل بلغتها.
قال الإمام أحمد، في رواية ابنه صالح عنه: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها. إعلام الموقعين (1/ 35).
13-يتصفح الفقيه وجوه طلابه فيعمل على اصطفاء ثلة منهم تأخذ عنه العلم المؤصل والمنهج المدلل، فيكون هو حلقة وصل في منهج الوسطية بين السابقين واللاحقين، ويكون بذلك أدى الأمانة ونصح الأمة.
14-يحترمُ الفقيهُ أصحاب العقول والعلوم والتخصصات، وينزلهم منازلهم، ولا يبخسُهم قدرهم، ولا ينازعهم تخصصهم، ولا يتحدث في فن لا يحسنه، ولا يلج علماً لا يتقنه، ويتسع صدره للمناقشة أو التعقيب أو الاستدراك، فليس هناك كبير على العلم، وليستحضر قول المحدث الملهم الفقيه الألمعي سيدنا عمر رضي الله عنه قوله في أكثر من حادثة " لولا معاذ لهلك عمر " " لولا علي لهلك عمر " السنن الكبرى للبيهقي (7/ 729) وأسانيده جيدة.
15-الفقيه ليس صاحبَ نظرة متشائمة ولا يلبس نظارة سوداء، يعرف الواقع بما فيه ويواكبه ليعالجه بالفقه والعلم، ومن واجبه أن يبث الثقة في الناس ويعلي هممهم ويقوي عزائمهم، دون تكلف في ذلك أو زيادة، منهجه " بشروا ولا تنفروا".
16-يحرص الفقيه على ضبط منهجه عبر ضبط مصطلحاته، فالفقيه يُعمل -مثلاً- سد الذرائع في مكانه بضوابطه، ويجري الاحتياط في مكانه بضوابطه، ويُعمل قاعدة الخروج من الخلاف في مكانها بضوابطها، وهكذا يريح نفسه ويريح الناس ويخدم الفقه.
17- لا ينسى الفقيه أنه فارس الميدان ، وفارس الميدان لا يغادر الساحة ليملأها أدعياءُ العلم، أو المتطفلون على حياضه.
مَتَى تَصِلُ العِطُاشُ إِلى ارْتِوَاءٍ إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنْ الرَّكَايَا؟!
وَمَنْ يُثْنِي الأَصَاغِرَ عَنْ مُرَادٍ وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ فِي الزَّوَايَا ؟!
وإِنَّ تَرَفُّعَ الوُضُعَاءِ يَوْمًا عَلَى الرُّفَعَاءِ مِنْ إِحْدَى البَلَايَا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِي فَقَدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ الْمَنَايَا
18- يحرص الفقيه على سياسة العلم، فإن للعلم سياسة من لا يدركها لا يصل علمه للناس ولا ينتفع بعلمه أحد، فليس كل ما يعلم يقال، وليس ما يقال للفقهاء أو المتفقهة يقال للعامة، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ كُلَّ مَنْ يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ" إعلام الموقعين (4/ 158).
وقد قال ياقوت الحموي في ترجمته لابن حزم الظاهري بعدما ذكر ما عاناه ابن حزم من فقهاء زمانه وحرق كتبه " وأكثر معايبه- زعموا- عند المنصف له جهله بسياسة العلم التي هي أعوص من إتقانه وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر علم لا تكدره الدلاء، ولا يقصر عنه الرشاء، وعلى كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة" معجم الأدباء (4/ 1656).
19-يحرص الفقيه على بث العلم عبر الوسائل المعاصرة ، ولا يقف الزمان به عند الدواة والقرطاس على أهميتهما، بل يبث العلم عبر التلفاز والمذياع والشبكة العنكبوتية وكل ما يقدم المعلومة، ولا يخلي الساحة للأغمار.
20-يحرص الفقيه على جمع الكلمة وتأليف القلوب ويكون مصدراً للتوافق وليس للاختلاف، بجمع الناس على الحق والسنة ويبذل غاية جهده في ذلك.
وأخيراً أقول: إن منطلقات الفقيه الفكرية أوسع مما ذكرت، وكذا طرق خدمته لأمته أكثر مما رقمت، وإنما هذا نزر يسير، والإشارة تكفي للبيب وتبلغ الرجل العاقل الأريب.
وليعلم القارئ لكلمتي هذه أنني لم أعتنِ بكثرة الحشد أو الاستدلال والنقول، بل هي أفكار احتشدت في نفسي وقت طرح موضوع المشاركة علي، فكتبتها كما احتشدت مع بعض الترتيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والقائل {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] والقائل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا سيد البشرية ومعلمها، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القائل«إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير» .(قال أَبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب.) ... ورواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وإيمان وعلم وعمل صالح إلى يوم الدين .
وبعد:
فإن العقل الصحيح ، والعلم الشرعي يخرجان من مشكاة واحدة لأن مصدرهما واحد ، فالقاعدة أنهما يسيران معاً لا يتضادان ولا يختلفان، فإن جابه العقل صريح الشرع وخالفه فالتهمة ملتصقة بالعقل بالقصور أو الخطأ حينئذ، أو عدم بلوغ مدلول النص أو مقصد الشرع.
والله عز وجل قد كرّم الفقهاء وأعلى شأنهم ورفع ذكرهم وأحال إليهم دون غيرهم في فهم النصوص وإدراك المعقول والمردود والمقبول، { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 83].
ولأجل مكانتهم العالية ودرجتهم السامية كانوا هم القادة الحقيقيون للأمة إليهم ترجع وعن أمرهم تصدر.
فعلى الفقيه المعاصر مسؤولية عظيمة إذ لا يُعلم في تاريخ الأمة هجوم على الثوابت ولعب في الأصول وتأويل للنقول كعصرنا هذا.
هجوم على الشريعة وصلاحيتها، وهجوم على أصولها، واتهام لها بالتطرف تارة وبالغلو تارة، أو عدم المواكبة تارات، مما أدى إلى إقصائها عن واقع الناس، وإن طُبًق شيء منها تحت طلب الناس، كان تطبيقاً مجتزأ أو مشوهاً، لا يعبر عن الشريعة كمنظومة كاملة، عدا عن الهجوم على الأخلاق والمبادئ ومحاربة أهل العلم من الجهلة مرة، ومن المتربصين مرات.
والفقيه الصادق عالم عامل مشغول بقضايا أمته لا يعيش بمعزل عنها ولا ينأى بنفسه عن هموم الناس وحاجاتهم، فإن الفقه أوجده الله عز وجل ليعالج قضايا الأمة والأفراد.
وحتى لا يحدث اختلاف أو تضاد أو تناقض بين العقل والشرع لا بد للفقيه المعاصر أن يتحرك منطلقاً من منطلقات فكرية رصينة ومن وعي واقعي عميق، وبذلك يخدم الفقه ويخدم أمته، ويمكن إجمال الجواب في عشرين بنداً فيما يلي:
1-في عصر تموج فيه الفتن موجاً وتُعرض الفتن فيه على القلوب كالحصير عوداً عوداً، يجب أن يتذكر الفقيه أنه القاعدة الرصينة والصخرة الصلبة التي يتحطم عليها كل هجوم وكل زيغ وكل بدعة وكل تطرف وكل تميع، وكل غلو أو خطل.
يا علماء الدين يا ملح البلد ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد
فحقيق على الفقيه أو المتفقه أن يُسلم قلبه من العوارض التي تؤدي إلى فساده، أو تعمل على إبعاده عن الحق وأهله ، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28].
2-يجب أن يستحضر الفقيه أنه عبد ضعيف يقف بباب صاحب العلم المطلق يستلهم رشده، ويستمطر رحمته، فإن الفقيه أحوجُ الناس إلى التسديد، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول " ربما طالعت في الآية الواحدة نحو مائة تفسير ! ثم أسأل الله الفهم وأقول ( اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي) فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك" قال : وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمَرِّغ وجهي في التراب ، وأسأل الله تعالى وأقول : يا مُعَلِّم إبراهيم فَهِّمْنِي" العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 42) .
3-لا يغيب عن بال الفقيه أن قدوة، والقدوة النظر إليه متجه، والناس محتاجة إليه، والقدوة صاحب مهمة لا ينساها ولا يغفل عنها، يعالج قضايا البشرية ومشكلاتها، يضعها على الجادة، يصل الأرض بالسماء ، لأنه -إن صدق- بصدقٍ وريث الأنبياء.
وعليه: فلا ينطلق الفقيه من منطلقات فئوية أو نظرة ضيقة، فيتسع للكل ويسمع للكل ويعالج مشاكل الكل، وحتى لو مال إلى فئة لا يجوز أبداً لميوله أن يكون آخذاً به إلى طرف فيحيدَ به عن الإنصاف أو جادة العلم والموضوعية.
4-يفكر الفقيه في تغيير الواقع الأليم بالطرق الشرعية المتاحة، ويعمل لما ليس متاحاً بالطرق الشرعية، فالفقيه رجل عاقل لا تستفزه الأحداث للغلو ولا تدعوه الفتن وأغراض العامة للتمييع، بل هو متوازن بعلم لا يتحرك إلا بعلم ولا يسكن إلا بعلم.
5-يعتقد الفقيه أن في الشريعة المطهرة علاج كل المشاكل العصرية، ولكنه بحاجة إلى تشخيص دقيق ومعرفة بالواقع ودراسته دراسة ميدانية، وتشخيص الداء علم في حد ذاته، ومعرفة لما يجب لعلاج الواقع، قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين (1/ 69) "وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ:
أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".
6-يؤصل الفقيه لفقه التغيير من وعي بمراتب الأدلة ومنازلها، فيعرف ما ينكر ويعرف مراتب الإنكار ، ويستخدم معرفته للتغيير، ولذلك يجب عليه أن يكون عارفاً بالثوابت والمتغيرات، مطلعاً على العادات، مطلعاً اطلاعاً تاماً على المستحدثات، وقبل ذلك لا يُغفل –أبداً- معرفة النصوص وفقهها، والأصول والقواعد الفقهية وحدودها، وفقه الأولويات، والمصالح والمفاسد، وفقه الموازنات ، وفقه المآلات.
يقول ابن القيم " انَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إيجَابَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ...فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ"إعلام الموقعين(3/ 13).
7-يبين الفقيه للأمة بل للدنيا محاسن الشريعة ومآثرها ، قدر ما يستطيع لأن الإحاطة بالمحاسن مستحيلة، ولله در ابن القيم-رحمه الله- حيث قال" فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ. فَهِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ؛ فَهِيَ بِهَا الْحَيَاةُ وَالْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ وَالنُّورُ وَالشِّفَاءُ وَالْعِصْمَةُ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إضَاعَتِهَا، وَلَوْلَا رُسُومٌ قَدْ بَقِيَتْ لَخَرِبَتْ الدُّنْيَا وَطُوِيَ الْعَالَمُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ لِلنَّاسِ وَقِوَامُ الْعَالَمِ، وَبِهَا يُمْسِك اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَرَابَ الدُّنْيَا وَطَيَّ الْعَالَمِ رَفَعَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ رُسُومِهَا؛ فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ هِيَ عَمُودُ الْعَالَمِ، وَقُطْبُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" إعلام الموقعين (3/ 11).
8-لا يغيب عن بال الفقيه الواعي النظر في مقاصد الشريعة فينطلق من فهم صحيح للمقاصد ودراسة عميقة لها ، دون إهدار للنصوص ودلالاتها، فقد زلت في ذلك أفهام وطاشت في ذلك أقلام.
9-يؤصل الفقيه فقه الوسطية التي لا تعني التساهل أو التمييع ولا الغلو أو الجفو، بل تعني الفهم الصحيح لسماحة الإسلام ، والجمع بين النصوص ومقاصد الشريعة العامة والخاصة، وترتيب الأدلة ترتيباً يناسب سماحتها، ويراعي أصولها ولا يهدر نصوصها.
10-يجدد الفقيه النظر في الواقعات، ويبقى مستعداً لمنازلة النوازل المستحدثات، وعدم الجمود على الموجود، غير غافل في منازلته فقه المقاصد والمآلات، وتغير العادات ، يقول العلامة القرافي المالكي" فَمَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبِرْهُ وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقِطْهُ وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك لَا تَجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَدُونَ الْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ" الفروق (1/191).
11-يصل الفقيه الفقه المعاصر بجذوره ، ولا يبني قصراً في الهواء، لا يبني إلا على أساس متين، ولا ينسى جهود السابقين، وكذا يصل الفقيه طلبته بسابقيهم، كي تترابط الحلقات ويتصلُ السند.
12-ولكي لا يقع التناقض مع العقل ، لا بد من ترسيخ فهم النصوص لدى الفقيه وطلابه، فإن أكثر الخطأ المنسوبِ للشريعة من سوء فهم النص أو عدم إدراك لدلالته الناتج عن عدم معرفة موارد ورودها، أو جهل بلغتها.
قال الإمام أحمد، في رواية ابنه صالح عنه: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها. إعلام الموقعين (1/ 35).
13-يتصفح الفقيه وجوه طلابه فيعمل على اصطفاء ثلة منهم تأخذ عنه العلم المؤصل والمنهج المدلل، فيكون هو حلقة وصل في منهج الوسطية بين السابقين واللاحقين، ويكون بذلك أدى الأمانة ونصح الأمة.
14-يحترمُ الفقيهُ أصحاب العقول والعلوم والتخصصات، وينزلهم منازلهم، ولا يبخسُهم قدرهم، ولا ينازعهم تخصصهم، ولا يتحدث في فن لا يحسنه، ولا يلج علماً لا يتقنه، ويتسع صدره للمناقشة أو التعقيب أو الاستدراك، فليس هناك كبير على العلم، وليستحضر قول المحدث الملهم الفقيه الألمعي سيدنا عمر رضي الله عنه قوله في أكثر من حادثة " لولا معاذ لهلك عمر " " لولا علي لهلك عمر " السنن الكبرى للبيهقي (7/ 729) وأسانيده جيدة.
15-الفقيه ليس صاحبَ نظرة متشائمة ولا يلبس نظارة سوداء، يعرف الواقع بما فيه ويواكبه ليعالجه بالفقه والعلم، ومن واجبه أن يبث الثقة في الناس ويعلي هممهم ويقوي عزائمهم، دون تكلف في ذلك أو زيادة، منهجه " بشروا ولا تنفروا".
16-يحرص الفقيه على ضبط منهجه عبر ضبط مصطلحاته، فالفقيه يُعمل -مثلاً- سد الذرائع في مكانه بضوابطه، ويجري الاحتياط في مكانه بضوابطه، ويُعمل قاعدة الخروج من الخلاف في مكانها بضوابطها، وهكذا يريح نفسه ويريح الناس ويخدم الفقه.
17- لا ينسى الفقيه أنه فارس الميدان ، وفارس الميدان لا يغادر الساحة ليملأها أدعياءُ العلم، أو المتطفلون على حياضه.
مَتَى تَصِلُ العِطُاشُ إِلى ارْتِوَاءٍ إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنْ الرَّكَايَا؟!
وَمَنْ يُثْنِي الأَصَاغِرَ عَنْ مُرَادٍ وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ فِي الزَّوَايَا ؟!
وإِنَّ تَرَفُّعَ الوُضُعَاءِ يَوْمًا عَلَى الرُّفَعَاءِ مِنْ إِحْدَى البَلَايَا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِي فَقَدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ الْمَنَايَا
18- يحرص الفقيه على سياسة العلم، فإن للعلم سياسة من لا يدركها لا يصل علمه للناس ولا ينتفع بعلمه أحد، فليس كل ما يعلم يقال، وليس ما يقال للفقهاء أو المتفقهة يقال للعامة، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ كُلَّ مَنْ يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ" إعلام الموقعين (4/ 158).
وقد قال ياقوت الحموي في ترجمته لابن حزم الظاهري بعدما ذكر ما عاناه ابن حزم من فقهاء زمانه وحرق كتبه " وأكثر معايبه- زعموا- عند المنصف له جهله بسياسة العلم التي هي أعوص من إتقانه وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر علم لا تكدره الدلاء، ولا يقصر عنه الرشاء، وعلى كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة" معجم الأدباء (4/ 1656).
19-يحرص الفقيه على بث العلم عبر الوسائل المعاصرة ، ولا يقف الزمان به عند الدواة والقرطاس على أهميتهما، بل يبث العلم عبر التلفاز والمذياع والشبكة العنكبوتية وكل ما يقدم المعلومة، ولا يخلي الساحة للأغمار.
20-يحرص الفقيه على جمع الكلمة وتأليف القلوب ويكون مصدراً للتوافق وليس للاختلاف، بجمع الناس على الحق والسنة ويبذل غاية جهده في ذلك.
وأخيراً أقول: إن منطلقات الفقيه الفكرية أوسع مما ذكرت، وكذا طرق خدمته لأمته أكثر مما رقمت، وإنما هذا نزر يسير، والإشارة تكفي للبيب وتبلغ الرجل العاقل الأريب.
وليعلم القارئ لكلمتي هذه أنني لم أعتنِ بكثرة الحشد أو الاستدلال والنقول، بل هي أفكار احتشدت في نفسي وقت طرح موضوع المشاركة علي، فكتبتها كما احتشدت مع بعض الترتيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ملاحظة: أصل المقالة ورقة قدمت لندوة فكرية فقهية في بداية 1434ه
ضرغام الجرادات
1434ه/2013م
الخليل- فلسطين
ضرغام الجرادات
1434ه/2013م
الخليل- فلسطين
التعديل الأخير: