العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

ملاحظات على كتاب "التقليد وحكمه في ضوء الكتاب والسنة والآثار السلفية" للدكتور وصي الله عباس

إنضم
29 مارس 2010
المشاركات
133
الجنس
ذكر
التخصص
الشريعة
الدولة
بريطانيا
المدينة
لندن
المذهب الفقهي
حنفي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:

السلام عليكم

وجدت الكتاب المطبوع في مصر في موقع الدكتور:
http://wasiullahabbas.files.wordpress.com/2012/01/taqleed.pdf
كما أن ترجمته إلى الأردية والمطبوعة في باكستان موجودة هناك:
http://wasiullahabbas.files.wordpress.com/2012/03/taqleed_ka_hukm.pdf

أبدأ بالملاحظات على الترجمة الأردية:

1. وجه الكتاب يحتوي على صورة رجل على شفا جرف هار، يمشي إلى النار، معرضا عن الكتاب والسنة، كأن نظرية التقليد بأسرها وفي أي معنى لها تؤدي إلى جهنم!

وأضيفت إلى هذه الصورة آية قرآنية - "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يليتني اتخذت مع الرسول سبيلا" - كأن الآية أنزلت لتحذير الناس عن التقليد المصطلح عليه عند الأصوليين!

وسبب هذا أن المترجمين الباكستانيين لهذا الكتاب من جماعة أهل الحديث التي عرفت بمقت نظرية التقليد وحتى لفظة التقليد، فهم مخالفون ألبتة لأي رأي يؤيد نظرية التقليد المصطلح عليه، فضلا عن وجوبه على العوام المسلمين. أما بالنسبة للعامة فيقولون: إنما الواجب هو الاتباع لا التقليد. وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.

المهم أن الدكتور وصي الله عباس على علم بهذا التشويش ضد التقليد على وجه الترجمة لكتابه، ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة. هل التقليد بأسره مذموم هكذا؟ وماذا عن التقليد المصطلح عليه الذي درج عليه الجماهير من الفقهاء والأصوليين؟ لماذا هذا السعي لهدم ما هو كالمتفق عليه عند أهل الاصطلاح في هذا الفن؟


2. وقال صاحب المقدمة في الترجمة، صـ 5، وهو عبد الخالق صديقي:
"... هذا الكتاب لا نظير له في ذم التقليد وبيان فضل اتباع السنة. التقليد عمل مذموم، بل إن نفس كلمة التقليد خسيسة ممقوتة لم تستخدم للإنسان قط في الكتاب والسنة، بل للبهائم والحيوانات كما جاء في القرآن المجيد: "يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد" "

أقول: فجعل التقليد - هكذا بدون تفصيل - ضد السنة، وأنه مذموم، وأن صلته بغير ذوات العقول. هكذا تعتقد جماعة أهل الحديث في باكستان. ويا ليت شعري هل يريدون بهذا إحياء رأي المعتزلة ببغداد القائلين بحرمة التقليد حتى في الفروع؟

وحتى لو نظرنا إلى كلمة الاتباع فإن بعض مشتقاتها استعملت لغير ذوات العقول، فالتبيع معروف لدى الفقهاء في كتاب الزكاة وهو ولد البقرة الذي لم تم له حول، فهل يسوغ أن يقال: الاتباع مأخوذ من كلمة استخدمت لغير ذوات العقول؟

ثم أنشأ يقول:
"حتى العامي الذي يقال فيه "إن التقليد في كل حين واجب" – لم تكن لفظة التقليد موجودة في عصر الصحابة، بل استخدم لفظ الاتباع، لأن العامة لم يكونوا ملتزمين تقليد شخص بعينه، بل إنما كانوا يتكلمون بالدليل وبه كان يجاب على المسائل..."

أقول: اضطراب هذا الكلام لا يخفى، فإنه جعل التقليد بمعنى التزام تقليد شخص بعينه، وجعل الاتباع دون ذلك وهو التكلم بالدليل، فهذا التقسيم لا يتناول التقليد المطلق وهو جواز رجوع المقلد إلى أي عالم بدون التزام له. كما أن هذا الكلام لا يقر بوجود التقليد في عصر الصحابة، كأنهم كانوا يتكلمون بالدليل دائما حتى غير الفقيه منهم والأعرابي. وهذا مخالف لما نهج عليه الأئمة فأثبتوا التقليد في الصحابة. قال القرافي في الذخيرة جـ 1 صـ 141:
انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل. انتهى

كما ورد إثبات التقليد في عصر الصحابة من ابن المنير، كما جاء في البحر المحيط للزركشي جـ 6 صـ 313:
لو لم أجد تخيير العامي عند اختلاف المفتين منصوصا عليه في الحديث لما كان الهجوم على تقريره سائغا ، ودل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني قريظة وقال: "لا تنزلوا حتى تأتوهم"، فحانت صلاة العصر في أثناء الطريق فاختلفوا حينئذ، فمنهم من صلى العصر ثم توجه، ومنهم من تمادى وحمل قوله "لا تنزلوا" على ظاهره، فلما عرضت القصة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أحدا منهم. ونحن نعلم أن السرية ما خلت عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم، وكان ذلك المقلد مخيرا، وباختياره قلد ولم يلحقه عتب ولا عيب. انتهى

والعجيب أن المترجم استخذم كلمة "يقال" وهو مشعر للقارئ بضعف القول بالتقليد، فما أدق هذا الكلام!

استمر قائلا:
"أمر الله تعالى في القرآن بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل من تركهما مقلدا لغيرهما جاهلا بلا عقل متبعا للشيطان"

أقول: هذا يشعر أن التقليد الذي سيتكلم عنه الكتاب هو التقليد المذموم الذي يقع في أصول الدين، وهذا تصوير خاطئ جدا للكتاب فالناظر يرى أن الكتاب يتناول موضوع التقليد في الفروع.

وحتى الكتاب خلط بين التقليد في الفروع والتقليد في الأصول، وبين تقليد العامي للمجتهد وتقليد المجتهد للمجتهد، فهو غير محرر جدا بل عائد على نفسه بالإبطال في بعض الأحيان، كما سيأتي إن شاء الله.

والعجيب أن هؤلاء المعرضين عن مصطلح التقليد والمتمسكين بلفظ الاتباع لم يلتفتوا إلى أن الاتباع استخدم للذم في القرآن أيضا، فقال الله تعالى "إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب"، وقال تعالى "بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من نصرين"، فكيف يمكن القول بأن الشارع أراد أن يصطلح على الاتباع حينما أراد المعنى الممدوح للاتباع؟

ثم دعا:
"ندعو الله تعالى أن يوفقنا للسير على الكتاب والسنة على فهم الصحابة وعملهم ونهجهم، وأن يعصمنا من أي عمل مذموم مثل التقليد"

أقول: لا تعليق، ولو أصبح هذا الملتقى المبارك بأيديهم لكان أول عملهم حذف "التقليد" من "ملتقى الاجتهاد والتقليد"!

3. وقال فضل الرحمن عناية الله في مقدمة الترجمة صـ 9:
"وموضوع التقليد الشخصي هذا وإن ألف في عديد من الكتب..."

أقول: "التقليد الشخصي" مصطلح أردوي الأصل أو فارسي الأصل مستعمل في شبه القارة الهندية، معناه عند سالكيه من الحنفية هناك "الالتزام بمذهب معين لأجل المصلحة خوفا من الوقوع في التلفيق أو الهوى"، وهذا الالتزام يحرم الانتقال من المذهب حتى في آحاد المسائل إلا عند الضرورة الشديدة بفتوى من عالم في المذهب. لكن معنى التقليد الشخصي عند مخالفي التقليد من جماعة أهل الحديث "الالتزام بإمام أو مذهب دون النبي عليه السلام". فلا خفاء في سبب هذه الجدالات بين الحنفية وجماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية، حيث لم يتفق لديهم تعريف التقليد الشخصي أصلا، فكلمة التقليد الشخصي لا قيمة له في تحليل المسألة حيث لم يتفق الفريقان على حده، ولا قيمة له من حيث الاصطلاح فلا وجود له في الكتب العربية سواء من المتقدمين أو من المتأخرين.

ولو نظرنا في الكتاب لوجدنا أنه "التقليد الشخصي" الموضوع لفصل واحد فقط من فصوله الثلاثة عشر (كما سيأتي). وأعتقد أن مثل هذا الكلام خرج مخرج العاطفية لموضوع التقليد الذي أصبح محورا للولاء والبراء لدى كثير من المسلمين في شبه القارة الهندية، فهناك كثير من الحنفية يوجبون "التقليد الشخصي" (حسب مصطلحهم) ويرون أن كل من خالف وجوب التقليد الشخصي على ضلال، ويخالفونهم كثير من جماعة أهل الحديث الذين يحرمون التقليد بأسره ويمقتونه مقتا شديدا - من حيث الاصطلاح على الأصل (وإن كان عوامهم يقلدون حسب معنى التقليد المصطلح عليه في كتب أصول الفقه). فهناك طرفان لا وسط لهما، وأقصد بالوسط: جواز التقليد من حيث الأصل والتسليم للخلاف بين التقليد المطلق وبين التقليد المقيد بعالم معين أو مذهب معين.

فمن كان بين هذه الجدالات حول التقليد في شبه القارة الهندية من الحنفية أو من جماعة أهل الحديث ووجد كتابا من السعودية – وخاصة من أهل الحرمين – ووافق رأي الكتاب رأيه في التقليد، فرح فرحا شديدا، لأن مطبوعات العلماء في السعودية كالحجة القاطعة لدى كثير من الجاهلين منهم وإن كانوا بزي طلاب علم أو علماء، حتى إن من أقوى حجج المناظرين لدي الفريقين هناك "عمل أئمة الحرمين"، أو كما يسمونه: "عمل إمام الكعبة"!

وبما أنهم وجدوا الدكتور وصي الله عباس – وأصله أيضا من جماعة أهل الحديث - ألف كتابا في التقليد وهو يوافقهم في الموضوع جملة، طاروا به كأنهم هزموا الحنفية الذين يدعون علماء السعودية لأنفسهم، حيث يظن كثير من الحنفية أن علماء السعودية – وعلى رأسهم أئمة الحرمين – يتبنون "التقليد الشخصي" مثلهم، لأجل أنهم "حنابلة"! فخلطوا بين التمذهب والتقليد، وهذا الخلط صريح في بطلانه فقد يكون المتمذهب مجتهدا وقد يكون المقلد غير متمذهب.

4. لم تترجم الخاتمة كما هي، وقد حذفت الترجمة اعتراف الدكتور وصي الله عباس في جواز التقليد للعاجز عن معرفة الدليل، كما حذفت أن المتبع – حسب اصطلاح الدكتور وصي الله عباس – يجوز أن يقال فيه "إنه مقلد"، حيث صرح الدكتور وصي الله عباس بأنه لا مشاحة في الاصطلاح.

ولا إخال هذا الحذف إلا عن خيانة علمية، ولكن هكذا المتعصبون من جماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية، والعجيب أنهم يتهمون مخالفيهم من الحنفية هنالك بالكتمان والتزوير العلمي وقلب الحقائق.

وها أنا أترجم خاتمة الطبعة الأردية حتى يستطيع أن يقابل الإخوان غير الناطقين بها بين الكتاب العربي صـ 122 (http://wasiullahabbas.files.wordpress.com/2012/01/taqleed.pdf) وبين الترجمة الأردية التالية:

"أتضرع إلى الله رب العزة أن يجعل هذا الكتاب للأمة مفيدا، وأن يجزل المثوبة لي ولوالدي ولجميع أساتذتي، وها أنا أقدم هذا الكتاب للعلماء خاصة، فإن وجد أحد فيه أي خطأ معنوي فليطلعني عليه حتى أتراجع عنه.

كما أنني أشعر أن بعض الناس لن يقبلوا مني هذا الموضوع (أي الكتاب)، بل يمكن أن يتهموني بالكسل الشديد، لكن أقابلهم بالعفو، مذكرا إياهم بـ"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، حتى يتأملوا قبل أن يتكلموا أو يكتبوا شيئا، والله عليم بذات الصدور، "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله".

تقبل الله رب العزة هذا الجهد الوجيز، كما أسأله أن يجعله متقبلا عند عباده الصالحين، آمين"

فهل هذا ما كتبه الدكتور وصي الله عباس في خاتمة أصل الكتاب العربي، صـ 122!؟


لنأت إلى الأصل العربي للدكتور وصي الله عباس.

لكن قبل ذلك، علي أن أوضح – في رأيي المتواضع – أن تخصصه ليس في الفقه، فضلا عن أصول الفقه، فضلا عن موضوع خاص منه كالاجتهاد أو التقليد، فليس الدكتور مرجعا في فروع أصول الفقه. فلو راجع الكتاب أحد كبار الفقهاء والأصوليين في المملكة كالشيوخ نملة أو الشثري أو الطريفي أو حتى الشيخ السديس الأصولي إمام الحرم المكي، لخرج الكتاب أنفع وأفضل، ولكن شاء الله ثم الدكتور وصي الله عباس غير ذلك.

وإضافة إلى ذلك فالدكتور وصي الله عباس يدعي أنه على المنهج السلفي، وبالتالي ظن أن منهجه سيصونه من الأخطاء المنهجية في بحث هذا الموضوع، لكن الحقيقة أن الدكتور وصي الله وقع في فوضى عشوائية هي من سمات غير المتخصصين في الفن، ولأجل هذا أجزم أن الكتاب لن ينال القبول الأكاديمي في أوساط علماء الفقه وطلابه، سواء في المملكة أو خارجها، اللهم إلا أن هناك شرذمة قليلة – من غير المتخصصين في الفقه من جماعة أهل الحديث في شبه القارة الهندية وبعض الآخرين في المملكة العربية السعودية – سيصطحبون به إلى الآفاق، ظنا منهم أنه من أفضل ما كتب في الموضوع.

وإليكم تلك الملاحظات:

1. ارتباط موضوعات الكتاب بعضها ببعض ضعيف جدا، وهذا لأجل أن الكتاب أشبه أن يكون هدما لنظرية التقليد أكثر من شرحها، فجعله الدكتور وصي الله في ثلاثة عشر فصلا وهي:

الأول: الفرق بين الاتباع والتقليد (اقرأ "إثبات وجوب الاتباع والسعي في القضاء على التقليد")

الثاني: نهي الأئمة عن تقليدهم (بدون تفصيل أو تحرير بين المجتهد والطالب والعامي)

الثالث: عدم وجود التقليد المصطلح في خير القرون (يشعر بالتقليد المصطلح عليه ضلال بحذافيره إلا أن يجعل التقليد بمعنى الاتباع الذي هو عند الدكتور وصي الله عباس، وهل كل مصطلح في أصول الفقه وعلم الجدل موجود منذ عصر السلف الصالح!؟)

الرابع: من يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ له (حتى في هذا الفصل حاول الدكتور وصي الله التنحي عن مصطلح التقليد والميل إلى مصطلح الاتباع، تقليدا لأمثال الباقلاني (لم يذكره) وابن الحاجب (لم يذكره) وابن خويز منداد (ذكره).)

الخامس: هل يلزم المسلم أن يقلد مذهبا بعينه (كأن عدم الدليل يدل على التحريم، ولا أدري كيف صح للدكتور تعليل التحريم بعدم وجود دليل الجواز)

السادس: التعصب المذهبي (كأن له علاقة بوجوب التقليد، أو أن التقليد سبب للتعصب المذهبي)

السابع: وجوب احترام الأئمة وموقف المسلم معهم (اقرأ "وجوب اعتقاد أن أعيان الأئمة أخطؤوا في بعض المسائل مع احترامهم")

الثامن: انتشار التعصب المذهبي في القرون المتأخرة (وزد: "ودور التقليد فيه")

التاسع: أسباب التعصب المذهبي والسعي لقضائه (وزد: "والسعي للقضاء على التقليد")

العاشر: مساوي التقليد والتعصب (كأنهما وجهان لعملة واحدة)

الحادي عشر: هل يستغنى عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمذاهب المدونة للعلم والفتوى (هل هذا السؤال الملغوم يحتاج إلى إجابة؟ )

الثاني عشر: رسم الفقه الصحيح للتربية والتعليم (مليء بالاقتراحات الفارغة، مخالف لما عليه كثير من مشايخ المملكة العربية السعودية، كما سيأتي)

الثالث عشر: المخرج من الاختلاف (وهو نقل لبعض كلام أبي شامة في معرض رد من تأهل للاجتهاد ولم يجتهد، ولا علاقة له بوجوب التقليد عند جماهير الأصوليين على العامي)

المقصود أن الكتاب الدكتور مضطرب جدا، غير محرر في أكثر مواده، غير آت بما يفيد في موضوع التقليد، بل فيه ما يشتت ذهن القارئ.

2. تطبيق الدكتور لكلام الأئمة في رد التقليد خاطئ، معظمه بل كله في من تأهل للاجتهاد، وليس كلام الأئمة في رد التقليد منصبا على من لم يتأهل للاجتهاد فضلا عن العامة الذين لا يميزون بين اليمين والشمال. فهل هذا منهج علمي أكاديمي، أم في نفس الدكتور شيء ضد التقليد؟ قد علمنا من أمثال ابن عبد البر في جامعه والجصاص في فصوله وابن القيم في إعلامه – الذين أنكروا التقليد على من كان متأهلا للاجتهاد – أن هؤلاء العلماء ممن أوجبوا التقليد نفسه على العامي وبينوا ذلك غاية البيان، لكن لم نجد مثل هذا التبيين لدى الدكتور وصي الله عباس، وإنما وجدناه يجيز التقليد إن كان بمعنى "الاتباع" على طريق "لا مشاحة في الاصطلاح".

3. لم ينقل الدكتور شيئا من الكتب المتخصصة في موضوع التقليد، إما مباشرة وإما بواسطة، ومنها:
- العقد الفريد للسمهودي ت 911 هـ
- الصحيفة فيما يحتاج إليه الشافعي في تقليد أبي حنيفة للطيبي ت 979 هـ
- جواب سؤال حول التلفيق في التقليد للكرمي ت 1033 هـ
- القول السديد لمحمد بن عبد العظيم المكي ت 1061 هـ
- العقد الفريد للشرنبلالي ت 1069 هـ
- فتح المجيد لابن الجمال ت 1072 هـ
- الدر الفريد للحموي ت 1098 هـ
- خلاصة التحقيق لعبد الغني النابلسي ت 1143 هـ
- الإنصاف وعقد الجيد كلاهما للدهلوي ت 1176 هـ
- رسالة الاجتهاد والتقليد لحمد بن ناصر التميمي النجدي آل معمر ت 1225 هـ
- فتح المجيد لأحمد دحلان الترمسي ت 1310 هـ
- الدر الفريد للأنبابي ت 1313 هـ
- القول السديد لمنيب بن محمود النابلسي ت 1343 هـ
- عمدة التحقيق للباني ت 1351 هـ
- قمع أهل الزيغ والإلحاد لمحمد الخضر الجكني الشنقيطي ت 1354 هـ

نعم، نقل الدكتور عن:
- الاتباع لابن أبي العز، على أن ابن أبي العز صرح بالتقليد فقال صـ 80:
بل غاية ما يقال إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا من الأئمة من غير تعيين زيد أو عمرو. انتهى

فهل يرضى الدكتور بهذا؟

- الإحكام للآمدي، وكلامه في التقليد أظهر من الشمس

- أضواء البيان ومذكرة أصول الفقه كلاهما للشنقيطي، ولو نقل الدكتور كلام الشنقيطي من باب التقليد في مذكرته لكان أسد للموضوع وأنفع

- إيقاظ همم أولى الأبصار للفلاني المالكي ت 970 هـ، لكن لو رجعنا إلى الكتاب لوجدنا أنه صرح بالتقليد نقلا عن ابن نجيم من الحنفية: "يجوز تقليد من شاء من المجتهدين"

- التحرير لابن الهمام، وهو إمام الحنفية في تقرير وجوب التقليد على العامي!

- المغني لابن قدامة وروضة الناظر له، ولو رجع الدكتور وصي الله باب التقليد في آواخر الروضة لوجد مسائل التقليد هناك.

- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج، والإنسان ليعجب كيف استساغ للدكتور نقل أي كلامه عنه وهو أحد المصادر الأصلية في إيجاب التقليد على العامي.

- التمهيد للكلوذاني، وقد صرح بالتقليد جـ 4 صـ 404 طبعة أم القرى.

- تيسير التحرير لأمير بادشاه، وهو مثل ابن أمير الحاج

- الجامع لابن عبد البر، وقد صرح فيه بالتقليد على العامة

- حجة الله البالغة للدهلوي، والعجيب أن الدكتور لم ينقل من إنصافه أو عقده شيئا

- الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي، وهو القائل بوجوب التقليد في حاويه وفي شرح الكوكب الساطع

- شرح الكوكب المنير لابن النجار، وكلامه في التقليد أجلى من الشمس وأحلى من العسل

- شرح مختصر ابن الحاجب للإيجي، كلاهما يقولان بوجوب التقليد على العامي بالمعنى المصطلح عليه

- الشرح الممتع لابن العثيمين، ولو راجع الدكتور كتاب شرح الأصول من علم الأصول لوجد فيه شيئا

- صفة صلاة النبي للألباني، وهو القائل: "تمذهب، ولا بأس أن تتخذ المذهب وسيلة لدراسة الفقه، ولكن إذا علمت أن الحق في مذهب آخر فإنه يجب عليك أن تتبع الحق مهما كان"، والقائل لما سئل عن أفضل المذاهب للتعلم: "المذهب الشافعي، هو أثرى المذاهب جميعا، ثم المذهب الحنبلي، ثم المذهب المالكي، ثم المذهب الحنفي، وهذا مع رعاية الدليل والنظر إليه"، وهذا كله يخالف الدكتور وصي الله عباس من ترجيحه لدراسة الفقه على مذهب القول الراجح.

- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وفيه آخر الكتاب فصل في الاستفتاء والتقليد

- قواعد الإحكام للعز بن عبد السلام، قد صرح بالتقليد في فتاويه

- مجموع الفتاوى لابن تيمية، وفتاويه في التقليد في المجموع والمسودة موجودة

- المدخل لابن بدران، وافق ابن قدامة في التقليد في حاشيته على روضة الناظر

- المستصفى للغزالي، وهو يوجب التقليد على العامي في نفس الكتاب

- المسند للإمام أحمد، والإمام أحمد هو الذي خير المستفتي بين حلقته وبين حلقة المدنيين، مما فرع عليه الحنابلة جواز التخيير وتقليد المفضول مع وجود الفاضل


4. يتفرع على هذا أن العمق في التحقيق والدقة في الكتاب غير موجودين، وإنما الكتاب عبارة عن نقولات عادية من أمثال ابن تيمية وابن القيم وبعض الآخرين الذين اشتهرت أقوالهم لدى الجميع، ومع ذلك فأرى أن الدكتور وصي الله أخطأ في إعمال نقولاتهم تلك على واقعنا اليوم وعلى نظرية التقليد ووجوبه على العامي.

5. لام الدكتور وصي الله عباس ظاهرة الاجتهاد الباطل وجعل سبب ذلك في الغلو في التقليد، كما أنه جعل التقليد سبب المحاريب الأربعة في المسجد الحرام سابقا.

أقول: مسألة المحاريب الأربعة مبنية على الجهل والخطأ في فهم أصول المذاهب وأقوال علمائها السابقين وعدم السبر في الأدلة، مما أدى إلى التعصب المذهبي وبالتالي إقامة المحاريب الأربعة، لا التقليد نفسه. لكن الدكتور وصي الله عباس جعل التعصب المذهبي والتقليد كشيء واحد، بينما الحقيقة أن بينهما بونا شاسعا، فليس التقليد تعصبا مذهبيا بل قد يكون واجبا خصوصا على العامي، وليس التعصب المذهبي تقليدا بل قد يكون مبنيا على جهل أو اجتهاد خاطئ أو حتى أمور سياسية.

6. فشل الدكتور وصي الله عباس في معرفة أسباب القول بوجوب التقيد بمذهب معين لدى بعض العلماء، فنسب الدكتور ذلك إلى التعصب والغلو! والحقيقة أن لهذا القول وجوها سائغة (وإن كنت أنا أخالف بعضها خلافا علميا)، وهي:
- إما لأن المذهب بمثابة الدليل، ومعلوم أن الفتاوى للمقلدين بمثابة الأدلة للمجتهدين (كما قرره الشاطبي في الموافقات وغيره)، فكما أنه لم يجز للمجتهد أن يعدل عن الدليل الراجح عنده، فكذلك لم يجز للعامي أن يعدل عن المذهب الراجح عنده، فاختيار مذهب عند العامي نشأ عن الترجيح، وهذا أحد الأوجه التي ألفت كتب عديدة في موضوع أفضل المذاهب الأربعة
- وإما لأجل المصلحة حتى لا يصبح الأمر فوضى حيث يأخذ العامة من كل المذاهب ما يشتهون فيقعوا في الهوى وتتبع الرخص
- وإما لأنه لم يوجد مذهب آخر في تلك البلاد، كما أن من المعلوم أن العامي يجب عليه الأخذ بقول عالم إن لم يوجد هنام عالم آخر، أو يوجد علماء لكنهم اتفقوا على قول واحد ولم يجد أي عالم موثوق به يختلف معهم في تلك الفتوى

7. اعترف الدكتور وصي الله عباس بوجوب التقليد على العامة، لكنه يسميه "الاتباع"، ثم قال "ولا مشاحة في الاصطلاح".

وهذا يخالف نهج الكتاب حيث حارب نظرية التقليد من أوله إلى آخره، فهذه الطريقة في تفهيم المسألة لن تزيد في القارئ العامي أو الطالب المبتدئ إلا تشويشا، بل سيحس بالجريمة إن سأل عالما عن مسألة ولم يفهم دليلها.

ومن الغريب أن الكتاب ألف لمن في هو في صف الطلبة والعلماء، كما صرح بذلك الدكتور في الخاتمة، فلا وجه لترجمته إلى الأردية للعامة في شبه القارة الهندية إلا للتشويش وزيادة الفرقة بين المسلمين هنالك.

8. الدكتور وصي الله نقل نقولات عن علماء جلهم تكلموا عن مسألة التقليد كواجب حتمي على العامي، لكن الدكتور لم يتعرض ألبتة لما قالوا في المسألة، ونقولاته منهم إنما تركز على ما ذموا من مظاهر التعصب وترك الدليل للقادر على الدليل، ثم أصبح الدكتور يقيم الحجة على جميع المسلمين عالمهم وعاميهم على عدم جواز التقليد لأي أحد.

9. من العجب العجاب أن الدكتور وصي الله أتى بنقل من الإمام عبد الحي اللكنوي صـ 94. ولا يخفى على طالب عالم بتراث علماء الهند أن اللكنوي يوجب على العامي التقيد بمذهب معين، كما هو مصرح في فتاويه! لكن الدكتور وصي الله عباس جهل تراث علماء بلده فأتى بكلام علماء يخالفونه أصلا ورأسا، بل قد يتهمهم الدكتور بالجهل والتعصب الممقوت والمذهبية المذمومة.

10. لم يتعرض الدكتور وصي الله عباس للإطلاقات المختلفة التي استعملت كلمة التقليد لها أصلا.

هناك قرابة عشرة إطلاقات للتقليد كلها مستخدمة في كتاب الفقهاء والأصوليين، وإنما ركز الدكتور على معنى للتقليد يلام
عليه صاحبه، وذكر بعض التعريفات الأخرى في تمهيد الكتاب، وأهمل وأغفل عن الباقي.

وهن أنا سأقدم للقارئ تلك المعاني التي أطلقت عليها كلمة "التقليد"، فعلى الطالب أن يفهمها حتى لا يختلط بينها حينما يقرأ كتب التراث في الموضوع:

الأول: التقليد بمعنى العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة، وهذا التعريف لابن الهمام، وعلى هذا المعنى فلا تقليد للقرآن أو للنبي أو للإجماع لأن كل هذا من الحجج الشرعية. وهذا التعريف هو ما درج عليه الفقهاء والأصوليون الذين تكلموا في المسألة، وحكمه إجمالا: واجب على جاهل المسألة، محرم على القادر على الاجتهاد في المسألة، كما أن ردود العلماء على التقليد كالإمام أحمد والجصاص وابن القيم وابن عبد البر منصبة على القادرين لا الجاهلين.

الثاني: التقليد بمعنى الأخذ من مصدر شرعي، وهذا يدخل النبي عليه السلام فيمن يصلح أن يقلد، فقال الزركشي:
لا خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين يسمى تقليدا. وأما قبول قوله عليه السلام فهل يسمى تقليدا؟ وجهان ينبنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا؟ قلت: وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة في أول السلسلة أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا، فإنه قال في حق الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ بقوله ما نصه: فإما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
وخطأ الماوردي من قال إنه ليس بتقليد، ولكن قال الروياني في البحر: أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا ولم يرد حقيقة التقليد، وإنما أراد القبول من السؤال
وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان، قال: والصحيح من المذهب أنه يتناوله هذا الاسم، وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في التلخيص وقال: هو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق
واختار ابن السمعاني أنه لا يسمى تقليدا، بل هو اتباع شخص، لأن الدليل قد قام في أن له حجة، فلا يكون قبول قوله قبول قول في الدين من قائله بلا حجة. انتهى

أقول: ذهب الأكثرون إلى أن إطلاق التقليد على النبي من باب التجوز، وأصل معناه الاصطلاحي إنما هو التعريف الأول.

الثالث: التقليد بمعنى اتباع الشارع، وعلى المعنى فلا يجوز تقليد أي أحد سوى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الشافعي – نقلا عن الزركشي:
ولا يجوز تقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى

كما وجد إطلاق التقليد على الحديث نفسه، فقال ابن تيمية في المسودة:
التقليد قبول القول بغير دليل فليس المصير الى الاجماع تقليدا لان الاجماع دليل وكذلك يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقال له تقليد بخلاف فتوى الفقيه وذكر فى ضمن مسألة التقليد أن الرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد لانه حجة وقال فيها لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك ولم يجز له أن يخالفه بخلاف الاعلم وقد قال أحمد فى رواية أبى الحارث من قلد الخبر رجوت له أن يسلم إن شاء الله فقد أطلق اسم التقليد على من صار الى الخبر وان كان حجة فى نفسه. انتهى

وقد ذكر الدكتور هذا المعنى للتقليد صـ 16، وزاد كلاما للطحاوي: "فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه"

الرابع: الأخذ بشيء يخالف الحجة، وهذا الإطلاق موجود في كلام محمد بن الحسن الشيباني حين رد على الإمام أبي حنيفة في مسألة الوقف – نقلا عن المبسوط للسرخسي:
وقد استبعد محمد رحمه الله تعالى قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة فقال: "ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس، فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء، ولو جاز التقليد كان من مضى من قبل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله تعالى أحرى أن يقلدوا"...

وهذا واضح في أنه خاص بالمجتهد فلا دور للجاهل العامي في هذا المعنى.

الخامس: التقليد بمعنى عدم الاجتهاد، فقد نقل الزركشي عن عدد من الأصوليين هذا المعنى فقال:
أخذ العامي بقول المجتهد، هل يسمى تقليدا أم لا؟ فقيل: ليس بتقليد لأنه لا بد له من نوع اجتهاد، وبه جزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب، وحكاه العبادي في زيادته عن الأستاذ أبي إسحاق، لأنه بذل مجهوده في الأخذ بقول الأعلم. وقال القاضي في مختصر التقريب: الذي نختاره أن ذلك ليس بتقليد أصلا، فإن قول العالم حجة في حق المستفتي، نصبه الرب علما في حق العامي، فأوجب عليه العمل به، كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده، واجتهاده علم عليه. ويتخرج من هذا أنه لا يتصور تقليد مباح في الشريعة، لا في الأصول ولا في الفروع، إذ التقليد على ما عرفه القاضي: اتباع من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند إلى علم. قال: ولو ساغ تسمية العامي مقلدا مع أن قول العالم في حقه واجب الاتباع جاز أن يسمى المتمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلدا. قال القاضي: ولأنه يستند إلى حجة قطعية وهو الإجماع، فلا يكون تقليدا. وهذا بناء منه على أحد تفسيري التقليد. انتهى

وعلى هذا المعنى فلا وجود للتقليد في الدنيا أصلا، لأن كل مسلم عامل بدينه يمارس الاجتهاد نوعا ما. أما المجتهد ففي معرفة الراجح، وأما المقلد ففي معرفة العالم من غيره.

السادس: التقليد بمعنى الأخذ بخلاف ما هو دليل بالنسبة له، وهو يقرب من المعنى السابق، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب والباقلاني، وعلى هذا المعنى فالتقليد محرم، لكن وقوعه نادر، فإذا أخذ المجتهد بالرجوع إلى الكتاب والسنة فهو ليس بمقلد لأن أخذ بما هو دليل بالنسبة إليه، وإذا أخذ العامي بقول عالم فهو ليس بمقلد، لأنه أخذ بما هو دليل بالنسبة إليه، ومن المعلوم أن دليل المقلد هو فتوى المجتهد كما قرره الشاطبي وغيره، حتى أوجب بعض الأصوليين على العامي الترجيح بين العلماء، وبين الفتاوى المتضادة.

السابع: التقليد بمعنى الأخذ برأي آخر، وهذا هو معنى التقليد في مسألة "التقليد بعد العمل"، كمن صلى كحنبلي ثم علم بعد الصلاة أنها فاسدة على مذهب الحنابلة صحيحة على مذهب الحنفية، فهل يجوز له التقليد؟ وقد تكلم بهذا الإطلاق بعض الشافعية كما وجد في بغية المسترشدين لعبد الرحمن بن محمد بن حسين باعلوي اليمني ت 1320 هـ، وكلامه موجود هنا:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=203497

الثامن: التقليد بمعنى العمل السابق، كما قال الطحطاوي في حاشية الدر المختار:
قلد الحنفي مالكا ثم أراد الرجوع عن التقليد، أي ويحكم بمذهبه بأن المهر لا يلزمه، فليس له ذلك انتهى ح

التاسع: التقليد بمعنى الالتزام بعالم أو مذهب، كما قال الزركشي نفسه:
هل يجب على العامي التزام تقليد معين في كل واقعة؟ فيه وجهان. قال إلكيا: يلزمه. وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي في أوائل القضاء، وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد

العاشر: التقليد بمعنى التزام الرجل في الاقتداء رجلا، وهو معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه – والذي نقله الدكتور وصي الله عباس صـ 26 – "لا يقلدن أحدكم جينه رجل، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"، وهذ النقل ظاهر في أن التقليد هنا بالمعنى اللغوي، وبمعنى الاقتداء المطلق، وليس المقصود به الفروع الفقهية بل هو ظاهر في أصول الدين.

فبعد هذا كله نتساءل: هل وضح الدكتور وصي الله هذا الأمر، وهل فصل بين التقليد المشروع وبين التقليد غير المشروع؟ أم خلط بين ذلك كله؟

11. لم يوضح الدكتور وصي الله عباس الفروق المهمة في أحكام التقليد بين العلماء الراسخين والطلبة المتفقهة والعامة، وإنما ركز على الأحكام التي تتعلق بتحريم التقليد وهذا خاص بالأولين، إلا أنه لم يوضح هذا أيضا إلا في أسطر هي كالعدم بالنسبة لحجم الكتاب الذي سماه باسم "التقليد"، وهذا يورث خللا في ذهن القارئ حيث يجعله يصب كلام الكتاب حتى على العامة أيضا، وهذه الطريقة في التصنيف فيها شيء من التلبيس والتدليس على القراء.

12. بل إن الدكتور لم يكتف بهذا القدر حتى بوب بابا قرن فيه بين التقليد والتعصب فجعلهما كالشيء الواحد! ذكر في مساوي التعصب وقرنها بمساوي التقليد كأنهما كالشيء الواحد! والله المستعان.

13. ادعى الدكتور وصي الله تحريم الأخذ من عالم واحد فقط. مفهوم هذه الدعوى أن على السائل أن ينتقل بين عالم وآخر. لا شك أن هذين – التحريم والإيجاب – باطلان لا أصل لهما من الكتاب والسنة أو حتى من كلام الفقهاء والأصوليين. الحق الذي لا غير أن الأخذ من عالم واحد إما مباح وهو على القول بجواز الأخذ من المفضول مع وجود الفاضل، وإما واجب وهو على القول بوجوب الأخذ من الأفضل.

14. في الكتاب مقطع كامل يرد فيه الدكتور وصي الله على طامات واحد من الحنفية في باكستان يدعي وجوب التقليد. لكن هل كان ينبغي للدكتور وصي الله عباس – كأستاذ بجامعة القرى بمكة المكرمة – أن يرد على بعض الجهلة في باكستان في كتابه ليتيحهم فرصة الترويج، كأن مسائل التقليد تدور أولا وآخرا في ماجريات شبه القارة الهندية؟

15. لم يتكلم الدكتور وصي الله عباس ولا مرة واحدة عن الأدلة الدالة على وجوب التقليد على العامة، علما بأن كتب أصول الفقه طافحة بذكر أدلة الوجوب نقلا وعقلا، وهذه ثغرة واسعة في الكتاب لم يوفق الدكتور لسدها – إما تقريرا لتلك الأدلة وإما ردا وهدما لها، حتى يتبين أهو مع جمهور العلماء في وجوب التقليد على العامة أم مع معتزلة بغداد القدرية في تحريمه.

16. ومما يدل أن الدكتور سلك مسلك معتزلة بغداد أنه جعل الفروع كالأصول من حيث إن التقليد محرم في الأصول، فقاس الفروع الفقهية على الأصول الدينية، فخرج الدكتور يدعى أنه يمكن أن يضل الناس في الفروع كما يضلون في الأصول، ولا أدري كيف يتسرب الضلال في المسائل الخلافية الفقهية إلا إذا كان الرجل على مذهب معتزلة بغداد.

17. ومن العجائب أن الدكتور وصي الله – وأكرر أنه غير متخصص في الفقه – ألقى شكا صـ 63 في حنبلية بعض الحنابلة – ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن مفلح، كأنه لم تكن لهم أية علاقة بالمذهب الحنبلي. قال: "ومن الحنابلة ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم إن قلنا: إنهم حنابلة".

ولو طالع الدكتور أي كتاب في طبقات الحنابلة لوجد أن تشكيكه – حتى في صورة الاشتراط الذي شرطه – في غير محله، وأن هؤلاء العلماء من الحنابلة حتما. وقد يحسب القارئ أن الدكتور وصي الله يجعل العلماء الذين يذكرون في كتب طبقات المذاهب في صف أهل التقليد المذموم والتعصب الممقوت.

18. الدكتور وصي الله عباس لم يتعرض لظاهرة وجود باب في الاجتهاد وباب في التقليد في أواخر أكثر الكتب المؤلفة في أصول الفقه، وعدم وجود باب في الاتباع حسب اصطلاحه هو. الحق أن كتاب الدكتور لا يمثل مسألة التقليد تمثيل الفقهاء والأصوليين لها، فكما أن العلماء الذين ذموا التقليد للقادرين على الاجتهاد - كابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وأبي بكر الجصاص في الفصول في الأصول - فكذلك تكلموا عن التقليد كواجب على العامي في نفس تلك الكتب، لكن الدكتور لم يوضح وجوب التقليد على العامي حق التوضيح.

19. قال في صـ 9: "والخلاف الفقهي كان ولا يزال سبب اختلاف شديد فيما بين المسلمين أمر لا مراء فيه..." فيبدو أن منهج الدكتور السلفي أداه إلى وجوب القضاء على الخلاف في الفروع! وهذا أمر مستغرب لا يأتي به أدنى طالب علم في الفقه، والسبب الحقيقي للاختلافات في الأمة الفروع هو الجهل بطبيعة الخلاف الفقهي، وقد كتب الإمام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وهناك كتب أخرى في نفس الموضوع من العلماء الآخرين كالبطليوسي والكاندهلوي والجكني الشنقيطي، بينوا في كتبهم موقف المسلم من اختلاف الأئمة، ولم ينقل عن أي واحد منهم القضاء على الخلاف الفقهي. بل قول الإمام مالك للخليفة في عدم إجبار الناس على الموطأ يخالف الدكتور وصي الله عباس تماما.

20. قال في صـ 10: "منهجي فيه الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة وآثار الصحابة وأقوال السلف"، إلا أن الدكتور هتك منهجه فنرى أنه يستدل بكلام الفقهاء المتأخرين في كثير من الأحيان.

21. قال في صـ 14: "فمن اتبع الدليل وطلبه فهو ليس بمقلد وفعله لا يسمى تقليدا بل يسمى اتباعا"
ولا أدري من أين جاء الدكتور بهذا، فقد يكون العامي لا يفهم الدليل أصلا – فضلا عن العجمي يسمع الدليل في العربية – فكيف يكون قد خرج من التقليد إلى الاتباع!؟ ثم الاتباع لا يحصل بمجرد استماع الدليل بل يتم الاتباع حينما يبحث عن الدليل المعارض فلا يجده كما صرح به السمهودي، وأنى للعامي ذلك؟

22. أدرج الدكتور وصي الله عباس في كلام ابن الهمام ما ليس منه: "ففي هاتين الآيتين ذكر للاتباع والتقليد معا..."

ثم نقل الدكتور وصي الله عباس كلاما من مذكرة الشنقيطي في الاتباع استدلالا لرأيه:
"أما ما فيه النصوص فلا مذهب فيه لأحد، ولا قول فيه لأحد، لوجوب اتباعها على الجميع، فهو اتباع، لا قول حتى يكون فيه التقليد."
لكنه في غير محل النقاش، بل أساء الدكتور في فهم كلام الشنقيطي إساءة فاحشة، لأن الشنقيطي ذكر وجوب الاتباع في النصوص، والنص هنا بمعنى "الدليل الصحيح الصريح الذي لم يعارض ولم ينسخ" فلم تجز مخالفته، فليس معنى النص هنا أي دليل، فليس كل دليل نصا حتى يجب فيه الاتباع بل قد يترك الدليل لدليل أقوى. وكلام الشنقيطي في وجوب التقليد على العامة واضح جدا.

23. ختم الدكتور وصي الله عباس الفصل الثاني – نهي الأئمة عن تقليدهم – بقوله "فهذه الأقوال عبرة للذين يتعصبون لأقوال الأئمة حتى لو خالفت من غير عمد منهم النصوص الصريحة." انتهى

لكن لم يوضح الدكتور أن هذا إنما ينصب على القادر على الاجتهاد لا العامي، والتقليد في كلام الأصوليين متوجه أولا إلى صنيع العامة، فأطلاق الدكتور ذم التقليد هكذا إطلاق غير علمي وغير دقيق.

كما زادت الترجمة على هذا شيئا ليس في الكتاب الأصلي، زيادة في ذم التقليد، فلم يروا في كلام الدكتور كفاية!

24. الفصل الرابع هدم لمخالفة الدكتور وصي الله عباس للتقليد، فذكر قول ابن تيمية وكلام ابن عبد البر الذين هما صريحان في مشروعية التقليد للعاجز عن الاجتهاد، إلا أن الدكتور أصر على أن هذا اتباع لا تقليد لأن العامي السائل حينئذ "اتبع الدليل"، كما زاد أنه لا مشاحة في الاصطلاح إن سمي ذلك تقليدا. والعجيب أن الدكتور جعل مجرد السؤال دليل العامي، كأنه يعترف أن النظر في الأدلة أو العلم بها ليس من شأن العامي أصلا! هذا كلام لا يرضى به أي واحد من فرقة أهل الحديث!

25. نقل الدكتور في الفصل الثامن – انتشار التعصب المذهبي في القرون المتأخرة - كلاما من ابن القيم في مسألة "هل تجوز الفتوى بالتقليد"، ولا علاقة بينه وبين عنوان هذا الفصل.

كما زاد الدكتور: "ووالله، الذين يثبتون التقليد للصحابة والتابعين الصالحين فهم يقدمون لهم هدية سب وشتم بصنيعهم هذا، فهم كانوا متبعين لما أنزل إليهم من ربهم، وكانوا مطيعين لله ولرسوله لا مقلدين"

كأن الدكتور أعلم من جميع من أثبت وجود التقليد في عصر الصحابة والتابعين - بالمعنى المتداول له عند أهل الفقه والأصول.

26. في الفصل التاسع، اختلط الحابل بالنابل بذكر مظاهر التعصب المذهبي في التاريخ كالمدارس الموقوفة وأشار إلى أن التقليد سبب ذلك، والحقيقة أن التقليد لا صلة له بالتعصب المذهبي فضلا عن ظاهرة المدارس الموقوفة تاريخيا. ولو كان كلام الدكتور حقا لكان أول المتعصبين أبا يوسف صاحب أبي حنيفة حيث عين القضاة على مستوى الدولة من علماء الحنفية.

27. الفصل العاشر – قال الدكتور:"إن التقليد يترك الإنسان لا يستعمل عقله..."، إلى آخر ما قال، لكن الدكتور لم يحرر المعنى المقصود من التقليد هنا، والظاهر أنه ليس على المعنى الإصطلاحي، إلا أن القارئ قد ينخذع بهذا ظانا أن هذا ينصب على التقليد المصطلح عليه.

28. قال صـ 78: "فما خرجت القدرية والشيعة والخوارج إلا بالتقليد"، وهذا باطل على أي معنى للتقليد، فما ضلوا إلا بالهوى أو الجهل أو كلاهما، بل يجوز أن يقال إنهم ضلوا بالاجتهاد الباطل الذي في غير محله فاجتهدوا في موضع اتباع النصوص، ومعلوم – كما قال الشيخ الشنقيطي محمد الأمين – أنه لا اجتهاد ولا تقليد في موضع النص.

29. الفصل الحادي عشر "هل يستغنى عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمذاهب المدونة للعلم والفتوى" عبارة عن رد الدكتور على أحد الحنفية في باكستان، والذي أرى أن ردود الحنفية وجماعة أهل الحديث في شبه القارة الحنفية بعضهم على بعض أشبه بردود الصبيان فيما بينهم، فإنها لا تنفع ولا تجدي شيئا ولا تزيد علما، وإنما يزيد في الشحناء والبغضاء بين المسلمين.

وهل مسألة التقليد تؤول إلى ما تدور من المخاصمات بين الحنفية وجماعة أهل الحديث في باكستان؟ هل المسلمون عربا وعجما بحاجة إلى أن يكونوا على علم بالمشاجرات بين الحنفية وجماعة أهل الحديث في جماعة أهل الحديث؟ لكن الدكتور وصي الله عباس من جماعة أهل الحديث فلا عجب عندي أن يستغل منصبه كدكتور في جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية لأجل أن يقدح في الحنفية عموما بأباطيل بعض الجهلة منهم، والله المستعان.

30. أما الفصل الثاني عشر، فقد أتى فيه الدكتور وصي الله عباس بطامات، على رأسها إيجاب دراسة الفقه على مذهب القول الراجح! وقد رد الشيخ صالح العصيمي على نظرية دراسة الفقه على مذهب القول الراجح في مقطع جميل له هنا:
https://soundcloud.com/bozieed/gay5r5teomdy
هذا المقطع بوحده ينفد فصل الدكتور وصي الله عباس هذا تنفيدا، ولن أعلق أكثر على هذا المقطع الصوتي لأن يشهد لنفسه على قوته وجودته.


وختاما، أرى أن الدكتور وصي الله عباس مخالف لما عليه أكثر أئمة الفقه والأصول في المملكة العربية السعودية، كما أنه لا شك مخالف لما درج على معظم الفقهاء والأصليين في تبيين مسألة التقليد وشرحها. وإضافة إلى ذلك فكتاب الدكتور مليء بالأخطاء المنهجية والتأصيلية والتحريرية، عائد بالتناقض على نفسه حيث أباح التقليد بمعنى "الاتباع". وأحسب أن في الدكتور شيئا من آثار العداء لنظرية التقليد، ولكن الذي يقرأ الترجمة في شبه القارة الهندية سيظن أن ما في هذا الكتاب هو موقف العلماء السعوديين جميعهم، وتلك الترجمة قد ستكون سببا في تشويه صورة العلم في المملكة لدى الحنفية في شبه القارة الهندية حيث إن الحفاظ على أهمية التقليد من أهم مهام الجين لديهم ضد إخوانهم من جماعة أهل الحديث، والله المستعان على حال الأمر. أسأل الله عز وجل أن يهدينا الله والدكتور وصي الله إلى الحق والصواب.

هذا، وإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى