العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم جذورها و مسارها

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة​

الحمد لله الذي خاطب المؤمنين بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران:137 -140].

وجعل السير في الأرض، واستقراء تاريخ الأمم السابقة، والنظر في الكيفيات، والاهتداء إلى السنن والقوانين التي تحكم حركة المجتمعات وتحولاتها، والاتعاظ والاعتبار بها، تكليفًا شرعيًّا، يثمر الوقاية والمناعة الثقافية، كما جعل الاستعلاء بالإيمان حائلاً دون السقوط الحضاري، وشرطًا لمعاودة النهوض والتجاوز، وحسن التعامل مع سنة التداول الحضاري، للإقلاع من جديد.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي حذرنا من الانتهاء إلى الحالة الغثائية، حالة الوهن والضياع التي تنتهي إليها الأمة، بسبب من التقليد الجماعي، والمحاكاة الحضارية، بقوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

وغثاء السيل يعني: افتقاد الأمة المسلمة القوة والإرادة، الذي يعني غلبة الأعداء، والسقوط الحضاري.. وبعد:

فهذا كتاب الأمة الحادي والثلاثون: (الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم) للدكتور علي المنتصر الكتاني، في سلسلة "كتاب الأمة" التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وإعادة تشكيل شخصية المسلم المعاصر، في محاولة لبعث الأمة، وإحياء مواتها، واسترداد دورها في الشهادة والقيادة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)[البقرة:143]، وإعادة بناء "الأمة المعيار"، وتخليصها من حالة الوهن والغثاء، والتخاذل الفكري، التي تستحوذ عليها، فتعطل فيها القدرة على الاعتبار بتاريخها الخاص، علاوة عن امتلاك القدرة على السير في الأرض، والاطلاع على التاريخ العام، والنظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، واكتشاف القوانين والأقدار التي تنتظم الحركة التاريخية، وتتحكم بسقوط الأمم ونهوضها في نطاق التاريخ العام.

ولعل من أقدار الله سبحانه وتعالى، أن يترافق إصدار هذا الكتاب الذي يرصد محاولات الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم، للعودة إلى الجذور، في هذه السنة بالذات، مع مناسبة مرور خمسمائة سنة على سقوط غرناطة التي سقطت عام 1492م، كما يترافق مع الحقبة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي اليوم من التخاذل والتمزق والاستسلام، الأمر الذي لم يخرج بعمومه وملامحه عن حقبة ملوك الطوائف، التي كانت المقدمة والنتيجة الطبيعية للسقوط الإسلامي في الأندلس، بعد ثمانية قرون من العطاء الحضاري والثقافي، الذي يمثل فعلاً الفصل المشرق من تاريخ أسبانيا وشبه جزيرة أيبريا، بل الأساس العلمي والمعرفي للحضارة الأوروبية عامة.

لقد كان المفروض أن يكون سقوط الأندلس بيانًا للناس، واهتداءً إلى أسباب السقوط، وعبرة للأمة المسلمة، حتى تتقي السقوط (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 138]. بعد أن حقّت عليها سنة الله في الهلاك، والتداول الحضاري، ودالت دولة المسلمين وحضارتهم، حيث كانت الرفاهية والبطر والترف، طريق الفسوق الموصل إلى الدمار.. فقد كانت غرناطة حصن المسلمين الأخير الذي لم يسقط بسهولة، ولكن ا لمقدمات كلها توحي بأنه كان لابد من سقوطها في سلسلة السقوط للمدن والدويلات الأندلسية، التي أصبحت جسمًا ينخره الخلاف على السلطة، والغرق في الفساد، وتأكله العنصرية والإقليمية، والطمع في الحكم، إلى درجة أصبح فيها الابن ينازع أباه، والأخ يقاتل أخاه، حتى لقد أصبح في الأندلس أكثر من عشرين دولة تتنازع، ففي كل مدينة دولة، إضافة لاتساع الهوة الرهيبة بين الحكام وأهل الفكر والعلم، مما اضطر الكثير من العلماء والمفكرين والعباد إلى الهجرة إلى بلاد الشام وأفريقيا، فأصبح الحكام يحكمون بلا عقل مفكر، ورأيٍ ناضج ناصح، وأصبح العلماء والمفكرون في خارج نطاق الواقع،والحس بهمومه، واستيعاب مشكلاته، ووضع الأوعية والحلول الفكرية والشرعية لمسيرة الأمة. فاختلفت معادلة الحكم والعلم على حد سواء، وحدث الشرخ الحضاري بانفصال السلطان عن القرآن، والسياسة عن الثقافة، والحكم عن العلم، فكان استدعاء الآخر، والاحتماء به، ثمرة طبيعية لهذا الواقع البئيس.

ونستطيع أن نقول: إن السبب الكامن وراء هزائمنا وتخلفنا وسقوطنا السياسي والحضاري وتخاذلنا الثقافي، يرتكز تاريخيًّا حلول نقطتين أساسيتين: أولاهما: الارتداء إلى روح التَّعرُب وسيطرة الروح العنصرية القبلية، الأمر الذي يفتت الأمة، ويبعثرها، ويمزق رقعة تفكيرها، ويذهب ريحها، حيث يمتد التمزق ويمتد، ولا يتوفق عند حدِّ، حتى يصل إلى أفراد الأسرة الواحدة.وما أظن أن واقعنا اليوم يحتاج إلى شواهد وإسقاطات تاريخية.

والنقطة الثانية التي كانت وراء تمزقنا وتآكلنا وسقوطنا الحضاري: قضية الغنيمة، وتغليب المصالح القريبة العاجلة والموهومة، على المبادئ والقيم الإسلامية التي هي محض المصلحة.. ويمكن لنا أن نعيد قراءة إصاباتنا التاريخية والمعاصرة، ابتداء من غزوة بني المصطلق في عصر النبوة، والنداء الشاذ النتن، الذي كاد يثير الفتنة بين المهاجرين والأنصار، بسبب الأسبقية على الماء، ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الظاهرة الشاذة؛ بقوله: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة"، لتبقى شاهد إدانة لكل العنصريين، والمتعصبين والمنحرفين على التاريخ الطويل؛ ومرورًا بالاختلاف على قسمة غنائم بدر، التي وصفها بعض الصحابة بقوله: اختلفنا حتى كادت تسوء أخلاقنا، ومن ثم الدرس القاسي في هزيمة أحد الذي بيَّن سببه الله تعالى بقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)[آل عمران:152]، وبقي قرآنًا خالدًا يتلى على الزمن؛ ووصولاً إلى معركة بلاط الشهداء في الإطار الأندلسي، حيث كانت الغنيمة والحرص عليها، سببًا في هزيمة المسلمين، وتوقف المد الإسلامي عند أسوار أوروبا.

ولا تزال الروح القبلية الجاهلية والحمية العنصرية، والإقليمية المغلقة، والتطلع والنزوع إلى الغنيمة، تسري في حياة المسلمين المعاصرة، وتشتد كلما تراجعت المعاني الإيمانية.. ولا تزال خيام القبائل منصوبة في نفوسنا، واقتتالها وغزوها واحتلالها لبعضها، هو الشائع في عالمنا الإسلامي، على الرغم من الإعلانات والشعارات وأطر التحديث، واستبدال أسماء الدويلات بأسماء الإقليميات، التي باتت لا تخدع حتى أصحابها.. إنه مناخ النتانة السلوكية والفكرية والسياسية، الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء بناء الدولة، وجعل التعرّب بعد الهجرة – وهو العودة إلى استبدال رابطة العنصرية، والقبلية الجاهلية، برابطة الرسالة الإسلامية – من الكبائر الموصلة إلى السقوط الحضاري في الدنيا، والسعير في الآخرة.

لذلك بإمكاننا القول، دون أية مجازفة أو تجاوز: إن قابليات السقوط الحضاري والسياسي ومقدماته التي عاشتها الأندلس، ما تزال تحكم بعض العقليات العربية، على مستوى الفرد ومستوى المؤسسات، على حدٍ سواء، فتاريخ الأندلس في النفس المسلمة، سوف يبقى شاهد إدانة لا يغيب، وجرحًا غير قابل للنيسان بمرور الزمن؛ لأن حوادثه ومجرياته تجدد الذاكرة، وتعمق الآلام، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي تصر على وضعه مع غيره في ساحات النسيان، أو على الأقل تحول دون مناقشة عبره، والإفادة منها لحاضر الأمة ومستقبلها، حتى ليكاد الإنسان يظن أن تغييب دراسة التاريخ الأندلسي، مقصود لحماية الحاضر العربي والواقع الإسلامي، الذي لا يخرج عن أن يكون أحد فصوله.. ذلك أن أية قراءة صحيحة للتاريخ الأندلسي سوف تمكن من قراءة الحاضر وإدانته، وتحقق الوعي الحضاري بمصائب الأمة وأزماتها ومشكلاتها، في محاولة لاستئناف دورها من جديد، الأمر المحظور سياسيًّا وحضاريًّا اليوم في ظل الهيمنة السياسية والتحكم الثقافي.. لذلك نجد أن دراسة التاريخ كما يجب أصبحت وكأنها من الأمور المحرمة على العقل المسلم اليوم تحت شتى الفلسفات.

إن عزوفنا عن قراءة تاريخنا بشكل عام، وتاريخ الأندلس بشكل خاص، يعني فيما يعني: الإصرار على الضياع والضلال، وإلغاء ذاكرة الأمة، وإضاعة الاعتبار بالتاريخ لحاضر الأمة ومستقبلها، فنحن لم نُضع الأندلس فقط، وإنما نصر على إضاعة غيرها، لتستمر حالة الضياع لعالمنا، وتستمر الهيمنة الخفية على مقدراتنا ومؤسساتنا.

لذلك نرى أن من أخطر مظاهر السقوط الحضاري، والانكسار العسكري والتخاذل الثقافي، ليس متمثلاً فقط في عجز الأمة عن تمثل تاريخها لبناء حاضرها، واستشراف مستقبلها، وإنما في عجزها أيضًا عن حماية تاريخها من النهب الفكري، والاستلاب الحضاري، وهو ما نعيشه اليوم من عناية الآخرين بتاريخنا وتحليله ودراسته وفق أغراضهم وأهدافهم؛ لأنه يشكل المدخل الصحيح للتعامل معنا والهيمنة علينا، واكتشاف مواطن الضعف والثغرات، التي أوتينا من قبلها ولا نزال.

وقد لا نستغرب أن تفرز إسرائيل الكثير من علمائها ودارسيها، للتخصص بدراسة الحروب الصليبية، في مقدماتها ونتائجها في العالم الإسلامي، لتفيد من تجربتها، وتتجنب عثارها، وتقيم الندوات والمؤتمرات التخصصية، وتستدعي الكثير من المتخصصين في الجامعات ومراكز البحوث لدراسة موقعة حطين، والاحتفال بذكراها، وترسل كثيرًا من مبتعثيها لدراسة التاريخ الإسلامي والتخصص به.. فعلى سبيل المثال: تخصص "موشى ليفي" - الرئيس الأسبق لأركان جيشها - في التاريخ الإسلامي، وحصوله على دبلوم فيه: "حصلت على دبلوم في التاريخ الإسلامي لأعرف كيف أحارب المسلمين، وأقضي عليهم".

وإحياء ذكرى "موسى بن ميمون" القرطبي الأندلسي، حيث أطلق يهود على عام 1985م عام "ابن ميمون"، وذلك بمناسبة مرور 850 عامًا على ميلاده، ووظفوا للمناسبة عددًا من المؤتمرات والندوات كاللقاء الفلسفي السادس الذي عقد بمدينة القدس، والمؤتمر السنوي السادس والعشرين للمثقفين اليهود بفرنسا (30/11/1985م).. كما وظفوا لها كبريات الصحف العالمية مثل صحيفة "لوموند" الفرنسية، التي أفردت صفحة كاملة بعددها الصادر بتاريخ 27/12/1985م لمقالين أحدهما بعنوان "عام ابن ميمون"، والآخر بعنوان "تأملات حول الدولة اليهودية وتراثها"، وكانت الصفحة نفسها تحت عنوان "تسعة قرون من اليهودية"!

وقد لا نستغرب أيضًا أن تاريخنا الإسلامي في الأندلس، الذي طويناه بقصيدة بكائية: "لكل شيء إذا ما تم نقصان..."، استسلمنا فيها للواقع وفلسفناه، ما تزال شاهدة معلقة على قبر الحضارة الإسلامية هناك، على الرغم من عبره وعطائه الثقافي، الذي كان وراء انبعاث حضارة أوروبا.. وقد لا نستغرب أنه يُهوَّد اليوم، أو تعاد قراءته بأبجدية يهودية، حيث يثب اليهود على التاريخ الأندلسي كاملاً، ويجعلون من أنفسهم شركاء في بناء الحضارة.. وليس هذا فقط، وإنما يحاولون سرقة الحضارة الإسلامية كلها، واعتبارها جزءًا مهمًا من تاريخ اليهود في الشتات، ويخطفون علماءها وأحداثها، ويضيفونها إلى تاريخ الحضارة العبرية.

فابن رشد عندهم من أصول يهودية، ودليلهم في ذلك: أنه بعد غضب الخليفة عليه، لاشتغاله بالفلسفة نفاه إلى قريته الأصلية، والقرية كان فيها أقلية من يهود، فهو إذن يهودي! وانطلاقًا من هذا، أنشأوا في الجامعة العبرية بالقدس، مركزًا للدراسات الرشدية، طبعوا فيه كتب ابن رشد بالعربية، وترجموها إلى العبرية والإنجليزية.

ولم يقتصر الأمر على انتهاب ابن رشد وتزويره، فقد امتد التزوير إلى التاريخ الأندلسي كله، حيث يحاول اليهود أن يثبتوا أنهم كانوا وراء التألق الحضاري والثقافي، بما قدموه للحكام من علماء ومستشارين وخبراء، كابن ميمون، وابن جيبرول وسواهما. وأنهم شركاء في الحكم، والسياسة، والثقافة، فالتاريخ إذن هو تاريخ يهودي عربي في الوقت نفسه، وقد يكون ذلك مرحلة، ليصير تاريخًا يهوديًّا بالكامل!

إن قضم التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته وفق أبجديات من الخارج الإسلامي، مستمرة في وقت الذهول العربي والإسلامي، ومحاصرة العقل المسلم وتهجيره، واستنزاف طاقاته، بإشغاله بأمنه وطعامه، وتحويل المؤسسات العلمية والبحثية لتكون في خدمة مصالح أفراد.

وعلى أحسن الأحوال، فكثيرًا ما تتحكم بنا ردود أفعال، ونأتي في الزمن الأخير، بعد فوات الأوان، لنجعل من الذكريات التاريخية مواسم للابتزاز السياسي والاحتفال الرسمي، حيث لا نضيف جديدًا لواقعنا المتردي.. ففي الوقت الذي تمر فيه ذكرى خمسة قرون على سقوط غرناطة، وانتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس، وهي ذكرى يتوقف عندها الكثيرون في العالم اليوم، ومنهم بعض الأسبان من الرسميين والمتعصبين، حيث ما يزالون يقيمون الاحتفالات الشعبية، ويزيفون صورة العرب والمسلمين، ويحاولون إضفاء البطولات الأسطورية على عمليات "الإنقاذ" للاسترداد من قبل الكاثوليك.

في الوقت ذاته، نجد الكثير من المؤتمرات الثقافية والفكرية، على مستوى أسبانيا والعالم اليوم، تحاول استرداد الحقبة الإسلامية، التي تمثل التاريخ الحقيقي للأندلس، واعتمادها لتصبح جزءًا من تاريخ أسبانيا بثقافتها وحضارتها وعلمائها، في محاولة للعودة إلى الجذور على المستوى الفكري والثقافي، بما في ذلك محاولات يهود.

بينما نجد الاهتمام العربي والإسلامي يكاد يكون معدومًا على المستوى الجماهيري والأكاديمي على حدٍّ سواء، على الرغم مما تمثله الأندلس في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة العالمية.

ومما لا شك فيه، أنه بعد خمسة قرون من سقوط غرناطة، وانتهاء الوجود الإسلامي الظاهر في الأندلس، وإفراغ الكثير من الحقد الكاثولكي، بدأت موجات التعصب تتراجع بأقدار متفاوتة، أو تتراجع بأشكالها القديمة، على الرغم من عمليات الشحن التي تمارسها بعض الفئات، وتجددها بمناسبة سقوط غرناطة؛ لأن طبيعة العصر، وما تكشف من حقائق، وما تحقق من انفتاح، واتصال وتواصل، أدى إلى إعادة النظر بالمعادلات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والإنجازات الحضارية، لذلك بدأت بعض الأصوات الخافتة تعلو شيئًا فشيئًا، سواء في ذلك من يحاولون البحث عن الجذور ومحاولة العودة للاتصال بها، أو من يحاولون استرداد الحقبة الإسلامية بعطائها الحضاري والثقافي على مستوى أسبانيا والعالم؛ لأنها تشكل المرحلة المضيئة من التاريخ الأسباني نفسه، وعدم اعتبار الوجود الإسلامي مرحلة طارئة وغريبة.

أو بمعنى آخر: هناك محاولة اليوم تدعو إلى اعتبار الحقبة الإسلامية في الأندلس جزءًا من التاريخ القومي الأسباني (أسبنة الحقبة الإسلامية)؛ لأن ما عداها من تاريخ تلك البلاد هو تاريخ فقير في الإنجاز الحضاري والثقافي، وغني بالممارسات الهمجية التعصبية التي يصعب محوها من ذاكرة البشرية والتاريخ العام، فضلاً عن تاريخ أسبانيا.

لذلك بدأنا نلاحظ كيف يرد الاعتبار اليوم لأعلام الأندلس المسلمين، من أمثال ابن رشد، والقرطبي، وابن حزم، والشاطبي، وغيرهم، على أنهم جزء من أعلام التاريخ الأسباني، وذلك يعني فيما يعني: بدء مرحلة التصالح مع الذات، والتوجه صوب الموضوعية، وتصويب ذاكرة الأمة الأسبانية.. كما يعني من وجه آخر: أن الإسلام ليس أمرًا طارئًا على الأندلس، ولا أجنبيًّا، ولا احتلالاً من الخارج، أو موجة عسكرية أمكن حسمها بجند الغالب، وإنما هو خيار أندلسي، ونبات من تربة الأرض نفسها.. لذلك فالعودة إليه عودة إلى الأصل، إضافة إلى أن تجديد الاعتبار للحقبة الإسلامية في الأندلس، واعتمادها كجزء من التاريخ القومي الأسباني، سوف يبدد عقدة الخوف عند الكثيرين، ويسمح بإماطة وجوده؛ لأن التاريخ الباقي في نهاية المطاف هو التاريخ الثقافي، وليس التاريخ السياسي البائد، بصراعاته وأشخاصه، ويؤكد مرة أخرى أن قيم وحضارة المغلوب، كانت أقوى من عسكر الغالب على مدى القرون الطويلة التي لم تستطع أن تطويها.

لذلك نقول: إن أسبنة التاريخ الإسلامي في الأندلس، سوف يفتح الباب من جديد للإسلام بعطائه الثقافي والحضاري، فليس الإسلام عربيًّا ولا آسيويًّا ولا أفريقيًّا، وإنما هو خطاب الله للبشرية، للناس جميعًا.

وقد يكون من المخجل، أن مرور خمسمائة سنة على سقوط غرناطة، لم يسجل حضورًا في أي موقع من مواقعنا الفكرية، أو الثقافية، أو الأكاديمية، ولو حتى على مستوى التقليد والمحاكاة ورد الفعل، للمؤسسات ومراكز البحث العالمية، كما أنه لم يستنفر أو يهز حتى باحثًا واحدًا على المستوى الفردي ممن يتصدون للتحليل، والدراسة، والتفسير التاريخي، من المشارقة والمغاربة على حدٍّ سواء. فالجامعة العربية ومنظمات الثقافة والتربية والعلوم، مثل "الأسيسكو" و"الأليسكو" ووزارات الثقافة، ومراكز البحوث والدراسات التاريخية والإنسانية، والجامعات، في حالة ذهول وفقدان ذاكرة، وكأن الذكرى لا تعني سوى اليهود الذين يحاولون تزييف التاريخ، وانتهابه بغفلة من أهله، وبعض الأسبان سواءً الذين يحتفلون بالذكرى في الساحات العامة، أو الذين يحاولون جعل الحقبة الإسلامية جزءًا من تاريخ أسبانيا المتألق، بعيدًا عن دور الإسلام في بناء الحس الحضاري، أو المستشرقين الذين ينظرون إلى الموضوع – إذا تجاوزنا النوايا – من خلال بيئة ثقافية وحضارية مناقضة، أو مختلفة عن البيئة الحضارية والثقافية التي يحاولون التأريخ لها.

وقد يتوهم بعض أصحاب النوايا الساذجة، أو التشكيل المنهجي الخطأ، أن الأحداث التاريخية- وعلى الأخص ذكرى سقوط الأندلس- إنما تعني علميًّا فتح الجراح، والاحتفال بالهزيمة، ويغيب عنهم أنه استدعاء وإحياء لعبرة ماضٍ غني بالعبر، لتصويب الحاضر وإبصار المستقبل، لا يستغنى عنها في صيرورة الأمة التاريخية، ومشروعها في النهوض الحضاري، فالذكرى استصحاب للماضي، ورؤية للحاضر، وإطلالة على المستقبل، خاصة وأن الأندلس لم تكن أرضًا فقط احتلها العسكر المسلم، وقضوا فيها زمنًا، وإنما هي مرادفة للحضارة، والمعرفة، والقيم الإنسانية، والكسب العلمي، الذي يشكل الأرضية التي تقف عليها الحضارة الأوروبية اليوم، كما أن الأندلس لا تزال تعني فيما تعني: الحيز الهام من المكتبة الإسلامية في الفقه، والتفسير، والحديث، والقضاء والأدب، ولا يزال أعلام الأندلس من المعالم الكبرى في التراث الإسلامي، والميراث العلمي، والتشكيل الثقافي، حتى أننا نستطيع القول: إن ثقافة وحضارة المغلوب لا تزال حتى اليوم، أقوى من سلطة وقوة الغالب، ولا تزال الفترة الإسلامية هي مرحلة التنوير والحضارة في التاريخ الأسباني كله.. وإذا حذفنا حضارة المسلمين من تاريخ أسبانيا، فماذا يبقى لها غير الممارسات الوحشية التي يندى لها الجبين؟! الأمر الذي دعا الكثير من الأسبان اليوم للعودة إلى الجذور، والبحث عن هويتهم وحضارتهم الحقيقية، التي لابد أن يرتكزوا إليها.

يقول "أمريكو كاستروا" -وهو أكبر مؤرخي أسبانيا المعاصرين، والذي توفي قبل سنوات قليلة- في كتابه "الحقيقة التاريخية لأسبانيا": إن الأندلسيين هم الذين خلقوا أول شعور وطني في أسبانيا، وأنه لولاهم لما أصبح لأسبانيا أي تميز أو خصوصية، يعليان من شأنها بين الأمم، ليس من تاريخها الوسيط فحسب، بل في تاريخها الحديث أيضًا.

كما يسجل المستشرق الأسباني "الدكتور بدرومارتينيز مونتابث" شهادته قائلاً: إن أسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري، لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته، وكانت بذلك باعثة النور والثقافة إلى أوروبا المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمات الجهل والتخلف.

لذلك يمكن القول: إن العقلاء في أسبانيا اليوم، يعملون لمصالحة أسبانيا مع نفسها، أو لانتصارها على نفسها، ولتجاوز عقدة التعصب، ومن ثم الإذعان للحقيقة؛ لأن الإسلام لا يزال يعيش في وجدانها، وذاكرتها وتقاليدها، وتراثها الشعبي ولغتها، على الرغم من كل الممارسات ضد الإسلام والمسلمين، ومحاكم التفتيش، ومعاناة المورسكيين، التي وصفها "جوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" بقوله: يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا، من قصص التعذيب والاضطهاد، والتي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، إنهم عمدّوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش، التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع.. وهكذا تم قتل وطرد ثلاثة ملايين عربي كانوا يشكلون النخبة الفكرية والصناعية في أسبانيا، وهكذا انطفأت حضارتهم الوهاجة التي ظلت تشع على أوروبا منذ ثمانية قرون.

ولعل المشكلة الحقيقية التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر، في هذا الإطار، هي في افتقاد منهج النظر، أو ما يمكن أن نسميه: منهج الثقافة التاريخية وإدراك الآلية، أو السنن التي تخضع لها الحركة البشرية، والقوانين التي تحكمها وتتحكم فيها، أو بمعنى آخر: غياب الفقه التاريخي، ذلك أن سرد النصوص التاريخية، وتسجيل الحديث التاريخي، دون القدرة على الفقه للقوانين المحركة، أو قوانين الحركة التاريخية، وسننها الماضية في الأمم، لا يغني عن صاحبه شيئًا.. فعلى الرغم من الدعوة الملحة في القرآن الكريم للسير في الأرض، وأهمية التعرف على السنن التي تتحكم بسقوط ونهوض الأمم، وجعل ذلك مسؤولية وتكليفًا شرعيًّا: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[آل عمران:137]، ولفت نظر الإنسان المسلم إلى أن هذا السير يجب أن يترافق مع البصارة، والنظر النافذ، الموصل إلى اكتشاف السنن وإدراك قوانين الحركة الاجتماعية، التي مضت وحكمت حركة الأمم، التي خلت والتي سوف تحكم وتتحكم بالأمة المسلمة إذا توفرت مقدماتها وأسبابها، وجعل الغاية في القراءة التاريخية والسير في الأرض هي اكتشاف السنن: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، أي: انظروا في الكيفيات،في المقدمات التي انتهت بالأمم السابقة إلى المآلات والعواقب التي صارت إليها، حيث لم يرض الله سبحانه وتعالى للمسلمين، أصحاب الرسالة الخاتمة، أن يقتصروا على التجربة الذاتية، أو التاريخ الخاص، إن صح التعبير، وهو التاريخ الإسلامي، وإنما أراد لهم، بل كلفهم بتجاوز ذلك إلى إدراك التاريخ العام للأمم الأخرى، والتعرف على سنن الله الماضية في الخلق، التي كان التاريخ وحركته مخبرها وشاهدها، والتي قد يغيب إدراكها عن الحاضر المشاهد.. تلك ا لسنن التي لا تحابي أحدًا، وإلاَّ كان مجرد الإيمان، بمفهومه السلبي، كافٍ للنصر على الأعداء.. فأمة الرسالة الخاتمة الخالدة، هي الوريث الفكري والحضاري والمعياري للأمم السابقة، لذلك لا تستطيع القيام بهذه المهمة دون أن تتمكن من الحصول على رصيد التجربة البشرية كاملة، لتكون قادرة على القيام بمسؤوليتها، فالتاريخ ليس تراكم حوادث وحركة عشوائية عبثية لركام من البشر، وإنما هو استجابة لقناعات فكرية، وموجهات قيمية وتقاليد اجتماعية، وحركة تكمن وراءها سنن وقوانين، هي أشبه بالساعة التي قد لا نرى منها غير حركة عقاربها دون إدراك منا للآلة التي تختفي وراءها، وتضبط حركة الزمن فيما نراه من حركة عقاربها.

ونستطيع أن نقول بدون أدنى تحفظ: إنه على الرغم من الدعوة للسير في الأرض، وأهمية اكتشاف السنن الفاعلة في الحركة التاريخية، ودور هذا الاكتشاف في البناء الحضاري، وحسن القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، والمسؤولية الشرعية، أو الأمر الشرعي في ذلك الذي يمكن أن يصنف في إطار الفروض الكفائية الغائبة عن حياة المسلمين اليوم، مع هذا كله لم تأخذ الحادثة التاريخية، لا على مستوى التاريخ الخاص بالأمة المسلمة- الاعتبار بتجربتها- ولا على مستوى التاريخ العام- الاعتبار برصيد التجارب العالمية- الفقه، والتفسير، والتحليل المطلوب للذهنية الإسلامية المعاصرة، وغالبًا ما اقتصر علم التاريخ عند المسلمين على حفظ الحوادث، والأمانة في نقلها، وتسجيلها، وضوابط منهج النقل وأدواته. وهذا العمل على أهميته وضرورته، يبقى في إطار تشكيل مقدمة العلم، والظواهر التي لا بد من النظر فيها للخلوص إلى العلم الذي ينتظم حوادثها، ويربط بين متفرقاتها، حيث أن الأهم هو القدرة على استقراء الحوادث، واكتشاف القانون والسنن التي تحكمها، ليتمكن بذلك الإنسان من إدراك سيرورة الاجتماع البشري، واستشراف المآلات المستقبلية للمقدمات الموجودة، بعيدًا عن التكهن والتخمين والظن، ويدرك المدى الممكن من المداخلة وتحويل المسار والتعديل بالمقدمات في الوقت المناسب، في محاولة للتحكم بالنتائج، والتبصر بالعواقب، وعدم تكرار الخطأ في تجارب مماثلة.

إن البحث في البواعث والمقاصد، والكيفيات التي تحكم السقوط والنهوض، وسنن التدافع البشري الموصلة إلى التحولات التاريخية والتداول الحضاري، ما يزال بعيدًا عن الذهنية المسلمة، إلا من بعض المحاولات الفردية غير المتأصلة هنا وهناك، والتي غالبًا ما تأتي نتيجة ردودٍ لفعل الآخرين، وصدى لمحاولاتهم، وعلى أحسن الأحوال تأتي محكومة بمناهجهم ووسائلهم في النظر والبحث، الأمر الذي لا يخرج في النهاية عن أن يكون ثمرة لثقافاتهم، أو لتشكيلهم الثقافي، بعيدًا عن النسق المعرفي والفلسفي الإسلامي، أي: ثمرة لشاكلتهم التي يعملون عليها.

فالتاريخ بدون إدراك السنن والقوانين التي حكمت حركته، يبقى فعلاً ماضيًّا لا يمكن استعادته، وإعادة التحكم في تركيبته وترتيبه من جديد، لكن تتحدد أهميته بامتلاك القدرة على نقل عبرته للحاضر الذي يمكِّن من رؤية المستقبل، أو بمعنى آخر: إن الشهود التاريخي لا قيمة له إذا لم يمكِّن من شهود الحاضر (الشهود الحضاري)، وإبصار المستقبل (الشهود المستقبلي)، وتلك لوازم يترتب بعضها على بعض.

وهذا الواقع الثقافي المحزن،إذا انطبق على تاريخنا بشكل عام، فإنه أشد ما يكون وضوحًا في تاريخنا في الأندلس بشكل خاص، حيث لا تزال الأندلسيات المأساوية تتكرر هنا وهناك، ويتحدد نصيبنا من ذلك في امتلاك العَبْرَة وفوات العِبْرَة.

فالتاريخ هو المختبر الحقيقي للعقائد والأفكار والشعارات والأفراد والأمم، وبيان قدرتها على التعامل مع تلك العقائد والأفكار، وترجمتها إلى واقع، وتمكينها من التفسير والتحليل التاريخي، وهو الذي يمكنها من قراءة واقعها ووضعه في موضعه المقارب له من المسيرة التاريخية، كما يمكنها من التطلع إلى صناعة مستقبلها.

وفي اعتقادنا أن المحاولات التي سُبقنا إليها في مجال الدراسات التاريخية- والتاريخ يعتبر الأب الشرعي لعلم الاجتماع- واكتشاف السنن والقوانين التي تحكم وتتحكم بحركة المجتمع البشري، هي التي أوصلت الآخرين إلى تأسيس وتأصيل علم الاجتماع وبلورته كعلم أصبح اليوم من أهم العلوم وأخطرها في دراسة أحوال الأمم، وعوامل تغييرها وتغيرها، ورسم المداخل الصحيحة للتعامل معها، سواءً كان ذلك في إطار الغزو الفكري والاستلاب الحضاري، أو في مجال التبادل المعرفي، وإيجاد القواسم والصيغ المشتركة للتعامل.. وقد تكون المشكلة الكبيرة في الذهول عن هذا المنحى، وتوقفه في العقل المسلم المعاصر، على الرغم من التكليف الشرعي بالسير في الأرض، واستقراء أحوال الأمم السابقة، وتحقيق المعرفة التي تمكن من اكتشاف آلية السقوط والنهوض، والقوانين التي تحكم الاجتماع البشري، وجعل ذلك من فروض الكفاية كما أسلفنا.

وبالإمكان القول: إننا لم نفقه بعد المغزى فيما عرض له القرآن الكريم من القصص، التي تسع التجربة البشرية من لدن آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم، وما طرحه من أسباب وسنن مادية، وفكرية، ونفسية، وإيمانية للنهوض، والسقوط، والانقراض، والتقطيع في الأرض، وشروط استعادة العافية في دورات التداول الحضاري، مما يمكن أن يشكل القوانين اليقينية للحركة الاجتماعية، ويضع الأصول الأساسية لعلم الاجتماع.. إنَّ هذا الفقه التاريخي، أو الفقه القرآني، لم يأخذ البعد المطلوب، ولم يحملنا إلى الإفادة من تلك المختبرات الإنسانية في القصص القرآني التي تتساوى في نتائجها اليقينية مع النتائج المختبرية في العلوم التطبيقية.. تلك القوانين التي يستحيل تحصيلها من قراءة الحاضر، الذي يبدو متقلبًا ومتناقضًا من خلال حركته السطحية السريعة.. إن غياب هذا الفقه، كان وراء تخلفنا في سائر العلوم الاجتماعية التي تمثل في الحقيقة الجسر الذي تعبر من خلاله الغلبة الحضارية.

وقد يكون من أسباب العزوف عن التحليل والتفسير التاريخي، وتحقيق الاعتبار المطلوب: الانحياز العاطفي للتاريخ الإسلامي، والشعور بقدسيته (اختلاط قدسية النص ببشرية الاجتهاد والتطبيق)، والتوهم أن البحث في الأخطاء، وتحديد الإصابات، وكشف أسبابها، يحط من قدر الإسلام نفسه، وينال من الحضارة الإسلامية.

وقد يكون من الأسباب أيضًا: الرغبة في التستر على الحاضر، والحيلولة دون تحديد موقعه بدقة من خلال المسيرة التاريخية للأمة، وبيان الخلل الذي يحكمه، الأمر الذي لا يروق لكثير من أصحاب النفوذ والسلطان السياسي.. فإذا تتبعنا الثقافة التاريخية لمعظم مراحل التاريخ الإسلامي، ومنها الحقبة الأندلسية، نجد أنها لا تخرج عن الإعجاب ببعض الإنجازات والمشخصات المادية، التي غالبًا ما تستهوي السيِّاح، بعيدًا عن النظر في العمق الحضاري والثقافي، الذي وصل بالأمور إلى ما وصلت إليه، والوقوف أمام التاريخ وجهًا لوجه، واكتشاف السنن، التي عملت عملها في المسلمين هناك من التناحر، والصراع على السلطة، وأدت إلى هجرة العقول، وإقامة الكيانات، والدويلات والطائفيات الصغيرة، والاستعانة بالأعداء وموالاتهم، ودفع الجزية لهم من الأموال الطائلة، ليقوموا بحماية تلك الكيانات الهزيلة، التي لا تستحق البقاء في الحكم، والتي لم تغنها الحماية الأجنبية شيئًا، حتى انتهت متسارعة إلى الاستسلام قبل الموعد المتفق عليه للاستسلام، خوفًا من غضبة جماهير المسلمين.. وكأن بعض فترات التاريخ الإسلامي أقدس وأكرم عند الله من فترة السيرة والنبوة والوحي، حيث حدد القرآن المسؤولية عن الفعل التاريخي بقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:165].

ولم يقتصر القرآن على رصد الظاهر المادي وتحديد المسؤولية الذاتية، وإنما تجاوزه إلى بيان السبب والعامل النفسي الذي يبدأ من داخل النفس: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)[آل عمران:152]: (الغنيمة).. ونحن هنا لسنا ضد إرادة الدنيا في الفعل التاريخي، فإرادتها منزع بشري طبيعي، في منشئه، لكن المشكلة في السقوط، وعجز وسائل التربية الإيمانية عن تشكيل المناعة الحضارية المطلوبة، وضبط التوازن بين المبادئ والمصالح، أو تحصيل القناعة بأن المبادئ هي المصالح.

ولعل التوهم بأن التستر على الخطأ في التاريخ والواقع، وأن ذلك أدعى للسلامة، كان وراء الكثير من التراجعات والارتكسات، وتكريس وتكرار الخطأ، وتعطيل أدوات النقد والتقويم، والقدرة على الاعتبار، الأمر الذي أدى إلى الاستنقاع الحضاري.. لذلك نعود إلى القول: إن الإشكالية الثقافية التاريخية لا تزال تتحكم بعقلية المسلم اليوم، وتتسرب إلى حكم بعض مؤسسات ومنظمات العمل الإسلامي التي تؤثر إخفاء الخطأ، والتستر عليه، وعدم طرحه ومناقشة أسبابه، خوفًا من الانكشاف وتبصير العدو بنقاط الضعف، وبذلك تستمر الأخطاء وتتراكم، وتصبح أشبه بالألغام الموقوتة التي تنفجر بين حين وآخر، وقد تقضي على كل شيء عندما تتعاظم وتحيط بالإنسان (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:81]، وكأن الإسلام بدأ فينا وبنا ينتهي، وكأن تصرفاتنا واجتهاداتنا هي الإسلام، بحيث نصبح نحن الإسلام.. والإسلام نحن! لذلك نتوهم أن أي تقويم لفعلنا ومسالكنا، هو تقويم للإسلام، وأي خطأ في حركتنا هو خطأ في الإسلام، وأي نقد لتاريخنا هو نقد لقيمنا المعصومة! فيكف يصح النقد لأعمالنا الإسلامية، والإسلام معصوم ونحن مسلمون!؟

وقضية أخرى لا بد من فك الالتباس حولها في الذهن المسلم أيضًا وهي: اكتساب القدرة على التفريق بين جلد الذات (السب واللعن) المنهي عنه شرعًا، وبين نقد المسالك وتقويم الأعمال، ومناقشة الفعل التاريخي، وتحقيق الاعتبار، وتسديد المسيرة الإسلامية في ضوء ضوابط القيم الإسلامية وأخلاق المعرفة المطلوبة شرعًا، ومن ثم القدرة على تشكيل النظر، والتقويم الإيجابي، لاجتهاد وفعل المخطئ، وأنه أحد الأدلة الموصلة إلى الصواب، لذلك جاءت معظم الكتابات الإسلامية متجهة صوب العامل والتآمر الخارجي، الذي أدى إلى سقوط الأندلس، إلا ما ندر من رصد مظاهر الصراع وأسبابه، والتنازع على المغانم والمصالح بين ملوك الطوائف- الأمر الذي ما يزال يعمل عمله فينا حتى اليوم- والنكوص عن الدراسة والتحليل، ومعرفة السبب الذي سمح بتسلل هذا الخلل إلى الواقع الإسلامي، والقابليات التي استدعته وسمحت بنموه وتفاقمه.. ومن ذا الذي يقول: إن المطلوب من أعدائنا أن يسهموا بنهوضنا، وأن توقف كيدهم وعدوانهم، شرط لانتصارنا؟!

فالعدول عن تقويم الذات وكشف الخلل، والتوجه صوب العامل الخارجي، يعني تكريس القابلية للتخلف والسقوط، وتمكين العامل الخارجي من أداء دوره المرسوم.

إن الغفلة عن بناء الذات، وإكسابها المناعة الثقافية والحضارية والعسكرية، هي التي تستدعي السقوط، وتستدعي الأعداء ليأخذوا نصيبهم من اقتسامنا، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)[النساء:102].. والسلاح هنا لا يقتصر على الشوكة العسكرية، وإنما ينضم له بناء الشوكة الفكرية والثقافية، التي تمثل ميدان الصراع الحقيقي، لكن الغفلة وإعفاء الذات، تحتلنا على كل الأصعدة.

نعود إلى القول: إن التاريخ الإسلامي في الأندلس، ما يزال هو الذي يشكل الفترة المتألقة في تاريخ أسبانيا المعاصرة، على الرغم من كل أحقاد التعصب ومحاولات الطمس المستمرة.. ولئن أمكن طمس التاريخ السياسي بأشخاصه ومؤسساته، فإن التاريخ العلمي والثقافي الذي يشكل الضمير الحي للإنسان في أسبانيا، لا يمكن طمسه، والقفز من فوقه، لذلك بدأت العودة إلى الجذور، والتصالح مع التاريخ والاعتراف بالحقيقة على المستويات المتعددة، على الرغم من موجات التعصب المتتالية، والتي ما تزال تعتبر ذكرى سقوط غرناطة فرصة لشحن العواطف ضد الإسلام والمسلمين، على المستوى الشعبي والرسمي، وملء النفس الأسبانية المعاصرة بالحقد.

لذلك، فقد يكون من الطبيعي جدًّا اليوم أن يتراجع التعصب الديني بعقمه وعجزه تاريخيًّا، عن أن يقدم شيئًا مذكورًا للتاريخ الأسباني، إلا ذكرى الصور المخزية لمحاكم التفتيش، بعد أن تقدمت وسائل الاتصال اللغوي والفكري، وأتيحت فرصة لإظهار الوثائق، والتمتع بأقدار من حرية الاختيار. فليس الحقبة الإسلامية هي قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، وجنات العريف، ونزاعات ملوك الطوائف المهزلة التي ساهمت بالسقوط الحضاري، والانكسار العسكري، وإنما العطاءات الثقافية والعلمية التي لا تزال غذاء فكريًّا لاستمرار الحياة الإسلامية.

وقد نكون اليوم أحوج من أي وقت مضى للعودة إلى عطاء القرآن، واستشعار التكليف والمسؤولية، وإعادة التدبر، فقوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) يعني فيما يعني: تكليفًا بالنظر في السنن، أي القوانين المطردة، التي تحكم حركة الحياة والأحياء.. تحكم الحركة الاجتماعية، وتتحكم بسقوط ونهوض الأمم، وأن اكتشاف هذه السنن "القوانين" لا يتأتى من النظر في الحاضر، أو الاقتصار على التاريخ الخاص، وإنما لا بد له من العمق التاريخي، والعمر التاريخي معًا.. لابد له من السير في الأرض، وتجاوز الحاضر إلى الأيام التي خلت، حيث لا يتسع عمر الإنسان للإحاطة بفعل السنن الاجتماعية، واكتشاف حركتها واطرادها، من قراءة الحاضر.. وحتى السير في الأرض والإبحار في التاريخ، دون النظر القادر على التفسير والتحليل والتبصر في الكيفيات والعواقب، وفي المقدمات والنتائج، لا يغني عن صاحبه شيئًا، لذلك قال تعالى: (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

إن شواهد التاريخ العام هي بيَّنات للناس، وبيان لا بد من تفهمه، وتبيّنه (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) وإدراك كنهه و(وَهُدىً): أي وسيلة اهتداء إلى تلك السنن، التي تحكم الحياة والأحياء (السنن الاجتماعية)، ذلك الاهتداء الذي يقود إلى الاتعاظ والاعتبار (وَمَوْعِظَةٌ)، ويحول دون السقوط في علل الأمم السابقة التي استحقت تلك العواقب، ويقي الأمة المسلمة مما أصاب الأمم المنقرضة بسبب فعلها، وإنكارها للسنن (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

ولو عدنا إلى تدبر الآية: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأدركنا التباعد بيننا وبين التدبر وعطاء القرآن في المسألة الاجتماعية.

لذلك نقول: إن غياب الدارسة التاريخية التي تمكن من كشف السنن الاجتماعية، والعوامل المادية والنفسية الفاعلة في المسيرة البشرية، والاقتصار على التسجيل لحوادث التاريخ، الأمر الذي يحقق البيان فقط، وعدم تجاوز ذلك إلى التحليل التاريخي الذي يحقق الاهتداء إلى السنن، ومن ثم الاعتبار بها، والوقاية من السقوط، كان سرًّا من أسرار تردي المسلمين وتخلفهم وعجزهم عن الإفادة من العلوم الاجتماعية التي تتحكم بالعالم اليوم، والذي يعتبر التاريخ مخبرها ومنجمها الأول، والتي تبلورت على يد غيرهم.

ولابد من الاعتراف: بأن الصحوة الإسلامية في الأندلس التي تحاول اليوم تلمس طريقها، سوف تمر بمخاض طويل، وصعوبات متعددة، وترسبات عنصرية، وتوجيهات خارجية شتى، وسوف تقوم محاولات لاختراقها، وإجهاضها من الداخل، وذلك بأن يقذف في داخلها بأشخاص يسيئون إليها، ويحاولون الانحراف بها، وتفريغها من أهدافها، وهذا قد يكون شيئًا طبيعيًّا إلى حدٍّ بعيد، يمكن تجاوزه إذا استطعنا الاستمساك بالمعيار الإسلامي في التعامل مع الأشخاص، فمن أساء فإنما يسيء لنفسه.

ويبقى المطلوب من الباحثين والمفكرين والعاملين في الإطار الإسلامي، دراسة الظاهرة ورسم المداخل الصحيحة، والأولويات المطلوبة، ومواصفات الخطاب الحكيم للتعامل معها.

وتأتي هنا أهمية الكتاب الذي نقدمه اليوم للدكتور على المنتصر الكتاني- وهو يمثل وجهة نظر قد لا يتفق مع بعض جوانبها كثير من المهتمين بالمسألة الأندلسية- من أنه استطاع أن يرصد ظاهرة الصحوة الإسلامية، ويلتقط الكثير من الإشارات لاستيقاظ الضمير الإسلامي في أسبانيا، ولم يكتف بالرصد من بعيد، وإنما انخرط بالمشاركة أيضًا، مدللاً على ذلك بالوثائق والأسانيد العلمية، والتجارب والمشاهدات الميدانية، في الوقت الذي غاب عنا التاريخ الإسلامي الأندلسي، أو كاد يغيب، لكثرة مآسينا التي تنسلك في إطاره، حيث تحاول جهات كثيرة وعلى رأسها يهود اليوم، سرقة تاريخنا الحضاري والثقافي، وإضافته إلى حضارتهم، بحيث لا يبقى إلا صور الصراعات السياسية والطائفية المخجلة.. كما تأتي أهمية الكتاب بتوافق صدوره مع مناسبة مرور خمسة قرون على سقوط غرناطة، والمحاولات العالمية للدراسة والاحتفال، كلٌّ على طريقته، والذهول العربي الإسلامي الذي تعيشه جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والثقافية، والعجز عن الإفادة والاعتبار بالتاريخ، الأمر الذي يجعل حاضرنا متعثرًا ومستقبلنا غامضًا، ويجعلنا عبرة لغيرنا.. والعاقل من اعتبر بنفسه وغيره، والأحمق من كان عبرة لغيره، أو كما يقول ابن دريد:

مَنْ لم تَفِدْهُ عِبَرًا أَيَّامُـــهُ *** كان العَمى أوْلى بِه مِنَ الهُدى
مَنْ قَاس مَا لم يَرَهُ بما يَرَى**أراهُ ما يَدنُو إليـــهِ ما نَأى

والله من وراء القصد.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
مقدمة

مقدمة

مقدمة

من أهم مظاهر الصحوة الإسلامية في السنين الأخيرة، هو ظهور الإسلام والانتماء إليه في مناطق لم يكن فيها من قبل، أو كان فيه واندثر، ولا شك أن تواجد الإسلام في هذه المناطق، يزيد أو ينقص حسب اختلاف تاريخها، وقربها من البلاد الإسلامية. وتعم عادة هذه الصحوة أبناء المهاجرين وأحفادهم، الذين ينتمون إلى الإسلام على أي حال، وتظهر فيهم عبر زيادة الوعي به، ومحاولتهم جهدهم أن يبسطوا سلطانه على جوانب حياتهم المختلفة، ويُعرّفوا به لمن حولهم، ويدعون الآخرين إليه.

ولكن الحدث الفريد هو أن تظهر الصحوة الإسلامية في مجتمع بعيد كل البعد في ظاهره عن الإسلام، ومن بين أفراد لم يولدوا مسلمين. وتحدث هذه الظاهرة اليوم في الأندلس، المنطقة الجنوبية من أسبانيا المعاصرة. فما أسبابها؟ وما هي قوتها؟ ومتى ابتدأت؟ وإلى أين تتجه؟

هذه أسئلة حاول هذا الكتاب الإجابة عنها، إذ يظهر فيه جليًّا أن الصحوة الإسلامية في المجتمع الأندلسي، لا تختلف عن مثيلاتها في المجتمعات الإسلامية. وسبب ذلك أن الشعب الأندلسي الذي عاش مسلمًا لمدة تقرب من الثمانية قرون، كان أول ضحية للهجمة الصليبية، التي حاربت الإسلام بين أبنائه، حتى قضت عليه ظاهرًا. فمنذ سقوط غرناطة سنة 1492م، تفننت الكنيسة والدولة آنذاك في اضطهاد الأندلسيين اضطهادًا لا يوصف، بعد أن نصَّروهم بالقوة، ومنعوهم من التكلم بالعربية، وأحرقوا كتبهم بالآلاف في الساحات العامة، وقتلوا علماءهم، وأحرقوهم أحياء، وأخذوا أبناءهم لتعليمهم الدين النصراني. فقاوموا المقاومة المستميتة جيلاً بعد جيل، رغم تسلط محاكم التفتيش التي أحرقت، واستعبدت، وسبت العباد، وصادرت، أو أتلفت الأموال. وقاوم الأندلسيون، دون مساعدة من العالم الإسلامي، طوال مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة، فثاروا وتمردوا، وتشبثوا بالإسلام سرًّا، رغم كل المحن. وأضاعوا الكل، المال والشرف والحرية والكرامة، وأحيانًا الحياة، لكنهم لم يضيِّعوا أعز ما عندهم، وهو الإيمان بـ"لا إله إلا الله محمد رسول الله".

وهكذا انهزمت القوى الصليبية أمام عنادهم، فقررت طرد الطبقة الرائدة منهم سنة 1609م، فانهال على البلدان الإسلامية المطلة على البحر الأبيض المتوسط حوالي ربع مليون منهم، يجهل معظمهم اللغة العربية، ويتسمى بأسماء أعجمية، لكنهم كلهم سعداء بإعلان إسلامهم جهرًا دون خفاء. ومُسِح الإسلام من الأندلس ظاهرًا بعد ذلك، لكنه بقي ذكرى جماعية في نفوس الأندلسيين، ظهرت في تمرداتهم المتواصلة، وفي شكل قومية متميزة، تعتز بتاريخ الإسلام ورموزه، إلى أن أوضح ذلك في أوائل القرن العشرين في نظرية متكاملة، زعيمهم "بلاس أنفانتي"، الذي اعتنق الإسلام وقتل شهيدًا- رحمه الله- من طرف القوى الصليبية.

وعندما خرجت أسبانيا سنة 1975م لأول مرة بعد سقوط غرناطة، من ظلام الاستبداد عبر كثير من الأندلسيين عن انتمائهم الإسلامي، وابتدأت الجمعيات الإسلامية تتكون بينهم منذ سنة 1980م. وأخذت هذه الجمعيات تحاول جهدها في مجتمعها الأندلسي الجديد التعرف على الإسلام، ومبادئه من جديد، والتعريف به، وتعلم اللغة العربية وتعليمها، ودراسة تاريخ الأندلس الإسلامي، وجهاده، وتعريف شعب الأندلس به.

وقد حاول هذا الكتاب دراسة جذور الصحوة الإسلامية في الأندلس، والتعريف بجهاد الشعب الأندلسي المسلم عبر القرون، من أجل الحفاظ على هويته الإسلامية أو ما تبقى منها، ومجهود الحركة الإسلامية في الأندلس، لإنشاء مجتمع مسلم أندلسي مرتبط بأمته، يكون المسلمون الأندلسيون فيه الطائفة الرائدة، لتعريف شعب الأندلس بأكمله بأمجاده.

فالصحوة الإسلامية في الأندلس هي قبل كل شيء أندلسية، وليدة المجتمع الأندلسي وتجاربه المريرة. ونجاحها هو رهين مساندة هذا المجتمع لها، ورهين تمكنها من مواصلة الحوار مع طبقاته الحية. نرجو لها النجاح والتوفيق.

ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل. ولا غالب إلا الله.

الدكتور: علي المتنصر الكتاني.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
نشأة دولة الإسلام في الأندلس وسقوطها (711-1492م)

نشأة دولة الإسلام في الأندلس وسقوطها (711-1492م)

نشأة دولة الإسلام في الأندلس وسقوطها (711-1492م)



دخل الإسلام إلى الأندلس من 92 إلى 95هـ (711 إلى 714م)، وأهلها في سخط عارم، ضد حكامها القوط النصارى الثلاثيين، بينما كان معظمهم تابع لمذاهب مسيحية موحدة، مضطهدة من طرف الكنيسة الحاكمة. وهكذا انضموا إلى الإسلام عن طواعية وحماس، لدرجة أن بعض المفكرين الأسبان المعاصرين نعتوا الفتح الإسلامي للأندلس ، بثورة إسلامية في الغرب(1).

وهكذا دخلت منطقة لا تقل مساحتها عن 700.000 كيلومتر مربع، دار الإسلام طواعية، تضم معظم شبه الجزيرة الأندلسية، سوى منطقة جبلية في الشمال الغربي، كما تضم قسمًا مهمًا في فرنسا، أو الأرض الكبيرة، كما سماها قدماء المسلمين. فتكوّن مع السنين شعب أندلسي جديد. مسلم العقيدة، عربي اللغة، له خصوصياته، متأصل في بلده. ولم يكن ذلك الفتح الإسلامي غزو أمة لأخرى، وإجبارها على دين ولغة، لم ترتضيهما، بل الشعب الأندلسي نفسه اختار الإسلام دينًا، والعربية لغة حضارة، ورحب بالفاتحين المسلمين الأوائل ترحيب المقهور بالمنقذ.

انضمت الأندلس أول الفتح الإسلامي إلى ولاية المغرب في الدولة الإسلامية، وعاصمتها القيروان، (في تونس اليوم). ثم أصبحت ولاية قائمة بنفسها، وعاصمتها إشبيلية. ثم انفصلت الأندلس عن الدولة العباسية في المشرق سنة 138هـ=756م. تحت زعامة عبد الرحمن الداخل الأموي، الذي أسس دولة أموية في المغرب، واتخذ قرطبة عاصمته. وصلت الأندلس الأموية أوجها أيام عبد الرحمن الناصر (300-350هـ الموافق 912-961م)، لكن مساحتها نزلت إلى 440.000 كيلومترًا مربعًا بعد أن فقد المسلمون أربونة، وقرقشونة، وكل الأرض الكبيرة، وبمبلونة، وبرشلونة، وبرغش، وليون، وأبيط، وكل جليقية، وسمورة، وغيرها من مدن شمال غربي الجزيرة الأندلسية، تحت ضغط الفلول النصرانية، التي تنظمت في دويلات متحالفة ضد الوجود الإسلامي ودولته، أهمها قشتالة ونبارة وليون.

بدأ الضعف يسري في الدولة الأموية بعد وفاة المنصور ابن أبي عامر، حاجب هشام الثاني المؤيد حفيد الناصر، إلى أن انهارت سنة 433هـ =1021م، وانقرضت. فنجزأت الأندلس بين ملوك الطوائف، وصل عددهم إلى 23 ملكًا. فاغتنمت الدول النصرانية هذه التجزئة، وأخذت تحتل مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى، أهمها طوكونة، وبراغة، وقلمرية، ومجريط، وخاصة طليطلة سنة 478هـ=1085م. فاستنجد الأندلسيون بأمير المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشفين المرابطي، الذي استجاب لهم، وهزم النصارى في معركة الزلاقة سنة 479هـ=1086م. ثم قضى على ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب. لكن أرضًا شاسعة بما فيها طليطلة ظلت تحت حكم النصارى، وتقلصت مساحة الأندلس الإسلامية إلى250.000 كيلومترًا مربعًا.

ولما ضعفت الدولة المرابطية، تجرأت الأندلس مرة ثانية إلى طوائف، فاستنجد الأندلسيون بالموحدين المغاربة، فأنجدوهم سنة 540هـ=1145م، وضموا الأندلس للمغرب الموحدي، بعد أن ضاعت مناطق أخرى ومدن أهمها سرقسطة سنة 512هـ=1118م. ثم انهزمت الدولة الموحدية على يد النصارى في معركة العقاب سنة 609هـ=1212م، فانقسمت المقاومة الشعبية ضد الجيوش النصرانية الغازية بين ابن هود، وابن الأحمر. لكن لم يستطع أحدهما إنقاذ قرطبة من السقوط في يد النصارى في 23/10/633هـ (29/6/1236م). وبعد وفاة ابن هود سنة 635هـ=1237م تابع ابن الأحمر مجهوده في توحيد الأندلس الإسلامية واتخذ غرناطة عاصمة له.

ولم يتوقف الزحف النصراني على الأراضي الأندلسية بسقوط قرطبة، بل احتل الأراغونيون النصارى بلنسية سنة 626هـ=1238م، ثم شاطبة ومنطقتها. واستسلمت مرسية، آخر معاقل شرقي الأندلس، للنصارى القشتاليين سنة 640هـ=1243م. فاستنجد الأندلسيون بالمغاربة، ولكن المغرب كان فريسة حروب أهلية، لم يتمكن معها من إنجادهم هذه المرة. ثم استنجدوا بالدولة الحفصية بتونس دون جدوى. فتابع ابن الأحمر مقاومته للنصارى، الذين حاصروا غرناطة نفسها سنة 643هـ=1244م. فآثر مصانعتهم، وقدم الطاعة لملك قشتالة، وقبل أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يكون حليفه في كل حروبه، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي. وسلم ابن الأحمر لقشتالة جيان ومنطقتها، ثم ساعدها على احتلال المناطق التي اعترفوا له بها، وأفظع ما حدث في ذلك، إعانته لها على غزو مدينة إشبيلية سنة 645هـ=1241م، ومنطقة غربي الأندلس(2).

وقضى ابن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، ما تبقى من حياته في توطيد مملكته وتنظيمها، وتوطين المهاجرين، إلى أن توفي سنة 761هـ=1272م عن 76سنة. وقد تقلصت دولة الأندلس في أقل من قرن إلى 30.000 كيلومترًا مربعًا، وهي المناطق التي تضم اليوم ولايات مالقة وغرناطة والمرية، وأقسامًا من ولايات قادس وقرطبة وجيان. وهي مناطق جبلية غير قابلة للزراعة، جعلت منها العبقرية الأندلسية مركزًا حضاريًّا لا يضاهي زراعة وصناعة ومناعة.

أدت هذه الأحداث المأساوية إلى تغير جذري في الأمة الأندلسية. فكلما احتل النصارى أراضٍ إسلامية، هاجرت الطبقة المثقفة، وأهل الصناعات والحرف، إلى ما تبقى من الأراضي الإسلامية في مملكة غرناطة. وبقي عامة الشعب تحت حكم النصارى، وكان الأندلسيون يسمون المتخلفين عن الهجرة من المسلمين (بالمدجنين)، وقد نظم هؤلاء أنفسهم في جماعات إسلامية، بينما أصبحوا أقلية في عقر دارهم، إذ أتى الغزاة بمهاجرين نصارى لتعمير أراضيهم. وقد حافظ المدجنون على دينهم في ظروف صعبة تشبه العبودية. وضعفت مع السنين اللغة العربية بينهم، وأصبحوا يكتبون كتبهم ورسائلهم باللغة الأعجمية، وهي لغة قشتالية، أو كتلانية، أو أراغونية، مكتوبة بالحروف العربية.

أما سكان مملكة غرناطة فكان عددهم يساوي على صغر رقعتها، عدد سكان ما تبقى من الجزيرة الأندلسية، وكانوا جميعًا مسلمين، إذ لم تبق بينهم أقليات نصرانية، كما أن اللغة الأعجمية اندثرت بينهم، وأصبحت اللغة العربية بلهجتها الأندلسية هي لغتهم الوحيدة. وأصبحت مملكة غرناطة ملجأ الأندلسيين المدجنين وغيرهم، تستقبل كل سنة عددًا كبيرًا منهم ومن المجاهدين المغاربة.

حاول نصارى قشتالة غدر غرناطة واحتلالها فور وفاة ابن الأحمر، الذي أوصى ابنه وولي عهده أبو عبد الله محمد الفقيه بالتشبث بالمغاربة والتحالف معهم. وكان المغرب قد استعاد شيئًا من قوته تحت الدولة المرينية. فاستنجد أبو عبد الله بالسلطان أبي يوسف المنصور، الذي انتقل من عاصمته فاس إلى الأندلس على رأس جيش مغربي كثيف وألحق بالنصارى أشنع الهزائم سنة 674هـ=1275م. ثم انتقل مرة ثانية سنة 677هـ=1278م، وثالثة سنة 678هـ، ورابعة سنة 684هـ، حيث توفي بالجزيرة الخضراء. ولم يقاوم المغاربة النصارى فقط، بل غدر السلطان أبي عبد الله كذلك، وأسسوا مشيخة الغزاة في غرناطة برئاسة شيخ من بني مرين لتنظيم المتطوعين المغاربة.

وتابع السلطان أبو يعقوب سياسة والده، وواجه هو الآخر بصبر جيوش النصارى، وغدر السلطان النصري. فانتقل إلى الأندلس مدافعًا عنها سنة 690هـ. وتابع السلطان أبو عبد الله الفقيه جهاده ضد النصارى، بعد أن أفاق من غلطته، واستغفر عن زلاته إلى أن توفي سنة 701هـ=1304م. فاضطربت الدولة بعده، وتكالب عليها النصارى حتى كادوا أن يتغلبوا عليها.

وانتقل الحكم سنة 713هـ=1314م إلى أبي الوليد إسماعيل من غير فرع ابن الأحمر، مؤسس الدولة. فوطد الدولة وأقر التحالف مع المغرب، وأراغون، ضد قشتالة، إلى أن أغتيل سنة 725هـ. فخلفه ولده أبو عبد الله محمد، الذي اضطر إلى الاستنجاد بالمغاربة ضد النصارى، فجاز السلطان أبو الحسن المريني إلى الأندلس، ونجح في تحرير جبل طارق من يد النصارى سنة 733هـ=1333م. لكن السلطان أبو عبد الله اغتيل بعد هذا النصر، فخلفه أخوه أبو الحجاج يوسف، فأحسن السيرة، وكان من أشهر وزرائه لسان الدين ابن الخطيب. ولما شد عليه النصارى، استنجد بالسلطان أبي الحسن الذي أرسل جيشًا تحت قيادة ابنه أبي مالك سنة 740هـ، فانهزم وقتل. فانتقل السلطان المغربي بنفسه، فهزمه النصارى في موقعة نهر سلادو في جمادى الأولى سنة 741هـ=1740م، فوقع معسكره في يد الأعداء، وذبح أبناؤه. وكانت هذه آخر مرة جاز المغاربة فيها البحر إلى الأندلس. وابتدأ النصارى يحتلون المواقع الإسلامية الواحدة تلو الأخرى.

واضطربت أوضاع غرناطة بعد تلك الهزيمة. لكن مشاكل قشتالة الداخلية شغلتها عن الاستفادة من فوزها. وزاد الاضطراب بعد مقتل أبو الحجاج يوسف سنة 755هـ، إلى أن استقر الوضع لابنه أبو عبد الله الغني بالله بعد سنة 763هـ. فاجتهد في الدفاع الهجومي ضد قشتالة، والتعاهد مع المغرب وأراغون، والبناء والتشييد. وتابع ابنه أبو الحجاج يوسف سياسته. لكن بعد تولي ابنه أبو عبد الله محمد بن يوسف سنة 797هـ=1394م، ومن بعده يوسف بن يوسف، عادت قشتالة النصرانية إلى الإغارة على الأندلس التي قاومت دون مساندة ترجى من المغرب، حتى احتلت انتقيرة سنة 812هـ=1409م.

وزادت الأوضاع سوءًا بعد أن خلف السلطان يوسف ابنه أبو عبد الله الأيسر سنة 820هـ=1417م، فكثرت الثورات وتدخلت قشتالة في إضرامها. وفي سنة 831هـ=1428م خُلِعَ السلطان الأيسر بعد أن عجز عن الدفاع عن وادي آش، ثم أعيد بعد فتن تدخلت فيها قشتالة وبنو سراج، إلى أن خلع سنة 845هـ=1441م من طرف أبو عبد الله محمد الأحنف، الذي رد غزوات النصارى إلى أن توفي سنة 863هـ=1458م، وخلفه الأمير سعد بن محمد.

وفي هذه السنين المضطربة، المليئة فتنًا داخلية، وحروبًا متواصلة مع النصارى، استنزفت مملكة غرناطة قواها، وضاعت منها قلاع ومدن متعددة. وأدى تفكك الأسرة المالكة الكامل، وتشتت الطبقة المثقفة والحاكمة، وعدم ورع الكثير، ومن التعاون مع العدو النصراني القشتالي ضد خصمه المسلم، إلى سقوط غرناطة، بعد جهاد طويل متواصل دام قرابة القرنين. وهذه المرة يتمكن المغيث المغربي من عبور البحر، خاصة بعد أن احتل النصارى للمرة الثانية جبل طارق سنة 867هـ=1462م، وأحكموا قبضتهم على المضيق.

ففي سنة 865هـ=1463م ثار أبو الحسن علي على والده الأمير سعد وخلعه، ودخل في حروب مع أخيه أبو عبد الله محمد الزغل، الذي استغاث بالقشتاليين. فانقسمت المملكة الصغيرة، إذ استقر الزغل في مالقة وما جاورها بمساندة القشتاليين، وبقي أبو الحسن في غرناطة، بينما توحدت مملكتا أراغون وقشتالة النصرانيتان بزواج فرديناند أراغون وايسابيلا قشتالة سنة 879هـ=1474م. وحاول أبو الحسن سنة 883هـ تجديد الهدنة مع قشتالة وأراغون المتحدتين، فوافق ا لنصارى شرط أن يعترف بطاعتهم، ويؤدي الجزية لهم. وعند رفضه اشتعلت الحرب من جديد بين غرناطة والنصارى.

وكان أبو الحسن أسير ملذاته وهواه، فتزوج فتاة نصرانية اسمها ثريا، وهي ابنة قائد قشتالي اسمه سانشودي سوليس، وولد منها سعد ونصر، وأهمل ابنة عمه وولديها منه أبي عبد الله محمد (الريشيكو) وأبي الحجاج يوسف، ثم اعتقلهم في برج قمارش بقصر الحمراء. فعندما فروا من السجن، اغتنم النصارى الفرصة لإشعال حرب أهلية بي أبي عبد الله ووالده، واحتلال المزيد من الأراضي الإسلامية. فأغاروا على حامة غرناطة في محرم سنة 887هـ=1482م واحتلوها، ثم زحفوا على لوشة فردهم أبو الحسن، لكن أهل غرناطة عزلوه وبايعوا ابنه أبي عبد الله.

ثم هاجم النصارى الزغل في مالقة في صفر سنة 888هـ=1483م، فهزمهم وردهم عنها. وحاول أبو عبد الله استرجاع بعض الحصون من يد النصارى، فوقع في قبضتهم خارج قلعة اللسان. فاغتنم الملك فرناندو والملكة ايسابيلا تلك الفرصة لإذكاء الحرب الأهلية، بين أبي عبد الله وعمه الزغل، الذي بايعه أهل غرناطة بعد سقوط أبي عبد الله في الأسر. فوقع أبو عبد الله معهما معاهدة سرية يتعهد فيها بالولاء لهما، ودفع جزية سنوية، وترك ابنه رهينة لديهما، مقابل مساعدتهما له على استرجاع ملكة. فأفرجوا عنه في شوال سنة 890هـ (أوائل 9/1485م)، وتابعوا غزوهم لمدن وقرى مملكة غرناطة، أهمها مدينة زندة في 5/890هـ=4/1485م.

واشتعلت الحرب الأهلية في قاعدة غرناطة نفسها، يدعو فيها الزغل إلى الجهاد ضد النصارى، بينما يعتقد أبو عبد الله أن السلامة في المفاوضات السلمية، اتفق بعدها المتحاربان على اقتسام المملكة بينهما، يختص فيها أبو عبد الله بغرناطة ومالقة والمرية والمنكب، ويختص الزغل بالمناطق الشرقية. لكن النصارى تابعوا تقدمهم، فاحتلوا لوشة في 26/5/891هـ=5/1486م، وأسروا أبا عبد الله مرة ثانية، ثم أطلقوا سراحه في شوال من نفس السنة، وأمدوه بالعدة والرجال ليحارب عمه. وركزوا بعد ذلك على احتلال الأراضي التي بيد الزغل المرابض في وادي آش، بينما تظاهروا بمسالمة الأراضي الموالية لأبي عبد الله. فاحتلوا بلش مالقة في 5/892هـ=4/1487م. ثم مالقة في أواخر شعبان عام 892هـ (أغسطس عام 1487م) بعد مقاومة مستميتة. فأمر الطاغية باسترقاق جميع أهلها الذين نجوا من القتل. ثم احتل النصارى باقي أراضي الزغل، ودخلوا عاصمته، وادي آش، في أوائل 2/895هـ=30/12/1489م. وهاجر الزغل إلى تلمسان بالجزائر.

ولم يبق على النصارى للقضاء على دولة الإسلام في الأندلس، سوى الاستيلاء على ما بيد أبي عبد الله. ففي أوائل 2/895هـ=1/1490م، أرسل فرناندو سفارة إلى أبي عبد الله يطلب منه الاستسلام. وبعد رفضه، تهيأت غرناطة لحصار طويل، وخرج إليها الطاغية في جيش ضخم في ربيع سنة 895هـ=1490م فهاجم مرج غرناطة، ولكن ثورة أهل البشرات وتحرير بعض معاقلها كأندرش، أرغمته على الرجوع. ثم عاد بجيش ضخم إلى حاضرة غرناطة ووصلها في 12/6/896هـ=23/4/1491م، وبنى قربها مدينة "سانتافي"، ثم أحكم حولها الحصار. وبعد أن يئس الغرناطيون من إمكانية الدفاع، ابتدأت المفاوضات التي انتهت بتوقيع معاهدة الاستسلام بتاريخ 21/1/890هـ=25/11/1491م.

تضمنت هذه الوثيقة 27 مادة، تحدد أولاها ضرورة تسليم غرناطة قبل 25/1/1492م للملكين الكاثوليكيين، وتضمن المواد الأخرى حقوق المسلمين الأندلسيين بعد دخولهم في حكم النصارى، واحترام دينهم وعاداتهم، وعدم مصادرة أسلحتهم، وعدم إجبارهم على وضع شارات خاصة، وعدم استخدامهم دون رغبتهم، واحترام مساجدهم وعلمائهم، وضمان الحكم بينهم بالشريعة الإسلامية، وضمان الأوقاف الإسلامية وإدراتها بيد فقهائهم، وعدم إرغام أحد منهم على اعتناق النصرانية، والحفاظ على امتيازات قوادهم...إلخ(3).

وقد ذيلت المعاهدة بتأكيد من الملكين الكاثوليكيين، ضامنين بدينهما وشرفهما القيام بكل ما يحتويه العقد. ثم ذيلت بتأكيد جديد موقع من ولي العهد، وسائر عظماء المملكة الأسبانية، باحترام المعاهدة من الآن وإلى الأبد. وفي نفس اليوم الذي وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى سرية، يضمن فيها الطاغية وزوجه حقوق وامتيازات، ومنح السلطان أبي عبد الله وأفراد أسرته وحاشيته حق ملكية أبدية لمنطقة البشرات حول أندرش وعذرة، ومنحة قدرها ثلاثون ألف جنية قشتالي، ون يحتفظ بأملاك أبيه أبي الحسن..إلخ.

وقرر السلطان أبو عبد الله ورجاله تسليم غرناطة قبل التاريخ المتفق عليه، بعد أن خاف من غضب شعب غرناطة، فاتفق أن يكون التسليم بتاريخ 2/1/1492م. وهكذا سلمت الحاضرة الإسلامية بقصورها، وأرباضها، ومساجدها، وأسواقها، ومدارسها، وأهلها، للعدو الحاقد في يوم مشؤوم، وصفه القشتاليون في كتبهم وصفًا دقيقًا. واستلم الكاردينال مندوسة مفاتيح الحمراء من يد الوزير ابن كماشة. وكان أول عمل قام به الكاردينال عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها، وترتيل صلاة "الحمد" الكاثوليكية. وانتقل أبو عبد الله وأهله، بعد أن أكد ولاءه للملكين الكاثوليكيين، إلى أندرش حيث كان مقامه إلى حين.

وهكذا انقرضت دولة الإسلام في الأندلس، وابتدأت محنة الأندلسيين العظمى.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)I.Olague"La Revolucion Islamica en Occidente"Espana

(2) محمد عبدالله عنان "نهاية الأندلس" القاهرة (مصر) 1966م

(3) محمد عبده حتاملة "التنصير القسري لمسلمي الأندلس ي عهد الملكين الكاثوليكيين"، عمان/ الأردن. عام 1980.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الاضطهاد والتنصير (1492-1568م)

الاضطهاد والتنصير (1492-1568م)

الاضطهاد والتنصير (1492-1568م)​

بعد استسلام غرناطة، عين الملكان الكاثوليكيان، الكونت دي تانديا حاكمًا عليها، وإيرناندو دي طلبيرة مطرانًا لها. وبعد الاحتلال استقر أبو عبد اله في أندرش مع أتباعه وأهله مدة. لكنه أجبر بعد ذلك على التنازل عن ضياعه في البشرات، وأملاكه في غرناطة، مقابل ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف دوقة قشتالية من الذهب الخالص. وغادر البلاد في أوائل أكتوبر سنة 1493م بأهله وأتباعه، والتحق به عدد كبير من وزرائه وقواده، واستقروا معه في حاضرة فاس، عاصمة المغرب.

وهاجر عدد جم من كبار أهل غرناطة، وقوادها وفقهائها وعلمائها، وساداتها وأعيانها، وهاجر أحد قواد الجيش الأندلسي الغرناطي أبو الحسن علي المنظري إلى جنوب سبتة، واستأذن من السلطان أبي عبد الله الوطاسي إعادة بناء مدينة تطوان الخربة، فنقل إليها عددًا كبيرًا من المهاجرين الأندلسيين. واعتنق النصرانية طواعية بعد الاحتلال، جماعة من الأمراء والأعيان: الأميران سعد ونصر ابنا السلطان أبي الحسن وأمهما ثريا. والأمير يحيى النيار ابن عم أبي عبد الله الزغل وزوجه وابنه، ومعظم آل بنيغش، بما فيهم الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش، والوزير يوسف بن كماشة وغيرهم كثير(1).

ثم تحولت سياسة الدولة الأسبانية من الاعتدال إلى الغدر الفاضح ضد أهل غرناطة. وأول الغدر، تحويل مسجد غرناطة الأعظم إلى كتدرائية. ثم نظمت الكنيسة فرقًا تبشيرية لتنصير المسلمين. وفي سنة 1499م استدعى الطاغية الكاردينال سيسنيروس ليعمل على تنصير الأندلسيين بصرامة أكبر. فابتدأ فورًا بتحويل أكبر المساجد إلى كنائس، والضغط بالوعد والوعيد على وجهاء المدينة وفقهائها ليتنصروا. فقامت ثورة عارمة في حي البيازين، ثم انتقلت سنة 1500م إلى جبال البشرات بقيادة إبراهيم بن أمية. فلاحق الجيش الثوار وحاصرهم، ثم قضى عليهم بعد شهور، وقتل معظهم، واسترق أبناءهم ونساءهم. ثم قامت ثورة أخرى أواخر سنة 1500م حول بلدة بلفيق ووادي المنصورة بمنطقة المرية، فقضي عليها بنفس الهمجية والقساوة. وكذلك حصل لثوار منطقة رندة، بين يناير وأبريل سنة 1501م.

وتابعت الدولة والكنيسة سياسة التنصير القسري بإشراف الملكين الكاثوليكيين. فتم تعميد جميع الأهالي بالقوة بين سنتي 1500 و 1501م. ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس. وفي 12/10/1501م صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع مدن وقرى مملكة غرناطة. ثم صدر الأمر بمنع استعمال اللغة العربية، ومصادرة أسلحة الأندلسيين الذي أصبحوا يسمونهم بالمورسكيين، ويعاقب المخالف لأول مرة بالحبس والمصادرة، ولثاني مرة بالإعدام. فاستغاث الأندلسيون مرة أخرى بسلطان المغرب أبي عبد الله الوطاسي، وبسلطان مصر الأشرف قانصوه الغوري، وبالسطان بايزيد العثماني، دون جدوى.

ثم استعملت الكنيسة والدولة جهازًا جهنميًّا لمتابعة الأندلسيين ومحاربة كل مظاهر الإسلام في حياتهم، ألا وهو "محاكم التفتيش"(2). أسست الكنيسة الكاثوليكية هذه المحاكم في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، لتقص أخبار الناس ومتابعتهم، إن خالفوا أفكار وأعمال الكنيسة. ثم أنشئت في أديرة الفرانسسان والدومينكان، محاكم ثابتة يترأسها الأساقفة بسلطة مطلقة. فطاردت العلماء والمفكرين، وشردت وأحرقت منهم الجم الغفير. وأنشئت أول محكمة تفتيش سنة 1242م في أراغون. وسميت بالديوان القديم. وفي سنة 1459م أصدر ملك قتشالة أنريكي الرابع أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وفي 11/1478م - قبل سقوط غرناطة- أصدر البابا مرسومًا بإنشاء "محكمة التفتيش" في أسبانيا. وطالبت المحكمة الجميع بالتحول إلى جواسيس للكنيسة. وفي 2/1482م توسعت المحكمة من 3 مفتشين من القساوسة، إلى عشرة، فاستصدر الملكان الكاثوليكيان مرسومًا بابويًّا لتعيين المفتشين السبعة الجدد. وفي سنة 1483م صدر مرسوم بابوي بإنشاء مجلس أعلى لديوان التفتيش يتكون من أربعة أعضاء، أحدهم المفتش العام، رئيس المجلس، وهو توركيمادا، معترف الملكين. وكان رجلاً ظالمًا متعصبًا، لا يعرف الرحمة ولا الشفقة، مع ترف في الحياة، وفساد في الأخلاق. وخلف توريكمادا بعد وفاته سنة 1998م القس ديسا، أسقف جيان.

تبدأ "محكمة التفتيش" عملها بتبليغ شخص، فإن كان معروفًا يستدعى لتقديم شهادته التي تعتبر "تفتيشًا تمهيديًا"، تعرض نتائجه على "رهبان مقررين"، معظمهم من الجهلة المتعصبين، الذين يتجه قرارهم إلى الإدانة غالبًا. فيقبض على المتهم، ويسجن دون أن يعرف السبب، ويمنح ثلاث جلسات إنذار في ثلاثة أيام متوالية يطلب منه فيها الإعتراف بذنب لا يدري ما هو. فإذا اعترف عوقب بدون رحمة ولا شفقة. وإذا لم يعترف أو لم يدر بماذا يحال إلى التعذيب حتى يعترف بأي شيء، أو يموت تحت العذاب. وكانت ضروب التعذيب تصل إلى درجة من الوحشية لا تخطر على بال. وإذا اعترف المتهم بغير التهم الموجهة إليه، تلصق به تلك التهم على أي حال. وبعد المرافعة والاستجواب، يرفع الموضوع إلى القساوسة المفتشين، ليعطوا رأيهم من جديد تمهيدًا للحكم النهائي، الذي يكون غالبًا الإدانة. ويمكن للمتهم أن يعلن التوبة ويطلب العفو من البابا، مقابل أموال طائلة إن كانت له أموال. وإذا حكم على المتهم بالبراءة- وقليلاً ما يكون ذلك- فإنه يعطى شهادة بطهارته من الذنوب تعويضًا على ذهاب ماله وشرفه وصحته ظلمًا وعدوانًا.

أما إذا كانت الإدانة بتهمة كبيرة، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يدري مصيره، ويمر "بمرسوم الإيمان"، فليس "الثوب المقدس"، ويوضع في عنقه حبل وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة للتوبة ثم إلى ساحة التنفيذ. وهناك يتلى عليه لأول مرة الحكم: سجن مؤبد، ومصادرة كاملة للأموال، أو الإعدام حرقًا بالنار في حال "الكفر الصريح". أما إذا كانت التهمة صغيرة، فيحكم عليه بالسجن لمدة محددة، وبغرامة مالية، ويسمون ذلك "حكم التوفيق".

كانت أحكام الإعدام بالنار كثيرة ضد المسلمين، وتكون في مهرجانات عظيمة يتفرج فيها القساوسة، ورجال الدولة والأهالي، وأحيانًا الملك وكبار رجال دولته. وكان يُحرق المتهمون جماعيًّا في مواكب الموت للترهيب، وأحيانًا عائلات بأكملها، بأطفالها ونسائها، وكانت محاكم التفتيش تحاكم الموتى، فتنبش قبورهم، وتتابع الغائبين وتعاقب أهلهم، وكان أعضاؤها يتمتعون بالحصانة الكاملة. وكانوا غالبًا ذوي أخلاق سافلة، لا يتورعون عن ارتكاب الموبقات والجرائم ضد ضحاياهم. وهكذا أُخضع الأندلسيون لهذه المحاكم الإجرامية منذ إعلان تنصيرهم القسري سنة 1499م.

ولما أخمدت الثورات وألغي الإسلام رسميًّا، لم يجد الأندلسيون بدًا، أمام عجزهم عن الدفاع، وضياع أملهم في النجدة، سوى التظاهر مكرهين بقبول دين النصارى، والحفاظ على الإسلام سرًّا، يقومون بشعائره من صلاة وصيام، وتحاشي المنكرات، ويعلِّمون أبناءهم، ويفعلون ما يجبرون عليه من التردد إلى الكنائس وتعميد الأطفال. وعملوا جهدهم للتكيف مع هذا الوضع الشاذ الحرج الخطر، إلى أن يأتي الله بفرج من عنده.

وتحولت الكنيسة والدولة من أمل تنصير المسلمين الفعلي بالتبشير، إلى أمل تنصيرهم بالإكراه، والعنف، والقوة، فجددت القوانين الجائرة، والإجراءات الصارمة. ففي سنة 1508م، جددت لائحة ملكية بمنع اللباس الإسلامي. وفي سنة 1510م، طبقت على المورسكيين ضرائب خاصة اسمها "الفارضة". وفي سنة 1511م، جددت الحكومة قرارات بمنع السلاح عنهم، وحرق ما تبقى من الكتب الإسلامية، ومنع ذبح الحيوانات. وجدد ذلك في سنتي 1512م و1513. ودام الاضطهاد إلى أن مات فرناندو سنة 1516م، موصيًّا خلفه كارلوس الخامس بمتابعة سياسته نحو الإسلام.

واجه كارلوس الخامس المورسكيين بشيء من اللين في أول أمره. لكن في سنة 1523م أصدر مرسومًا جديدًا، يحتم فيه تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى التنصير، وعقاب كل من خالف الأمرين، بالرق مدى الحياة. فاشتكى المورسكيون إلى الملك من جور هذا القرار. فانتقل الملك سنة 1526م إلى غرناطة لمتابعة الموضوع، وندب محكمة كبرى برئاسة "المفتش العام" لترى فيما إذا كان تنصير المسلمين قسرًا، صحيحًا وملزمًا، أم لا. فقررت المحكمة أن لا مطعن في تنصيرهم. فأصدر الملك قرارًا بمنع خروجهم من أسبانيا، وضرورة تنصير أبنائهم، وقضى بالإعدام على كل من تنكر للنصرانية. وقرر القانون منع التخاطب بالعربية وكتابتها، وأجبر المورسكيين على تعلم الأسبانية، وأمر بهدم الحمامات، وبأن تبقى بيوت المورسكيين مفتوحة على الدوام، ليرى الجميع ماذا يجري فيها، إلخ.. فالتمس المورسكيون من الملك مرة ثانية الرأفة، ودفعوا له من أجل ذلك ثمانين ألف دوقة ذهبية(3). فوافق على تأجيل تنفيذ هذه الإجراءات لمدة أربعين سنة، مقابل دفع ضريبة سنوية. وهكذا وصل المورسكيون مع كارلوس الخامس إلى توازن، لكن محاكم التفتيش واصلت تعسفها، خاصة في سنة 1529م.

وخلف كارلوس الخامس بعد موته سنة 1555م، ابنه فليبي الثاني الذي كان متعصبًا، ضعيف الشخصية أمام الرهبان. ففي سنة 1560م منع المورسكيين من اقتناء العبيد.. وفي سنة 1563م منعهم من جديد من امتلاك الأسلحة. وفي سنة 1564م ألغى حصانة الذين يقيمون منهم في أراضي النبلاء. وفي سنة 1566م بعد مضي سنة على الاتفاق مع كارلوس الخامس، قرر تطبيق قراره بكل صرامة، وفرض على المخالفين أقصى العقوبات من السجن، والنفي والتعذيب والمصادرة والإعدام حرقًا، فأذيع هذا القانون الغاشم في جميع أنحاء مملكة غرناطة في 1/1/1567م. وتولى إذاعته موكب من قضاة "محاكم التفتيش"، تتبعهم الطبول والزمور. وبدأت الحكومة في تطبيق هذا القانون بكل صرامة، فهدمت الحمامات، وملئت السجون، وتناثرت جثث المسلمين في شوارع غرناطة وقراها. ولم تفد المورسكيين أية شفاعة. فأخذوا يفكرون في الثورة المسلحة من جديد.

أما البرتغال، فتوسعت على حساب الأراضي الإسلامية في الأندلس، من إمارة صغيرة تاسست شمال غرب البلاد. فاحتلت براغة سنة 1040م، ثم قلمرية سنة 1064م، حيث نقلت عاصمتها. ثم احتلت الأشبونة سنة 1093م فنقلت إليها العاصمة، ثم يابورة سنة 1166م، وقصر بني دانس سنة 1217م، وشلب، وجميع غربي الأندلس سنة 1249م. وبهذا استقرت حدود البرتغال على ما هي عليه اليوم. وعند احتلال الأراضي الإسلامية، صادر البرتغاليون كل أراضي المسلمين وأملاكهم، فهاجر عدد كبير منهم، واستقر بعضهم الآخر في بلادهم كمدجنين. فلما أعلنت أسبانيا أمرها بتنصير المسلمين سنة 1499م، تبعتها البرتغال سنة 1502م. فهاجر عدد منهم إلى شمال المغرب، وبقي بعضهم الآخر كمسلمين سرًّا في البلاد، ثم هاجر عدد كبير آخر سنة 1540م إلى المغرب. وبقي الباقون تحت نفس المصير الذي أصاب إخوانهم داخل الدولة الأسبانية.

ودخل عدد كبير من المسلمين تحت حكم قشتالة كمدجنين بعد سقوط طليطلة سنة 1085م، ثم مرسية، وقرطبة، وإشبيلية، في القرن الثالث عشر الميلادي، فوقع الملك الفونسو الرابع سنة 1258م، قانونًا فرض فيه قيودًا على المسلمين في كل المجالات، وشجع التنصير بينهم دون إرغامهم عليه. فثار المسلمون سنة 1261م، من شريش غربًا، إلى مرسية شرقًا، فقضى القشتاليون بمساعدة الأراغونيين على الثورة سنة 1266م. وفرقوا في مرسية يبن السكان المسلمين والنصارى، حيث ظل حي الرشاقة الإسلامية تحت حكم وجهاء بني هود إلى سنة 1308م.

وتوالت القرارات التعسفية ضد المسلمين في قشتالة في سنة 1348م و1368، و1371م، منها إجبار المسلمين على وضع شارات مميزة في ثيابهم، ومنعهم من الوظائف النبيلة، ومعاقبة المخالف بالمصادرة والسجن والتعذيب. وفي سنة 1387م فرقوا في المسكن بين المسلمين والنصارى، وأجبروا المسلمين على الركوع للصليب. وجدد القرار سنة 1388م. وفي سنة 1408م منعوا المسلمين من الأكل مع النصارى، وعاقبوا المخالفين، وقرروا إجراءات أخرى متشددة للتفريق بين الفئتين في كل المعاملات. وفي سنة 1422م أُصدر أمر بالإعدام على من يمنع مسلمًا من اعتناق النصرانية، تبعته قرارات مالية مجحفة بالمسلمين سنة 1435م، و1438م. وأصدرت الملكة إيسابيلا سنة 1476م مرسومًا تلغي فيه ما تبقى من المحاكم الشرعية، وتحدد ملبس المسلمين. وفي سنة 1480م أصدرت مرسومًا أكدت فيه استرقاق المسلمين القادمين من غرناطة، وفرقت بين سكن المسلمين والنصارى.

وفي سنة 1502م، قرر الملكان الكاثوليكيان قتل المسلمين الرافضين التنصير في قشتالة، أو طردهم خارج البلاد. كما أصدرا أمرًا بمنع مسلمي قشتالة من الاتصال بمسلمي مملكة غرناطة. ثم أصدرا أمرًا في نفس السنة بتنصير جميع مسلمي قشتالة، وليون، وإخراج من يرفض التنصير. وفي سنة 1515م أصدر الملك مرسومًا يحرم فيه على المتنصير حديثًا، في أية جهة من مملكة قشتالة، أن يخترقوا أراضي مملكة غرناطة، أو يتصلوا بأهلها، وعقوبة المخالف الموت والمصادرة.

وقع أول المسلمين في يد النصارى بمملكة أراغون، عند سقوط برشلونة ومنطقتها، سنة 960م. ثم تكاثروا بعد سقوط سرقسطة سنة 1118، وميورقة سنة 1220م، ويابسة سنة 1235م، وبلنسية سنة 1238، ومنورقة بالجزر الشرقية سنة 1286م. ضمنت معاهدة استسلام بلنسية صيانة المسلمين، وأموالهم، وعقيدتهم، ولغتهم العربية، والشريعة الإسلامية. ولكن ملك أراغون غدر بكل عهوده فور امتلاك المدينة. فصادر مساجدهم، وحولهم إلى شبه أرقاء بعد جمعهم في أحياء خاصة بهم. وفي سنة 1238م شرع الملك في قوانين مجحفة، فثار المسلمون سنة 1254م، واستولوا على عدد من الحصون بين شاطبية، ودانية ولقنت. ولم يستطع الملك من القضاء عليهم إلا سنة 1257م، بمساعدة أوروبا كلها، بأمر من البابا. ثم تتالت القوانين المجحفة الظالمة سنة 1268م. فثار المسلمون مرة ثانية عام 1276م، وحرروا أربعين حصنًا وتمركزوا في شاطبة، ودامت الثورة إلى سنة 1277م.

ثم تتابعت القوانين الظالمة سنة 1283م، تمنع المسلمين من الوظائف النبيلة.. وسنة 1301م، تزيل بعض الضمانات القانونية التي أعطيت لهم من قبل.. وسنة 1328م تجعلهم تحت رحمة الإقطاعي النصراني، وكأنهم عبيد له.. وسنة 1342م و1370م تمنعهم من الهجرة إلى غرناطة والمغرب.. وسنة 1371م و1389م 1403م تمنعهم من فداء الأسرى المسلمين، وتعاقب المخالفين بالاسترقاء. وفي سنة 1418م صدر قانون يحدد تحرك المسلمين في المملكة، ويجعل أحياء المسلمين تحت إشراف مراقب نصراني، ويمنع الآذان تحت طائلة الإعدام. وفي سنة 1428م صدر قانون يجعل القضاء بين المسلمين بين يدي الإقطاعي النصراني، وكذلك التحكم في تحركاتهم.

وبعد سقوط غرناطة، ساءت حالتهم، ولكن السادة الإقطاعيون عارضوا في إجبارهم على التنصير خوفًا على مصالحهم الزراعية. ولكن منذ سنة 1521م، ابتدأت جماعات من النصاى المتعصبين، تغير على القرى الإسلامية، وتقتل وتحرق وتسبي، دون رادع، ونصروا قهرًا عددًا كبيرًا من المسلمين. وفي سنة 1525م قررت الدولة والكنيسة في أراغون، أن الذين أجبروا على التنصير هم نصارى وجب عليهم أن يعيشوا كذلك، وإلا وجب على "محاكم التفتيش" أن تعاملهم معاملة المرتدين. ثم قرر الملك إجبار جميع المسلمين على التنصير. وبعد أن استرجع المسلمون الملك عن هذا القرار، وافق منحهم مهلة عشر سنين مقابل غرامة قدرها أربعون ألف دوقة ذهبية، وخفف عليهم إبانها شروط التنصير.

لكن اليأس دخل نفوس المسلمين، فثاروا في منطقتي سرقسطة، وبلنسية، إلى ضفاف نهر شقر. فنظمت الدولة الأراغونية جيشًا من المتطوعين النصارى من كل أوروبا لمحاربة المسلمين، وتكوّن جيش ضخم بقيادة الملك كارلوس الخامس نفسه، فقضى على الثورة أواخر سنة 1562م، فقتل الجم الغفير من المسلمين، واسترق عددًا كبيرًا منهم، وأجبر الباقين على التنصير، كما فر عدد من المجاهدين إلى الجزائر والمغرب. فتابع الباقون في البلاد حياتهم المزدوجة بين الإسلام في السر، والنصرانية في العلانية.

وعملت الدولة الأسبانية بشطريها، أراغون وقشتالة، على قطع الصلة بين المسلمين في المناطق المختلفة، خاصة بين مسلمي مملكة بلنسية ومملكة غرناطة. ففي سنة 1541م حرمت على مسلمي غرناطة النزوح إلى بلنسية، وحرمت الهجرة من بلنسية إلا بترخيص ملكي مقابل غرامة باهظة.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) مجهول "نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر"، طبع بالعرائش سنة 1940م، بتحقيق ألفريد البستاني.

(2)A.C Lea "history of the inquisition in spain" 4 volumes, New York(USA) 1906-7

(3)J. caro Baroja" Ls Moriscos del Reino de Granada" Madrid 1976
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
التشتيت وزيادة القهر (1570م-1608م)

التشتيت وزيادة القهر (1570م-1608م)

التشتيت وزيادة القهر (1570م-1608م)

ابتدأت، قبيل انهيار ثورة غرناطة الكبرى (1568-1570م) مأساة جديدة لم ير شعب مثلها؛ ففي 5/3/1570م قرر المجلس الملكي الأسباني إقصاء المورسكيين من مملكة غرناطة وتوزيعهم على قشتالة(1). وصدر أمر الملك بذلك في 28/10.. وفي 1/11، قبل استشهاد ابن عبو، ابتدأ جيش خوان النمساوي بجمع سكان القرى والمدن المورسكيين، ليقودهم بالقوة إلى أماكن تهجيرهم. وصدر القرار بمصادرة جميع أملاك المهجرين الثابتة، وسمح لهم بنقل أملاكهم المنقولة. وقد اعتقدت أسبانيا النصرانية حكومة وكنيسة، أن تشتيت الغرناطيين على أنحاء قشتالة هو الحل النهائي لإدماجهم في المجتمع النصراني.

حدد القائمون على التهجير مراكز التجمع في السبع نقط التالية: غرناطة، وبسطة، ووادي آش، والمرية، وبيرة، ومالقة، ورندة. وفي كل نقطة تجمع أساسية، عدد من النقاط الثانوية، تنكب فيها.. دامت المرحلة الأولى من التجمع أسبوعًا كاملاً، أذاق فيها الجيش أهل الأندلس صنوفًا من العذاب لا توصف. فجمع حوالي 46.000 شخص، بينما التحق آخرون بالجبال، حيث انضموا للمقاومة. ثم ابتدأت مرحلة التهجير الثانية، بنقل المهجرين مشيًّا باتجاه الشمال والغرب، في قوافل تتكون كل واحدة منها من حوالي 1500 أندلسي و 200 عسكري نصراني. تتبعها عربات تحمل أمتعة المهجرين. فمشى المهجرون تحت المطر والثلج الأسابيع المتواصلة، رغم أن جلهم كانوا من الشيوخ والنساء والأطفال، مات منهم في الطريق عشرهم، ووصل منهم 21.000 إلى البسيط، و6.000 إلى طليطلة، و22.000 إلى قرطبة، و5.500 إلى إشبيلية.

وابتدأت المرحلة الثالثة من التهجير، بالتشتيت من مراكز الوصول الأساسية الأربعة إلى مراكز ثانوية.. ثم تبعتها المرحلة الرابعة، بتوزيع المهجرين على المدن والقرى الثانوية، لتكون نسبتهم من السكان أقل ما يمكن. ولم تنته هذه العملية إلا في 20/12/1570م. ولم يبق من المهجرين بعد هذه المآسي، سوى حوالي 33.000 شخص في حالة يرثى له، من الجوع والفقر، والمرض، والبؤس. بينما مات منهم 17.000 شخص. وفي 22/11/1571م قررت الحكومة مرة أخرى تهجير الغرناطيين من مناطق الأندلس القديمة إلى قشتالة. ولم تنته عمليات تهجير أهل مملكة غرناطة إلا سنة 1574م. وهُجِّر بذلك ما مجموعه حوالي 80.000 غرناطي(2). وحيث إن عدد أهل غرناطة كان أكثر من هذا، يظهر أن الدولة عملت على القضاء على القوى الحية في المجتمع الغرناطي، بتهجيرها وتشتيتها، وليس على تفريغ مملكة غرناطة من سكانها.

وفي 24/2/1571، صدر مرسوم ملكي جديد بمصادرة أملاك الغرناطيين، المجاهدين منهم والمسالمين، المنقولة وغير المنقولة، وجعلها ملكًا للملك. وعين الملك مجلسًا لإعادة تعمير مملكة غرناطة برئاسة رئيس "محكمة التفتيش". فاستقطب 50.000 نصراني من الشمال، وزع عليهم بعض أملاك الغرناطيين. لكن حركة الاستيطان هذه فشلت، لقلة دراية المستوطنين الجدد بالزراعة. فرجع أكثرهم إلى قراهم بالشمال. بينما رجع لغرناطة عدد من المهجرين المسلمين. وبقي في غرناطة معظم مسلميها، إما متسترين كنصارى، أو مختبئين في الجبال، حيث كوَّنوا فرقًا فدائية، تزرع الرعب في أوساط الكنيسة والدولة والمستوطنين الجدد.

دامت حركة الفداء الإسلامية في الأندلس إلى أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وشملت كل مقاطعات أسبانيا، ولم تستطع الدولة القضاء على الفدائيين، الذين يسهل عليهم التمون من الأرض وسكانها، رغم مجهوداتها الضخمة؛ ففي مناطق حكم قشتالة، نشرت فرق الزريق الرعب في منطقة المرية بين سنتي 1571 و1573م، وجاهدت فرق ابن المليح في منطقة رندة بين سنتي 1573 و1576م.

ولما قررت الحكومة من جديد تهجير الغرناطيين من منطقة الأندلس القديمة، تدخلت المجالس البلدية وعارضت القرار، فلم يطبق بصفة فعلية. وتدخلت كذلك السلطات المحلية في مملكة مرسية، لمنع تنفيذ قرار إخراج الغرناطيين. ورجع عدد كبير من المهجرين، خاصة من مقاطعة جيان، إلى مملكة غرناطة، وعملت الدولة والكنيسة على مقاومة هذا الرجوع، بينما تدخلت السلطات المحلية في مملكة غرناطة في تيسيره. وتتابعت أوامر الطرد بين سنتي 1576 و1585م. وأخذت الحكومة المهجرين إلى مناجم المعدن الرهيبة، التي لم يكن يمكث العامل فيها أكثر من سنتين، ويموت بسبب أوضاع العمل السيئة.

كانت السلطات الأسبانية، الحكومية والكنيسة، تخاف خوفًا شديدًا من تجمع الأندلسين، خاصة الغرناطيين منهم، عبيدًا كانوا أم أحراراً. فهي تشتتهم كلما اجتمعوا.. ولمنعهم من الاتصال بمسلمي أراغون وشمالي أفريقيا، أخرجتهم من المدن والقرى الشاطئية. وكانت الدولة تخاف أكثر ما تخاف من اتصال المورسكيين بالدولة العثمانية.

أدى نقل الغرناطيين إلى قشتالة إلى إحياء الروح الإسلامية في الجاليات القشتالية المدجنة، وسهولة الاتصال بين كل مسلمي أسبانيا، وتقويه روح الفداء والأخوة بينهم. وعاش مسلمو قشتالة بأمل إحياء الدولة الأندلسية الإسلامية، تقوية أخبار انتصارات العثمانيين على النصارى. وعاش النصارى مع المسلمين في قشتالة في جو من الإشاعات والمؤامرات، كما حدث سنة 1580م عندما اكتشفت الدولة مؤامرة في إشبيلية تخطط لإنزال متطوعين مغاربة على مصب الوادي الكبير.

ونشطت حركة جهاد "المنفيين" في مناطق بلد الوليد، وبشترنة، وبطليوس، وأبدة، وإشبيلية بمملكة قشتالة، ومنذ سنة 1572م، أخذت الدولة تقنن اضطهاد الأندلسيين في قوانين همجية؛ فعلى أهل كل بلدة تسجيل أسمائهم وأوصافهم ونبذة عن حياتهم، لمراقبة تحركاتهم، ومنعم من التجمع في أحياء خاصة بهم. وأصدرت الدولة قوانين صارمة، لعقوبة كل من يرجع إلى غرناطة، أو يظهر عليه ارتباط بالإسلام أو ثقافته. وقررت الكنيسة أخذ جميع أطفال المسلمين لتربيتهم على تعاليمها، كما باعت عددًا منهم كعبيد للنصارى القدامى. وتابع "ديوان التفتيش" مطاردة المسلمين دون هوادة؛ ففي سنة 1591م وحدها مثلاً، سجلت وثائقه 291 قضية ضد المسلمين.

بعد أن هُجِّر أهل غرناطة، وأُضعفت مقاومتهم، انتقلت القيادة الإسلامية إلى مسلمي مملكة أراغون، فأصبحوا شغل الدولة الشاغل. وكانوا قد عاشوا عدة قرون مع النصارى كمدجنين، دون أن يقل تشبثهم بالإسلام في شيء، ورغم رفضهم المشاركة في ثورة غرناطة الكبرى. وكانت أعدادهم كبيرة، ونسبهم من بين السكان مرتفعة. وكانوا أهل زراعة، يعملون للنبلاء النصارى، ويدفعون ضرائب باهظة. وأدى جهاد غرناطة إلى تقوية الشعور الإسلامي بينهم. وكانت الدولة والكنيسة تخشيان هذا التأثير الغرناطي عليهم. وقد وجد مسلمو غرناطة الملجأ والمساندة من إخوانهم في أراغون، رغم منع الدولة الاتصال بينهم.

واغتنم بعض النصارى حرب غرناطة للهجوم على المسلمين، لسلب أموالهم، وسبي أبنائهم ونسائهم، وبيعهم كعبيد، خاصة لاجئي غرناطة. فكانوا يساقون إلى سوق النخاسة، فيجتهد إخوانهم في أراغون في شرائهم لتحريرهم. لكن الدولة منعت- عندما عرفت ذلك- المسلمين من اقتناء العبيد.

وبعد أن حرر العثمانيون تونس وحلق الوادي، من يد الأسبان سنة 1574م، زاد الرعب من إنزال عثماني في مملكة بلنسية، بمساندة المسلمين الذين كانوا يكونون ثلث سكانها، وربع سكان مملكة أراغون القديمة. فقرر الملك في 9/10/1575م منع المسلمين من سكنى الشواطئ، فأجلوا عنها. وأخذت الشائعات تنتشر بقرب تحالف ثلاثي بين المورسكيين والعثمانيين، وبروتستانت فرنسا (الهوكونو)، عندما اكتشفت شبكات اتصالات بينهم. فزادت الدولة والكنيسة من اضطهاد مسلمي أراغون، وأمرت سنة 1575م بنزع سلاحهم، لتركهم فريسة سهلة للمجرمين والمنتقمين والطامعين من النصارى.

وفي سنة 1585م اندلعت حرب أهلية بين نصارى أراغون القديمة (سرقسطة) الساكنين في الجبال، ومسلميها الساكنين في السهول، دامت إلى سنة 1588م، ثم تحول المسلمون إلى حرب عصابات دامت إلى سنة 1591م. وانتشر كذلك الفداء في مملكة بلنسية، بين سنتي 1580م و1590م. وتابعت الكنيسة حملات التنصير بطرق قمعية، تزيد شراسة كل سنة، للقضاء على العادات الإسلامية. وأصبح التنصير سلاحًا في يد الرهبان، لاستنزاف أموال المسلمين، حيث يئسوا من نقلهم إلى النصرانية. ولم ينج من متابعات محاكم التفتيش لا أقوياء المسلمين ولا ضعفاءهم. ولم يكن يدافع عنهم أحيانًا ضد تجاوزات الدولة سوى النبلاء، لا محبة فيهم، ولكن خوفًا على مصالحهم؛ لأن النبلاء كانوا يعيشون عالة على المسلمين، الذي يزرعون الأراضي ويقومون بكل المهن.

وظلت لمسلمي أسبانيا في هذه الفترة صلات وثيقة مع الثلاث جهات المعادية لأسبانيا: الدولة العثمانية، كأكبر قوة إسلامية في البحر الأبيض المتوسط؛ والمملكة المغربية، التي هي الدعم الطبيعي لمسلمي الأندلس عبر التاريخ، وهوكونو فرنسا، الذين يشاركونهم في عدواتهم للكاثوليك.

ابتدأت علاقة الأندلسيين بالدولة العثمانية منذ سقوط غرناطة، وتزايد أملهم في نصرتها لهم بتزايد قوتها. وبعد انهيار ثورة غرناطة الكبرى سنة 1570م، عملت السفن العثمانية على حمل اللاجئين، وتحول مركز المقاومة إلى بلنسية. وقدر عدد الحملات العثمانية على الشواطئ الأسبانية، بين سنتي 1528م و1584م بحوالي 33 حملة. وفي سنة 1575م توصل قضاة محاكم التفتيش في سرقسطة وبلنسية بأخبار مفادها أن المسلمين يهيئون لثورة شاملة بتأطير غرناطي، وإنزال بحري عثماني(3)، وأرسل مورسكيو سرقسطة سفارة إلى الباب العالي يطلبون المال والسلاح. وتجددت الأنباء بين عامي 1578م و1580م عن تبادل مبعوثين بين الدولة العثمانية ومسلمي بلنسية وسرقسطة. ولكن أمل المسلمين بوصول الأسطول العثماني لتحريرهم لم يتحقق قط.

أما علاقة الأندلسيين بالدولة السعدية بالمغرب فلم تكن جيدة. نعم كانت لانتصارات محمد الشيخ ضد البرتغاليين أحسن الأثر لدى الأندلسيين، فأيدوه تأييدًا كاملاً، كرجل الجهاد المدافع عن المغرب والمنقذ للأندلس. وحاول محمد الشيخ التحالف مع العثمانيين لإنقاذ الأندلسيين، لكن خوفه منهم أوقفه عن ذلك. وتحول هذا الخوف إلى خيانة أمام الغالب الذي تحالف ضمنيًا مع الأسبان ضد المصالح العليا لكل من المغرب والأمة الأندلسية، والإسلامية بصفة عامة. وخلفه المتوكل في نفس السياسة إلى أن هُزم مع حلفائه البرتغاليين، وقُتل في معركة وادي المخازن سنة 986هـ=1578م. وساند الأندلسيون أبا مروان المعتصم، إلى أن بويع سلطانًا على المغرب سنة 1576م. ثم ساندوا عبد الملك، فأصبح الأندلسيون ركنًا قويًّا من أركان دولته وجيشه. لكنه غدر بهم وتعاقد مع الأسبان في حلف ضد العثمانيين، وضد المقاومة الأندلسية.

ولم تكن معركة وادي المخازن انتصارًا للمغرب على البرتغال فحسب، بل كانت كذلك انتصارًا للمسلمين على النصارى، إذ كان الجيش البرتغالي يضم أعدادًا كبيرة من المتطوعين الأسبان وغيرهم من الأوروبيين، بينما جاهد الأندلسيون مع المغاربة ببسالة واستماتة. وبعد المعركة تابع السلطان أحمد المنصور نفس السياسة في مهادنة الأسبان ضد الأندلسيين والعثمانيين، واستعمال المهاجرين الأندلسيين في حروبه الداخلية، وفي غزو مملكة السونغاي المسلمة بتنبكتو.

ومنذ سنة 1570م أخذ مسلمو أراغون القديمة (سرقسطة) يرسلون سفراءهم إلى بيارن بفرنسا، لربط تحالف مع الهوكونو ضد أسبانيا. وفي سنة 1571م توصلت الدولة الأسبانية بأخبار مفادها قرب وقوع هجوم على السواحل البلنسية من الجزائر، مقترن بغزو لأراغون القديمة من طرف حاكم بيارن. وساند هوكونو فرنسا مسلمي أراغون القديمة في حربهم الأهلية ضد النصارى الجبليين بين عامي 1585م و1588م. وفي سنتي 1592م و1593م، انتشر الرعب في أسبانيا عندما لجأ أحد زعماء المسلمين الأراغونين إلى فرنسا. وحصل على وعد أمير بيارن، بالمساندة في حالة ثورتهم. وفي سنة 1605م اكتشف ديوان التفتيش تخطيطًا لثورة المسلمين في مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، يتزامن مع إنزال فرنسي في شواطئ بلنسية. ولكن لم يفعل الفرنسيون شيئًا لصالح المورسكيين، إذ يبدو أنهم أرادوا استعمالهم فقط لتخويف الأسبان، وخلق مشاكل لهم عند الضرورة للحصول على مكاسب منهم بأرخص الأثمان.

ولم يدخل القرن السابع عشر الميلادي حتى وصلت الكنيسة والدولة في أسبانيا إلى يأس تام من تنصير المسلمين، قبل أن ييأس الأندلسيون من تخليص أنفسهم من الاستعباد النصراني، فانهزمت الكنيسة أمام ثباتهم على الإسلام، وارتعبت الدولة منهم على ضعفهم، وقلة حيلتهم، وهوانهم على الناس، كلما اكتشفت أو تخيلت مؤامرة ضدها من طرفهم. وعندما وصل اليأس بالدولة والكنيسة إلى هذه الدرجة، أخذوا يفكرون في حل جذري لوجودهم. وانقسمت الاقتراحات إلى ثلاثة حلول: جمع جميع المورسكيين في أحياء خاصة بهم؛ أو إفنائهم، أو طردهم خارج أسبانيا.

وساند الحل الثالث أكثر رجال الدولة والكنيسة. وابتدات فكرته تتبلور منذ اجتماعات الأشبونة الكهنوتية التي حضرها الملك فليبي الثاني، بعد هزيمة النصارى في وادي المخازن على يد المغرب. وفي 4/12/1581م، كون الملك لجنة لدراسة وضع الدولة الداخلي والخارجي الناتج عن "الخطر المورسكي"، توصلت إلى توصية الملك بطرد جميع المورسكيين خارج أسبانيا. وتدارس مجلس الدولة محاسن ومساوئ الاقتراح، فرأى أعضاؤه أن معظم مساوئه اقتصادية بسبب انخفاض دخل الملك والنبلاء في حال طردهم، وسياسية بسبب احتمال حدوث اضطرابات عند إخراجهم، ودينية بسبب خسارة "أرواح المورسكيين نهائيًا للدين النصراني". ورأى أعضاء المجلس أن كل هذه المساوئ لا تساوي المحاسن التي تترتب عن الطرد، وهي أن يعم السلام والوحدة الدينية البلاد، لذا وافقوا جميعًا على مقترح الطرد. فأصدر الملك في 18/1/1585م أمرًا بطرد جميع المورسكيين في ظرف شهرين، والحكم بإعدام كل متخلف، واستثنى الأمر الأطفال من الطرد، وقرر تسليمهم للكنيسة لتنشئتهم على الدين النصراني.

ورغم القرار، تردد الملك في تنفيذه، وترك الوضع معلقًا. فعادت الكنيسة إلى أمل تنصير المورسكيين.. في 17/9/1587م أصدر مجلس الدولة توصية بإجراء حملة تنصير جديدة بينهم. ودام الوضع على هذا الحال إلى أن مات فليبي الثاني سنة 1598م، وخلفه ابنه فليبي الثالث الذي كان عكس والده منعدم الشخصية ضعيف الإرادة.

وفي 30/1/1599م عقد مجلس الدولة اجتماعًا آخر في موضوع المورسكيين، وقرر طرد الرجال الذين تفوق أعمارهم 60 سنة والنساء، وإرسال الباقين للأشغال الشاقة فوق السفن مدى الحياة، وإعطاء الأطفال دون 15 سنة للكنيسة، ومصادرة جميع أموالهم. ثم اقترح وزير الملك إعدام الرجال بين 15 و60 سنة عوضًا عن طردهم وتقوية جيوش الأعداء بهم. ولكن لم يطبق شيء من هذا القرار.

وفي 3/1/1602م، بعد فشل هجوم أسبانيا على الجزائر، اقترح مجلس الدولة طرد جميع المورسكين، ابتداء من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، ووافق بعض أعضائه على نقلهم إلى شمالي أفريقيا، شريطة الاحتفاظ بأطفالهم. ولكن ترددت الكنيسة في الموافقة على القرار، إذ رأت أن "من الفظاعة طرد رجال ونساء نصروا إلى بلاد المسلمين، وإجبارهم بذلك على الدخول في الإسلام". وأوصى البابا في رسالة في 5/1606م بالتركيز على تنصيرهم تنصيرًا جيدًا. ولم تأخذ الأوضاع مجرى جديدًا إلا بدخول سنة 1608م.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)محمد عبده حتاملة " التهجير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملك فليب" عمان الأردن عام 1982م

(2) B.Vicent"Combien de Morisques ont-ils Ete Expulses du Royaume de Grenade?" Melanges la Casa Velazques,vol.VII 1971.

(3)Raphael Carrasco "Perti Ottoman e Solidarite Morisque" Revue d''''Historie Maghrebine, No .25-26 juin 1982.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
طرد المسلمين الجماعي من أسبانيا (1608-1614م)

طرد المسلمين الجماعي من أسبانيا (1608-1614م)

طرد المسلمين الجماعي من أسبانيا (1608-1614م)

في 30/1/1608م، قرر مجلس الدولة بالإجماع طرد المورسكيين من الأراضي الأسبانية، وركز على مسلمي مملكة بلنسية فقط. ورأى المجلس ضرورة تعويض النبلاء عن طرد خدمهم بأموال المورسكيين المصادرة. وطمأن المجلس نفاقًا مورسكيي مملكة أراغون القديمة بعدم حدوث أي قرار جديد في شأنهم، وأرجأ كذلك النظر في موضوع مورسكيي قشتالة والأندلس(1).

ولم تطبق الدولة هذا القرار إلا بعد سنة كاملة؛ لأنها أرادات تخطيطه، وتهيئة الجو المناسب له. فاستشار الملك "العدالة" الأسبانية، مبررًا قرار طرد المورسكيين "لكفرهم" و"خيانتهم". أما "الكفر" فقد رفض البابا إصدار قرار بكفرهم الجماعي، فرفع الملك الموضوع إلى لجنة كنسية أسبانية، التي قررت في 3/1609م ضرورة متابعة مجهود التنصير. ولم يعجب الملك هذا القرار، فركز على موضوع خيانة المورسكيين، بسبب تآمرهم مع فرنسا والمغرب والدولة العثمانية. وقد رأى الملك أن الأوضاع الدولية مناسبة لتطبيق قرار الطرد: فالمغرب مشغول في حروبه الداخلية، والدولة العثمانية مشغولة في حربها مع الصفويين في حدودها الشرقية، وإنجلترا عقدت معاهدة مع أسبانيا، وفرنسا لن تهاجم أسبانيا بمفردها.

وهناك سبب ثالث أدى بأسبانيا إلى قرار طرد المورسكيين، وهو رعبها من تكاثرهم بالنسبة للنصارى. فهم لا يشربون الخمر، ويتزوجون، وليس فيهم كهنة ولا رهبان، ولا يلتحقون بالجيش. لذا انتشرت الشائعات أنهم يتكاثرون بسرعة، على عكس الواقع، إذ قضت الثورات على شبابهم، وأهلكت نسلهم وحرثهم.

ولما شاع خبر قرب قرار الطرد، أخذ المورسكيون القادرون يبيعون ممتلكاتهم، ويهاجرون في ظروف أفضل من الطرد القسري. فعبرت أعداد كبيرة منهم البحر إلى شمالي أفريقيا، وأخرى جبال البرت إلى فرنسا، فانزعجت الدولة من هذه الهجرة؛ لأنها أرادت أن تطرد المسلمين دون أموالهم. فقرر مجلس الدولة في 24/6/1608م أمر رجال الحدود بالتعرف عليهم، ومصادرة ما يحملون من أموال.

وقاوم أسقف بلنسية، في آخر لحظة قرار الطرد، وطالب أن يبدأ بقشتالة أولاً. لكن مجلس الدولة لم يأبه به، وفي 4/4/1609م، أصدر قرار الطرد من مملكة بلنسية "للمحافظة على أمن الدولة"، بينما أهمل الموضوع الديني كسبب في اتخاذ القرار. ووافق المجلس أن يبقى القرار سريًّا إلى أن تستكمل إجراءات الطرد. وفورًا أخذت الدولة تجمع السفن من إيطاليا في جزيرة ميورقة، وتوجهها إلى موانئ الترحيل بمملكة بلنسية. وتأهبت القوات العسكرية لكسر كل مقاومة للترحيل من طرف المورسكيين.

ولم يصل شهر غشت عام 1609م، إلا أن افتضح قرار الطرد عندما ظهرت الاستعدادات، فاختلت أوضاع مملكة بلنسية، وعم الرعب النصارى من أهلها لما توقعوه من تأثير سلبي على مجرى حياتهم، وخافوا الفقر. فتوسطوا للملك طالبين تأخير تنفيذ القرار. لكن النبلاء انقلبوا إلى مساندة القرار، عندما اطلعوا على أن بنوده تعطيهم- كتعويض لهم- أملاك المورسكيين غير المنقولة، والأملاك المنقولة التي لا يستطيعون حملها. وترك المسلمون العمل، وجلسوا في بيوتهم يهيئون أنفسهم للطرد.

وفي 11/9/1609م وقع الملك قرار تنفيذ الطرد، وأعلنه في 22/9/1609م. ابتدأ القرار بالإشارة إلى "خيانة" المورسكيين، واتصالهم بجميع أعداء أسبانيا، وفشل كل الجهود التي قامت بها الكنيسة لتنصيرهم، لذلك استقر رأي الملك على طردهم إلى بلاد البربر (شمالي أفريقيا)، وإخراجهم جميعًا من مملكة بلنسية، رجالاً ونساءً وأطفالاً، خلال ثلاثة أيام، يقبض بعدها على كل من تخلف، ويقتل كل من قاوم. وعلى مسلمي بلنسية المكوث في بيوتهم، وانتظار مسؤولي الدولة الذين ينفذون الأمر. ولا يسمح القرار للمطرودين بحمل سوى أموالهم المنقولة التي يستطيعون حملها شخصيًّا، ويقضي بإعدام من يخبئ ماله أو يتلفه. وتسلم باقي الأموال للنبلاء. ويسمح القرار بإبقاء الأطفال الذي يودون ذلك، شريطة موافقة أوليائهم، والأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات، والمورسكيين الذين برهنوا برهانًا قاطعًا على نصرانيتهم.

واختلف موقف المورسكيين من قرار الطرد. فمنهم من اعتبره فرجًا من الله، بينما رفض آخرون الخروج، وحاولوا الاختفاء. ونصح الفقهاء جماعاتهم بالصبر، وعدوا الطرد فرجًا من الله، وإنقاذًا لدينهم. فأخذت جماعات المورسكيين أهبتها للرحيل. غير أن أملهم في الخروج بسلام لم يتحقق، إذ لم يرحمهم عدوهم. وصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لا تصور، فمنع المورسكيون من بيع منتوجاتهم الزراعية التي صودرت منهم وأعطيت للنبلاء، وتكونت في الطرقات عصابات النصارى تسطو عليهم، وتجردهم مما يحملون من حلي ومال، وتقتل منهم من تشاء، شاركها الجيش في النهب والسلب والقتل. وقررت الدولة أن يدفع المورسكيون مصاريف ترحليهم، بحيث يدفع غنيهم عن فقيرهم، وأغرق أصحاب السفن النصارى كثيرًا منهم في البحر لأخذ أموالهم.

ولم يصل شهر أكتوبر عام 1609م حتى عمت موانئ مملكة بلنسية، من لقنت جنوبًا إلى بني عروس شمالاً، حركة كبيرة. فرحل بين 9/1609 و1610م حوالي 120.000 مسلم من موانئ لقنت، ودانية، والجابية، ورصافة، بلنسية، وبني عروس، وغيرها.

وعندما تعدت تجاوزات الأهالي النصارى كل حد، ووصل الراجعون بأخبار سوء معاملة النصارى للمورسكيين فوق السفن، والأعراب في شمالي أفريقيا، أدى اليأس بجماعات كبيرة منهم إلى ثورة انتحارية في القرى الجبلية. فاجتمعوا وبايعوا الطريقي، من وجهاء بلدة كتادو، أميرًا عليهم، وتحصنوا في الجبال. فأرسل الملك لملاحقتهم فرقة من الجنود الإيطاليين. وبعد مقاومة عنيفة قتل فيها العديد من الطرفين، أرغم الجوع والعطش المجاهدين في تلك الجبال الجرداء على الاستسلام، وبقي الطريقي يقاوم في ثلة منهم إلى أن قبض عليه، وعذب إلى أن مات. ثم ثار المسلمون في منطقة لقنت. فهجم عليهم الجيش الأسباني تتبعه طوائف من رعاع النصارى، الطامعين في نهب أموالهم، واستعباد أطفالهم. فأثخنوا في المسلمين قتلاً، وساقوا الناجين منهم إلى السفن عراة مجردين من كل شيء، وتفردوا بنسائهم وأطفالهم.

وفي 15/1611م صدر قرار إجرامي للقضاء على المتخلفين من المسلمين في بلنسية، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي، وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قتل. ويقدر عدد مجموع من طرد من مسلمي مملكة بلنسية بحوالي 130.000 شخص.

وبعد مملكة بلنسية، قررت الدولة الأسبانية طرد مسلمي غرناطة، ومرسية، وجيان، وباقي الأندلس، ثم قشتالة، ومنطقة بطليوس. ولم تذكر الدولة في هذه الفترة شيئًا عن مصير مسلمي أراغون القديمة (سرقسطة)، حيث كانت نسبتهم تتعدى خمس مجموع السكان. لكن هؤلاء تأكدوا من مصيرهم، لما رأوا ما أصاب إخوانهم في المناطق الأخرى، فأهملوا مزارعهم، وأخذوا يبيعون ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، ويتهيأون للرحيل. فأمر الملك بأن يمنع المورسكيين من بيع أملاكهم، ومنتوجاتهم الزراعية، ويعاقب البائع والمشتري بأشد العقوبات.

وفي 17/4/1610م وقع الملك أمره بطرد مورسكيي أراغون القديمة ونشره في سرقسطة في 29/5/1610م. يأمر القرار جميع مورسكيي أراغون القديمة، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بالخروج من منازلهم في ظرف ثلاثة أيام من نشره. والاتجاه إلى أماكن معينة. ويسمح لكل منهم بحمل ما استطاع من أمتعته وقوته إبان رحلته على كتفه. وقرر الإعدام لكل مسلم أخفى ممتلكاته أو أتلفها. وسمح ببقاء الأطفال الذين تقل أعمارهم عن أربع سنوات، شرط موافقة أولياء أمورهم. وكذلك سمح القرار ببقاء الذين برهنوا برهانًا قاطعًا أنهم نصارى. ومنع النصارى من مساعدة المورسكيين، أو إخفائهم، أو نصحهم، وحكم على كل مخالف بالأشغال الشاقة فوق السفن لمدة ست سنوات.

فجمع المورسكيون الأراغونيون في 35 نقطة، وهجر معظمهم من ميناء الفاقش بقطلونية، وعوملوا في طريقهم إلى الميناء أسوأ معاملة من طرف الجنود والحرس الذين لم يتأخروا عن الاعتداء على أشخاصهم وأملاكهم. كما أجبروا على دفع تكاليف رحلتهم، يدفع أغنياؤهم عن فقرائهم. كما هاجر عدد من المورسكيين الأراغونيين عبر جبال البرت إلى فرنسا. وقدر مجموع المطرودين من أراغون القديمة بحوالي 61.000 شخص. مرت عملية طرد مسلمي أراغون القديمة دون ثورات، لكنها مرت على المسلمين في جو من البؤس والآلام لا يوصف.

وفي نفس اليوم الذي قرر فيه الملك طرد مسلمي أراغون القديمة، قرر كذلك طرد مسلمي قطلونية، وأعلن الأمر في برشلونة. ولم يكن تأثير هذا الطرد كبيرًا على قطلونية مثل ما كان على مملكتي سرقسطة وبلنسية اللتين بقيت فيهما مناطق شاسعة خالية من السكان. ويقدر عدد المطرودين من قطلونية بحوالي 4.000 شخص. أما الجزر الشرقية فلم يكن فيها إلا قلة من المسلمين، وحاول الاستقرار بها بعضهم، ولكنهم طردوا. فيكون مجموع المطرودين من مملكة أراغون بأكملها حوالي 195.000 شخص.

وفي 9/12/1609م، وقع الملك فليبي الثالث أمره بطرد مورسكيي الأندلس، ومرسية، وبلدة فرنيش بمنطقة بطليوس، وهي المناطق التابعة لمملكة قشتالة. وفي 18/1/1610م نشر أمر الطرد في مملكة مرسية، ونص الأمر بأن يشمل كل النصارى الجدد، رجالاً ونساءً وأطفالاً، عدا العبيد والمورسكيين القدامى من أصل مرسي شرط أن يعيشوا حياة نصرانية. وعارض أهل مرسية النصارى أمر الطرد، لكن دون جدوى. وفي 8/11/1611م، أكد الملك أمره بطرد جميع من تبقى من مورسكيي مرسية، فقام نصارى مرسية بمظاهرات احتجاج دون فائدة. وفي 8/10/1613م، صدر أمر جديد بطرد مورسكيي وادي الريكوني بمرسية، وطبق بكل صرامة. ويقدر عدد المطردوين من مملكة مرسية بـ 22.000 شخص.

ونص قرار 9/12/1609م على بلدة فرنيش بالذات بمقاطعة بطليوس، وكان عدد سكانها حوالي 5.000 نسمة، من المسلمين المدجنين. وكانوا منظمين تنظيمًا جيّدًا، استطاعوا بسببه السيطرة على تجارة الطرق بالمنطقة. فنقل المهجرون منهم، وعددهم حوالي 3.000 شخص عبر ميناء إشبيلية. كما هجر حوالي 5.000 شخص من باقي منطقة الاسترامادور. فيكون مجموع من هجر من الاسترامادور حوالي 8.000 شخص.

وحاول المسؤولون المحليون والأهالي في الأندلس منع طرد المسلمين، كما حدث في مملكة مرسية، مما يدل دلالة قاطعة أن معظمهم ينحدر من أصول إسلامية، ويضمرون العطف لإخوانهم في محنتهم. مع ذلك اتخذ الملك قرار الطرد في 9/2/1609م، ولم يعلنه بإشبيلية إلا في 12/1/1610م. ونص القرار على "أن الملك حدد فترة ثلاثين يومًا لكي يبيع المطرودون أملاكهم، ويتهيأون للإبحار". ويقدر عدد من طرد، ومن هاجر مباشرة قبل الطرد، من منطقة الأندلس، بحوالي 52.000 شخص.

وفي 28/12/1609م وقع الملك أمرًا بإخراج مورسكيي قشتالة -القديمة والجديدة- والمانشا والاسترامادور، فورًا. فطرد بعضهم إلى فرنسا عن طريق برغش، وآخرون إلى الجزائر عن طريق قرطاجنة. وتكررت أوامر الطرد بعد ذلك. ويقدر مجموع من طرد من هذه المنطقة بحوالي 50.000 شخص. وبهذا يكون مجموع من طرد من المسلمين من أسبانيا في الحقبة بين سنتي 1609م و1614م بحوالي 427.000 شخص، منهم 195.000 شخص من مملكة أراغون، و132.000 شخص من مملكة قشتالة.

وفي 25/3/1611 خرج الملك فليبي الثالث على رأس رجال الدولة، في أحسن أبهة، مرتديًّا الألبسة البيضاء، وقام بمسيرة "شكر لله" على انتهاء عملية الطرد بسلام.

وقد استقر معظم المهجرين بالمغرب والجزائر وتونس. وانتقل الآخرون إلى البلاد الإسلامية الأخرى عبر فرنسا. ويقدر عدد الأندلسيين الذين دخلوا المغرب في هذه الفترة بحوالي 60.000 شخص، معظمهم من غربي الأندلس، برزت منهم شخصيات كأحمد بن قاسم الحجري، ترجمان السلطان مولاي زيدان السعدي، وأبي القاسم الوزير بن محمد الغساني، طبيب، والسفير بن يوسف بسكيانو، وأحمد بن معيوب، وغيرهم كثير. استقر نصف المهجرين في المناطق الشمالية كتطوان، وشفشاون، والقصر الكبير، والقرى والبوادي المجاورة، واستقر حوالي 10.000 أندلسي في مصب وادي أبي رقراق، حيث أعادوا تعمير مدينة الرباط، واستقر حوالي 10.000 منهم في فاس، وتوزع الباقون على أنحاء المغرب وقراه، وأفادوه بخبراتهم ورجالهم في الأعمال العسكرية والمدنية. ودافع مولاي زيدان عن حقوق المهجرين، وأرسل السفارات من أجل ذلك إلى الدول الأوروبية. ولم يستقبل المغاربة اللاجئين الأندلسين استقبالاً جيدًا إلا في فاس وتطوان، حيث كانت بهما جالية أندلسية قديمة وكبيرة ذات نفوذ.

ويقدر عدد من هاجر في هذه الفترة إلى الجزائر، بحوالي 65.000 شخص، معظمهم من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، وبعضهم من مرسية، استقر منهم حوالي 25.000 شخص في العاصمة. وقد استقبلتهم السلطات العثمانية أحسن استقبال، وكذلك أهالي المدن الكبيرة كالجزائر، وتلمسان وبجاية، ومستغانم، لكن أعراب البوادي عاملوهم أسوأ معاملة، إذ قتلوا منهم عددًا كبيرًا على فقرهم، وسلبوا قوافلهم، مما اضطر السلطات العثمانية وعلماء البلاد، إلى مقاومة هذه الجرائم أقوى مقاومة. وقد انعشت هذه الهجرة الزراعة والصناعة في الجزائر.

ويقدر عدد الذين استقروا في تونس بحوالي 50.000 شخص، معظمهم قدم من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة عن طريق فرنسا. توزعوا بمساندة السلطات العثمانية في ضواحي العاصمة، والوطن القبلي، ووادي المجردة، ومنطقة بنزرت. وقد حمتهم السلطات من هجوم الأعراب، وأعطتهم الاستقلال الذاتي في تصريف أمورهم، وأعفتهم من الضرائب لمدة كافية لاستقرارهم. وأسس الداي عثمان -داي تونس آنذاك- منصب "شيخ الأندلس"، كرئيسهم المنتخب من بينهم. وكان تأثير الهجرة على تونس جيدًا جدًّا، إذ أعادت تعمير مناطق خالية، وأحيت المهن والزراعة.

وهكذا يقدر عدد مجموع المهجرين الذين استقروا في شمالي أفريقيا في هذه الفترة بحوالي 180.000 شخص.

وانتقل عدد من الأندلسيين، معظمهم من مملكة أراغون، عبر فرنسا وإيطاليا إلى الأراضي العثمانية والمشرق. وتدخل السلطان العثماني أحمد الأول مع حكام فرنسا وبريطانيا والإمارات الإيطالية، لتسهيل انتقالهم إلى أراضيه. فاستقر بعضهم في البسنة، وبعضهم بسلانك، وآخرون بالقسطنطينية، حيث عمروا حي كلاطة، ومنهم من توجه إلى بلاد الشام، خاصة دمشق والساحل اللبناني. ويقدر عدد المستقرين بالأراضي العثمانية الأوروبية والآسيوية بحوالي 40.000 أندلسي. وقد هاجر حوالي 10.000 أندلسي إلى البلدان النصرانية في أوروبا، خاصة فرنسا وأمريكا.

وهكذا وصل حوالي 230.000 شخص إلى مهاجرهم، بينما مات 65.000 منهم غرقًا في البحار، أو قتلاً في الطرقات، أو ضحية المرض والجوع والفاقة، ورجع إلى الأندلس حوالي 32.000 من بين المطرودين.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Boronat y Barranchina"Los Moriscos Espanoles"Valenica,1901 2 Violumes.
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
استمرار الوجود الإسلامي الأندلسي في القرنين 17و18

استمرار الوجود الإسلامي الأندلسي في القرنين 17و18

استمرار الوجود الإسلامي الأندلسي في القرنين 17و18

وامتدت التجاوزات الرسمية ضد المورسكيين المتخلفين بضع سنوات. وفي 19/4/1614م، وزع الملك أمرًا على نوابه في جميع مقاطعات أسبانيا(1)، يقول فيه: إن عملية طرد المورسكيين قد انتهت، ولن يقبل في المحاكم من اليوم فصاعدًا أي موضوع للمورسكيين، عدا ملفات الراجعين الذين يجب أن يعاقبوا بكل صرامة، ويعدم كل من طرد بعد القبض عليه، وعودته مرة أخرى.

وقد بين هذا القرار حرص الدولة الأسبانية على إنهاء موضوع الطرد، والتركيز على متابعة المورسكيين الذين رجعوا بعد طردهم. فتجددت حملة مطاردة المورسكيين خاصة في منطقة طرطوشة بقطلونية، ومملكة أراغون بصفة عامة. وتتابعت الأوامر الحكومية بين سنتي 1614 و1621م، تأمر الحكام المحليين بالبحث عن المورسكيين الراجعين ومتابعتهم.

وفي سنة 1621م هلك فليبي الثالث وخلفه ابنه فليبي الرابع، الذي لم يهتم بموضوع المورسكيين كثيرًا. لكنه توصل بتقرير من مفتش الأملاك الملكية في قطلونية وتوابعها، في 22/10/1621م، مفاده أن عددًا كبيرًا من المورسكيين قد رجعت إلى ممالك أراغون، بلنسية، وسرقسطة، وقطلونية، وأن كثيرًا منهم لم يخرج أصلاً، وأنهم يعيشون في سلام وطمأنينة، تحميهم شخصية ذات نفوذ، ويطالب الملك بالعودة إلى الصرامة ضدهم. لكن الملك لم يأبه بهذه الشكوى ولا بغيرها، ولم يعد يرى في وجود المورسكيين في أسبانيا خطرًا يذكر.

وفي سنة 1623م أعلن "الكورتس" بأنه قد ارتكبت تجاوزات بحجة رجوع بعض المورسكيين، ويأسف للاهتمام الذي أعطى لبعض هذه الحجج، لذا يرجو من الملك إنهاء هذه الأمور من الآن فصاعدًا، بما فيها التحقيقات المعلقة. فأجاب الملك بضرورة كتابة رسائل للولاة لمطالبتهم بالتساهل. فعاد "الكورتس" سنة 1624م مطالبًا بإنهاء هذا الموضوع تمامًا بمرسوم ملكي.

فأجاب الملك بأنه من غير المناسب إجراء قانون خاص، ولكن من الأنسب أن تؤمر المحاكم بعدم قبول اتهامات جديدة في شأن المورسكيين، وأن يتابع المورسكيون عند الضرورة كمتسكعين، وليس كمورسكيين.

وركزت التقارير المناهضة للمورسكيين على منطقة قلعة رباح بقشتالة الجديدة، وبلدة إشبيلية. ففي سنة 1625م نشرت بلدية إشبيلية تقريرًا حول مسلمي منطقتها، الأحرار والعبيد، يشير إلى "عدد كبير" منهم يعيشون في جماعات في المزارع المجاورة للمدينة. ويتهم التقرير المسلمين بسرقة الأطفال لتربيتهم تربية إسلامية.

لكن الملك أراد أن يطوي هذا الموضوع، فأصدر قرارًا سنة 1626م، يمنع فيه "الإساءة إلى المورسكيين الذين بقوا في البلاد، وأن لا يسبب لهم أي ضرر ما داموا يعيشون في مناطق تبعد عشرين فرسخًا عن السواحل البحرية"(2). ورغم هذا القرار لم تنس الدولة الأسبانية موضوع المورسكيين نهائيًا، ففي سنة 1634م، أرسل مسؤول تقريرًا عن منطقة مرسية، قال فيه: بأن مدن المنطقة وقراها مليئة بهم، وأنهم على اتصال بمورسكيي بلنسية. فطالب مجلس الدولة مطران قرطاجنة (ميناء مرسية) بمراقبة المورسكيين، وبالتأكد بأنهم نصارى، فوافق الملك على التوصية، ولم يعد أحد يزعج المورسكيين في مملكة مرسية. وفي 20/9/1712م، اتخذ مجلس الدولة آخر قرار في حق المورسكيين، يأمر فيه "بطرد المسلمين الفوري إلى شمالي أفريقيا". ولكن لم يطبق القرار إلا في حالات محدودة.

قلت ملاحقة محاكم التفتيش للمسلمين سنة 1609م، بعد أن استخلصت جميع أموالهم، وأنزلتهم إلى أدنى مستوى من الاستعباد والفقر. ولكنها لم تنسهم قط؛ ففي سنة 1616م طلب ممثل تلك المحاكم في دانية وبلنسية، تعليمات حول معاقبة المورسكيين المستعبدين الذين يخططون للفرار لبلاد المسلمين. وحكمت المحكمة في سنتي 1620 و1625م على مورسكيين بتهمة تعاطي السحر. وفي 3/10/1625م، أعدمت محاكم التفتيش بإشبيلية شنقًا مورسكيًا بمحضر جم غفير من المتفرجين. وفي 17/11/1625م حكمت على مورسكي مستعبد بمائتي جلدة، ثم الخدمة أربع سنوات فوق السفن، ثم السجن المؤبد؛ لأنه ألصق معلقًا على باب كنيسة.

وفي سنة 1633م، تابعت محاكم تفتيش كوكنة مورسكيًا من العائدين بعد الطرد، واضطهدت عائلته لمدة سنتين. وفي سنة 1667م، حكمت محكمة بلدة المعدن على مورسكي بالجلد؛ لأنه سخر من القداس. وفي سنة 1680م أحرق رجل من قادس حيًّا في حفل رهيب بمجريط لاتهامه بالارتداد عن النصرانية واعتناق الإسلام. وفي سنة 1689م تابعت محاكم تفتيش قرطبة عدة مستعبدين، وقررت إخراجهم من المدينة لاتهامهم بالإسلام. وقبضت محاكم التفتيش في القرن السابع عشر على ما لا يقل عن 177 نصرانيًّا اعتنق الإسلام، وهاجر إلى بلاد المسلمين، ثم رجع لمحاربة أسبانيا(3).

ورغم اتهام محاكم التفتيش للمورسكيين بتزوير صفائح الرصاص التي وجدت بغرناطة، تعلق بها أهل غرناطة ورهبانها، وقدس المكان الذي اكتشفت فيه حتى أصبح مزارًا لهم، رغم أن باباوات روما شجبوا، بها ونقلوها إلى روما في سنة 1682م.

وظلت محاكم التفتيش تتابع المسلمين في القرن الثامن عشر. فقد ذكر الرحالة الإنجليزي سونيبورن: أن محاكم التفتيش تابعت سنة 1724م "بقايا الأمة الأندلسية"، وطردت منهم جماعة(4). ونقل تاوسند، رحالة إنكليزي أخر: أن محاكم تفتيش غرناطة حكمت سنة 1726م على ما لا يقل عن 1800 شخص (360 عائلة) بتهمة اتباع الإسلام سرًّا(5). وتدل هذه الأعداد الضخمة على وجود كثيف للمسلمين في العواصم الأندلسية في القرن الثامن عشر.

ونقل كاتب أسباني آخر، أخبار محاكمة أخرى وقعت في غرناطة سنة 1727م. وفي 9/5/1728م، احتلفت غرناطة بـ"اوتودافي" ضخم، حيث حكمت محاكم التفتيش على 46 غرناطيًّا بتهمة الانتماء للإسلام. وتبرهن لائحة المتهمين، على انتشار الإسلام سرًّا بين الطبقة الوسطى في المجتمع الغرناطي، من صناع وتجار وموظفين، وأصحاب مهن حرة، رغم القتل والسبي والطرد والتهجير والتشريد، والمصادرات المتواصلة التي كانوا ضحيتها لما يقرب من القرنين والنصف. وأصبحت بعض الأسماء الأسبانية كـ"مندوسة" شعارًا للعائلات المسلمة.

وفي 10/10/1728م، حكمت محكمة غرناطة مرة أخرى على ثمانية وعشرين شخصًا بتهمة الانتماء للإسلام، وصادرت أموالهم. وتابعت محاكم غرناطة القبض على المتهمين بالإسلام، إلى أن طلبت بلدية المدينة من الملك، سنة 1729م، طرد كل المورسكيين حتى تبقى المملكة نقية من هذا "الدم الفاسد". وفي سنة 1769م، تلقى ديوان التفتيش معلومات عن وجود مسجد سري في مدينة قرطاجنة (مقاطعة مرسية)، مما يدل على وجود تنظيمات سرية للمسلمين إلى هذا التاريخ(6).

ومن دلالات استمرارية الوجود الإسلامي، استمرار أمل كثير من أهل الأندلس في الثورة والاستقلال، ومحاولتهم الحصول على سند من الخارج من أجل ذلك. وفي 9/2/1624م، تقدم مجلس الدولة بتقرير من مدينة غرناطة عن عائلتين من أصل مورسكي، كويار ومدريد، يعمل أفرادها في صناعة الحرير، تتهم أفراده بإقامة علاقات مع مسلمي شمال أفريقيا. لكن بعد التفتيش والبحث، قررت المحكمة أن الاتهامات مجردة من أي دليل.

وفي سنة 1640م انفصلت البرتغال عن أسبانيا بعد أن أدمجت فيها بعد هزيمتها في وادي المخازن. وفي سنة 1748م نشبت ثورات في أراغون، وانتشرت المجاعات، وعمت الفوضى كل البلاد، خاصة الأندلس، حيث سيطرت الكنيسة والعائلات الوافدة من الشمال على خيراتها، بينما أصبحت جماهير المنحدرين من أصول إسلامية، تعيش حياة الجوع والمرض والحرمان. وأجج انفصال البرتغال أمل الأندلسيين في الانفصال كذلك. وكان لملك البرتغال المنفصل علاقات وثيقة بالأندلسيين، إذ كانت زوجته منهم، وهي أخت دوق مدينة شذونة، القائد العام للأسطول الأسباني في المحيط الأطلسي، والشواطئ الأندلسية، ففكر الدوق في تحرير الأندلس، وإعلان نفسه ملكًا عليها. واتصل المتآمرون بأمير مورسكي من ذرية سلطان غرناطة أبي عبد الله الأيسر، كان يسكن جبال قادور شمالي مدينة المرية، فانضم إلى المؤامرة تحت اسم طاهر الحر، على أن يكون ملكًا على شرقي الأندلس. فسانده دوق شذونة، ووعده أندلسيو المغرب بإرسال جيش منهم للمساهمة في الثورة(7).

لم يكتب لهذا المشروع النجاح بسبب وقوع خيانة في صفوف الثائرين. فاستجوب دوق مدينة شذونة، وأعدم ماركيز أيامنتي أحد زعماء المؤامرة الأندلسيين، وصودرت أملاك الدوق في شلوقة بمقاطعة قادس، واضطر إلى إعلان توبته. وبقي طاهر الحر وحده متزعمًا للثورة، فاتجه إلى منطقة اشتبونة (مقاطعة مالقة) لاستقبال القوات الأندلسية من المغرب، فوقع في فخ النصارى وقتل, وانتهت باستشهاده آخر محاولة تحرير أندلسية. وعلم طاهر الحر هو اليوم علم منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي.

ولم تستقر الأوضاع في الأندلس. فمنذ سنة 1644م أخذت العامة تتعرض لقوافل الفضة القادمة عبر ميناء إشبيلية من أمريكا الجنوبية في طريقها إلى مجريط، وتوزع حمولتها على الفقراء. وفي سنة 1650م اكتشفت الحكومة مؤامرة لثورة شعبية، واتهمت المورسكيين بتنظيمها، والتخطيط لها، وحكمت على مدبريها بأحكام متفاوتة، ومنهم أربعة بالإعدام بعد التعذيب، وواحد بالإعدام بالسيف.

ثم اشتعلت قرطبة، بعد أن سفك طاعون سنة 1649م بأهلها، وتلاه قحط في المحاصيل الزراعية، ومجاعة شاملة. ففي 6/5/1652م اندلعت ثورة شعبية ابتدأتها نساء المدينة، ثم انضم لهنَّ رجالها، فانتخبوا رجلاً من بينهم حاكمًا على المدينة. وفي 2/7/1652م أنهى الملك الثورة بعد مفاوضات عفا فيها على جميع المشاركين في الثورة.

وفي 22/5/1652م تمردت إشبيلية ضد تسلط النبلاء على ماء الري، وضد الغلاء والفقر، فهجم أهلها على بيوت النبلاء، وعلى رهبانها، ومطرانها وحاكمها، وطالبوا بحقوقهم السياسية والاجتماعية. ولم تسيطر الحكومة على الوضع إلا في 30/5/1652م بمساعدة الجيش، فأعدمت خمسة من زعماء الثورة، وعاقبت المئات الآخرين بالتجذيف فوق السفن. وقد تزعم هذه الأحداث الدامية المنحدرون من أصول إسلامية، الذين ظلوا يكونون أكثرية أهل الأندلس المعذبين تحت استغلال الكنيسة ورجالها، وتسلط النبلاء النصارى. وبزغت نتيجة هذه الحركات الثورية، بوادر هوية جديدة للشعب الأندلسي المعاصر، الذي لم يعد الإسلام في أرضه إلا ذكرى طيبة، أو انتماء مستور في الأعماق.

وقد زار الأندلس في القرنين الميلاديين السابع عشر، والثامن عشر، عدة رحالة مسلمين ونصارى، كتبوا مرئياتهم وشهاداتهم بالوجود الإسلامي المستتر، والمتواصل في الأندلس. ففي سنة 1660م لوحظ في سجلات كنيسة إحدى المدن البلنسية، وجود عبارة "نصراني جديد"، بكثرة أمام أسماء المواليد الجدد.

وفي سنة 1690م أرسل السلطان مولاي إسماعيل العلوي، سفيره الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني، إلى ملك أسبانيا لمعالجة موضوع افتكاك الأسرى(8)، فباح له عديدون من أهل منطقة الأندلس بأصولهم الإسلامية، أو أخبروه بالانتماء إلى الإسلام: في البريجة، وأطريرة، ومرشانة بمقاطعة إشبيلية، وفي أندوجر بمقاطعة جيان. وقال الغساني: إنه كان يفتخر بعضهم بأصله الإسلامي، ويبرأ آخرون منه مدعين النسبة إلى نبارة. ولم يعثر الغساني على الوجود الإسلامي إلا في الأندلس، وجريط حيث سمع من أهل الأندلس انتقادًا مرًّا لقرار طرد سنة 1609م. ولو مر الغساني بمناطق أخرى من الأندلس الطبيعية، لخرج بنفس الانطباعات التي وجدها في منطقتي إشبيلية وجيان.

وفي سنتي 1766 و1768م، أرسل سيدي محمد بن عبد الله، سلطان المغرب، سفيره أحمد بن المهدي الغزالي الأندلسي المالقي، إلى ملك أسبانيا للتفاوض في إطلاق سراح الأسرى(9). فلاحظ العطف على الإسلام وأهله، وأحيانًا الاعتراف بالانتماء إليه، في مقاطعة إشبيلية (أطريرة، وبلاسيوس، وبلافرانكا، وقرمونة، وإشبيلية) ومقاطعة جيان (أندوجر)، ومقاطعة غرناطة (لوشة وغرناطة)، ومقاطعة مرسية (لورقة)، ومقاطعة لقنت (لش). وقال عن أهل لوشة: "فهم على قدم غرناطة في الميل للمسلمين، والمحبة الدالة على أن فيهم عرقًا يشير للإسلام بالخصوصية، رجالاً ونساءً وصبيانًا، بزيادة على غيرهم.. فمنهم من يشير إشارة خفية، ومنهم من يجهر بذلك".

وفي سنتي 1775 و1776م زار الأندلس الرحالة الإنجليزي هانري سوينبورن(10). وبعد أن ذكر إجراءات محاكم التفتيش سنة 1724م ضد من تبقى من المورسكيين في الأندلس، تعرف في حاضرة غرناطة على عدة عائلات من أصول إسلامية.

وفي سنة 1779م أرسل السلطان سيدي محمد بن عبد الله، سفيره محمد بن عثمان المكناسي، إلى ملك أسبانيا لافتكاك الأسرى. فلقي عددًا ممن أعلنوا له أنهم مسلمون في لوشة وفي غرناطة نفسها، حيث قال: "وبهذه المدينة من بقايا الأندلس شيء كثير، فمنهم من ينتسب، ومنهم من لا ينتسب".

وفي سنتي 1786 و1787م زار الأندلس الرحالة الإنجليزي جوزف تاوسند(11). وقال ناقلاً عن قاضي محكمة التفتيش بغرناطة آنذاك: " وفي يومنا هذا يعتقد الجميع أن كلا المسلمين واليهود كثيرون في أسبانيا؛ فالمسلمون يعيش أكثرهم في الجبال، واليهود في المدن الكبيرة. وهما يختفيان اختفاء كاملاً". وأكد ذلك جوزف بورو سنة 1787م، حيث قال: "إن عدد اليهود والمسلمين لا يزال كبيرًا في أسبانيا، فالمسلمون لجأوا إلى الجبال، بينما لجأ اليهود إلى المدن الكبرى"(12) .

وأكد الرحالة الذين زاروا الأندلس في القرن التاسع عشر نفس الملاحظة، منهم: رحالة إنجليزي زار الحامة (مقاطعة غرناطة) سنة 1809م، والكاتب منيانو، زار أجيجر، معقل المجاهدين في جبال البشرات سنة 1828م، وفورد زار أجيجر كذلك سنة 1847م. هذا عدا أسماء العائلات المشهورة في أسبانيا، والدالة على أصول إسلامية، كالزكري، وابن النجار، وابن أمية، وابن جمعة، وبنيغش، وغيرها كثير.

تكلم عن المورسكيين وما آلوا إليه، عدد من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين في القرن الثامن عشر، كالفرنسيين فولتير، وديدور، وراينال.

وهرب عدد كبير من المورسكيين من المدن والقرى بعد قرار طرد سنة 1609م، وانضموا إلى جماعات الغجر الرحل، مما جعل عددًا كبيرًا من هؤلاء اليوم من أصول إسلامية. وهذا يفسر أصل غناء "الفلامنكو" الذي يعد غناء مورسكيًا.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Jaime Bleda "Coronica de los Moros de Espana" Valenica 1918.

(2)A. Dominguez Ortiz "Felipe IV y los Moriscos"MEAH ,Ano VII ,No,8

(3)B.Bennassar et L.Bennassar "Les Chretiens d''''Allah" Perrin, Paris, 1989

(4)H.Swinburne "Travels Through Spain in the Years 1775-1776

(5)J.Towsend "A journey Through Spain in the years 1786-1787"3 Volumes.

(6)H.C Lea" The Moriscos of Spain, thier Conversion and Expulsion" London ,1901,New York,1968.3 Volumes.

(7)F. Repiso "Simboles y Derechos Andaluces"Sevilla,1980

(8)محمد بن عبدالوهاب الغساني"رحلة الوزير في افتكاك الأسير" مخطوط الخزانةالحسنية بالرباط عدد 11329

(9) أحمد بن المهدي الغزال "نتيجة الاجتهاد في المهادنة و الجهاد "تحقيق إسماعيل العري بيروت 1980.

(10)H,Swinburne "Travels Through Spain in the years 1775-1776

(11)محمد بن عثمان المكناسي "الأكسير في افتكاك الأسير"تحقيق محمد الفاسي الرباط 1965م.

(12)George Barrow "Los Ziincoli"Turner ,Madrid 1979
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
تكوين القومية الأندلسية في القرنين 19و20

تكوين القومية الأندلسية في القرنين 19و20

تكوين القومية الأندلسية في القرنين 19و20

قضى طرد سنة 1609م للنخبة المورسكية، على تنظيمها الذي حافظ على الإسلام في الأندلس لمدة مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة، فاندثر ظاهرًا، وبقي حيًّا في القلوب، التي لم تنجح الكنيسة والدولة في تحويلها إلى ما أرادته، كاثوليكية الديانة، أسبانية الهوية. بل تكونت هوية جديدة في المجتمع الأندلسي، وهي القومية الأندلسية المعاصرة، ذات الجذور الإسلامية الواضحة. أما خرافة تبديل سكان الأندلس بآخرين من الشمال بعد الطرد، فقد بينت البراهين التاريخية، والواقع المشاهد، أن لا أساس لها من الصحة.

فهندسة البناء والحدائق وتخطيط المدن وأسوارها، والقرى والقلاع الشاهقة، والمساجد المحولة إلى كنائس، والكنائس المبنية على شكل مساجد، والقصور القديمة والجديدة، كلها تشهد بتواصل الحضارة الأندلسية المعمارية.

وأهم تأثير باقٍ، هو في الإنسان الأندلسي الذي لم تتغير سماته وأوصافه ودمه وموقفه من الإسلام بالمحبة، ومن الكاثوليكية التي أُجبر عليها بالكراهية. فمنذ سنة 1609م ظلت الأديرة والكنائس، الهدف الأول لثورة الشعب عند الفتن. بل حتى التراث الصوفي الأندلسي المتظاهر بالنصرانية، بعد سقوط غرناطة، هو تراث ذو منزع إسلامي(1). كما بقي الإسلام حاضرًا في أبسط عادات الأهالي وتصرفاتهم، ويلاحظ ذلك اليوم في القرى والمدن الأندلسية في شعاراتها، والكتيبات التي تنشرها، خاصة في البشرات، وجبال بني طوميز، حيث طالت مقاومة المسلمين.

وأُجبر الأندلسيون على ترك لغتهم العربية، فانقرضت في القرن الثامن عشر بعد مقاومة طويلة، لكن ظل تأثيرها على اللغة القشتالية التي أُجبروا عليها، مما أدى إلى تكوين لهجة أندلسية خاصة، ورثت عن العربية مفردات جمة، ومخارج الحروف، وتركيب الجمل، لدرجة لخصها أحد الأندلسيين المعاصرين بقوله: "كان ذلك (أي فرض القشتالية) كما لو أُجبرنا على لبس حذاء غير مناسب وصغير، مما ضيق علينا جدًّا. فتحول الحذاء مع الأيام وتبدل إلى أن وصلنا من نظام تفاهم مفروض، وعدم ملائم، إلى نظام يتناسب أكثر مع خصوصيتنا"(2).

وبرز الأندلسيون المعاصرون في نفس مهن أجدادهم، كالنجارة وصناعة الحرير والخزف، وذلك في نفس المدن والقرى التي اشتهرت بها. كما بقي طابع اللباس والصناعات المتصلة به إسلاميًّا في البشرات وغرناطة، إلى آخر القرن الماضي. والأمثلة التي تدل على استمرارية الوجود الإسلامي وتأثيره في الأندلس كثيرة.

وظهرت براعة الأندلسيين في الماضي والحاضر، في زراعة أشجار الفواكه، وتزيين الحدائق. كما بقي شعور نصارى الشمال السلبي نحو المجتمع الأندلسي، الناتج عن الاحتلال. فهم ينعتونهم إلى اليوم بكلمة "مورو" (مسلم)، كشتيمة، ويتهمونهم ظلمًا بالتواكل والكسل، وحب اللهو، كما يتهمون بذلك باقي الشعوب الإسلامية. وطريقة توزيع الأراضي في الأندلس المعاصرة هي أكبر شاهد على استمرارية الأمة الأندلسية عبر محنها. فبعد سقوط مدن الأندلس ومقاطعاتها، صودرت الأراضي ووزعت على الكنيسة والنبلاء القادمين من الشمال النصراني، وبقي هذا الوضع إلى اليوم. ويعمل مالكو الأرض الجدد على استغلالها واستثمارها عبر خدامها الأندلسيين، ثم ينقلون أموالها إلى مناطق أخرى من أسبانيا لبناء المصانع والاستثمارات الأخرى. لذا لا يزال لليوم اقتصاد منقطة الأندلس استعماريًّا، تصدر فيه المواد الأولية المعدنية والزراعة، إلى باقي أسبانيا، ثم تستورد منها مصنوعة بأغلى الأثمان. فتصدر بذلك الأندلس أعمال أبنائها الذين يضطرون إلى الهجرة للعمل في أحط المهن. وأصبحت السياحة الجماعية من أهم أنشطة الأندلس، فشوهت سواحلها وثقافتها، ونشرت الصناعات الملوثة الخراب والمرض في كثير من مناطقها.

ظل الانتماء الأندلسي دفينًا في النفوس، دون تعبير واضح، إلى أن غزت جيوش نابليون الفرنسية أسبانيا سنة 1808م وعاثت فيها فسادًا. فانهارت أمامها مقاومة الملك والدولة في مجريط، وتركوا البلاد لمصيرها. فثار أهل الأندلس في قادس ضد الغزو الفرنسي كأندلسيين. وفي 14/7/1808م استسلمت لهم البحرية الفرنسية. وفي 19/7/1808م كسبت المقاومة الأندلسية معركة مصيرية في بايلن (مقاطعة جيان) ضد الجيش الفرنسي. وفي 17/12/1808م تكونت حكومة سرية في إشبيلية تحت اسم "المجلس الأعلى المركزي". وأعلن الثوار في قادس في 19/3/1812م دستورًا جديدًا لأسبانيا كمملكة دستورية، حددوا فيه سلطات الكنيسة والملك، وقرروا الديمقراطية في المعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب الأسبانية. واعترف الدستور لأول مرة بالأندلسيين كإحدى الشعوب الأسبانية ذات الشخصية المميزة. وظل دستور قادس مطلب الحركات التصحيحية في أسبانيا طوال القرن التاسع عشر.

وبعد خروج الفرنسيين، ألغى الملك -الذي عاد في سبتمبر عام 1812م- دستور قادس، وأُرجعت أسبانيا إلى استبداد الملك والكنيسة. وفي 1/1/1820م ثار أهل مقاطعة أشبيلة، وطالبوا العودة إلى دستور قادس. ثم عمت الثورة كل الأندلس، واضطر الملك إلى قبول دستور قادس. لكنه لم يكن مخلصًا في قراره، فاستغاث بفرنسا التي أرسلت له قوة غزت أسبانيا تحت صرخات "عاش الدين! عاشت محاكم التفتيش! عاش استبداد الملك!". وفي 3/10/1823م ألغى الملك دستور قادس، فثار أهالي الأندلس وهاجموا محاكم التفتيش وأحرقوها.

وفي 28/3/1831م قام الجنرال طريخوس في الجزيرة الخضراء، بحركة عسكرية للمطالبة بدستور قادس، فقبض عليه وأعدم. وتتابعت محاولات الرجوع إلى دستور قادس، الذي أصبح أهم مطلب للوطنين الأندلسين، إلى أن ثارت مالقة في 3/1835م، وطرد أهلها ممثلي الحكومة، وكونوا إدارة محلية أعلنت تطبيق دستور قادس. وتبعت مالقة مقاطعات الأندلس الأخرى ومدنها، ولم يصل شهر أغسطس حتى عمت الثورة كل الأندلس، ثم مناطق أسبانيا الأخرى. وكون الأندلسيون جيشًا شعبيًّا اشتبك مع جيش الحكومة على حدود الأندلس وهزمه. فشكلت في مجريط حكومة جديدة، أعلنت قبولها لبعض مطالب الثوار، منها مصادرة أراضي الكنيسة. لكن الأندلسيين رفضوا التعامل معها، وكونوا في بلدة أندوجر (مقاطعة جيان) مجلس أعلى الثورة، الذي كتب دستور "أندوجر"، الذي أعلن حكمًا ذاتيًّا في الأندلس. لكن هذا المجلس اضطر إلى أن يحل نفسه في 19/10/1835م. ورغم فشلها كانت لثورة عام 1835م أهمية كبرى في بلورة الهوية الأندلسية الجديدة، إذ تحركت الأندلس لأول مرة، منذ ثورات المورسكيين، كأمة واحدة، أمام الحكم المركزي في مجريط.

ثم رجعت أسبانيا إلى فسادها الأول، من سيطرة الكنيسة عبر رهبان متعصبين جهلة، وفساد الإدارة وانتشار الرشوة. وظلت الأندلس أفقر مناطق أسبانيا، يرزح أهلها تحت تجاوزات النبلاء الشماليين والكنسية. وفي 30/6/1857م ثار الفلاحون الأندلسيون في مقاطعة إشبيلية، يطالبون بأرض أجدادهم، فقضى الجيش عليهم، وقتل منهم 25 فلاحًا، وأعدم في محاكمة صورية 25 آخرين. ورغم ذلك أيقظت الثورة الفلاح الأندلسي من سباته، وحررته من عقدة الخوف المسيطرة عليه. وفي أواخر سنة 1861م ثار الفلاحون الأندلسيون من جديد في مقاطعتي مالقة وغرناطة، فقضى عليهم الجيش.

وفي 18/9/1868م انتشرت الثورة من قادس ضد الملكة، وشملت كل الأندلس، وهُزم جيش الحكومة قرب قرطبة، وهربت الملكة إلى فرنسا. فطالب الثوار بتأسيس جمهورية أسبانيا اتحادية، تعترف بالحكم الذاتي للأندلس، وبإلغاء الدين الكاثوليكي كدين الدولة الرسمي، لكن الجيش سيطر على البلاد، واتبع سياسة الدولة المركزية. وفي 3/1/1873م أعيدت الملكية، فرجعت الحركات الاتحادية والجمهورية إلى السرية من جديد. ثم ساد الجوع والفقر منطقة الأندلس، فتنظم الفلاحون الجائعون في منظمات إرهابية، أهمها "اليد السوداء" زرعت الرعب في البلاد.

وفي 10/1/1874م تأسس الحزب "الجمهوري الاتحادي"، الذي اتفق في أواخر سنة 1883م على مشروع "دستور انتقيرة"، الذي خطط لإنشاء دولة أندلسية إتحادية ديمقراطية، تمثيلية ذات سيادة، تضمن فيها الحريات الشخصية، وتفصل فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأصبح "دستور أنتقيرة" أساس المشاريع الاتحادية التي اقترحت فيما بعد.

تلخصت أهم سمات الحركة الأندلسية في القرن التاسع عشر الميلادي، في الانتماء إلى منطقة واحدة (الأندلس)، وأمة واحدة (الأندلسية)، والمطالبة بحقوقها، والوقوف في وجه تجاوزات الدولة المركزية، والكنيسة الكاثوليكية، والإقطاع الزراعي. لكن بقيت أجوبة هامة في نفوس الأندلسيين تنتظر الجواب: هل الأندلسيون يرتبطون فقط بمصالح خاصة متصلة بمنطقتهم؟ أم هم قومية تختلف عن كل القوميات الأخرى بخاصيات مميزة؟ وإن كان ذلك كذلك، فما هي هذه الخاصيات؟

أجاب عن هذه الأسئلة بلاس انفانتي بيريز، الذي يعده الأندلسيون اليوم، بما فيهم المسلمون، أب قوميتهم ومفكر انبعاثهم المعاصر. ولد بلاس انفانتي في بلدة قشريش (مقاطعة مالقة) في 5/7/1885م، من أبوين أندلسيين، ينتميان لعائلتين سليلتين للمورسكيين القدماء، عمل أفرادهما على الدفاع عن الأندلس وأهلها. فدرس دراسته الابتدائية في بلدته. ثم انتقل سنة 1896م إلى أرشذونة (مقاطعة مالقة) للدراسة الثانوية، ثم إلى قبرة (مقاطعة قرطبة) سنة 1897م، حيث تخرج سنة 1900م بشهادته الثانوية. ثم عمل مع أبيه في محمكة قشريش، قبل التحاقه بقسم الحقوق من كلية الفلسفة والآداب بجامعة غرناطة، حيث تخرج بامتياز في أكتوبر سنة 1906م.

تعرف انفانتي إبان مقامه في غرناطة على التراث الإسلامي الأندلسي. ففتحت أزقة غرناطة وأهلها وأرواح شهدائها عيني بلاس انفانتي على عظمة الإسلام وحضارته الأندلسية، وأخذ شعوره الفطري شكل الهوية الإسلامية الأندلسية. وفي تهيئة لمباراة العدالة، زار انفانتي إشبيلية وقرطبة ومجريط، واجتمع بزعماء الحركة الأندلسية، وأصبح يعتقد أن الهوية الأندلسية ليست هوية عرق أو دم، ولكنها هوية "وجود" و"معرفة". وفي سنة 1907م زار انفانتي إشبيلية، فوجد فيها نشاطًا فكريًّا كبيرًا: جمعيات شباب لدراسة تاريخ الأندلس، و"ألعاب وردية" تلقى فيها الخطب الحماسية الأندلسية. وفي سنة 1909م تحولت هذه الألعاب إلى احتفال قومي أندلسي.

وفي سنة 1910م عين انفانتي عدلاً في بلدة قنطيانة (بلدة الشيخ أبو مدين الغوث دفين تلمسان)، فسكن إشبيلية القريبة منها، وأصبح ينتقل بين البلدتين. تأثر انفانتي في إشبيلية بمفكريها الأندلسيين، وساهم في أنشطتهم الثقافية. وفي 28/11/1913م قبل انفانتي في مجلس المحامين. وفي 23/3/1914م ألقى خطابًا في "أتينيو" إشبيلية عن "النظرية الأندلسية"، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية. وفي نفس السنة فتح مكتب محاماة في إشبيلية. وفي سنة 1914م ظهرت الطبعة الأولى من كتابه "النظرية الأندلسية"(3).

وفي سنة 1916م أسس انفانتي أول "مركز أندلسي" في إشبيلية، تبعته مراكز أخرى في مدن الأندلس وقراها، وأصدر مجلة "الأندلس" كلسان حال المراكز الأندلسية، والحركة القومية الأندلسية. ومع الأيام تحول "مركز إشبيلية الأندلسية" إلى مركز أنشطة أندلسية تثقيفية وتخطيطية، ومنه خرج المنشور الداعي إلى "اجتماع المقاطعات الأندلسية" في رندة، الذي استعمل عبارة "الأمة الأندلسية" لأول مرة. وهكذا أصبح انفانتي بأفكاره وحركيته، رئيس تيار جديد للحركة القومية الأندلسية.

وفي 16/6/1917م ألقى انفانتي بصفته رئيس "مركز إشبيلية الأندلسية" محاضرة أساسية أعطت لأفكاره نضوجًا ثوريًّا، صرح في آخرها: "نحن لسنا بصدد إنشاء حزب، نحن نريد إنشاء شعب قادر أن يحكم نفسه بنفسه". وفي 13/14/1918م انعقد اجتماع "مجلس المقاطعات الأندلسية" في رندة، فعدد معالم القومية الأندلسية في حركتها المستقبلية في النقاط التالية:

(1) الاعتراف بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي، على أساس دستور أنتقيرة.

(2) اختيار العلم الأخضر والأبيض، علمًا للأمة الأندلسية، ورمز قادس شعارًا لها.

ثم تقدم بلاس انفانتي، وخوزي أندرس باسكس، باسم المؤتمر، لهيأة الأمم طالبين منها الاعتراف بالقومية الأندلسية. ودخل انفانتي اللعبة السياسية للتعريف بأفكاره القومية الأندلسية، فتقدم لانتخابات منطقة غسان- أشتبونة (مقاطعة مالقة) حيث توجد قشريش- فلم يفز.

وفي 1/1919م شارك انفانتي في اجتماع "المجلس الإداري الأندلسي" التأسيسي، الذي انتهى بالاتفاق على "تخطيط نظري للقومية الأندلسية"، كان له تأثير هام على مجرى الفكر القومي الأندلسي. وفي نفس السنة تزوج انفانتي. وفي 21/5/1919م تقدم انفانتي لانتخابات إشبيلية باسم "الديمقراطية الأندلسية" المكونة من الجمهوريين الاتحاديين، والقوميين الأندلسيين، والاشتراكيين المستقبلين. وندد في خطبه الانتخابية بوضع الأندلس البئيس، وبمصالح القوى المركزية التي كانت تقرر من مجريط، مجرى الانتخابات بالأندلس، عبر نفوذها المالي والإقطاعي. ورسب انفانتي مرة أخرى في هذه المحاولة الانتخابية، فغضبت عليه السلطة الحاكمة واليمين، واتهموه وأتباعه بالتآمر على أمن الدولة ووحدتها. ثم أسس انفانتي في إشبيلية دار ومكتبة "أبانتي" (التقدم) للنشر، نشر فيها عددًا من كتبه، كما أسس "مركز الدراسات الأندلسية". وفي سنة 1920م ظهر كتاب "المعتمد ملك إشبيلية"، وهي قصة مسرحية تاريخية عرف فيها انفانتي بجذور الهوية الأندلسية الإسلامية.

وكانت سنة 1921م سنة أمل للقوميين الأندلسيين، رغم الأوضاع المضطربة في مجريط، فانتشرت "المراكز الأندلسية" في المدن والقرى، وانشر معها الفكر الأندلسي في المجالات الثقافية والاجتماعية. وأخذ انفانتي يفكر في إنشاء روابط ثقافية قوية، تربط الأندلسيين بعضهم ببعض، في الأندلس والمغرب وأمريكا الجنوبية. لكن في 13/1/1923م تحولت أسبانيا إلى الحكم الدكتاتوري الذي قضى على الحريات، وأقفل "المراكز الأندلسية"، واتهم القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة، وأسكت القوى المعادية للكنيسة.

فانتقل انفانتي تحت ضغط عائلته، إلى ايسلاكريستينا (مقاطعة ولبة) كموثق عدل، وانسحب من العمل السياسي، ونصح أتباعه بذلك. ثم ركز على التفكير في مصير الأندلس وجذور الهوية الأندلسية.

وفي 15/9/1923م في ذروة معارك الريف ضد المستعمر الأسباني، زار انفانتي قبر المعتمد بن عباد في أغمات بالمغرب، حيث تعرف على بعض أبناء الأندلس، فقرر إشهار إسلامه على يدهم. ثم حاول بعد إسلامه ربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية(4).

وفي سنة 1930م انهارت الدكتاتورية، فنقل انفانتي عمله كموثق عدلي إلى بلدة قورية بالقرب من إشبيلية. وفي سنة 1931م أسس "مجلس الأندلس التحرري" عوضًا عن المراكز الأندلسية القديمة، وانضم إلى "الحزب الجمهوري الاتحادي". وأصبح انفانتي يمجد التاريخ الإسلامي كأساس الهوية الأندلسية، ويطالب الأندلسين باستعادة الهوية والتاريخ والأرض، وبإزاحة هيمنة الكنيسة على الدولة، ويهاجمها على جرائمها في القضاء على الأندلسيين وعلى "زهرة ما تبقى من ثقافتنا".

وفي 4/1940م انعقد في دلهي بالهند مؤتمر "الشعوب التي لا دول لها"، شارك فيه عن القوميين الأندلسيين الشاعر الأندلسي المسلم آبل قدرة، الذي بين في خطبته للحاضرين أن نضال تحرير الأندلس هو جزء من نضال شعوب آسيا وأفريقيا المغلوبة على أمرها، وأبان أن جذور القومية الأندلسية هي الإسلام(5).

ثم التقى انفانتي بالحركات التحريرية العربية عبر مجلة "الأمة العربية" في جنيف "سويسرا" التي كانت ينشرها الأمير شكيب أرسلان، وإحسان الجابري.

هذه أفكار انفانتي والقوميين الأندلسيين الواضحة بعد عشرينيات القرن العشرين الميلادي: هوية الأندلس إسلامية، وليست غربية، مما دفع أعداءهم إلى رميهم بالاتهامات المتواصلة، فحوربت الحركة من طرف اليمين واليسار على حدٍّ سواء. وفي يوم 2/8/1936م بعد 14 يومًا من انفجار الحرب الأهلية الأسبانية، هجمت فرقة من الكتائب على انفانتي في بيته "دار الفرح" بقورية، وساقته إلى إشبيلية، حيث سجنته وأعدمته رميًّا بالرصاص يوم الاثنين 10/8/1936م، فمات شهيدًا رحمه الله، وهو يصرخ مرتين: عاشت الأندلس حرة!


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Miguel Asin Palacios" Empreintes de L''''islam"Al-Andalus XXlle,1957

(2)A. Medina Molera "La Herenica Islamica y Arabe en la Lengua y literatura Aljamiada "Primero Congreso Mundial Andalusi Castellar de la Frontera,(cadiz),2-5/9-1989

(3)Blas Infante Perez " I deal Andal''''uz" Madrid,1914

(4)J.L Ortiz de Lanzagorta "Blas infante, Vida y Muerte de un Hombre Andalu''''z"Sevilla.1979

(5)La Voz (cordoba)19/6/1931
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الجمعيات الإسلامية للوافدين

الجمعيات الإسلامية للوافدين

الجمعيات الإسلامية للوافدين(1)

غاب الإسلام ظاهرًا، عن أرض الأندلس منذ سنة 1609م، واحتفظ به في القلوب من تبقى من المسلمين الأندلسيين. وكان التنصير شرطًا للإقامة لمن وفد من المسلمين إلى أسبانيا. وخف هذا الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، وهجرة عدد من أهل منطقة الحماية الأسبانية بشمال المغرب إلى أسبانيا، كجنود مع جيش فرانكو. وكان فرانكو قد وعدهم بتسليمهم مسجد قرطبة الجامع إن هو انتصر في الحرب الأهلية، فلم يفِ بالوعد.. وعوضًا عن المسجد الجامع بنى لهم في ساحة عامة بوسط قرطبة مسجدًا صغيرًا مقابل مستشفى للصلاة على موتاهم. وقد أقفل المسجد الصغير (المسمى عند أهل قرطبة بالمرابطو) بعد الحرب الأهلية بقليل، وأصبح مخزنًا لآليات الحديقة العام، ولم يفتح من جديد للصلاة إلا مؤخرًا.

وتكاثرت أعداد المسلمين الوافدين إلى أسبانيا بعد سنة 1960م، إلى أن وصلت سنة 1990م إلى حوالي 250 ألف مسلم، منهم حوالي 140 ألف مغربي، و30 ألف مغاربي آخرين، و30 ألف مشرقي عربي، و20 ألف مسلم من أفريقيا السوداء، و10آلاف باكستاني، و10آف إيراني، و20 ألف مسلم من دول أخرى. ومعظم المغاربة من العمال، والمشارقة من الطلبة الذين مكثوا بعد تخرجهم، وحصلوا على الجنسية الأسبانية.

ولم يتمكن المهاجرون المسلمون من تنظيم أنفسهم إلا مؤخرًا. ففي 24/12/1964م صدر قانون الجمعيات الذي سمح للجمعيات الدينية غير الكاثوليكية بشيء من التنظيم لأول مرة. وفي 28/6/1967م أصدرت الحكومة الأسبانية قانونًا جديدًا، تسمح فيه بحرية الأديان. أصبح معه من الممكن تأسيس جمعيات إسلامية لأول مرة منذ سقوط غرناطة، رغم نقصه، إذ لا يسمح بممارسة الشعائر غير الكاثوليكية إلا جزئيًا، ولا يسمح للمجموعة الإسلامية بإجراء مفاوضات مع الدولة للمطالبة بالحقوق الدينية أو المدنية.

فجعل هذا القانون ممكنًا تنظيم جمعية إسلامية من طرف غير الأسبان، ولكنه لم يسهل أي وجود إسلامي منظم بين المواطنين الأندلسيين.

فاستفاد من هذا القانون الطلبة العرب المشارقة ذوو الاتجاه الإسلامي، إذ أسسوا جمعية طلابية إسلامية في غرناطة سنة 1966م، بعد أن اقترح ذلك عليهم الأستاذ أبو الحسن الندوي، عند زيارته سنة 1965م، وسجلوها رسميًّا سنة 1971م بوزارة العدل الأسبانية، تحت اسم "الجمعية الإسلامية في أسبانيا". وفي 22/4/1974م عدل نظام الجمعية لتمكينها من بناء المساجد والمراكز الإسلامية عبر أسبانيا(2). ثم فتحت الجمعية فروعًا متعددة في مدن أسبانيا المختلفة: مجريط، وأبيط (آشتورياش)، وسرقسطة (أراغون)، وبلنسية (بلنسية)، وشنت أندر (كانتابريا)، وشنت ياقو (جليقية)، ومالقة وغرناطة بالأندلس.

ابتدأت الجمعية نشاطها في شقة متواضعة في غرناطة، ثم انتقل مقر الجمعية الأساس إلى مجريط في شقة متواضعة، ثم انتقلت إلى شقة في شارع فرانكوس رودريكز تحتوي على مصلي يتسع لحوالي 200 شخص، ومكتبة صغيرة، وغرفة للنشاط الإداري، وصفوف للتدريس. ثم بنت الجمعية مركزًا إسلاميًّا متكاملاً اسمه "مسجد أبو بكر" في شارع أنستيزيو هريرو، من حي تطوان، وهو أول مسجد إسلامي يبني حديثًا في مجريط. أما مراكز المدن الأخرى، فكلها شقق متواضعة مأجرة، أو مشتراة من طرف الجمعية.

ومعظم أعضاء هذه الجمعية طلبة من سوريا وفلسطين، تخرجوا بعد ذلك، وتزوج كثير منهم بأسبانيات، وحصلوا على الجنسية الأسبانية، وانخرطوا في الحياة العامة. ويعود الفضل إلى كثير من هؤلاء، الذين ضحوا بنشاطهم المهني، للدعوة إلى الله بين المهاجرين المسلمين، خاصة الطلبة العرب، فأنقذوا منهم أجيالاً لم يتعلموا أمور دينهم إلا في المهجر. وقاموا بمجهود ضخم في تعليم الشباب المسلم أمور الدين، وطبع نشرات بالعربية والأسبانية، وإعطاء دروس إسلامية، وإحياء الشعائر الدينية، وتعليم الأطفال مبادئ الإسلام.

وإلى سنة 1978م ظلت الجمعية داخل الجامعات، كجمعية طلابية فقط. وبعد ذلك التاريخ، أخذ معظم الطلاب يتخرجون ويتزوجون، فأخذت الجمعية تكتسب طابعًا لجمعية جالية إسلامية. وتركز نشاطها الإعلامي في إصدار دوريتين بالأسبانية كل شهرين: العروة الوثقى (حوالي ألف نسخة)، والإسلام (حوالي 750 نسخة). وتقوم الجمعية بتنظيم جداول مواقيت الصلاة وتوزيعها، كما أن لها نشاطا في وسائل الإعلام الأسبانية، ومشاركة في ندوات دينية. ويشتمل برنامج الجمعية الثقافي على حلقات دروس أسبوعية في الفقه واللغة العربية، وندوات شهرية. كما طبعت الجمعية باللغة الأسبانية عددًا من الكتب المؤلفة أو المترجمة، منها "عيسى عليه السلام في القرآن" لسليمان مفسر، و"الأسرة الإسلامية" لخورشيد أحمد، و"روح الإسلام" لمحمد أسد، و"ما قدم الإسلام للحضارة الغربية" لأبي الأعلى المودودي، وغيرها من الكتب. ومن أبرز أنشطة الجمعية الاجتماعية: تنظيم عقود الزواج الإسلامي، ووثائق إشهار الإسلام، كما تفعل ذلك الجمعيات الإسلامية الأخرى.

وفي سنة 1978م انفصلت عن "الجمعية الإسلامية في أسبانيا"، جمعية سمت نفسها "المركز الإسلامي في أسبانيا". وتتكون الجمعية المنفصلة كذلك من قدماء الطلاب العرب المشارقة. ويقع المركز الأساس "للمركز الإسلامي في أسبانيا" في مجريط في شقة بشارع ألونسو كانو، بها مسجد، ومكتبة، ومكاتب. وللمركز فروع في برشلونة (قطلونية) بشارع مريديان، ولاس بالماس (الجزر الخالدات)، وغرناطة (شقة مشتراة)، وإشبيلية (شقة مؤجرة)، ومالقة (بيت مشترى)، وقرطبة (حصلت الجمعية على المسجد الذي بناه فرانكو للجنود المغاربة والمسمى مرابطو) بالأندلس.

وفي سنة 1990م كلفت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، "المركز" بإدارة مسجد الملك عبد العزيز بمربلة (مقاطعة مالقة) بالأندلس. ومربلة بلدة صغيرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لا يتعدى عدد سكانها 55 ألف نسمة، يعود ازدهارها إلى اختيارها من طرف العرب الخارجيين كمركز اصطيافهم المفضل في أسبانيا. فتبعتهم رؤوس أموال عربية هائلة، حولت البلدة من مرفأ صيد هادئ، إلى مركز اقتصاد هام على الشاطئ الأندلسي. وابتدأت فكرة بناء المسجد في صيف سنة 1979م، حيث طلب عمدة مربلة آنذاك من الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، بناء مركز للدراسة الإسلامية والعربية، فاستجاب الأمير ببناء المسجد والمركز على نفقته على أرض ملكيته الخاصة.

وانتهى من بناء مسجد مربلة سنة 1981م. وكان بناء المسجد بهندسة وشكل منارة لا تتناسب مع هندسة المساجد التقليدية الأندلسية، رغم جمال المسجد، ورغم أنه من تصميم مهندس أندلسي من قرطبة اسمه خوان مورا. بني المسجد على أرض مساحتها 10.500 متر مربع، على الطريق الساحلي غرب مربلة. تبلغ مساحة المسجد 834 مترًا مربعًا، تتسع لـ800 مصلٍّ، وهو مكيف، ومساحة الطابق الأول 600 مترًا مربعًا، وطابق ثانٍ مخصص للنساء. ويتوسط سقف المسجد قبة قطرها 12 مترًا، فيها 24 نافذة زجاج ملون للإضاءة. وأنشئت كذلك صالتان فسيحتان خارج المسجد، ومكتبة مساحتها 187 مترًا مربعًا.

وبنيت من الناحية الغربية مساكن لكل من الإمام والمؤذن ومدير المركز. وتربط بين المباني ساحة مسقفة مساحتها 198 مترًا مربعًا، في وسطها نافورة، وأشجار البرتقال.

ومن أهم أنشطة "المركز الإسلامي في أسبانيا": المحاضرات، واللقاءات العامة، وتوزيع الكتب الإسلامية باللغة الأسبانية، وإعطاء دروس أسبوعية في مراكزه المختلفة، وأخرى للطلاب العرب لتقوية لغتهم الأسبانية، وتنظيم رحلات جماعية، وإحياء الشعائر الدينية. كما يقوم المركز بتنظيم مخيمات سنوية، يشارك فيها أكثر من مائة شاب مسلم من أسبانيا وباقي أوروبا. كما يقوم بترجمة عدد من الكتب الإسلامية إلى اللغة الأسبانية ونشرها: منها "الأربعون النووية"، وكتب أبي الحسن الندوي كـ"بين الشرق والغرب"، وسيد قطب كـ"معالم في الطريق"، و"هذا الدين"، ومحمد قطب كـ"المرأة في الإسلام"، "من كتاب شبهات حول الإسلام"، وأبي الأعلى المودودي كـ"الأمم المريضة والعصر الحديث"، و"النظرية السياسية في الإسلام"، و"مبادئ الإسلام"، و"كتاب السنة"، و"مبادئ أساسية لفهم القرآن"، وكتاب "حياة محمد صلى الله عليه وسلم" لمحمد حسنين هيكل، و"الإسلام تحت الضوء" لحمودة عبد العاطي، وكتب نزار الصباغ كـ"الصلاة"، و"تعدد الزوجات في الإسلام"، و"التوحيد"، و"الزواج والطلاق في الشريعة الإسلامية"، و"القاديانية"، وغيرها من الكتب.

وقد أسس "المركز الإسلامي بأسبانيا "مدرسة ابن رشد" في غرناطة، التي تم افتتاحها سنة 1985م بعد الموافقة الرسمية، بـ74 تلميذًا، منهم 22 تلميذًا في القسم التمهيدي، وبمساعدة 9 أساتذة، منهم أربعة عرب وخمسة أسبان (غير مسلمين). والمدرسة عبارة عن بيت كبير، مساحته 2000 متر مربع، يحتوي على غرف واسعة، وملاعب رياضية، وصالة مغلقة، ومسجد يتسع لمائتي مصل. كما أنشأ المركز مدرسة إسلامية أخرى في برشلونة لتدريس الدين الإسلامي واللغة العربية لأبناء الجالية الإسلامية الوافدة. لكن لم ينجح المشروعان على الرغم من الجهد الكبير. كما اشترى المركز قطعة أرض على بعد 12 كيلومترًا من مطار مجريط، مساحتها 6.25 هكتار لإقامة مخيم دائم للطلبة المسلمين.

وفي 28/6/1973م قدم عمدة مجريط للهيئات السياسية الإسلامية قطعة أرض مساحتها 1500 متر مربع، في شارع كوستاريكا، بإحدى أحياء مجريط الجديدة، القريبة من وسط المدينة، لإقامة مسجد جامع عليها. وانتهت المدة المحددة، ولم يبن على الأرض شيء، فاستعادت البلدية الأرض. ثم بعد تعهد السفراء المسلمين في مجريط ببناء المسجد، قدمت البلدية أرضًا أخرى بضواحي مجريط الشرقية مساحتها 10.465 متر مربع بشارع السلام. وفعلاً تبنت المملكة العربية السعودية مشروع المسجد الذي انتهي من بنائه سنة 1990م، تحت إشراف سفارتها. وقد أصبح هذا المسجد أكبر مركز إسلامي في أسبانيا. وقد كلف بناؤه على مساحة 2000 متر مربع حوالي 1.500 مليون بسيطة. ويتكون المركز من ستة طوابق، ثلاثة منها تحت الأرض، ومئذنة علوها 36 مترًا، ومسجد مساحته 650 مترًا مربعًا، يسع لـ830 مصلٍّ، ومكاتب، وقاعة محاضرات، ومركز ثقافي، ومكتبة.. إلخ(3). وكلفت جمعية "المركز الإسلامي في أسبانيا" بإدارة هذا المركز.

وتأخر المسلمون المغاربة في تنظيم أنفسهم رغم أعدادهم الكبيرة نسبيًّا، إذ يكونون حوالي ثمانين في المائة من مسلمي أسبانيا، معظمهم عمال في المناطق الصناعية خاصة مجريط وبرشلونة، وكثير منهم يقيمون في البلاد بطريقة غير قانونية. ولا يزال التنظيم الإسلامي المغربي ضعيفًا، وهو يرتكز حول محورين: الأول التعاضديات، ولها مراكز في طوري مولينوس (مقاطعة مالقة) بالأندلس، وفي برشلونة ومجريط. ولم تتحول مراكز التعاضديات إلى مراكز إسلامية متواضعة، إلا مؤخرًا، وهي تتكون عادة من قاعة للصلاة ومقهى ومدرسة للأطفال. والثاني لجماعة التبليغ، ظهر في السنين الأخيرة على شكل مساجد متواضعة، أهمها في منطقة الأندلس بالجزيرة الخضراء، كما يوجد مسجد في سكن العمال بمستعمرة جبل طارق. أما في منطقة قطونية، فأهم المساجد التي أسستها جماعة التبليغ هي: مسجد سان بيزانتي دي كالديرس (مقاطعة طركونة)، ومسجد طارق بن زياد ببرات (مقاطعة برشلونة)، ومسجد رمضان نبيش (مقاطعة برشلونة)، ومسجد أبو بكر ببيغيراس (مقاطعة جرندة). كما أسس المغاربة جمعية "الجماعة الإسلامية المغربية في مجريط" و"رابطة الجماعة الإسلامية" في لاس بالماس بالجزر الخالدات.

ويجدر ذكر البرنامج الإذاعي الإسلامي الذي يقوم به في الإذاعة الأسبانية السيد محمد شقور، أحد وجهاء الجالية الإسلامية المغربية في أسبانيا وزعمائها، ومدير مكتب وكالة المغرب العربي للأنباء في مجريط. ولهذا البرنامج تأثير مهم للتعريف بالإسلام في أسبانيا.

ويكوِّن الباكستانيون المجموعة الإسلامية الوافدة الثالثة، ومعظمهم عمال مناجم. أما في الأندلس فيتمركزون في ثلاث مدن: وهي قزلون (لينارس) بمقاطعة جيان، ولاكالورينا المجاورة لها، وفي بيناروجا بمقاطعة قرطبة. وفي سنة 1982م، أسس الباكستانيون جمعية إسلامية في قزلون سجلت رسميًا تحت اسم "جمعية جيان الإسلامية"، كان رئيسها الأول رجا محمد إقبال. وللباكستانيين في الأندلس دور في مساندة الجماعات الإسلامية الأندلسية في قرطبة وغرناطة في بداية نشأتها. وتوجد كذلك تجمعات إسلامية باكستانية في بمليبري بمقاطعة ليون (قشتالة ليون)، وفي مونتالبان بمقاطعة طرويل (أراغون). وأسس الباكستانيون كذلك مركزًا إسلاميًّا في برشلونة بشارع ريفومير.

وأسس القاديانيون أكبر مركز لهم في أسبانيا بمجريط، كما بنوا معبدًا على هيأة مسجد في بلدة "بدروعباد" بمقاطعة قرطبة على الطريق الرئيسة التي تربط قرطبة بالعاصمة الأسبانية. ومعظم أفراد هذه الطائفة، وهم قلة، من الهند وباكستان، ولم يفلحوا في اجتذاب عدد يذكر من الأندلسيين إلى نحلتهم.

ويكوِّن السنغاليون المجموعة الوافدة الرابعة، وهم يعملون في الزراعة، خاصة في قطلونية، منهم في بلدتي لامارزوم وماتارون بمقاطعة برشلونة، وفي بلدة آمبوردان بمقاطعة جرندة. لكن لا تنظيم إسلامي لهم يذكر.

وبصفة عامة، لم يؤثر التنظيم الإسلامي للوافدين على الانبعاث الإسلامي لأهل الأندلس إلا هامشيًّا، وذلك لأسباب متعددة أهمها أن الوافدين يأتون بعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، مما يجعل الأندلسي المسلم يشعر بالاغتراب والتبعية عند الانضمام لهم، فيؤدي ذلك إلى نفوره. ومنها أن معظم الوافدين، حتى لو استقروا في أسبانيا وأخذوا جنسيتها، لا يندمجون في واقع المجتمع الأسباني، وليست لهم الجرأة على المطالبة بجميع حقوقهم. فتبقى الجمعيات الإسلامية للوافدين، إما شرقية أو مغربية أو سنغالية أو باكستانية، ولا تستطيع أية واحدة منا جلب الأهالي الأسبان إليها. وقد أدى هذا الوضع مع الأيام إلى النفور بين المسلمين الأندلسيين والأسبان الآخرين، والمسلمين الوافدين، ويعمل العاقلون من الطرفين على الحد منه. وبصفة عامة لا يتوقع أن يكون للجماعات الإسلامية الوافدة تأثير كبير على مسار الانبعاث الإسلامي الأندلسي، وسيقتصر تأثيرها على جماعات الوافدين فقط. ولا تختلف هذه الجمعيات الإسلامية عن مثيلاتها بين التجمعات الإسلامية الوافدة في غربي أووربا.

وجاء الانبعاث الإسلامي في الأندلس عن غير طريق الوافدين. وسنرى في الفصول التالية الخطوات الأولى للانبعاث الإسلامي في الأندلس، وفي باقي المناطق الأسبانية، ونتابع نشأتها. كما سندرس التيارات العاملة في هذا الانبعاث الإسلامي، وتحديد التيارات ذات الجذور العريقة في الأندلس.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Jacinto Bosch vila "The Muslims of Portugal and Spain"journal of the Institute of Muslim Minority Affairs,Vol.7,no.1,Jan.1986.

(2) هشام شيشكلي "الإسلام ينتشر من جديد في أسبانيا" المسلمون 8 ذو القعدة عام 1402هـ (28/2/1982م)

(3) spaniards Rediscover the relevance of Islam Arabia,Octber 1983
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الطريقة الدرقاوية في غرناطة

الطريقة الدرقاوية في غرناطة

الطريقة الدرقاوية في غرناطة

احتفظ عدد من أهل الأندلس بدينهم الإسلامي سرًّا، وبعد سنة 1960م، تجرأ بعضهم على إعلانه في أسبانيا نفسها، كالمحامي خليل بن أمية، الذي كان يعيش في مجريط، وغيره كثير ممن ليست له شهرته. ومنهم من هاجر إلى خارج الأندلس كالغرناطي الذي التقيت به في كوبنهاجن (الدنمارك) في 5/11/1973م. وقد ولد ونشأ في برشلونة، وأسلم سنة 1969م في باكستان، وتزوج بمسلمة سويدية، ثم هاجر إلى الدنمارك حيث ساهم في تأسيس جمعية إسلامية، ثم إلى لوس أنجلوس (كاليفورنيا) بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقيم اليوم 1990م. ولما سألته حينذاك عن سبب إسلامه، أجاب: "كنت طفلاً صغيرًا عند احتضار جدتي، فجذبتني إليها، وهمست في أذني قائلة: إن الدين النصراني ليس ديننا، وليس هو الدين الحق، عندما تكبر حاول أن تعرف دينك. فلما كبرت درست تاريخ أسبانيا، وفهمت قصد جدتي، فتعلمت الدين الإسلامي، واقتنعت به، وأعلنت إسلامي في باكستان، حيث أمضيت سنتين لأتقن تعليمي". وهكذا أسلم عدد كبير من الأندلسيين، منهم من مكث بأسبانيا ومنهم من هاجر، كل واحد أسلم لنفسه دون تفكير في تنظيم جماعة إسلامية.

وكانت مدينة مكناس بالمغرب منبع التنظيم الأندلسي الأول. فقد فتح هناك قبل ربع قرن الشيخ ابن الحبيب، شيخ الطريقة الدرقاوية، زاويته لعدد من الأوروبيين الذين انجذبوا للإسلام. وفي سنة 1975م نفس السنة التي مات فيها فرانكو، توجه إلى بريطانيا ثلاثة من الشباب الأندلسي من بلدة بورتيانو (مقاطعة قلعة رباح) بمنطقة قشتالة مانشا، واعتنقوا الإسلام وأصبحوا من أتباعه. فأمرهم الشيخ عبد القادر بالتوجه لقرطبة وتأسيس جالية إسلامية بها(1).

وفي سنة 1977م توجه أعضاء الجماعة إلى قرطبة، واستأجروا بيتًا قديمًا سكنوا فيه جميعًا مع أزواجهم وأبنائهم، وعملوا في مهن متواضعة كباعة متجولين لإعالة أنفسهم، وحرصوا - رجالاً ونساءً - في تلك الحقبة على ارتداء الزي الإسلامي. وانضم إليهم عدد من الأندلسيين، وغيرهم من الأسبان، زاد على الأربعين. وارتكزت فلسفة الجماعة على كونهم يعيشون في مجتمع كافر، يجب الخروج عنه، فكان على كل من يعتنق الإسلام، أن يترك أهله وعمله، لينضم إلى الجماعة.

وكان مطران قرطبة حينذاك، مونسينيور انفانتي فلوريدو، يدعي التسامح الديني، ويشجع الحوار الإسلامي المسيحي، ويستدعي علماء الإسلام للصلاة في مسجد قرطبة الأعظم، بعد مؤتمرات سنوية للحوار كان ينظمها. فاستأذنته الجماعة في إقامة صلاة عيد الأضحى سنة 1398هـ-1978م، بمسجد قرطبة الأعظم، فأذن لهم. وكان ذلك أول نشاط علني، عُرفت به الجماعة، التي انضم إليها في صلاة العيد عدد من العمال المغاربة والباكستانيين (من بنياروجا، وقزلون، ولاكرولينا) وبعض الطلبة العرب.

وفي سنة 1979م قررت الجماعة الانتقال إلى إشبيلية، آملة أن تجد مجالاً أفضل للدعوة. فأقامت لأول مرة الصلاة في حديقة جامع المنصور، وصعد أحد أفرادها إلى أعلى مئذنة المسجد (لاخيرالدا) وأذن. وحاولت الجماعة الحصول من بلدية إشبيلية على المسجد الذي بناه المغرب في معرض دولي قبل الحرب العالمية الثانية، فرفض طلبهم. وفي 4/4/1980م بمناسبة مسيرة النصارى في "الأسبوع المقدس"، قام أفراد الجماعة بتوزيع مناشير على المتفرجين وهم يصيحون: "أوقفوا محاكم التفتيش". تقول المناشير: "هذه الأثواب هي أثواب محاكم التفتيش. إنكم تحتفلون بالإعدامات الجماعية، وتقدمون الاحترام للمجرمين المقنعين. إن الأندلس الإسلامية كانت أندلسًا حرة. ثم جاء القتلة أصحاب القبعات الطويلة (قضاة التفتيش). هذه المسيرة هي ذكرى لمحاكم التفتيش، وحفلاتها الإجرامية، التي تمثل الإرهاب والقتل الجماعي". فتدخلت الشرطة، وقبضت على أحد المسلمين الأندلسيين، ثم أطلقت سراحه بعد بضعة أيام.

وبعد هذه الحادثة، وقع تحول جديد في الجماعة، إذ قررت الانتقال إلى مقاطعة ولبة، حيث حصلت على مزرعة بين ولبة والرصينة، حاولت تأسيس مجتمع إسلامي عليها، بدون نجاح.

ثم انتقلت الجماعة إلى غرناطة، بعد أن أعلنت أن اسمها "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، كما أسمت نفسها في بعض مناشيرها "جماعة المسلمين الأسبان". وفي 22/9/1967م تحت اسم "الجمعية الدينية لنشر الإسلام في أسبانيا"، استأجرت الجماعة عمارة في شارع سرابيا، وأقامت فيها مسجدها ومكاتبها ومشاريعها الاقتصادية. وقرر زعماؤها أن يرتدي رجالها الزي الأوروبي عوضًا عن الإسلام لتسهيل قبولهم من طرف المجتمع الغرناطي.

وقامت الجماعة بأول نشاط لها علني في غرناطة، عندما أذن لها فرانسسكو سانتشس رولدان، القيِّم على قصر الحمراء، بإقامة صلاة عيد فطر سنة 1400هـ=13/8/1980م في حدائقه. فحضر الصلاة حاولي مائتي شخص، رجالاً ونساءً وأطفالاً، من بينهم بعض الطلبة العرب والعمال الباكستانيين. وبعد صلاة العشاء جماعة، قدم العشاء للجميع في جو ديني واجتماعي جميل، كان له أحسن الأثر على المجتمع الغرناطي، وساعد على التعريف بالجماعة وانضمام أعداد جديدة من العائدين إلى الإسلام إليها.

وفي عيد الأضحى الذي تلاه طلبت الجماعة من انفانتي فلوريدو- مطران قرطبة- الإذن لها بإقامة صلاة العيد في المسجد الأعظم، فرفض المطران هذه المرة الطلب خطيًّا، مدعيًّا أن ذلك يؤدي "إلى تخوفات وانشقاقات وحتى إلى الفضيحة"، وصحبت ذلك الرفض حملة ضد المسلمين الأسبان في الصحافة الأسبانية. وردّ أحد ممثلي الجماعة على هذه الحملة قائلاً(2): "ليس الإسلام ملكًا للعرب. فاعتناق الإسلام لا يعني أن الإنسان أصبح عربيًّا. نحن مثلاً مسلمون أسبان، كما أن هناك مسلمون روسيون وفلبينيون.. إلخ.. ومن أجل ذلك ليست لنا علاقة مع البلاد الغنية بالبترول، إلا علاقة المسلم مع أخيه المسلم، ليس أكثر". وكان مطران قرطبة قد أذن سنة 1979م للمشاركين الأجانب في مؤتمر حول الحضارة الإسلامية بالصلاة في المسجد.

وبعد رفض المطران، طلبت الجماعة المساعدة من مجلس قرطبة البلدي، فسلم خوليو أنغيتا عمدة قرطبة - (رئيس حزب اليسار المتحد حاليًّا)- للجماعة المسبح البلدي لإقامة صلاة العيد. وهكذا أقيمت حفلة إسلامية كبيرة في المسبح حضرها أعضاء مجلس قرطبة البلدي، بما فيهم أنطونيو ثوريتا، نائب العمدة، نكاية في المطران والكنسية المتعصبة، وتعاطفًا مع المسلمين. فألقى أمير الجماعة حينذاك خطبة عصماء قال في آخرها: "أصبح مجتمع الكفر في حالة إفلاس: ثقافة منحلة، وفشل ذريع في الميدان السياسي، وأزمة اقصادية متواصلة.. أقول لجميع الذين يبحثون بصدق عن سبيل، يفضي بهم إلى معرفة ذواتهم، ويتيح لهم التعاون مع الآخرين بثقة.. الإسلام هو الأمل المضيء، أدعوكم لاكتشافه، أدعوكم لإثبات الحقيقة الإلهية الواحدة.. أبشركم بإذن الله ستعود الأندلس إلى الإسلام"(3). ووقعت العبارة الأخيرة موقع الصاعقة على أوساط اليمين المتعصبة، بما فيهم كثير من المستشرقين الأسبان. فقاموا بحملة صحافية ضد الجماعة دامت شهورًا(4).

وفي غرناطة، صلت الجماعة صلاة العيد، بإذن من مجلس غرناطة البلدي، في مسجد المدرسة الشرعية القديمة، المسجد الوحيد المتبقى في المدينة، وقد حول إلى متحف بلدي(5).

وفور هذه الأحداث، أخذت أعداد أفراد الجماعة تتضاعف، فابتدأت الجمعية ترسل وفودًا إلى البلاد العربية، منها إلى دول الخليج في غشت عام 1980م، والمغرب(6) في ديسمبر عام 1980م. وشرعت الجمعية في إقامة المشاريع الإسلامية: من أهمها مسجد في حي البيازين، حصلت الجمعية على مساندة المجلس البلدي لبنائه، إذ كتب لها أنطونيو خارا أندرو -عمدة غرناطة- رسالة بتاريخ 7/11/1980م قال فيها: "أيها الأصدقاء. في هذا التاريخ، استقبلت في المجلس البلدي السيد عمر عبد الحق كوكا دومينغز، والسيد عبد الكريم كراسكو، اللذين فسرا لي باختصار فكرة جاليتهما في بناء مسجد في حي البيازين من هذه العاصمة، وأريد أن أوضح في هذه الرسالة مساندة المجلس البلدي، الذي أتشرف برئاسته، لهذا المشروع، ومساندتي الشخصية بالطبع، آملين أن نفرح بإنجاز هذا المشروع".

وسرعان ما اشترت الجمعية أرضًا بحي البيازين مساحتها 2.140 مترًا مربعًا لبناء المسجد. لكن المشروع لم ينجز. كما اشترت الجمعية بيتًا كبيرًا في حي البيازين بشارع سان غريغوريو، وحولته إلى زواية، ومدرسة ومركز إسلامي. وحصلت الجمعية على أرض حولتها إلى مقبرة للمسلمين في غرناطة.

وابتدأت الجمعية بإنجاز مشاريعها الاقتصادية، معظمها في المركز المؤجر في شارع سرابيا بغرناطة، منها مشروع "نور الأندلس" لنشر الكتب، وتوزيعها، ولطبع الأفلام والأشرطة عن الإسلام، مع التركيز على القرآن الكريم، ومشروع تأسيس مدرسة إسلامية للكبار والصغار، ومستوصف للطب الطبيعي، والصحة العقلية، و"دكان الحكيم" لتهيئ الأغذية الطبيعية والأعشاب، كما فتحت الجمعية مخبزة إسلامية وملحمة. وباختصار حاولت الجمعية إنشاء المؤسسات الثقافية والاقتصادية التي يحتاجها مجتمع متكامل مستقل بنفسه.

وتكاثر أعضاء الجمعية إلى عدة مئات، وأخذ الطابع الإسلامي يظهر بوضوح في غرناطة، خاصة في حي البيازين التاريخي منها. ونظمت الجمعية مؤتمرين مهمين في الفقه المالكي، حضرهما نخبة من علماء المسلمين. عقد المؤتمر الأول سنة 1982م في زاوية الجامعة بالبيازين، والثاني في 7-11/11/1983م في قاعة "مانويل دي فالا" التي سهلتها بلدية غرناطة لمنظمي المؤتمر. وقد مولت هذا المؤتمر دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي 5/1984م، أرسلت رئاسة محاكم أبو ظبي الشرعية، على حسابها معلمين موريتانيين لتعليم الجماعة المبادئ الإسلامية.

ونشطت الجماعة في مجال النشر، فنشرت كتبًا باللغة الأسبانية، كما أصدرت الجماعة مجلة شهرية اسمها "البلاد الإسلامية".

يعود سبب انتشار هذه الجماعة، في أول أمرها، إلى تضامن أعضائها حول منهج واحد، وكذلك لاستعمالها الشعارات الأندلسية، مما جعل أعدادًا كبيرة من أهل الأندلس ينضمون إليها. لكن ما كادت تشتهر هذه الجماعة حتى أخذت تتقهقر لأسباب متعددة، منها طريقة تنظيمها المبنية أساسًا على المركزية المطلقة حول الشيخ الأكبر (الشيخ عبد القادر الصوفي)، وأمير الجماعة (الدكتور منصور عبد السلام اسكوديرو، ثم محمد دل بوشو الأندلسي). ومنها الطريقة الخشنة والعنيفة في تعامل الجماعة مع الغير. ومنها مطالبة الجماعة المنضمين إليها بالانسحاب من المجتمع الأندلسي، الذي تعده كافرًا. ومنها اتهام الجماعة لكل ما سواها من المسلمين بالضلال، وحتى الكفر. ومنها شدة الشيخ عبد القادر المتناهية في تعامله مع أتباعه، إذ كان لا يتورع في طرد كل من يتردد في طاعة أوامره، مما يجعله يطرد بانتظام أعضاء الجمعية، بما فيهم كثير من مؤسسيها، وكأن يأمر الباقين من أتباعه بعدم التعامل مع المطرودين، أو التحدث إليهم، فأضعفت هذه العقوبة القاسية الجماعة.

ثم أدت العلاقات مع دول الخليج إلى تغير كبير في الجمعية. أولاً: عد الاهتمام بالأندلس فقط، قومية يجب الابتعاد عنها، فغيرت الجمعية اسمها من "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا" سنة 1981م، إلى "الجمعية الإسلامية في أسبانيا" سنة 1982م. ثانيًا: عد التصوف خروجًا عن الإسلام، فأعلن الشيخ عبد القادر تركه للتصوف، وخروجه عن الطريقة الدرقاوية، واعتناقه للفكر السلفي، وأخضع اتباعه لذلك، مما أدى إلى بلبلة كبيرة في صفوفهم، وطرد عدد جديد منهم، فخرج عن الجماعة معظم أعضائها، منهم من تركوا أسبانيا، ومنهم من كونوا جمعيات إسلامية أخرى، ومنهم من بقي مسلمًا لنفسه، ومنهم عدد صغير ارتد عن الإسلام.

ودخلت الجمعية في طور جديد بعد أن لم يبق فيها في غرناطة سوى حوالي خمسين عضوًا، وغيرت الجمعية مرة أخرى اسمها، وأصبحت تسمى "المرابطون"، كما غيرت اسم مجلتها من "البلاد الإسلامية"، إلى "المرابطون". وارتبطت الجماعة بشكل أوثق بالمراكز التابعة للشيخ عبد القادر المرابط في برييطانيا، والدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من البلاد. أما في أسبانيا فأصبحت زاوية البيازين بغرناطة مركزًا للجماعات التابعة للمرابطين في أنحاء أسبانيا: إشبيلية (الأندلس)، وبالمة ميورقة (الجزر الشرقية)، وبلباو (أوسكادي). كما أخذت الجماعة تعود إلى تنظيمها الصوفي بإحياء حفلات الذكر عامة، كما فعلت في إشبيلية في شهر يوليو سنة 1990م. وأنشأت الجماعة مؤسسات اقتصادية مثل شركة "السابقة" بغرناطة.

وهكذا فشلت هذه المحاولة الجريئة في نشر الإسلام في الأندلس رغم البداية المشجعة، ويعود هذا الفشل إلى أسباب عدة، منها: أخطاء أساسية في تنظيم الجماعة، المعتمد على المركزية، والتأطير، والطاعة المطلقة، عوضًا عن الشورى؛ وضعف في التواضع الإسلامي بين زعمائها؛ وانفصام الحركة عن المجال الأندلسي الموجودة فيه، بعد تبنيها للتاريخ الأندلسي، واستجابتها لشعور الأمة الأندلسية المعاصرة؛ والتذبذب بين المشارب الإسلامية نتيجة الضغوط الخارجية؛ وعدم نشر حساباتها مما أضاع ثقة من كانوا يساندونها. لكن ستبقى هذه الجماعة، بدون شك، عنصرًا مهماً في التركيبة الإسلامية الأندلسية.

وجدير بالذكر أن موقف "الجمعية الإسلامية في أسبانيا"، و"المركز الإسلامي في أسبانيا"، من هذه الحركة كان سلبيًّا؛ لأنهما لم تكونا تريان بعين الرضى قيام حركة إسلامية في الأندلس خارجة عن إطارهما. وظل موقف الجمعيتين هذا سائدًا بالنسبة لكل الحركات الإسلامية المحلية، وهو سبب النفور، القائم بين المسلمين المحليين، والوافدين الشرقيين في أسبانيا.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Juan Bustos "La Fiesta Musulmana del Final del Ramadan ,celebrada en La Alhambra "Patria Granada) , Agosto 4 ,1980

(2)Juan Bustos "No han Nagado La Mezquita de Cordoba para celebrar la Fiesta del Sacrifico: Mohammed Ali"Patria,Oct,16,1980

(3)"خطبة عيد الأضحى بقرطبة"ملحق خاص لجريدة النور (تطوان) ذو الحجة عام 1400هـ.

(4) Fiesta Musulmana en El Recinto de la Piscina Municipal"Cordoba 18/10/1980"

(5)Par Espanoles, que Existe en el Pais",Hoja de Lunes(Granada)20/10/1980

(6)"Une Association de Musulmans Espangols Repand I''''Islam dans la Peninsule Iberique"Matin du Sahara (Marco),dec.1980
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
جمعية قرطبة الإسلامية

جمعية قرطبة الإسلامية

جمعية قرطبة الإسلامية​

نشأت فكرة تأسيس جمعية إسلامية في قرطبة، عند زيارتي لمجريط في 19-21/11/1973م في إطار رحلتي لتقصي شؤون الأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا(1)، حيث اطلعت على موضوع مسجد قرطبة الجامع. وكان عمدة قرطبة حينذاك كوزمن رانية، قد طلب في مارس 1972م، باسم المجلس البلدي القرطبي، من منظمة اليونسكو، أن تعتبر مسجد قرطبة الجامع، أثرًا إنسانيًّا، وترجعه إلى أصله كمسجد، مما أثار نقاشًا حادًّا في الصحافة الأسبانية؛ ففي مقال بجريدة "الأ بي سي" بتاريخ 10/12/1972م، طلب رفائيل كاستيغون دي الرسالة، مدير المجمع الملكي الأسباني للعلوم والفنون الجميلة، إعادة المسجد إلى أصله الإسلامي بنقل الكتدرائية المقامة فيه إلى مكان مناسب، وإعادة المسجد لقيمته الدولية، وقدر مصاريف هذا النقل بحوالي عشرة ملايين دولار أمريكي. فاهتم الملك فيصل رحمه الله - ملك المملكة العربية السعودية- بالموضوع، وأرسل مع الشيخ محمد أحمد النعمان رسالة شفوية للجنرال فرانكو، في شهر يوليو سنة 1973م، مبديًا استعداده لتحمل مصاريف النقل. وكان تقديري للموضوع أن ذلك غير ممكن أصلاً بسبب ملكية المسجد للكنسية الكاثوليكية، التي لن تتخلى عنه بأي حال. لكن موقف مجلس قرطبة البلدي أثار انتباهي، وجعلني أعتقد أن أهل قرطبة يعطفون على الإسلام، وأن من بينهم من هم مسلمون سرًّا.

وصدر سنة 1979م الدستور الأسباني الجديد محتويًا على مادة تتعلق بتنظيم الأديان، وضعت تفاصيله بعد ذلك. وفي 5/7/1980م، وافق الكورتس على أول قانون لحرية الأديان، ولم يعد هناك سبب للتقية بين مسلمي الأندلس. وفي يوم الأربعاء 26 شعبان عام 1400هـ=9/7/1980م، زرت قرطبة، واجتمعت بعدد من مسلميها، منهم الأسبان، ومنهم المغاربة المقيمون، فطرحت عليهم فكرة تأسيس "جمعية قرطبة الإسلامية" حسب القوانين الأسبانية الجديدة، فتزعم العمل على إنشاء الجمعية "خايمي سيان"، الموظف في بلدية قرطبة، وهو مسلم متجنس أسبانيًا، من مواليد تطوان (15/11/1922م)، كان يعرف بها باسم عبد الحميد بن عبد السلام البلغيثي، وانتقل سنة 1971م إلى سكنى قرطبة، وتسمى بها باسم "خايمي سيان". وهو يتقن الأسبانية إتقان أهلها، ومندمج في المجتمع القرطبي الاندماج الكامل، يحفظ القرآن الكريم، وله معرفة جيدة بالمبادئ الإسلامية. وجدير بالذكر أن بأسبانيا الآلاف من الأسبان من أصول مغربية حديثة، غيروا أسماءهم واعتقوا المسيحية، على الأقل ظاهرًا، للحصول على حق البقاء في البلاد، فاندمج ابناؤهم في المجتمع الأسباني، وأصبحوا أسبانًا لغة، ونصارى دينًا.

وفعلاً، تابعت النواة التي بدأت في قرطبة علمها. ففي 30/9/1980م، سجلت "الجمعية الإسلامية العربية" باسم خايمي سيان التلمساني، وخوزي خوان دلكادو فرناندس دي سانتائيلا، وأنطونيو سالسيدو بخرانو، وزهرة الفاسي الرياحي (زوجة الأول)، وكلهم أسبانيو الجنسية. وفي 6/11/1980م غُير الاسم إلى "جمعية قرطبة الإسلامية ومقاطعتها". وفي 5/11/1981م، تسجلت الجمعية رسميًّا في وزارة العدل.

ثم ابتدأت بيني وبين خوليو انغيتا كونزالز، عمدة قرطبة، سلسلة من الرسائل؛ ففي 24/8/1980م، كتبت له من الظهران (السعودية) أحثه على مساندة تجمع المسلمين بقرطبة، فأجابني بتاريخ 18/9/1980م، قائلاً: "منذ مدة إني أرى باهتمام مصالح الجالية الإسلامية، ونحن باتصال مع ممثل لها بمجريط، ولقد أنهينا تسليم مسجد لها في قرطبة، ليتمكنوا من مزاولة شعائرهم. فعلاقتنا التاريخية مع العالم الإسلامي هي السبب في رغبتنا لربط معكم صلات الأخوة والصداقة والمحبة". فأجبته بتاريخ 11/10/1980م شاكرًا. وفي 6/10/1980م كتب إلى العمدة أنغيتا يخبرني بتأسيس "جمعية قرطبة الإسلامية"، ويستدعيني لزيارته في قرطبة للتدارس معه في إمكانية تسلم مسجد القاضي "أبو عثمان" (كنيسة سنتا كلارا) التاريخي، ليكون مركزها الإسلامي، وأكد دعوته برسالة أخرى بتاريخ 11/11/1980م. فأجبته بتاريخ 12/11/1980م شاكرًا على الدعوة، وزرته لأول مرة في قرطبة يوم الاثنين 24/11/1980م(2). وكان اجتماعاً وديًا رائعًا، بين فيه العمدة أنه معتز بارتباط مدينته بالإسلام، وأنه حريص على تنظيم الجالية الإسلامية بالمدينة، وأخبرني أن مجلس قرطبة البلدي، وافق على إعطاء مسجد القاضي "أبو عثمان" لجمعية قرطبة الإسلامية، على شرط أن يرمم ويصبح مركز إشعاع إسلامي.

وافقنا على الاجتماع يوم 26/12/1980م مع سيدي الوالد الشيخ محمد المنتصر الكتاني، لاستلام المسجد رسميًّا، وتدشينه بالصلاة فيه.

بني مسجد القاضي "أبو عثمان" أيام الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، في الحي العتيق من مدينة قرطبة، على بعد حوالي مائة متر من المسجد الأعظم. ومساحته حوالي ألف متر مربع، في شارع يسمى اليوم "ري هيريديا". وعندما احتل النصارى مدينة قرطبة، حولوه إلى كنسية سموها "سنتا كلارا". ثم باعت الكنيسة البناء العتيق إلى بلدية قرطبة، التي تمكنت بذلك من التصرف فيه. وهو مسجد كبير يحتاج إلى ترميم كبير، معالمه الإسلامية لازالت قائمة فيه، طابقان ومئذنة، ويصلح أن يكون مركزًا إسلاميًّا متكاملاً.

وفي صباح يوم الجمعة 26/12/1980م سُلم مفتاح المسجد في حفل بمجلس قرطبة البلدي لرئيس "جمعية قرطبة الإسلامي"، ثم توجه الجميع إلى المسجد حيث صلينا صلاة الجمعة، وأذن من أعلى مئذنة المسجد(3).

لم يعجب ما حدث السلطات الكنيسة، ففي 6/1/1981م كتب انفانتس فلوريدو- مطران قرطبة- رسالة مفتوحة إلى خوليو أنغيتا كونسالز - عمدة قرطبة- (4)قائلاً: "إن تسليم المساجد والبناءات التاريخية من طرف البلدية لجماعة إسلامية، عمل خطير.. يجعلنا نشعر بتيار إسلامي على مدينتنا القرطبية". واتهم المطران الإسلام بأنه يعتقد أن "الجنة تحت ظلال السيوف"، وقال: بأن تشجيع الإسلام في قرطبة من طرف السلطات المحلية، هو غلط تاريخي، وكذلك النزول بالقرطبيين من "مستوى نصراني رفيع" إلى "مستوى إسلامي متأخر". واتهم المطران عمدة قرطبة والمجلس البلدي بالاستهتار بمشاعر القرطبيين المسيحية.

فرد العمدة على المطران في اليوم التالي برسالة قوية قاسية نشرتها الصحف(5). قال فيها: إن الدستور الأسباني يحترم معتقدات جميع المواطنين، ويضمن حرية العقيدة، وأن لا فرق بين الدين الكاثوليكي والديانات الأخرى أمام الدستور الأسباني.. وقال بأنه كعمدة منتخب، من واجبه تطبيق الدستور في مدينة قرطبة، وأنه سبقت لبلدية قرطبة، أن ساعدت الكنيسة الكاثوليكية، وأصبح من واجبها أن تساعد المسلمين. وقال العمدة للمطران: إنه انقضى عهد تحكم الكنيسة في الأهالي والدولة بدون رجعة، وأن الكنيسة الكاثوليكية ليست في مستوى أخلاقي، يسمح لها بانتقاد الإسلام في أسبانيا. أما عن شعور أهل قرطبة فقال العمدة: "هم قد انتخبوني عمدة، ولم ينتخبك أحد من أهل قرطبة، يا السيد المطران، مطرانًا عليها". وقال العمدة: إن موقفه وموقف المجلس البلدي هو العدل لمصلحة المدينة، وأنه شخصيًّا لا ينحاز لأي دين، إذ ليس نصرانيًّا ولا مسلمًا. وأنهى العمدة رسالته المفتوحة بقوله: "أنا عمدتك، وأنت لست مطرانيا".

وقامت بعد ذلك حملة صحافية حول الموضوع بين معارض للعمدة، ومساند له، دامت شهورًا، وعمت جميع صحف أسبانيا. وكان لهذه الحملة، في أول الأمر، تأثير طيب على الجمعية الجديدة، إذ اشتهر وجودها، فتكاثر أعدادها من بضعة أفراد، إلى حوالي الخمسين شخصًا، في بضعة شهور، وأصبحت الصحافة تتكلم عن الجالية الإسلامية في قرطبة، كواقع بدهي، بعد أن كانت منعدمة، وحاربت الجمعية الجديدة بدون هوادة عدة أوساط: أولاً اليمين الأسباني، والكنيسة بالطبع. ثانيًا: وهذا مما يدعو للأسف "الجمعية الإسلامية في أسبانيا" و"المركز الإسلامي في أسبانيا"، وذلك بكتابة التقارير السلبية التي تشوه بالجمعية للبلاد العربية والمؤسسات الإسلامية. ثالثًا الإرساليات الدبلوماسية العربية في مجريط.

وعملت "جمعية الرجوع إلى الإسلام في أسبانيا" إلى ربط الصلة مع "جمعية قرطبة الإسلامية"، فوقعت عدة اجتماعات بين الجمعيتين كانت تحرص فيه الأولى ضم الثانية إليها. ولم يمكن ذلك بسبب شكل تنظيم الجمعية الغرناطية الهرمي، على خلاف الجمعية القرطبية. وفي 1/5/1981م توصلت الجمعيتان إلى توقيع اتفاق تعاون بينهما في غرناطة هذا نصه، بعد البسملة والتصلية: "نقسم بالله العلي العظيم، وبهذا القرآن الكريم، على العمل يدًا واحدة، على نصرة الإسلام في أرض الأندلس (أسبانيا والبرتغال)، وإعادة شريعة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وأن نكون كما أمرنا الله إخوة في الله، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يخذل بعضنا بعضًا، وألا يغتاب بعضنا بعضًا، والله خير شاهد لنا على هذا، وهو نعم المولى ونعم النصير". ووقع عن الجمعية الأولى أميرها منصور عبد السلام، وعن الثانية رئيسها خايمي سيان، وشاهدان هما كاتبه، والمحامي محمد بن إدريس الحلو من الدار البيضاء.

وكان على "جمعية قرطبة الإسلامية" القيام بثلاثة أعمال ضرورية، هي:

1- التوصل إلى اتفاق خطي مع بلدية قرطبة للحصول على مسجد القاضي أبي عثمان وشروطه، وجمع الأموال لترميمه.

2- الحصول على مركز مؤقت للجمعية.

3- استدعاء إمام لتعليم الداخلين في الإسلام أمور دينهم.

ففي 17/7/1981م قدمت وزارة الثقافة متطلباتها لترميم مسجد القاضي أبي عثمان. وقدمت الجمعية للبلدية دراسة متكاملة لترميم المسجد، كلفتها أكثر من خمسة ملايين بسيطة، ردت عليها البلدية بتاريخ 29/9/1981م، محددة رأيها في المشروع. ولم يكن هناك مشكل كبير من الناحية الفنية للوصول إلى اتفاق مع البلدية. المشكلة الكبرى كانت في شروط الحصول على المسجد. ففي 20/6/1981م، قدمت البلدية مشروع اتفاق فيه نقاط مجحفة لا يمكن قبولها، منها: إجبار الجمعية ترك المسجد للسياح، وفتح باب التنافس مع أي جمعية أخرى تود الحصول على المسجد، وتحديد استعمال المسجد لمدة 49 سنة، يعود بعدها للبلدية، وحق البلدية في استعادة المسجد أبان الحقبة المذكورة عندما تشاء.. إلخ. مما جعل المفاوضات تصل إلى باب مقفول، فأخذت الجمعية تفكر في بناء مسجد يكون ملكًا لها، وترك مسجد القاضي أبي عثمان أمام هذه الشروط الناتجة عن ضغوط الأوساط المتطرفة. كما أن البلدية أرادت أن تسلم للجمعية بناء "القلعة الحرة" لاستعماله كمؤسسة دينية. ولم تتابع الجمعية الموضوع لعدم مقدرتها عليه.

وفي 14/8/1981م، ابتدأت حملة صحفية ضد خايمي سيان، اشترك فيها عرب وأسبان، فنشرت الصحافة شهادة اعتناقه المسيحية بتاريخ 6/12/1979م، وإعادة زواجه في الكنيسة، وشتمه مناوئوه بكل الشتائم(6). فأجاب خايمي على الاتهامات بأنه أجبر على اعتناق الكاثوليكية ظاهرًا لأنهم "سحبوا من زوجتي جنسيتها الأسبانية التي كانت تتمتع بها منذ 27 سنة عند زواجها بي، ورفضوا إعطاء الجوزات لأبنائي، ورفضوا تجديد الورقة الوطنية لواحد منهم، فأجبروني على عمل ما عملته، ولكنني مسلم الآن كما كنت مسلمًا في الماضي، وسأبقى مسلمًا إلى أن ألقى الله"(7).

وفي 1-2/1/1982م نظمت "جمعية قرطبة الإسلامية"، في مركز البلدية، بقصر الخليفة القديم بقرطبة، "لقاء الصداقة العربي القرطبي"، أول مؤتمر لها، افتتحه العمدة أنغيتا، واشتركت فيه شخصيات عربية وأسبانية. افتتح المؤتمر بقراءة القرآن الكريم، تبعته محاضرات لكاتب هذه السطور، وللأساتذة عبد السلام الهراس، وإسماعيل الخطيب من المغرب، وانطونيو رباسكو، وأنطونيو سالسيدو، ولاورو الموس من أسبانيا، وغيرهم(8). وأقام مرة أخرى المطران انفانتس فلوريدو، ضجة في الصحافة، ظلت عدة أسابيع بسبب صلاة بعض الحاضرين تحية المسجد في المسجد الأعظم، وعد ذلك إهانة للكاثوليكية(9).

وفي 11/1/1982م زار الرئيس الجزائري الأسبق، السيد أحمد بن بلا، وزجه السيدة زهراء السلامي، قرطبة بدعوة من "جمعية قرطبة الإسلامية"(10). وفي أواخر يناير عام 1982م، زار المغرب وفد من الجمعية اجتمع بعدة شخصيات رسمية وغير رسمية(11).

وفي أوائل 2/1982م زار المغرب وفد قرطبي برئاسة العمدة انغيتا وزوجه، وعضوية خايمي سيان، وعدد من أعضاء المجلس البلدي، بدعوة من بعض العائلات الأندلسية لشكر العمدة، وأهل قرطبة، على مواقفهم الشجاعة في مساندة الإسلام بها. وألقى أنغيتا محاضرة بالدار البيضاء عن "قرطبة: ماضيها وحاضرها ومستقبلها". وكان لها أعمق الأثر. كما استقبلت عدة شخصيات مغربية، الوفد في بيوتها، منهم الدكتور عبد الكريم الخطيب بالرباط، والأستاذ عبد الله كنون رحمه الله بطنجة، والحاج إدريس الحلو بالدار البيضاء، وغيرهم. وانتهت زيارة الوفد في مدينة فاس، حيث احتفل به أهلها(12). ثم زار وفد "جمعية قرطبة الإسلامية" برئاسة سيان، بعض دول الخليج، واجتمع بالمسؤولين فيها، من بينهم الشيخ أحمد المبارك رحمه الله، رئيس القضاء الشرعي بأبوظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وفي يونيو سنة 1982م افتتحت "جمعية قرطبة الإسلامية" مركزًا لها في شقة مؤجرة بشارع أنخيل سابدرا، وسط مدينة قرطبة، بعد أن كان أعضاؤها يجتمعون في بيت رئيسها، بعد أن يئست من استرجاع مسجد القاضي أبي عثمان بشروط معقولة. ثم فكرت الجمعية في استقدام إمام من المغرب، يعرف الأسبانية والتربية الإسلامية، لتعليم أعضاء الجمعية أمور دينهم. وبعد الاستشارة أُختير الإمام الذي التحق بعمله في يوليو عام 1982م.

ثم تعرضت الجمعية لخلافات ونزاعات، أدت إلى تجميدها وانضمام بعض أفرادها إلى الجماعة الإسلامية في الأندلس، في شهر مايو 1990م.

يجدر بنا أن نستنتج بعد هذا العرض، أسباب فشل "جمعية قرطبة الإسلامية"، وإيجابيات هذه التجربة. كان تأسيس هذه الجمعية مفيدًا للغاية في إرجاع الإسلام إلى الأندلس. فقد أثبتت الوجود الإسلامي لأول مرة في قرطبة. واعتنق الإسلام عن طريقها، عدد مهم من القرطبيين، ظلوا مسلمين بعد فشلها كتنظيم، مما سهل إعادة تنظيم مسلمي قرطبة على أسس أفضل. كما أظهر وجود هذه الجمعية القوى القرطبية العاملة، المعارضة للإسلام منها، والمساندة له.

لم تنجح "جمعية قرطبة الإسلامية" في أن تكون انطلاقة الانبعاث الإسلامي في الأندلس لأسباب متعددة، منها ما هو داخلي للجمعية، وما هو خارجي عنها، فأما الداخلي فيعود إلى ضعف الاحتياط في إدخال عناصر غير أندلسية للجمعية، ورئيس الجمعية المشرقي الذي جمدها، وكان من الأحوط عدم قبولهما أملاً في الجمعية، كما أن رئيس الجمعية الأول والثاني، قاما بأخطاء كبيرة استفاد منها أعداء الإسلام في الأندلس. ومن جهة أخرى لم تتمكن الجمعية من تبني برنامج واضح إسلامي أندلسي، يستجلب للإسلام الجماهير الأندلسية. أما السبب الخارجي فيعود إلى مناهضة كثير من الأوساط المسلمة الوافدة لهذه التجربة.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)علي المنتصر الكتاني،"المسلمون في أوروبا و أمريكا" دار إدريس 1976 الجزء الأول.

(2) Interes Arabe por la Cesion de Uso de la Antigua Mezquita de Santa Clara"Cordoba ,25/11/1980"

(3) Entregada la Liave de la Antigua Mezquita de Santa Clara al Senor al-Kettani" Cordoba 27/12/1980"

(4)Precisiones Historicas sobre la lglesia de Santa clara"cordoba 8/1/1981

(5)Cordoba: "El Alcalde Replica Al Obispo Sobre las Cesiones de Edificios a Los Musulmanes" 7/1/1981

(6) Jaime Sellan es Catolico" Cordoba, 14/8/1981"

(7) Conozco a Jaime Sellan desde que Llego a Cordoba" Cordoba 20/8/1981"

(8) Se Celebro el l Encuento de Amistad Arabe-Cordobes"Cordoba3/1/1982

(9) Protesta del Obispado por los Resos Musulmanes en la Mezquita Catedral"Cordoba, 3/1/1982"

(10) El Expresidente Argelino Ben Bella Visito Ayer Nuestra Ciudad"Cordoba. 12/1/1982

(11) Mr.Hachmi Filali Recoit une Delegation de I''''Association Islamique Autonome de Cordoue"le Matin,21/1/1982

(12) Sans la Tolerance entre les Communautes.."Macro-Soir.12/2/1982
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس

محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس

محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس

قامت في الأندلس محاولات إسلامية تنظيمية أخرى، منها ما ظل محدودًا، ومنها ما كانت حياته قصيرة، ومنها ما بقي حبرًا على ورق، ومنها ما انضم إلى تنظيمات أخرى، وكل هذه التنظيمات محلية لا تخرج عن مدينة من مدن الأندلس.

وقد تفرعت كل التنظيمات الإسلامية الموجودة اليوم في مدينة غرناطة عن "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، وقد أسسها أفراد أو جماعات خرجوا من الجمعية الأم، لذلك فهذه الجمعيات لا تختلف في تنظيمها عن الجمعية التي تفرعت عنها.

أول هذه الجمعيات هي "الجماعة الإسلامية في أسبانيا-مسجد التقوى"، وهي التي يعمل فيها المعلمان الموريتانيان، وقد انضم لها أكثر من خمسين عضوًا، فتحوا أعمالهم في منطقة غرناطة القديمة بين نهر هدره، ومنحدر حي البيازين. ويقع مركز الجماعة في مكان مستأجر يستعمل مركزًا إسلاميًّا. وتقوم الجمعية بمجهود جيد في نشر المعرفة الإسلامية بين أفرادها، لكن نشاطها محدود في غرناطة.

الجمعية الثانية هي "جماعة الأندلس المسلمة"، وهي أول جمعية أسست في غرناطة بعد "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، أسسها عدد من الذين أُخرجوا من الجمعية السابقة. وفي 28 رمضان عام 1401هـ موافق 31/7/1981م. وتكون مجلسها التنفيذي الأول من السادة عمر عبد الحق كوكا دومنكز (الرئيس) (أصله من إشبيلية)، عبد الكريم محي الدين كراسكوساستر (نائب الرئيس)، زهراء كونتريراس كانو (أمينة سر)، عبد النور كوكا دومنكز (أمين الصندوق)، محمد خان (عضو) عائشة دياس برمودس (عضوة)، محمد مبين مدينة رودريكز (عضو). وجاء في إعلان تأسيس هذه الجمعية ما يلي: "إن تأسيس جمعية جماعة الأندلس المسلمة بغرناطة كمركز لها، من طرف رجال ونساء اعتنقوا الإسلام في السنين الأخيرة، كان لتغطية فراغ ناتج عن إلغاء جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا، وتحويلها إلى طريقة صوفية درقاوية. هذا التغير من جمعية للجميع إلى طريقة، التي هي بطبيعتها للأقلية المختارة، أدى إلى جعل المسلمين الذين ليسوا أعضاء في الطريقة، والذين هم بطبيعة الحال جزءًا لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، غير منظمين، وبدون مركز، يجتمعون فيه لتأدية شعائرهم الدينية. تود جماعة المسلمين هذه، في غرناطة، التعبير عن احترامها المستحق لأي طريق يختاره المسلم في إطار الشريعة الغراء، لعبادة اله تعالى، حسب تعاليم القرآن الكريم، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتسعد لانتشار الدين الإسلام الحنيف، وتقوية جذوره في قلوب سكان هذا الوطن".

ثم فتحت الجمعية مركزًا لها في شقة بشارع كاستنيدا، ثم انتقلت إلى شقة أكبر بشارع شنيل بوسط غرناطة، بها مكاتب، وبيت لسكن الإمام، ومصلي. وانضم إليها عدة عشرات من مسلمي غرناطة، وحاولت الجمعية أن تنوع نشاطها خارج غرناطة، وكانت لها مشاريع حول تأسيس مزرعة للمسلمين في جبال رندة، لكن لم تتمكن من إنجازها بسبب ضعف إمكانياتها المالية.

وفي مايو عام 1983م انضمت هذه الجمعية إلى "جماعة الإسلام في الأندلس" التي مركزها إشبيلية، ثم انفصلت في أواخر سنة 1984م عنها، كما سنرى، وأصبح هارون كراكويل روميرو أحد رؤسائها، وهي الآن جمعية صغيرة من بين جمعيات غرناطة الإسلامية، ذات نشاط محدود.

والجمعية الثالثة هي "جماعة غرناطة الإسلامية"، المسجلة رسميًّا بوزارة العدل كجمعية دينية. أسست هذه الجمعية سنة 1984م من طرف بعض المسلمين الذين كانوا أعضاء في "جماعة الأندلس المسلمة"، ممن انضموا إلى المذهب الإثنى عشري، فانفصلوا عن الجمعية المذكورة، عند انضمامها إلى "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وكانوا جمعية ذات اتجاه شيعي، على عكس الجمعيات الأخرى، التي تتبع جميعها المذهب السني. وكان محمد مبين مدينة رودريكز أول رئيس للجمعية. ويوجد مقرها في شارع نويبا دي لابرخن بغرناطة، ولا يزيد عدد أعضائها على العشرة بكثير، ونشاطها محدود.

والجمعية الرابعة هي "مسجد البيضاء"، التي أسست في ساحة البيضاء من غرناطة، وإمامها ورئيسها هو أحمد عبد الله فوتمديانو، وهو كذلك من قدماء أعضاء "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، وللجمعية بضعة عشرات من الأعضاء، ولا يتعدى نشاطها غرناطة.

أما الدكتور منصور عبد السلام اسكوديرو، الذي كان أميرًا لـ"جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، فبعد طرده من الجمعية المذكورة، انتقل إلى مطريل على شاطئ البحر، بمقاطعة غرناطة مع جماعة من الأطباء المسلمين، وأسس معهم مركز الطب المتكامل، فتكونت بذلك مجموعة إسلامية في مطريل دون تنظيم أو نشاط آخر سوى مجال الطب.

وأول من فكر في تكوين جماعة إسلامية خارج مقاطعة غرناطة، هو رجل من جيان متقدم في العمر، سبق له أن عمل في الجيش الأسباني، اسمه الإسلامي: مولاي محمد بن علي الأندلسي، واسمه النصراني: أميليو أكوثر أنايا. يقول: إنه من سلالة أمراء المسلمين، وكان يعلن في السبعينيات الميلادية أنه خليفة المسلمين في الأندلس. لم يكن له أتباع، بل كان من أوائل من تجرأ على إعلان إسلامه من بين الأسبان، وحاول نشره بطريقته، لم يكن له مقر، وكان يتجول عبر أسبانيا كلها.

وفي يناير عام 1983م أسست "جماعة المرية الإسلامية" في المرية، من طرف بلال كيلس ميزا، أندلسي، من أصل إشبيلي، أسلم في بلجيكا سنة 1975م، وسجلت في وزارة العدل. لكن هذه الجمعية بقيت إلى اليوم حبرًا على ورق، إذ ليس فيها إلا بلال وحده، الذي انتقل هو نفسه من المرية. وكل مسلمي المرية الأندلسيين هم اليوم أعضاء "الجماعة الإسلامية في الأندلس".

وفي منتصف سنة 1982م أسس عبد السميع أريانا "جماعة مالقة الإسلامية". وهو مسلم مالقي، كان من أعضاء "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، وهو كاتب وباحث في الشؤون الأندلسية، أسلم في أواخر السبعينيات، بعد تعمق في دراسة تاريخ الأندلس، وتعرف على سيدي أحمد الحجي، من علماء جامعة القرويين بفاس، ومكث في بيته زهاء العام يتعلم أمور دينه. وفي سنة 1984م اشترت الجمعية بناية من ثلاثة طوابق بشارع سان أغوستين وسط مدينة مالقة، وحولتها إلى مركز إسلامي به مكتب، ومسجد، وبيت للإمام، وحصلت على إمام مغربي بتمويل من دار الإفتاء بالمملكة لعربية السعودية. ولا يزيد أعضاء الجمعية الأسبان على العشرة بكثير، وقد كاثرهم الوافدون من المغرب. ويقوم المركز بنشاط يحمد عليه، في تعليم مبادئ الدين الإسلامي لأعضائه. وفي سنة 1986م أصبح عبد السميع أريانا موظفًا في القنصلية السعودية في مالقة، وسلم المركز لجمعية "المركز الإسلامي في أسبانيا"، فأصبح أحد فروعها.

وبمقاطعة مالقة، تجمع إسلامي آخر، في بلدة "سان بدرو دي القنطرة"، غرب مدينة مربلة، تكون سنة 1983م تحت اسم "الطريقة الإسلامية"، من طرف خالد عبد الكريم، وهو عمدة سابق لبلدة مودة بمقاطعة مالقة، كان عضوًا في "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا". أعضاء الجمعية قليلون لا يزيدون على العشرة، ولهم مركز خاص بهم، ولا يتعدى نشاطهم بلدتهم.

انضم إلى "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا"، عند مرورها بإشبيلية سنة 1979م-1980م، عدد من الأسبان، وعندما انتقلت الجماعة إلى غرناطة سنة 1980م رفض عدد منهم الانتقال من إشبيلية، فطردهم الشيخ عبد القادر الصوفي من جماعته، فأسوا جمعية خاصة بهم في 6/12/1981م، هي "جماعة إشبيلية الإسلامية"، وكانت لجنتها التنفيذية الأولى تتكون من عبد الهادي سانز كمينو (رئيس)، وعبد المغني غارسيا أرتاشو (أمين سر)، ومحمد أحمد علي الشرقي (أمين صندوق)، وهو من سبتة، وعثمان برسابي غونزالس (عضو)، وعمر ألابونت تورمس (عضو). وسجلت الجمعية رسميًّا كجمعية دينية في وزارة العدل بتاريخ 13/5/1982م، وكان أعضاؤها عشرون حينذاك تقريبًا.

وكان مركز الجماعة عند تأسيسها، في شقة بشارع كوندي دي توريخون، قرب ساحة أوروبا، في حي فقير، من أحياء إشبيلية. وفي أواخر سنة 1982م انتقلت الجمعية إلى مقر أفضل في حي لائق بشارع آمور دي ديوس (محبة الله)، وهو عبارة عن بيت قديم من طابقين، به مسجد ومدرسة ومكاتب للجمعية. ثم بعد الانشقاق الذي أدى إلى ولادة "الجماعة الإسلامية في الأندلس" -كما سنرى-، انتقلت الجمعية إلى مركز أصغر بشارع ميسون دل مورو (فندق المسلم)، وظل نشاط "جماعة إشبيلية الإسلامية"، محدودًا في مركزها الإسلامي، ولم يتزايد عدد أعضائها منذ نشأتها.

وتوجد طريقة صوفية إنجليزية في بلدة أركش، بمقاطعة قادس، بها أسبان وإنجليز، مسلمون وغير مسلمون، ولا تعد هذه الجماعة نفسها مسلمة، بكل ما في الكلمة من معنى، ولا تتعامل مع الجماعات الإسلامية الأخرى.

وفي 10/2/1982م زار روجي جارودي قرطبة، قبل إسلامه بصفته مدير "المركز الدولي لحوار الحضارات"، واستقبله عمدتها خوليو أنغيتا. فتحدث جارودي عن قرطبة كمركز للحوار الحضاري، وعن إمكانية تأسيس جامعة إسلامية بها، ثم استدعت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" روجي جارودي لـ"المؤتمر الإسلامي الأول للمسلمين الأوروبيين"، الذين عقد بإشبيلية في 19-22/7/1985م. فحضره وانتخب رئيسًا له(1)، ثم تابع مفاوضاته مع بلدية قرطبة للحصول على "القلعة الحرة"، التي كانت عرضتها على "جمعية قرطبة الإسلامية"، فوافقت البلدية على تلسيمها له، لاستعمالها متحفًا ثقافيًّا.

وقد ساعده في إنشاء المتحف عبد الرحمن مدينة موليرة، أحد زعماء "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وأول مدير للمتحف. وافتتح المتحف في أوائل مارس عام 1987م، بحضور عدة شخصيات إسلامية وغير إسلامية، من المشرق والمغرب، في مؤتمر لحوار الديانات والحضارات. ولم يكن المتحف إسلاميًّا، وإن كانت فيه بعد الظواهر الإسلامية، كمجسم لمسجد قرطبة الجامع، ولقصر الحمراء، صنعهما المسلمان الأندلسيان يوسف بغراس رولدان، وزوجته مريم. ومولّ المشروع كله بأموال من المملكة العربية السعودية وأقطار الخليج الأخرى. والمتحف ليس مركزًا إسلاميًّا، ويديره منذ أوائل سنة 1988م رجل نصراني. وليس للمفكر الفرنسي المسلم روجي جارودي نشاط في الجالية الإسلامية في الأندلس.

ذكرت في هذا الباب، حوالي عشر جمعيات إسلامية أسسها في أوائل الثمانينيات، الراجعون إلى الإسلام في مدن الأندلس المختلفة.. فما هي سلبياتها وإيجابياتها؟

من السلبيات: تعدد التنظيمات، الذي يدل على تشتت الكلمة وعدم التنسيق، وربما التصادم، وهذا لا يليق بحركة ناهضة، يعلق عليها المسلمون الآمال الكبيرة. ولكن لهذا التعدد فائدة، وهي أنه بعد فشل التجارب المذكورة آنفًا (تنظيم الوافدين المسلمين، وتنظيم الشيخ عبد القادر الصوفي، وتنظيم جمعية قرطبة الإسلامية) في استقطاب جميع الراجعين إلى الإسلام، أصبح من المفيد أن يتقدم كل من له أفكار جديدة بأفكاره، وينظم الجماعة التي تتجمع حولها، حتى يظهر مع الوقت الناجح من الفاشل منها. وفعلاً قامت هذه الجمعيات بمجهود مشكور، كل واحدة على طريقتها، بالدعوة إلى الإسلام بين الأندلسيين وغيرهم من الأسبان. فمعظم من اعتنق الإسلام ظل مسلمًا، حتى لو غير انتماءه من جمعية إلى أخرى، أو غيرت الجمعية اسمها، أو خرج من كل الجمعيات وبقي بمفرده. لذا أصبح في آخر الثمانينيات عدد الراجعين إلى الإسلام بالأندلس، يعد حوالي 4.000 مسلم سنة 1990م.

وقد اتبعت كل جمعية من الجميعات المذكورة أعلاه، مصيرًا مختلفًا. فمنها من ولد ميتًا (جماعة المرية الإسلامية)، ومنها من انضم لغيره (جماعة مالقة الإسلامية)، ومنها ما انبثقت عنه جماعة أخرى، أصبحت من أكبر جماعات الأندلس، والأمل في قيادة المسيرة الإسلامية بها (جماعة إشبيلية الإسلامية) كما سنرى فيما يلي.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)"Roger Garaudy" El Pais(Madrid)25/7/1985

 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس

محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس

محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس

تعد "الجماعة الإسلامية في أسبانيا" بشارع أوخنيو كاشس بمجريط، أقدم جمعية إسلامية أسبانية خارج الأندلس. وقد سجلت في وزارة العدل في 27/12/1979م من طرف الباروما تشوردوم كوتر (أمين عام)، وخابير نيكولاس كوبيوس نييطو، وطوماس باريو غبريال (الرئيس)، وكلهم من سكان مجريط. ويعد أحمد عبد الله ما تشوردوم كومينز أمينها العام، ومؤسسها الأساسي، وهو كاتب وصحافي أصله من بلنسية، كتب عددًا من المقالات في الجرائد الأسبانية يدافع فيها عن الإسلام وقضاياه، كما كتب كتابًا حول سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وله علاقة وثيقة بوزارة الخارجية الأسبانية كمستشار في الشؤون الإسلامية، كما له علاقات طيبة مع السفارات العربية بمجريط.

ويحدد نظام هذه الجمعية الأساس أن هدفها هو: "نشر الإسلام كما جاء في القرآن والسنة، يبن جميع مسلمي أسبانيا، والتعريف به لدى جميع الأشخاص الذين يودون الحصول على معلومات عنه؛ وتأسيس فروع "الجماعة الإسلامية في أسبانيا" في كل مناطق المساحة الوطنية؛ وتشجيع تعليم اللغة العربية، لغة القرآن، ولغة 21 دولة تربطنا معها علاقات قوية من الصداقة التاريخية، وربط العلاقات الأخوية في جميع المجالات بين الشعوب الإسلامية والشعب الأسباني، وإعانة جميع المسلمين الأسبان على بناء شخصية إسلامية حقيقية باتباع أركان الإسلام وقراءة القرآن وفهمه، والاقتناع بتعاليمه، إلخ.."

وفي 26-28/12/1989م أقامت الجمعية أول مؤتمر للمسلمين الأسبان بفندق براغا بمجريط. ويحتوي مركز الجمعية بمجريط على مسجد ومكاتب، ولها به نشاط محدود. وفي سنة 1980م توصلت الجمعية إلى اتفاق مع بلدية قرطبة حول مسجد "المرابطو" الذي بناه فرانكو بقرطبة في ساحة حديقة "المرسد" بقرطبة للجنود المغاربة. وقد سلمت البلدية المسجد لهذه الجمعية تحت الشروط التالية:

1- يستعمل البناء للعبادات الإسلامية فقط.

2- تكون كل أعمال الترميم أو التغيير على حساب الجمعية بموافقة البلدية المسبقة.

3- يدوم استعمال المركز لخمس سنوات.

4- على الجمعية الحفاظ على المسجد بحالة جيدة.

5- يرجع البناء وكل الإصلاحات التي أجريت عليه للبلدية بعد فترة الخمس سنوات دون تعويض للجمعية..

وبعد انتهاء المدة، استرجعت البلدية البناء وسلمته في شهر مارس سنة 1986م إلى سفير المملكة العربية السعودية بمجريط(1)، الذي سلمه بدوره إلى جمعية "المركز الإسلامي في أسبانيا"، وبهذا أصبح المسجد الصغير فرعًا لتلك الجمعية في قرطبة.

لـ"الجماعة الإسلامية في أسبانيا" حوالي مائة عضو في أسبانيا كلها، ويقول مسؤولوها: إن لهم أتباعًا في المرية وبلنسية وبرشلونة. وللجمعية فرع في مدينة سبتة، يرأسه أحمد الزبير، رئيس الجماعة الحالي. وبصفة عامة، فتأثير هذه الجماعة محدود اليوم على مركزها في مجريط وبنشاط رئيسها بسبتة وأمينها العام بمجريط بالكتابة والنشر والدفاع عن الإسلام في الصحافة. وليس لهذه الجماعة تأثير في منطقة الأندلس، خاصة بعد إعادتها لـ"المرابطو" إلى بلدية قرطبة.

وفي 23/7/1983م تأسست "جماعة بلنسية الإسلامية" من طرف عبد الرحمن عباد أبالوس (رئيس)، وفرنسسكو مرين رودريخز (أمين عام)، ويوسف عباد أبالوس (أمين الصندوق). وحدد نظام الجمعية أهدافها بالدعوة إلى الإسلام حسب القرآن الكريم وسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي شهر فبراير سنة 1984م فتحت الجمعية مركزًا لها في شقة كبيرة، بشارع سان مارتين ببلنسية(2).

وكان عبد الرحمن عباد أبالوس، مؤسس الجمعية، صحافيًّا يعمل في برشلونة، ثم سكن مالقة مسقط رأسه. وقد عمل في الجيش الأسباني بتطوان في الحقبة 1953-1954م، وتعرف لأول مرة هناك على المجتمع الإسلامي. وبعد عودته من تطوان أخذ يقرأ عن الإسلام، فاعتنقه سرًّا سنة 1959م بعد اقتناع، ولم يشهره إلا سنة 1977م، وأسلم بإسلامه جميع أهله. وفي سنة 1978م زار القاهرة، حيث التقى بعدد من المفكرين المسلمين. ثم رجع إلى مالقة حيث عمل صحفيًّا بجريدة "سور" (الجنوب). وانضم عبد الرحمن عباد إلى "جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا" ثم انفصل عنها وأسس الجمعية المذكورة.

وظلت هذه الجمعية ذات نشاط محدود لصعوبات مالية عانتها منذ البداية، فلم يزد عدد أفرادها على العشرة. وأساء السيرة الإمام المغربي الذي أتت به الجمعية لتعليم أفرادها أمور دينهم. ثم غيرت الجمعية مقرها إلى مكان آخر، ومنذ سنة 1989م ظلت بدون مقر.

تأسس كذلك بمجريط سنة 1982م "المعهد الغربي الإسلامي للثقافة"، كمؤسسة ثقافية برئاسة الدكتور المغربي عبد الرحمن جاه الشريف. ينتمي لهذا المعهد عدد من المفكرين الأسبان المسلمين، وله مركز ثقافي بشارع فرانسسكو رتي. ويقوم المعهد بمجهود مشكور في التعريف بالحضارة الإسلامية خارج منطقة الأندلس بأسبانيا. ومن أهم نشاطاته: تحضيره لمؤتمرين ثقافيين مهمين، أحدهما سنة 1987م بطليطلة (عاصمة قشتالة مانشا)، تحت اسم "الأندلس الإسلامية، تاريخ ثمانية قرون". والثاني في 22/9/1988م بطرويل بأراغون تحت اسم "أراغون تستعيد تاريخها". ركز المؤتمر الأول على دراسة الإسلام في قشتالة، والثاني على دراسته في أراغون. وينوي المعهد إنجاز دراسات وبحوث حول الثقافة الإسلامية في أسبانيا في مجالات التاريخ والفنون الإسلامية، وربطها بالواقع الأسباني المعاصر، ونشر نتائجها وتوزيعها.

ويلخص رئيس المعهد فلسفته فيما يلي: "إن العلاقة القائمة بين اهتمامنا الثقافي والواقع الأسباني تتحدد من خلال الوعي بأسس الحضارة الإسلامية في هذا البلد. ونشر حقائق الإسلام في الأوساط الأسبانية؛ لأن الثقافة الإسلامية تمثل ثقافة الشعب الأسباني كذلك رغم أن الظروف التاريخية التي مر بها تجعله يجهل هذه الثقافة"(3).

أما الجمعية الإسلامية الموجودة في مرسية فهي تابعة "للجماعة الإسلامية في الأندلس" التي تعد منطقة مرسية تابعة للأندلس الطبيعية، رغم أنها ليست تابعة لمنطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي، بل هي تكون منطقة ذات حكم ذاتي قائمة بنفسها. وسندرس نشاط هذه الجماعة مع "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في الفصل القادم.

ويستحسن أن نعطي الآن موجزًا عن الوجود الإسلامي المعاصر في البرتغال، حيث أنها كانت قسمًا من بلاد الأندلس. كما أن التأثير الإسلامي لازال واضحًا في المنطقة الواقعة جنوب الأشبونة، في مقاطعات شنتمرية الغرب (فارو اليوم)، وباجة، ويابورة.

يوجد بالبرتغال حوالي عشرون ألف مسلم (سنة 1990م)، هاجر إليها معظمهم من المستعمرات البرتغالية التي حصلت على استقلالها بعد سنة 1974م. ولمعظمهم الجنسية البرتغالية، ولهم بذلك كامل حقوق المواطنة. ويمكن تصنيف مسلمي البرتغال إلى خمس فئات:

1- الأفارقة المتأصلون من موزبيق.

2- الآسيويون المتأصلون من شبه الجزيرة الهندية والقادمون من غوا ومكاو وتيمور.

3- الأفارقة المتأصلون من غينيا بيساو.

4- العرب، خاصة المغاربة والجزائريون والمصريون.

5- والبرتغاليون الراجعون إلى الإسلام حديثًا.

تأسست سنة 1986م "جماعة الأشبونة الإسلامية"، أول جمعية إسلامية في البرتغال، وسجلت رسميًّا في 28/3/1969م. ونعتت الجمعية نفسها أنها دينية ثقافية غير سياسية. وحددت أهدافها في بناء جماعة الإسلامية برتغالية متكاملة، وتأسيس أول مسجد في البلاد، والدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه باللغة البرتغالية، ونشر تعليم اللغة العربية والمبادئ الإسلامية في البرتغال. ومؤسس الجمعية ورئيسها إلى اليوم هو الدكتور سليمان ولي محمدي، وهو من أصل موزمبيقي، ذو نشاط كبير، وهو مؤسس جمعية الصداقة العربية البرتغالية كذلك. أما أعضاء مجلس الإدارة الآخرون، فهم: الدكتور إدريس محمد وكيل (أمين سر)، وعبد الستار داود جمال (أمين الصندوق)، وفاروق علي جادت، ومحمد حسين موسى.

وفي يوليو سنة 1978م نشرت الجمعية لأول مرة ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة البرتغالية في مجلدين، ونشرت طبعة ثانية للترجمة في سبتمبر سنة 1979م. ومنذ سنة 1980م أخذت تنشر مجلة إسلامية باللغة البرتغالية اسمها "الإسلام". وقامت الجمعية بنشر سلسلة من الكتب الإسلامية باللغة البرتغالية، منها: "من أجل فهم الإسلام"، و"السلام تحت الضوء"، و"القرآن المعجزة الأخيرة" لأحمد ديدات، و"مصدر القانون الإسلامي"، و"محمد والإسلام"، و"الإسلام والقانون"، "والإسلام في البرتغال اليوم"، و"فلسطين مأساة العصر"، و"الفكر الإسلامي"، و"القرآن والثقافة البرتغالية"، و"الإسلام في العالم"، و"الزواج في الإسلام"، و"النهضة في العالم الإسلامي"، و"علاقات البرتغال بالعالم العربي".. إلخ. معظمها من تأليف الدكتور سليمان ولي محمدي رئيس الجمعية.

وفي 22/6/1979م حصلت الجمعية من الحكومة البرتغالية على مسجد مؤقت، وهو عبارة عن قصر قديم في وسط مدينة الأشبونة. وعملت الجمعية بالتعاون مع السفارات الإسلامية في البرتغال على تأسيس مركز إسلامي في أرض بالقرب من ساحة أسبانيا، بتكاليف قدرت بحوالي أربعة ملايين دولار أمريكي، وتأسس من أجل إنجازه مجلس للسفراء المسلمين المقيمين في الأشبونة، ولم ينته بعد بناء المركز(4).

للجمعية هيئة إدارية، وجمعية عمومية، وهيئة المراقبة، كما تتبعها لجان مختلفة لتدبير شؤون المسجد المؤقت، والشؤون الاجتماعية، والرياضة، والمقبرة الإسلامية. وللجمعية إمامان: أحدهما مبعوث من رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، والثاني من الهند. وتقوم الجمعية على إحياء الشعائر الإسلامية من صلاة الأوقات الخمس والجمع والأعياد والاحتفال بالمناسبات الإسلامية.

وفي 27/1/1984م تأسست "جماعة جنوب التاجه الإسلامية"، كما تأسست جمعيات إسلامية أخرى في ضواحي الأشبونة: كأوديبلاش، وبوبوا، وشنت أندريان، وشنت أنطونيو دوش كبليروش، وكلينا دو سول، وبوتيلا دو سكييم، وفورت دي كاسا اي بيالونغا، وكذلك في الجنوب، خاصة في مدينة يابورة. كما يوجد مسجد ثاني مؤقت في بلدة المادا المجاورة للأشبونة في منطقة لانجيرو قرب طريوو (مقاطعة ستوبال). ويوجد مسجد ثالث في كلينا دو سول، ومسجد رابع في أديبلاش في بناء قدمته عائلة مسلمة للجماعة الإسلامية.

وفي سنة 1988م تكونت في بلدة لورش، شمال الأشبونة، جمعية إسلامية، قدمت لها بلدية لورش أرضًا لبناء مسجد، في منطقة شنت أنطونيو دوش كباليروش. وتنشر الجمعية مجلة مستقلة اسمها "الفرقان" يديرها محمد يوسف آدمجي. وينتمي إلى هذه الجمعية عدد من المسلمين من أصل آسيوي، وكذلك بعض الراجعين إلى الإسلام من البرتغاليين، من بينهم الدكتور محمد لويس مادوريرا، وهو أستاذ رياضيات اعتنق الإسلام سنة 1983م.

تنتمي كل الجمعيات البرتغالية التي ذكرناها إلى المذهب السني، ومعظم مؤسسيها من الوافدين. وتوجد مجموعة من الإسماعيليين من أصول هندية. ومن جهة أخرى أسس مركز الدراسات العربية في جامعة يابورة.

يظهر أن التنظيم الإسلامي في البرتغال، رغم أنه ابتدأ قبل أسبانيا، ظل متأخرًا عليه، إذ لا زالت معظم التجمعات في يد الوافدين، بينما بقي البرتغاليون الراجعون إلى الإسلام أفرادًا في الجمعيات الإسلامية القائمة. غير أن هناك إدارة خاصة في الجنوب لتأسيس جمعيات إسلامية بين الراجعين إلى الإسلام، شبيهة بالتي أسست في الأندلس.

أما جبل طارق فحوالي عشرة في المائة من سكان الثلاثين ألف، مغاربة مسلمون، غير أنهم ليسوا مواطنين لجبل طارق، وبالتالي ليست لهم الحقوق الكاملة في المستعمرة، وأهمها حق الإقامة. فمعظمهم رجال دون عائلاتهم، كما أنهم يمتهنون أدنى المهن. ولهم مسجد في مقر سكناهم الذي هو قشلة قديمة بوسط البلدة، وهو عبارة عن مخزن كبير رتب كمسجد تديره جماعة التبليغ.

ويظهر أن الوجود الإسلامي في جبل طارق قديم، إذ ذكر مولانا الجد سيدي محمد الزمزمي الكتاني، في مذكراته عند زيارته لجبل طارق سنة 1934م ما يلي: "وبهذا البلد اليوم من المسلمين جماعة قليلة، أجلهم الشرفاء مولاي أحمد ومولاي الهادي أولاد ابن عجيبة، الذين يتجرون هناك في مصنوعات المغرب الوطنية، والذين كنا في ضيافتهم، ثم الشريف سيدي عبد السلام بن علال العمراني، ونحو العشرين آخرين من تطوان وطنجة وغيرهما، ويبيعون البيض والخضر. وبها محل بدار القنصلية المغربية سابقًا، يدعى مسجدًا، وهو عبارة عن بيت صغير أمامه ميضة وبئر ومحل للوضوء. بقي بهذا الحال على ما كان عليه أيام المخزن والاستقلال المغربي، وأمامه أيضًا غرفة قد جلس بها اليوم فقيه يعلم ولد العمران السابق الذكر القرآن".

ولا يظهر أن المسلمين تنظموا في جبل طارق حديثًا رغم وجود المصلى المذكور، ولا أن عددًا من مواطني جبل طارق عادوا إلى الإسلام.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) Trigo va a ceder La Mezqita del Morabito a un Grupo Saudi"Diario-16 20/3/1986

(2) Musulmanes Valencianos Abren un Nuevo Centro Islamico"Levante

(3)"أسبانيا حلقة وصل بين الغرب و العالم الإسلامي"الشرق الأوسط 8/9/1989م

(4) محمد قشتيلو "انبعاث الإسلام في البرتغال "دعوة الحق (المغرب) نوفمبر عام 1980م.

 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الأيام الأولى في إشبيلية

الأيام الأولى في إشبيلية

الأيام الأولى في إشبيلية

انبثقت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" عن تجربة أندلسية بحتة، وتكونت كنتيجة طبيعية للحركة القومية الأندلسية، ذات الجذور الإسلامية. وتعد "الجماعة" نفسها حركة إسلامية أندلسية ذات أصالة في أرض الأندلس، وترى في بلاس أنفانتي مؤسسها الأول ووالدها الروحي. وتعتقد "الجماعة" أن القوميين الأندلسيين المعاصرين المدعين اتباع أنفانتي، لم يطبقوا إلا بعض أفكاره السياسية، وتجاهلوا أفكاره حول الهوية الأندلسية، وضرورة استعادتها بتعريف أهل الأندلس بتاريخهم الإسلامي، وبالعقيدة الإسلامية، وتعليمهم اللغة العربية، وفتح مجال الرجوع إلى الإسلام لمن يريد ذلك.

مر مؤسسو "الجماعة" بثلاث مراحل: ابتدأوا حياتهم العامة في الأحزاب اليسارية، ثم تحولوا إلى الأحزاب القومية الأندلسية، ومنها إلى الإسلام. وانحدر معظمهم من عائلات مثقفة، كان لها نشاط في الحركات اليسارية والأناركية والقومية. وولد معظمهم بعد سنة 1950 أو 1960م. وبعد سنة 1965م، انضم عدد منهم إلى "اتحاد الشبيبة الشيوعية"، أو "لجان الشبيبة العمالية"، أو"الحزب الشيوعي الأسباني". وكانت الأحزاب اليسارية آنذاك خاصة الحزب الشيوعي، تستقطب الشبيبة الأندلسية، المتأثرة بانتفاضة مايو عام 1968م للحركة الطلابية الفرنسية، والتي كانت تؤمن بقدرتها على مجابهة حكم فرانكو الدكتاتوري.

وعندما تحررت الساحة السياسية الأسبانية بعد وفاة فرانكو سنة 1975م، أخذ بعض الشباب الأندلسي، المنخرط في الحزب الشيوعي، يشعر بخيبة الأمل فيه، ويرونه كالأحزاب الأخرى في تنظيمه الهرمي، ودكتاتوريته الداخلية، كما اكتشفوا عدم وجود برنامج خاص بالأندلس له، ولا أي شعور بالهوية الأندلسية المميزة. فانضم بعض هؤلاء الشباب إلى أحزاب أكثر يسارية كـ"شباب الحراس الحمر لأسبانيا" و"حزب العمل الأسباني"، وأسس بعضهم الآخر حركة ثقافية لاسترجاع الثقافة الأندلسية.

وفي سنة 1976م، تحولت الحركة الثقافية إلى حركة سياسية، تحت اسم "حزب الأندلس الاشتراكي الموحد. ولم يعش هذا الحزب طويلاً، فانحل واجتمعت بعض عناصره بعناصر منشقة من "الحزب الأندلسي" في مالقة، وغرناطة، وإشبيلية، وأسسوا جميعًا، في نفس السنة، "جبهة تحرير الأندلس"، كحزب ذي اتجاه قومي صريح، يطالب باستقلال الأندلس، والعودة إلى أصالتها.

وفي سنة 1977م توسع هذا التجمع في اجتماع عام، ضم جماعات منفصلة عن "اتحاد الشبيبة الشيوعية في الأندلس"، و"شباب الحراس الحمر لأسبانيا"، و"الحزب العمالي للتوحيد الماركسي"، و"الكنفدرالية القومية للعمل" ذات الاتجاه الأناركي، فتحولت "جبهة تحرير الأندلس" بدخول العناصر المذكورة إلى "الجبهة الأندلسية للتحرير" برئاسة أنطونيو مدينة مليرة، وأصبحت أهم منظمة شبابية أندلسية. وقد اضطهدت حكومة سوارز هذه الجبهة، وتابعت أفرادها، خاصة رئيسها. وواجهت الجبهة صعوبات مادية جمة، أدت بعد مدة وجيرة إلى انقسامها إلى ثلاثة فصائل:

1- القوميون الأندلسيون، الذين يطالبون بتعريب الأندلس لغويًّا، واسترجاع الهوية الأندلسية على أساس عقيدة التوحيد.

2- البيئيون ذوو الصلة الوثيقة بالحركات الأوروبية البيئية (الخضر) والحركات التي تسمى بالجديدة.

3- مجموعة صغيرة من التابعين للحركات العمالية التقلدية في تنظيمها وبرامجها وطريقة نضالها.

وفي سنة 1978م، أدت هذه الانشقاقات إلى حل "الجبهة الأندلسية للتحرير"، كما انحل "حزب العمل الأسباني"، فتوحدت عناصر من الحزبين المنحلين في تنظيم جديد: "حزب التحرير الأندلسي". وكان داخل الحزب الجديد اتجاهان سياسيان، أحدهما قومي أندلسي، والثاني شيوعي. وأصبح القوميون يستعملون داخل الحزب الشعارات الإسلامية، ورسموها مرة على إحدى كنائس إشبيلية، فعارض ذلك شيوعيو الحزب، مما أدى إلى انشقاق الحزب وحله سنة 1980م. فكون القوميون "مجموعة الأزهر" بهدف العمل على إعادة بناء أندلس مستقلة، عن طريق البحث عن الهوية الضائعة، دون العمل السياسي، وركزوا على دارسة كتابات "بلاس أنفانتي" و"اقناسيو ايلاكوي" وغيرهما.

وفي شهر غشت عام 1981م أشهر أنطونيو مدينة مليرة إسلامه في مركز "جماعة إشبيلية الإسلامية"، وانضم بذلك إليها، وسمى نفسه عبد الرحمن. وصل عبد الرحمن مدينة مليرة إلى الإسلام، بعد نضال طويل، واقتناع كامل بمبادئه. فقد ولد في 5/8/1952م بمدينة غافق (مقاطعة قرطبة)، من رفائيل مدينة مسة، أحد تجار غافق الميسورين، ومارية مليرة قومس. وتعتبر عائلتا أمه ووالده بجذورهما المورسكية، كما كان لها نشاط في الحركات الأناركية. وقد نشأ عبد الرحمن نشأة علم ودراسة، وتخرج من أفضل الجامعات في التاريخ الأندلسي، ومقارنة الأديان.

وفي سنة 1965م ابتدأ عبد الرحمن مدينة حياته العامة، ولا يزيد عمره عن 13 سنة، كعضو في "لجان الشبيبة العمالية"، و"اتحاد الشبيبة الشيوعي"، و"الحزب الشيوعي"، وسجن وعذب أيام فرانكو. وفي سنة 1975م، كان مدينة رئيس الجماعة التي تركت "الحزب الشيوعي"، لتكوين "حزب الأندلس الاشتراكي الموحد"، ثم "جبهة تحرير الأندلس"، ثم "الجبهة الأندلسية للتحرير". وفي سنة 1978م ترأس "حزب التحرير الأندلسي". ثم ابتعد مدينة عن السياسة، وأسس شركة نشر سماها "مكتبة المنشورات الأندلسية"، حيث نشر كتابيه "تاريخ الأندلس العام" في ست مجلدات، و"المعجم الأندلسي". وبعد محاولة جديدة لإحياء "جبهة تحرير الأندلس" سنة 1979م، توصل مدينة إلى الاقتناع بالإسلام كدين متكامل، لتحرير الإنسان من الظلم والعدوان، وفي غشت سنة 1981م، قرر إشهار إسلامه والانضمام إلى "جماعة إشبيلية الإسلامية"، واختار اسم عبد الرحمن تيمنًا باسم عبد الرحمن الغافقي.

كان قرار عبد الرحمن مدينة باعتناق الإسلام قرارًا فرديًّا، ولم يكن يفكر أول الأمر في دعوة أصدقائه للإسلام. وبعد شهور، أخذ زملاؤه في الحركة القومية الأندلسية يسألونه عن سبب تغيره. وفي 17/1/1982م، قرر اثنان آخران من زملائه اعتناق الإسلام، هما محمد المعتمد سانشس كستيانوس (كان اسمه الفونسو)، وأبو ياسر رينا أندرادي (كان اسمه سالبطور)، وذلك بمركز "جماعة إشبيلية الإسلامية على يد عبد الحق اسبينوزا، وعبد الهادي سانز كيمنو. ولد محمد المعتمد في 10/5/1961م في إشبيلية من المهندس فرانسسكو سانشس دلفيون وروزاريو كستيانوس كوركويرة. وفي سنة 1975م ابتدأ نشاطه السياسي في "شباب الحراس الحمر لأسبانيا"، و"حزب العمل الأسباني". وانضم سنة 1972م إلى "حزب التحرير الأندلسي". وفي سنة 1980م كان ممن أسسوا مجموعة "الأزهر". وولد أبو ياسر بإشبيلية في 11/4/1962م من سلبطور رينا كالدرون، وهو مدير صناعي أصله من بلدة مورور، وروزاريو أندرادي غانولفو، أصلها من رندة. وفي سنة 1979م ابتدأ حياته العامة بالانضمام إلى "حزب التحرير الأندلسي".

ثم اعتنق الشباب القومي الأندلسي، الواحد تلو الآخر، الإسلام: فتحية بيادراس مارتش، وأمية لاهوس بارياس، واختها مريم، ومنصور القرطبي.. إلخ.. وأدى دخول هذه الأعداد الجديدة في "جماعة إشبيلية الإسلامية" إلى مشاكل جمة: فمؤسسو "الجماعة"، قِدم معظمهم من أوساط ذات مستوى ثقافي محدود خارج الأندلس، من مجرط، وأوسكادي، وسبتة وغيرها، وكانوا لا يرون في تاريخ الأندلس فائدة لعودة الإسلام لها، ويعتقدون أن الانتماء الأندلسي إنما هو عصبية قومية، تفتت من وحدة مسلمي أسبانيا، وأن الأندلسيين القدامي أضاعوا الأندلس لضعف إسلامهم. وكان تنظيمهم هرميًّا، ينتخبون أميرًا ينظم أمورهم. أما المجموعة الأندلسية الجديدة، فكان معظمهم جامعيين ذوي تاريخ في الحركة القومية الأندلسية، رغم صغر سنهم. وكان تنظيمهم شوريًّا، يكرهون كل ما له صلة بمركزية في السلطة. وكانوا يرون في الإسلام قوة محررة لأشخاصهم، وبلدهم الأندلس. فهم، مع إيمانهم بعالمية الإسلام، يرون أن الأندلسيين المعاصرين شعب مسلم، اضطر إلى نسيان عقيدته وهويته، نتيجة الجهل الذي أجبر عليه، بعد قرون من الاضطهاد. فواجب المسلمين الأندلسيين هو الاندماج في المجتمع الأندلسي ومساعدته، على التعرف على جذوره، من أول وهلة، أن الحركة القومية الأندلسية لا محالة تصل إلى الإسلام، وأنهم هم نخبة المجتمع الأندلسي بقبولهم الإسلام، كقوة محررة، بعد قرون من الجهل والظلم، وأن من واجبهم مساعدة مواطنيهم على اتباع نفس الطريق.

وفي يناير سنة 1982م أدت هذه التناقضات إلى انشقاق الطرفين، حيث توقف الأندلسيون عن الذهاب إلى مركز "جماعة إشبيلية الإسلامية". وفي 22/6/1982م فتح الأندلسيون مركزًا خاصًا بهم، في بيت برقم 3 شارع بردي (الأخضر) بإشبيلية. وكان عددهم آنذاك لا يزيد على الستة المذكورين أعلاه، وأصبحوا يسمون أنفسهم "الجماعة الإسلامية في الأندلس"(ويستعملون دون غيرهم اللفظ العربي لكلمة الجماعة).

أخذت أعداد "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تتكاثر بعد الانتقال إلى مركزها الخاص، بانضمام أعداد متزايدة من الشباب الأندلسي لها، بينما لم يزد أعضاء "جماعة إشبيلية الإسلامية"، مما أزَّم العلاقة بين المجموعتين. وعملت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" على تعلم الدين الإسلامي، بمجهود طالب فلسطيني عضو في فرع إشبيلية لـ"الجمعية الإسلامية في أسبانيا" اسمه هلال أبو جمل، عمل معلمًا للجماعة، ومرشدًا لها، وإمامًا.

وأخذت تظهر "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في الصحافة عن طريق كتابات عبد الرحمن مدينة. وذلك أن أحد المؤرخين المتعصبين، واسمه كلاوديو سانشس البرنص، كتب، مقالاً، في شهر أبريل سنة 1982م في جريدة "دياريو 16" حول "إعادة احتلال الأندلس" (أي من طرف المسلمين)، قال فيه عن التاريخ الأندلسي: "كان المجتمع الإسلامي في أسبانيا عقيمًا، همجيًا، عديم الحضارة والحريات، فاسدًا. ومن حسن الحظ أن المسلمين طردوا". ثم قال: "لا يا أصدقائي الأندلسييين، انسوا تلك الساعات القديمة الماضية! وأنتن يا لولا ويا كارمن ويا روزاريو ويا آنا، أنتنَّ اللائي يتغنى بكنَّ مانولو ماشادو، اللآتي تضئن الأندلس، هل تردن من جديد أن تصبحن أدوات لذة بين الحريم؟ هل تردن العودة إلى سوق النخاسين؟".

وأتبع البرنص مقاله بسلسلة من المقالات المعادية للمسلمين الأندلسيين والإسلام، وانضم إليه جماعة من طينته، في حملة مسعورة ضد الإسلام والجمعيات الإسلامية الأندلسية؛ ففي مقال "بدياريو 16"، نشر البرنص مقالاً تحت عنوان "المسلمون الأندلسيون الجدد"(1)، يرد فيه على رد المسلمين على مقالاته الصليبية. ابتدأ مقاله بدعوة: أن الإسلام أخذ ينتشر في الأندلس بسبب "دولارات البترول"، وادعى أنه كان طوال حياته من دعاة حرية العقيدة، بما فيها العقيدة الإسلامية. ولكنه قال: "إن من حقي وواجبي الوقوف في وجه الأخوة في الوطن، الذين يبيعون ضمائرهم، ويتحولون عن دينهم التاريخي، لينضموا إلى دين لا يعونونه، كل ذلك من أجل حفنة من الدولارات!".

وذهب على هذا المنوال المضل إلى أن قال: "كل من قضى حياته، كما قضيت، في دراسة القرون الوسطى الأسبانية، يعرف الخيانة الثلاثية التي أتت بالإسلام إلى أسبانيا: خيانة أبناء بيزيتا، الذين أتوا بالمسلمين المغاربة ليرثوا عرش أبيهم، وخيانة أتباعهم في معركة وادي اللت، الذين تحولوا إلى صفوف الأعداء، وخيانة طارق الذي أعلن في طليطلة ارتداده عن الأمير الذي أتى لخدمته عند عبوره لمضيق جبل طارق، إلى الخليفة في دمشق". وبعد هجومه على المسلمين الأندلسيين، أنهى البرنص مقاله بقوله: "لا للإسلام.. ولا حق للمسلمين الأندلسيين بالتكلم عن الحرية السياسية.. لأن جميع الجماعات الإسلامية المعاصرة تجهل هذه الحرية اليوم".

وفي 18/5/1982م، نشر البرنص مقالاً آخر في نفس الجريدة تحت عنوان "في حرم الخليفة"(2) كـ"إنذار للأندلسيات المعاصرات لكي لا يعتنقن العقيدة الإسلامية الغابرة وعاداتها". قال البرنص في أول المقال: إنه أتى ببعض القصص من كتاب "المقتبس" لابن حيان القرطبي "لكي أقدمها للنساء الأندلسيات اللاتي ينجذبن إلى الإسلام، واللاتي استهزأت إحداهنَّ، وهي صيدلية من قرطبة، بتقدم سني". وأتى باتهامات مغلوطة عن عبد الرحمن الناصر، ومعاملته لنسائه، ومنها قصة إعدامه لجارية استاءت من مغازلته لها. ثم أنهى المقال قائلاً: "يا صديقاتي الأندلسيات اللاتي يحنَّ إلى أسبانيا الإسلامية، يمكنني أن أقص عليكنَّ قصصًا لا تقل سوءً حول حياة النساء تحت حكم خلفاء، وملوك الأندلس المسلمين، ألجمن حنانكن واشكرن الغزاة النصارى، الذين رفعوا كرامتكن، وحرروكن من الحالة البائدة والظالمة، التي كانت تعيشها نساء الأندلس المسلمات".

وفي 8/1982م، نشر جواكيم إيبارس سلسلة من المقالات الحاقدة في جريدة "لا بانكارديا" البرشلونية(3)، تحت عنوان "القرآن ستار للوصول إلى أهداف غير واضحة"، تدل عناوينها الثانوية على حقد على الإسلام وأهله: "أسلمة الأندلس حلم خيالي"، و"المستشرقون ضد الحملة"، و"الإسلام يود الرجوع إلى مسجد قرطبة"، و"الأحمدية فرقة مضطهدة"، و"الطريقة الصوفية: طرق في غسل الدماغ"، و"الطريقة الصوفية: طرق في غسل الدماغ"، و"البيازين ملجأ الإسلام الأسود". ولم يتورع الكاتب في الدخول في حياة عدة مسلمين أندلسيين ومسلمات، كعلياء سولي، من أهل "ترامب" بقطلونية، والمقيمة بقرطبة مع زوجها أحمد الجنيد هرنيرو، وعبد الرحمن روانو هينوخوزا، ومصطفى شيكا، ومحمد دل بوسو، وفرنسينة بوش، وزوجها أنخيل فوسمليانو، وغيرهم.

فرد عبد الرحمن مدينة على كلاوديو سانشس البرنص ردًّا مقنعًا، كان له الأثر الطيب، كما رد عليه غيره من زعماء المسلمين الأندلسيين. ثم نشر مدينة سلسلة من المقالات في الصحافة الأسبانية، يدافع فيها عن الإسلام والشخصية الأندلسية، ويربط بينهما، كالمقال الذي كتبه حول موقف السلطة الأسبانية الحاكمة من الأندلس، إذ قال في افتتاحيته(4): "كانت الأندلس دائمًا ضحية الأشكال المحددة التي يطلقها عليها الاحتكار القيادي، الثقافي والسياسي من مجريط، خاصة فيما يخص منبع الحضارة الأكثر ضياء التي عرفتها أوروبا: الثقافة الإسلامية الأندلسية". ثم أنهى مقاله بقوله: "نحن الأندلسيين لم يعد يُنظر إلينا كمجموعة بشرية لها شخصيتها الخاصة، ولكن كمجموعة مندمجة في كتلة بشرية متشابهة، لا شخصية لها، وذلك منذ أن صاح "الله أكبر" آخر مؤذن أندلسي من أعلى منارته، منذ ذلك الحين قطر الندى من فوق الياسمين كالدموع المنهمرة من الجفون".

وفي يناير سنة 1983م، وصل عدد "الجماعة الإسلامية في الأندلس" إلى 60 مسلمً، من بينهم 15 طفلاً، فضاق مركز "الجماعة" بها، فانتقلت إلى مركز جديد أكبر من الأول بشارع لبيس. ومن جهة أخرى، ساءت علاقتها مع "جماعة إشبيلية الإسلامية"، وقد هيأ الله في 23/1/1983م الاتفاق التالي: "بسم الله الرحمن الرحيم، نحن ممثلوا الجمعيتين، نتعهد أمام الله على احترام المبادئ الإسلامية، التي تطلب التعاون والتآخي بينهما، وعلى توحيد مجهودهما للدعوة إلى القرآن الكريم والسنة المشرفة، والعمل على صلاة الجمعة مجتمعين. نطلب من الله أن يضيء شؤوننا، ويلهمنا الطريق السوي. آمين. عن "الجماعة الإسلامية في الأندلس" عبد الرحمن مدينة، ويحيى ريس، وهلال أبو جمل، وعن "جماعة إشبيلية الإسلامية" عبد الهادي سانز، ومحمد أحمد، وعثمان برسابي، والشاهدان محمد الحلو وعلى الكتاني. في إشبيلية 23/1/1983م. واستعدت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" لانطلاقة جديدة.


--------------------------------------------------------------------------------

(1)Claudio Sanchez Albornoz "Los Nueves Musulmanes Andaluces"Diario-16(Madrid)3/5/1982

(2)Claudio Sanchez Albornoz "En el Haren del Califa"Diario-16 18/5/1982

(3)Joaquin Ibarz "El Coran,Una Pantalla para Lograr Objectivos poco Claros" La Vanguardia (Barcelona) 11,12, 13/8/1982

(4) Antonio Medina Molera "Milenarismo y Misterio Andaluz"Diario-16, 10/12/1982
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
الانطلاقة من إشبيلية

الانطلاقة من إشبيلية

الانطلاقة من إشبيلية
وبعد انتقالها إلى مركزها الجديد، أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تفتح فروعًا لها في مختلف المدن الأندلسية. ففي22/1/1983م اجتمع ممثلوا "الجماعة" في غرناطة مع عدد مسلميها، منهم جابر بيلارخيل، مدير مكتبة الطب بجامعة غرناطة، وهارون كراكويل روميرو، ومحمد جمعة بلايزي، وغيرهم، بحضور كاتبه، تقرر إثره فتح فرع لها في غرناطة. وفي 1/3/1983م فتح رسميًّا مركز غرناطة الإسلامية في التابع للجماعة. بشقة كبيرة في عمارة سكنية من شارع "الخندقة" في المدينة القديمة. وفي 1/5/1983م انضمت رسميًّا "جماعة الأندلس الإسلامية" برئاسة عمر كوكا إلى "الجماعة". فأصبحت "الجماعة" بأكملها تسمى "جماعة الأندلس الإسلامية"، عوضًا عن "الجماعة الإسلامية في الأندلس".

وفي يونيو عام 1983م أسس جماعة من مسلمي شريش (مقاطعة قادس)، منهم عبد العزيز غارسيا فرناندس، وعبد الكريم خيل كيروس، فرعًا ثالثًا للجماعة، وافتتح مركزه في 1/8/1983م في 9 شارع باسورتو، بشريش. وفي يونيو عام 1983م كذلك أسس جماعة من مسلمي مالقة، منهم أسد الله دل ميلاغوربيريز، ومولود حامد بشير، وإسماعيل خوركيرا آمورس، وصلاح الدين غياردو مورينو، فرعًا رابعًا للجماعة. وفي 1/9/1983م افتتحوا مركزه الإسلامي في شقة بـ26 شارع مارمولس. وفي أكتوبر سنة 1983م أسس عدد من مسلمي قرطبة منهم أحمد صلاح الدين، وعبد الله الفاتح، وعبد الشكور، وعبد الملك، فرعًا خامسًا للجماعة، وافتتحوا مركزه الإسلامي بشقة في 12 شارع الملكين الكاثوليكيين بقرطبة. وهكذا لم تنته سنة 1983م حتى أصبح "للجماعة الإسلامية في الأندلس" خمسة فروع في المدن التالية: إشبيلية (وهي المركز)، وغرناطة، وشريش، ومالقة، وقرطبة. وأصبحت "الجماعة" بذلك أول جمعية إسلامية أندلسية منتشرة خارج مدينة تأسيسها في جميع منطقة الأندلس، كما نجحت في ضم الجمعية التي أسسها عمر كوكا في غرناطة.

وقد تنظمت "الجماعة" على أساس شوري، لا مركزي، فلها مجلس أعلى يتكون من ممثلي فروعها في المدن المختلفة، يرأسه رئيس منتخب. وكان جابر بيلارمن غرناطة، أول رئيس له. ولكل فرع مجلس محلي، يمثل فيه مسلمو الفرع المذكور. وتؤخذ كل القراءات بالتشاور.

وفي سنة 1983م كذلك، قررت "الجماعة" التعريف بوجودها للعالم، فقررت لذلك الاحتفال بذكرى مرور تسعمائة سنة على وفاة المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية، وذلك بتنظيم حفل ثقافي إسلامي أندلسي، على مستوى رفيع. وطلبت "الجماعة" من بلدية إشبيلية تسليمها قصر الخلفاء القديم، لإقامة الحفل، فرفضت بلدية إشبيلية الطلب. فتوجهت "الجماعة" بطلب المساندة من بلدية طريانة (شقيقة إشبيلية عبر الوادي الكبير)، فاستجاب ممثلوها، وعلى رأسهم فرانسسكو أركاس، وسلمت بلدية طريانة "للجماع" قصر "فندق طريانة" لإقامة الحفل(1). وقد وقعت مشادة صحافية بين "الجماعة" ووزير الثقافة في الحكومة المحلية الأندلسية، حيث ادعى الأخير أن عدم إعطاء قصر إشبيلة "للجماعة" هو لأسباب فنية فقط، وأن طريانة ليست إلا حيًّا من أحياء إشبيلية، ولا يمكن تسليم قصر فيها دون موافقة بلدية إشبيلية(2).

وفي مساء يوم الجمعة 14/10/1983م، ابتدأ الحفل على ضفة الوادي الكبير، قرب برج الذهب (من بناء الموحدين)، وعند غروب الشمس، وقف أسد الله دل ميلاغرو (من مالقة) مؤذنًا لصلاة المغرب بصوت جميل، فألقيت الزرابي، وصلى المغرب حوالي مائة من الأندلسيين بإمامه عمر كوكا، تحت حراسة عشرات من رجال الشرطة، ونظرات الإجلال والاحترام من آلاف المتفرجين من أهل إشبيلية. وتجمع في هذا الحفل معظم أعضاء "الجماعة الإسلامية في الأندلس" الذين قدموا من مدن الأندلس المختلفة. وبعد صلاة المغرب والدعاء، أطلق المسلمون الأندلسيون على ضفاف الوادي الكبير سربًا من الحمام الأبيض، رمزًا للسلام وحرية العقيدة والمحبة بين البشر، التي يدعو لها الإسلام(3).

ثم انتقل الجميع عبر الوادي الكبير قصد "فندق طريانة"، وزين بالمناسبة أهل طريانة بيوتهم، وأخرجوا ملاحفهم على الشرفات، كما هي عادتهم أيام الأعياد. وكان "فندق طريانة" غاصًّا بالحاضرين، يقدر عددهم بحوالي خمسة آلاف. وابتدئ الحفل في جو نشاط وحماس، باسم الله العلي القدير،وبالصلاة على نبيه الكريم. ثم تناول الكلام رئيس الجماعة حينذاك جابر بيلار، وبيَّن أهداف "الجماعة" وبرنامجها: جماعة إسلامية أندلسية، على خطا السلف الأندلسي الصالح، تحاول إرجاع الهوية العقيدية والثقافية والقومية للشعب الأندلسي المظلوم، وتكون بذلك الوريث المعاصر، لنضال شعب دام قرونا، ولبرنامج بلاس أنفانتي لاستعادة الهوية الأندلسية(4).

وعندما آن وقت العشاء، فسر المنظمون معنى الآذان للحاضرين، وطلبوا منهم الإنصات إليه باحترام، وذكروهم أنه كان يطلق من مآذان الأندلس جميعها، خمس مرات يوميًّا لمدة قرون. وأذن أسد الله، فطأطأ الحاضرون رؤوسهم بخشوع، ثم صفقوا بحرارة بعد الآذان تعبيرًا عن ابتهاجهم به. ثم تكلم عبد الرحمن مدينة عن المبادئ الإسلامية، وعن حياة المعتمد بن عباد، فقال: "سنقرأ عليكم بعض أشعاره بلغتكم العربية، التي أجبرتم على نسيانها، ونترجمها للغة القشتالية، التي فرضت عليكم!". فقرأ باللغة العربية محمد جمعة بلايزي (من غرناطة) أشعار المعتمد، وقرأ الترجمة الأسبانية جابر.

ثم ألقى الشاعر الأندلسي "خوزي لويس أورتيز نويبو" قصيدة مجد فيها الأندلس وتاريخها، وبكى على ما آلت إليه من تفسخ في الهوية وانحطاط. ثم قدم الفنان الأندلسي "بيبي روميرو" قطعة موسيقية على البيانو. وحضر الحفل فنانون أندلسيون آخرون كـ"خوزي مولا طوماسا" و"بنيتو مورينو" وغيرهما. وقد حرصت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" على إشراك شخصيات أندلسية معروفة في الحفل، حتى تجعل الحفل الإسلامي حفل جميع الأندلسيين، وتعرفهم بدينهم القديم وبجذورهم.

ونجح الحفل في الأهداف التي أرادتها "الجماعة" منه، وهي:

1- التعريف بوجود "الجماعة" في الأندلس.

2- تعريف برنامجها للشعب الأندلسي كجماعة مسلمة أندلسية.

3- ربط الصلة بين "الجماعة" والقوى الأندلسية الحية.

4- تقوية ثقة أعضاء "الجماعة" بأنفسهم، ومقدرتهم على تنظيم عمل ناجح.

وفي الحقبة 28/11-3/12/1983م أظهرت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" وجودها في مالقة بتنظيم "أسبوع الثقافة الأندلسية" في جامعة مالقة، بالتعاون مع جامعتي مالقة وغرناطة(5). واحتوى البرنامج الثقافي على سلسلة من المحاضرات: الاثنين 28/11 "العلوم في الأندلس الإسلامية" لجابر بيلار خيل. والثلاثاء 29/11 "الآداب في الأندلس الإسلامية" لـ ج.م. هاكرتي، أستاذ اللغة العربية بكلية آداب جامعة غرناطة، الأربعاء: 30/11 "الطريقة الإسلامية في كتابة تاريخ الأندلس" لعبد الرحمن مدينة مليرة، الخميس 1/12 "نظرة عامة تاريخية حول اللغة الأندلسية" لفتيحة بيادراس مارتش، الجمعة 2/12، صلاة الجمعة للمسلمين الحاضرين، وفي المساء محاضرة بعنوان "تطور ومستقبل الاقتصاد الأندلسي" لاورورا قومس، ومنويل دلكادو، وأنطونيوا مرياس، أساتذة بكلية الاقتصاد بجامعة مالقة، والسبت 3/12 "احتلال الأندلس الإسلامية وسقوط حضارة" لأنطونيو زيدو نرانخو، مدير مكتبة دور النشر الأندلسية، ثم عرض فيلم بعنوان "أسد الصحراء"، والأحد 4/12 الموافق ليوم الأندلس عند القوميين الأندلسيين، أقيمت سهرة أدبية بمشاركة جوق تطوان الأندلسي و"الجامعة"، وهو جوق أندلسي من مالقة، والشاعرة الأندلسية كارمن آبنسا.

وقد شارك في هذا الأسبوع الأندلسي عدد كبيرمن الطبقة المثقفة في مالقة. وقد نشر في الصحافة عبد الرحمن مدينة، بأن هدف "الأسبوع الثقافي هو التعريف بوجوه الثقافة الأندلسية المختلفة ثقافة الشعب الأندلسي الذي نحن ورثاؤه". وأكد: بالنسبة لنا فالوجود القومي الأندلسي واقع، حي يجب أن يكون فوق المنافسات السياسية، وملخصه أنه يوجد شعب له جذور وتاريخ". وهكذا نجحت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في نشاطها العام الثاني في اكتساب الاحترام لدى المثقفين الأندلسيين، مما مكنها من التعامل معهم وجذبهم لأفكارها، وبذلك القيام بالدعوة الإسلامية على أعلى مستوى.

وفي بداية سنة 1984م تابعت "الجماعة" توسعها الجغرافي والعددي، فأسست فرعين لها في ولبة (مقاطعة ولبة)، وذكوان (مقاطعة مالقة)، وأخذت تفكر في فتح مركزين جديدين لهما. وفي فبراير عام 1984م، انتقل مركز إشبيلية الإسلامي التابع "للجماعة" من البيت المؤجر في "شارع لبيس" إلى مركز أكبر بكثير في 4 شارع دون الونسو السابيو في وسط المدينة القديمة، حيث مقرها إلى اليوم (سنة 1991م). كما انتقل مركز "الجماعة" في مالقة، من شارع مارمولس إلى مركز أكبر في وسط المدينة بشارع سالبتو.

وفي مستهل سنة 1984م ابتدأت الجماعة بإنجاز برنامج لتعريف الجماهير الأندلسية بتاريخها وربطها به، فمنذ أيام فرانكو، أخذت الدولة والكنيسة في أسبانيا تحتفلان في كل عاصمة من عواصم الأندلس، بذكرى احتلالها من طرف نصارى قشتالة. ورأى المسلمون الأندلسيون في هذه الاحتفالات إهانة لتاريخهم، وشتيمة لحاضرهم، وعملاً غير معقول في أسبانيا المعاصرة، حيث أعترف بالقومية الأندلسية وبحرية العقيدة. وكان يوم 2 يناير ذكرى سقوط غرناطة في يد الملكين الكاثوليكيين، وانهيار آخر دولة إسلامية بالأندلس.

فقررت "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، القيام بمظاهرة معاكسة لما تقوم به الحكومة والكنيسة، وهدفها إيقاف الاحتفالات بذكرى سقوط غرناطة، أو على الأقل تعريف الرأي العام الغرناطي بهويته(5). وسمت "الجماعة" احتفالها المعاكس بـ"البكاء على غرناطة". فنشر أعضاؤها على برج قمارش بقصر الحمراء علم الأندلس، ومرت سياراتهم بالأبواق في المدينة تصيح بالمواطنين قائلة: "هذا يوم حزن، وليس يوم فرح! ففي 2/1/1492م احتلت غرناطة ولم تحرر! لتحترم الدولة والكنيسة أرواح أجدادنا الشهداء! لتحترم أولئك الذين دافعوا عن أرض الأندلس! فسقوط غرناطة هو سقوط السيادة الأندلسية!". ونظمت "الجماعة" حفلاً في ساحة "باسيو دي لوس تريستس" (ممر الأحزان)، حيث حضر عدة آلاف من الغرناطيين (أكثر من الذين حضروا في الحفل الرسمي)، ألقى فيه مفكرون أندلسيون، مسلمون وغير مسلمين، خطبًا حول عظمة الأندلس الإسلامية. كما شارك في الحفل عدد من الفنيين والأدباء الأندلسيين كمجموعة "كورنكاس غراناديناس" لكارلوس كانو. ثم ألقى الشعراء الغرناطيون، على رأسهم خوان دي لوشة، قصائد في تمجيد الأندلس، كما غنى للحاضرين المغني المعروف "بيبي ال دي لاطوماسا".

وكان لهذا الحفل صدى كبير وطيب في الأندلس(6) وأسبانيا، إذ لأول مرة جهر المسلمون الأندلسيون بشعورهم، وبرهنت "الجماعة" على قدرتها على تزعم الشعور القومي الأندلسي. واستطاعت "الجماعة" عبر هذه التظاهرة الإسلامية الأندلسية، التنسيق بين عدة منظمات أندلسية غرناطية كجمعية "التضامن الأندلسي"، وجمعيات الأحياء الشعبية، وعدد كبير من أعضاء "الحزب القومي الأندلسي". وسنت الجماعة الإسلامية بعملها هذا سنة إقامة حفل إسلامي معارض لحفلات ذكرى سقوط المدن الأندلسية، التي تقوم بها الكنيسة والدولة في غرناطة وولبة وقرطبة وإشبيلية ومالقة، وغيرها من المدن الأندلسية.

وفي 14/3/1984م أقامت "الجماعة" حفلاً ثقافيًّا في شريش، حضره عدد كبير من مثقفي المدينة وأهاليها، شارك فيه جوق "آخو كالينتي" الأندلسي، كما ألقيت فيه المحاضرات التي تعرف بتاريخ المدينة الإسلامية، وتشجيع الأهالي على تعلم العربية، لغة أجدادهم(7). وأصبح هذا النشاط الثقافي متواصلاً في عدة مدن أندلسية.

ثم قررت "الجماعة" عقد مؤتمر عالمي لتعرف الأمة الإسلامية بوجودها، سمي بـ"المؤتمر الأول للمسلمين الأندلسيين". وقررت عقده في 20-22/7/1984م (موافق شوال عام 1404هـ) بكلية "أميليو مونيوس" ببلدة "كغويوس بسخا" بجبال غرناطة، واستدعت "الجماعة" للمؤتمر جميع أعضائها، وكذلك ممثلي الجمعيات الإسلامية الأخرى بأسبانيا، وبعض الشخصيات المغربية، كالأستاذ محمد الحلو، ووالده الحاج إدريس الحلو، وسيدي محمد بن المكي الوزاني، والمشرقية كالشيخ فؤاد الخطيب، نائب أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي آنذاك، وعائلته، والدكتور محمد محمد عمر جمجوم. وحضر كاتبه المؤتمر، كما حضر والده الشيخ سيدي محمد المنتصر الكتاني، وحضر من الأندلسيين حالي 200 مسلم، قدموا من كل مدن الأندلس(8).

كانت الإقامة في الكلية المؤجرة طيلة أيام المؤتمر، حيث كانت المنامة، والأكل، والصلوات الخمس في أوقاتها. وافتتح المؤتمر بالقرآن الكريم، ثم النشيد الوطني الأندلسي، ثم قرئت الفاتحة على أرواح الشهداء الأندلسيين الذين ضحوا بحياتهم عبر القرون للدفاع عن الإسلام في الأندلس. وألقيت المحاضرات، طيلة الأيام الثلاثة، من طرف مفكرين من الأندلس وخارجها، حول المبادئ والفكر الإسلامي، مثل المواضيع التالية: "العقيدة الإسلامية"، "الإسلام وتحرير الشعوب"، "الصلاة: شكلها ومعناها"، "الصهونية وفلسطين"، "النضال الأندلسي"، وغيرها. وصرح أحد، منظمي المؤتمر للصحافة عن معنى المؤتمر قائلاً: "نحن لسنا جزيرة دينية في هذه الأرض! فإسلامنا حي! فمن واجبنا الدخول في المجتمع الأندلسي وإقناع الجماهير.. فالإسلام يشم في هواء هذه الأرض، وسينتشر حتى يعمها، كما كان في الماضي!"(9).

كان مؤتمر كوغويوس بيغا" نقطة تول هامة في تاريخ "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، قررت بعده أن تعقد جمعًا عامًا لها، لتخطيط مستقبلها.

وهكذا في ظرف سنتين أصبح عدد أعضاء "الجماعة الإسلامية في الأندلس" يقارب خمسمائة، لهم فروع في سبعة مدن أندلسية، هي: إشبيلية، وغرناطة، وشريش، ومالقة، وقرطبة، وولبة، وذكوان، وأصبح المسلمون الأندلسيون، ينظرون إلى المستقبل بحماس، كما أظهروا ذلك في اجتماع "جمعية الإسلام والغرب"، الذي انعقد في إشبيلية في الحقبة 10-12/9/1984م، وشاركوا فيه.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) El Ayuntamiento Sevillano Cedera un Local por el Homenaje a Al-Mutamid "Diario -16, 7/10//1983

(2) El Ayuntamiento Sevillano se Niega a Apoyar un Homenaje a Al-Mu''''tamid" Diario-16 ,6/10/1983

(3) Los Musulmanes Rezaron por Al-Mutamid en la Torre del Oro" Diario-16, 15/10/1983

(4) Al-Mu''''tamid, Ultimo Rey Arabe de Sevilla, Homenajeado al Pie de la Torre del Oro" ABC ,16/10/1983

(5) Manana Comienza la Isemana de Cultura Andalusi Organizada por un Groupo de Andaluces Musulmanes" Diario Sur, 27/11/1983

(6) Granada Conmemoro el 492 Aniversario de la Toma de la Ciudad por los Reyes Cotolicos" Diario de Granada , 3/1/1984

(7) Francisco Vigueras "Reconstruir Al-Andalus"Diario de Granada, 3/1/1984

(8) Un Grupo Islamico: La Otra Cara de la Toma"El Defensor, 3/1/1984

(9) Presentacion de la Comunidad Musulmana Al-Andalus" Diario de Cadiz, 15/5/1984






 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
النكسة والانطلاقة الجديدة

النكسة والانطلاقة الجديدة

النكسة والانطلاقة الجديدة:

أدت نشاطات "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في سنتي 1983و1984م إلى شهرتها داخل أسبانيا وخارجها، مما جعل كثيرًا من الجمعيات الإسلامية القديمة تهاجمها، وتكتب التقارير السلبية إلى سفارات الدول الإسلامية، ولقد نشرت "جماعة إشبيلية الإسلامية" مقالات في الصحافة تهاجم فيها "الجماعة"، خاصة بعد "ذكرى المعتمد بن عباد". وأدت تأثيرات بعض الأوساط الإسلامية غير الأندلسية، إلى انشقاق داخل "الجماعة". أما الضغوط الخارجية، فقد قررت "الجماعة" عدم الرد على هجمات تلك الجمعيات للحفاظ على الأخوة الإسلامية، مهما كان موقف الآخرين. أما الانشقاق الداخلي فلم يكن له حل.

وفي أواخر سبتمبر عام 1984م عقدت "الجماعة" اجتماعًا عامًا في مقرها بإشبيلية للتخطيط لمستقبلها، وتثبيت تنظيمها، فظهر في الاجتماع انشقاق جذري خطير بين طرفين من أطراف "الجماعة". الطرف الأول برئاسة جابر بيلار خيل، رئيس مجلس الجماعة حينذاك، تبيني فكرة التنظيم الهرمي قائلاً بأن تنظيم "الجماعة" المبني على الشورى، ليس تنظيمًا إسلاميًّا، وأنه تقليد للأنظمة الديموقراطية الغربية. واقترح جابر "بيعة" أمير للجماعة، والتفويض له في قيادة أمورها، على أن يعين الأمير المسؤولين عن النشاطات المختلفة حسب قدراتهم وتقواهم. أما الطرف الثاني بقيادة عبد الرحمن مدينة مليرة، فأراد المحافظة على تنظيم "الجماعة" الأفقي، وتقوية الروابط مع القوى الحية في المجتمع الأندلسي. وتشبث كل طرف برأيه، وتبادل كل منهما تهم الخروج عن روح الإسلام مع الطرف الآخر. وللحفاظ على وحدة الصف، اتفقا على استفتاء أعضاء "الجماعة". وعندما أسفر الاستفتاء عن مساندة الطرف الثاني، رفض الطرف الأول قبول تصويت النساء المسلمات، مما أدى إلى الانشقاق الكامل.

كان هذا الانشقاق كارثة على "الجماعة". فقسمٌ منها "بايع" جابر بيلار خيل أميرًا، وانتظم تحت اسم "جماعة الأندلس الإسلامية"، بينما رجع القسم الآخر إلى الإسم القديم "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وركز تنظيمه الأفقي بتكوين مجالس في المقاطعات، ومجلس عام للجماعة، وانتخاب رئيس للمجلس، ليس له من سلطة سوى تنسيق الاجتماعات وإدارتها.

ثم تلا الانشقاق، معركة بين الطرفين للسيطرة على المراكز المختلفة، مما أدى إلى تشتيت هائل في أفراد "الجماعة". فبعد أن كان عدد المنتمين إليها يقارب الخمسمائة، تشتت جماعات ذكوان، وولبه، وقرطبة، وأغلقت مراكزها. أما المراكز الأربعة الباقية، فانضمت غرناطة وويتريش إلى جابر، وإشبيلية ومالقة إلى عبد الرحمن. ونزل أفراد المراكز الأربعة إلى نصف عددهم قبل الانشقاق. وهكذا انتهت سنة 1984م بكارثة في تنظيم المسلمين الأندلسيين.

أما "جماعة الأندلس الإسلامية" التابعة لجابر، فقد قل عدد أعضائها مع الأيام، واضطرت إلى قفل مركز شريش. وبقيت هذه الجماعة في غرناطة فقط رغم قلة أعضائها، وإقفال مركزها في غرناطة كذلك. وأما "الجماعة الإسلامية في الأندلس" فانطلقت انطلاقة جديدة بتنظيم أفضل، وسياسة أوضح، وخبرة أكبر، ورغبة أكيدة في الحفاظ على المسار الإسلامي والأندلسي، والغيرة على استقلال "الجماعة"، من أي نفوذ أجنبي. ثم عملت من جديد على بناء قاعدتها، بزيادة نشاطها في المجالات المختلفة، للدعوة إلى الإسلام.

وفي 19-21/1/1985م قررت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تنظيم "المؤتمر الدولي الأول للمسلمين الأوروبيين" في إشبيلية، بهدف ربط الصلة بين المسلمين الأوروبيين، لدراسة دور الإسلام في مستقبل أوروبا، وجعل الأندلس مركز إشعاع إسلامي لكل القارة الأوروبية، وإعطاء الصحوة الإسلامية في أوروبا دفعة محلية. فشكلت "الجماعة" لجنة تنظيمية للمؤتمر، وأرسلت بعثات إلى أقطار أوروبا للاتصال بالشخصيات والجماعات الإسلامية المحلية، وتفسير أهداف المؤتمر واستدعائها إليه.

وما أن انتشر خبر عقد المؤتمر، حتى نظمت حملة ضد "الجماعة" وشخصياتها البارزة، من طرف بعض المراكز الإسلامية الرسمية في أوروبا، والجمعيات الإسلامية في أسبانيا. فأرسلوا رسائل إلى جميع المراكز الإسلامية في أوروبا لتشويه سمعة "الجماعة" وأهدافها. كما قامت حملة ضد "الجماعة" ومسانديها من طرف أعداء الإسلام في أسبانيا، لهدف إفشال المؤتمر، وتشتيت "الجماعة".

ووصلت الحملة حدًّا لا يطاق، عندما أخذت بعض الجرائد الأسبانية المعادية للإسلام تنشر مقالات تخيف فيها الأسبان من المسلمين الأندلسيين، وتتهمهم بأنهم يحاولون "إعادة احتلال" أسبانيا باسم الإسلام. ومن بين هذه المقالات ما كتبه خوان أنريكي قومس في مجلة "تيانبو" تحت عنوان "الجماعات الإسلامية الأسبانية تهيئ الغزو من جديد"(1). وقد قدم لمقالة بقوله: "تعمل في أسبانيا قانونيًّا عدة منظمات إسلامية، تدعي من بين أهدافها إعادة احتلال الأرض، والدعوة لمجتمع أسباني، يعيش تحت شعار الإسلام. وفي نفس الوقت يضطرب الرأي العام الأوروبي أمام موجة من العمليات الإرهابية المتهم فيها فرق من المتعصبين المسلمين". وقد أتى المقال بتصريحات لجابر بيلار، حولها خارج إطارها، ليبرهن بها ادعاءاته. وقررت "الجماعة" المضي في تنظيمها للمؤتمر وعدم الرد على المهاجمين.

وفي 9/6/1985م ظهرت جريدة "دياريو 16" في صفحتها الأولى بعناوين ضخمة بمقال كاذب تحت عنوان "اكتشاف شبكة جاسوسية مغربية جنوبي أسبانيا"(2)، ادعت فيها الجريدة بأن المخابرات الأسبانية، اكتشفت الشبكة برئاسة عبد الرحمن مدينة، ومساندة كاتبه، وصديقه محمد الحلو، وجاءت بأكاذيب.وتابعت الجريدة حملتها في الصفحة الأولى لما يقارب الأسبوع(3).

وانضمت "جماعة إشبيلية الإسلامية" إلى هذه الحملة(4). ورددت الصحافة الأسبانية اتهامات "دياريو 16"(5). وكان لهدف هذه الحملة عدة وجوه: أولاً: إشعال الفتنة بين الجمعيات الإسلامية في أسبانيا. ثانيًا: تخويف مساندي "الجماعة الإسلامية في الأندلس" من الاقتراب إليها. ثالثًا: تشويه سمعة "الجماعة" في المجتمع الأندلسي. وأخيرًا: زرع الفتنة بين أفرادها.

وجابهت "الجماعة" هذه الحملة بالتكذيب(6)، وبحملة صحفية معاكسة، وأجبرت "دياريو 16" على نشر رد "الجماعة"(7)، حيث أعلن عبد الرحمن مدينة: "إنني أعتقد أن هناك حملة ضد الإسلام من طرف الأوساط الصهيونية، داخل الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني (الحاكم)، وبالمتابعة القانونية. كما أجبر كاتبه الجريدة المذكورة، عن طريق محام في إشبيلية، نشر تكذيب لما نشر(8). ورغم انتهاء الحملة بالفشل، تابعت بعض الجمعيات الإسلامية التائهة حملتها ضد "الجماعة" في الصحافة الأسبانية(9). وأرسلت إحداها رسالة إلى وزير الثقافة في حكومة الأندلس المحلية، تطالبه فيها بعدم إعطاء أية مساندة رسمية للمؤتمر الإسلامي الأوروبي "الذي نظم بطريقة عشوائية، والذي سيعقد باسم الإسلام من طرف أشخاص غير مسلمين، وأناس لا نعرفهم، وبدون مساهمة أواستشارة الجاليات المتمركزة في بلادنا". وقررت "الجماعة" عدم الرد على أية جمعية إسلامية تحاشيًا للسقوط في مخطط أعداء المسلمين، الذين يودون إشعال نار الفتنة بينهم.

ورغم هذا الجو المكهرب، تابعت "الجماعة" تنظيم "المؤتمر الدولي الأول للمسلمين الأوروبيين". وفي 19/7/1985م افتتح المؤتمر بفندق "مكرينا" أحد أكبر فنادق إشبيلية، تحت حراسة الشرطة. وقد حضر المؤتمر حوالي مائة شخصية إسلامية من كل أنحاء الأندلس، ومن عدة أقطار أوروبية، منها: البرتغال، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وبريطانيا، وقبرص، وغير الأوروبية كالبلاد العربية، والمكسيك. وحضر من البلاد العربية: الدكتور عبد الله عمر نصيف، والشيخ محمد العويني، وغيرهم. كما حضرت المؤتمر عدة شخصيات أندلسية، ونواب في البرلمان الأندلسي، منهم: دييغو دي لوس سانطوس، رئيس الحزب القومي الأندلسي، ولويس أورنويلا، عمدة إشبيلية السابق، ومانويل أيلونانس، وزير الثقافة في حكومة الأندلس. كما توصلت أمانة المؤتمر ببرقيات مساندة من خوليو أنغيتا، عمدة قرطبة، وبدرو رويز برديسو، نائب رئيس "وقفية بلاس أنفانتي" وغيرهم. وكان للمؤتمر إشعاع في الصحافة الأسبانية والتليفزيون والراديو.

وألقيت محاضرات في المؤتمر في المواضيع التالية: دراسة حول وضع المسلمين الأوروبيين الحالي، وعن الإسلام في أوروبا، ضرورة إنشاء منظمة عالمية للمسلمين الأوروبيين، الشريعة والآداب الإسلامية في المجتمعات ما بعد الصناعية والتكنولوجية، ومشاريع للمسلمين الأوروبيين، معرض 1992م الدولي في إشبيلية، المذاهب الإسلامية ودورها في انبعاث الإسلام في أوروبا..إلخ. وانتخب المؤتمر روجي غارودي رئيسًا له، كما اتخذ قرارات هامة لمساندة المسلمين البلغار، وقبول دعوة قبرص (التركية) لعقد الاجتماع الثاني في مغوشة، وفتح مركز في قرطبة، لتنسيق العمل بين المسلمين الأوروبيين، وإنشاء اتحاد بينهم، والاجتماع كل ثلاث سنوات(10).

قررت "الجماعة" بعد نجاحها في تنظيم "المؤتمر العالمي الإسلامي الأوروبي الأول" استئناف توسعها، بعد أن لم يبق لها سوى مركزي مالقة وإشبيلية. فأعادت فتح مركز إسلامي لها في شريش (مقاطعة قادس) بزنقة كامبانيا، في شهر سبتمبر عام 1985م، ثم عملت على شراء بيت في قرطبة، لتحويله إلى مركز إسلامي بها.

ثم تابعت "الجماعة" إحياءها لذكرى "المعتمد بن عباد" سنويًّا في إشبيلية؛ ففي يوم الأحد 13/10/1985م نظمت رحلة ثقافية بالباخرة على الوادي الكبير من إشبيلية إلى شلوقة. وشارك في هذه الرحلة حوالي 200 شخص، بما فيهم المسلمون الأندلسيون، ورجال الصحافة. وانتهت الرحلة بعشاء على ضيافة بلدية شلوقة. وفي يوم الاثنين أقيم احتفال بساحة "التوازنو" بطريانة، بمساندة مجلسها البلدي، ألقيت فيه القصائد الشعرية، من طرف أشهر أدباء الأندلس. وحضر الحفل ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص(11)، لدرجة سمت الصحافة بسببها عمدة طريانة، باكوأركس، بخليفة طريانة. ومرة أخرى لم يتراجع أعداء المسلمين عن الهجوم على "الجماعة" واتهامها باستعمال ذكرى "المعتمد بن عباد" للدعوة إلى الإسلام(12).

ومن نتائج "المؤتمر العالمي الإسلامي الأوروبي الأول"، والأحداث التي سبقته، أن أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تفكر في تنويع عملها في المجالات المختلفة، بتأسيس جهاز لكل مجال. ففي المجال الثقافي، أسست "الجماعة" (وقفية الإسلام والأندلس)، وقد اعترفت بها حكومة الأندلس المحلية، كمؤسسة تعمل للمصلحة العامة.

ومن نتائج "المؤتمر" كذلك، اقتناع "الجماعة" بضرورة عمل سياسي يعرف الجماهير الأندلسية بتاريخها الإسلامي، ووجودها المنفصل، باستعمال الإمكانات السياسية(13). وفي 29/11/1985م بعد اتصالات عبر الأندلس ومناطق أسبانيا الأخرى، سجل "حزب التحرير الأندلسي" كمنظمة سياسية تعبر عن آراء المسلمين الأندلسيين، وتعلن أن الشعب الأندلسي شعب قائم بنفسه، له حضارته (الإسلامية)، ولغته (العربية) الخاصة به، وقرر الحزب تقديم مرشحين للانتخابات المحلية والأوروبية(14).

ولم تنته سنة 1985م حتى نسيت "الجماعة" نكسة سنة 1984م، وانطلقت انطلاقة جديدة في جميع المجالات. وفي سنة 1986م استهلت "الجماعة" السنة باصطدام مع روجي غارودي. فمشروع الفليسوف الفرنسي المسلم كان: حوار الحضارات، ولم تكن تهمهُ "الجماعة الإسلامية في الأندلس" التي اعتقدت بأنه استعمل "المؤتمر العالمي للمسلمين الأوروبيين الأول" لتركيز وجوده في قرطبة، فانتقل في البلاد العربية يجمع الأموال لـ"جامعة إسلامية في قرطبة"(15)، أسس بها آخر المطاف متحفًا للحوار بين الحضارات، بينما عملت "الجماعة" على تأسيس مركز إسلامي يعيد جمع شتات المسلمين القرطبيين، ويجعل من قرطبة مركز إشعاع إسلامي في الأندلس وأوروبا. وقررت "الجماعة" مساعدة روجي غارودي في مشروعه، رغبة منها في توثيق الأخوة الإسلامية معه(16).

وفي مارس عام 1986م اشترت "الجماعة" بيتًا قديمًا في قرطبة بشارع ري هريديا، قرب المسجد الأعظم، في شارع مسجد القاضي "أبو عثمان"، وحولته إلى مركز إسلامي بعد الترميمات الضرورية، وتبنت برنامجًا للدعوة إلى الإسلام في قرطبة. وفي يوليو عام 1986م فتحت "الجماعة" مركزًا إسلاميًّا سادسًا في مرسية. فلم تنته السنة حتى أصبح "للجماعة" ستة مراكز إسلامية في خمس مقاطعات مختلفة: إشبيلية، ودوس، هرماناس، وشريش، ومالقة، وقرطبة، ومرسية.

وفي يوم الأحد 22/6/1986م شارك "حزب التحرير الأندلسي" في انتخابات البرلمان الأندلسي، مطالبًا بتحرير الأندلس واستقلالها، والاعتراف باللغة العربية كلغة لها، وتطبيق اتفاقية الاستسلام عند سقوط غرناطة سنة 1492م، الوثيقة القانونية الوحيدة التي تبرر انضمام الأندلس لأسبانيا غير قانوني(17).ورجوع المهجرين الأندلسيين(18). وقد قدم "الحزب" ما يزيد على مائة مرشح في كل المقاطعات الأندلسية، أهمهم: عائشة هرموزين زمبرانو في المرية، وخوان بدرو رنكون غياردو في قادس، وعبد الرحمن مدينة مليرة في قرطبة، وإسماعيل خرقيرة آمورس في غرناطة، ومريم بارياست لاهوز في ولبة، والمنصور بيريز كالفانتي في جيان، وياسر كالدرون دياس في مالقة، والمعتمد سانشس كاستيانوس في إشبيلية.

ونتجت الانتخابات البرلمانية الأندلسية إلى فوز 109 نواب، منهم: 6 للحزب الاشتراكي العمالي (الحاكم)، و28 للتحالف الشعبي (يمين)، و2 للحزب القومي الأندلسي، ولم تحصل الأحزاب السبعة الأخرى التي تقدمت للانتخابات على مقاعد في البرلمان. وحصل "حزب التحرير الأندلسي" على 5683 صوتًا أو 0.17 في المائة من الناخبين. وكان أقرب حزب لأفكار الجماعة الإسلامية هو "الحزب القومي الأندلسي" الذي لم يحصل إلا على المقعدين المذكورين، لغلطة سياسية ارتكبها (كما رأينا) عند تأسيس منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي. فقد أظهر ضعفًا كاد أن يضيع على الأندلس فرصة تكوينها، في الوقت الذي تبنى الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني مبدأ الحكم الذاتي للأندلس، وكافح من أجله. وقد حافظ الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني على موقعه في انتخابات يونيو عام 1990م، إذ حصل على 61 مقعدًا، وحصل الحزب الشعبي (يمين) على 27 معقدًا، واليسار المتحد (شيوعي) على 11 مقعدًا، بينما ارتفع عدد مقاعد الحزب القومي الأندلسي إلى 10 مقاعد.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) Juan Enrique Gomez "Los Grupos Islamicos Espanoles Preparan ya La Reconquista"Tiempo 27/5/1985

(2) Alvaro vega "Marruecos esta Estructurando una Red de Espionje sobre el Sur de Espana" Diario-16 9/6/1985

(3) Alvaro vega "El Prinipal Responsable, el Abogado Lahlou Tiene Accesso Al Monarca Alauita , HassanII" Diario-16 , 10/6/1985

(4) Musulmanes Sevillanos Confirman que Hay una red Andaluza de Espias Marroquies" Diario-16 10/6/1985

(5) Ingacio Romero de Solis "Ahora , una de Espias" ABC, 11/6/1985

(6) Antonio Medina Niega Cualguier Tipo de Relacion"Diario-16 10/6/1985

(7) Manual Prados "Abderrahman Medina Asegura que no Es un Espia de Marruecos" Diario de Granada , 11/6/1985

Creo Que Hay una Ofensiva de Sectores Sionistas de PSOE Contra El Islam"Diario-16 , 17/6/1985

(8) Ali Kettani y Muhammad Lahola Rectifican"Diario-16 , 31/7/1985

(9) Comunidad Islamica de Espana Advierte a la Junta sobre la Conducta de Medina " Diario-16 13/7/1985

(10) Manana , I Congreso Internacional de Musulmanes Europeos" El correo de Andalucia, 18/7/1985

(11) Jose Maria Gomez "El Califa de Triana" El Correo de Andalucia, 16/10/1985

(12) Fauto Botello "Pobre Almotamid" El Correo de Andalucia , 17/10/1985

(13) Guillermo Lopez-Vera "La Comunidad Islamica Perpara un Partido Politico " El Diario de la Costa del Sol, 30/11/1085

(14) Alfredo Valenzuela "Los Musulmanes Quieren Tener Representacion en el Parlamenyo Europeo" El Pais , 23/7/1985

(15) مرزوق هلال "جامعة إسلامية في قرطبة مكان إحدى قلاع الأندلس" الأخبارو 31/2/1986م

(16) Cordoba Sera Seda de la Future Union International de Musulmanes Europeos" Cordoba ,26/5/1986

(17) Los Musulmanes Quieren que Se Cumplan Las Capitulaciones" El Dia de Granda , 5/6/1986

(18) Liberacion Andaluza Exige la Vuelta de Los Exiliados de Al-Andalus"El Correo de Andalucia , 3/6/1986
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
العودة إلى قرطبة

العودة إلى قرطبة

العودة إلى قرطبة
قررت الكنيسة الكاثوليكية جعل سنة 1986م سنة الذكرى المئوية الثانية عشرة لتأسيس مسجد قرطبة الأعظم، ونظمت لذلك احتفالات شاركت فيها أوساط ثقافية مختلفة. فقررت "الجماعة" إقامة مؤتمر بهذه المناسبة تحت عنوان "الإسلام منهج حياة"، بهدف التعريف بمركز قرطبة الإسلامي الجديد، والمشاركة في ذكرى بناء المسجد الجامع بطريقة إسلامية، وجعلها بداية انطلاقة جديدة إسلامية في عاصمة الخلافة الأندلسية. أقيم المؤتمر في الفترة 12-15/12/1987م، في قاعة من قاعات قصر الخلافة المجاور للمسجد الأعظم، وكان غذاء المؤتمرين في المركز الإسلامي. وحضر المؤتمر حوالي 150 شخصًا من الأندلس وخارجها، منهم: كاتبه، والأستاذ محمد الحلو من المغرب، والدكتور محمد عمر جمجوم من جدة، والشيخ الحبيب بن الخوجة مفتي تونس السابق، وقد انتخب رئيسًا للمؤتمر، والأستاذ محمد الوزاني من تطوان، وغيرهم(1).

افتتح المؤتمر بصلاة الجمعة (5/12)، في المركز الإسلامي، تبعها الغذاء، ثم محاضرة حول "أساليب الدعوة في الأندلس" لكاتبه، ثم محاضرة حول "الإسلام منهج حياة في الغرب" للمحامي المسلم الأندلسي إسماعيل خرقيرا، ثم كونت لجان حول الدعوة والتعليم، والشؤون المالية والصياغة. وخصص يوم السبت للمحاضرات ساهم فيها محاضرون من البلاد العربية، كالشيخ الحبيب بن الخوجة، ومن الأندلس ابن قزمان البلوطي، ومن فرنسا عائشة موجون، وغيرهم. وانتهى المؤتمر يوم الأحد 7/12 بالتوصيات، وباجتماع مصغر لمجلس الجماعة بحضور الضيوف غير الأندلسيين.

كان مؤتمر قرطبة ناجحًا رغم هجمات صحيفة "دياريو 16"(2)، على عادتها، والمقالات السيئة التي نشرتها مجلة "كامبيو 16"، تحت عنوان مرعب "الإسلام يدخلنا"(3). ومن أهم قرارات "الجماعة" بعد المؤتمر: جعل قرطبة عاصمة "للجماعة الإسلامية في الأندلس" عوضًا عن إشبيلية، رغم أن المركز الإسلامي في إشبيلية ظل أكبر مراكز "الجماعة" الإسلامية، ومن أكثرها عددًا وأنشطها.

وفي 12-15/2/1987م افتتح روجي غارودي "اللقاء العالمي الإبراهيمي" في المتحف الذي أقامه في "القلعة الحرة"، القلعة الإسلامية على ضفة الوادي الكبير بقرطبة، التي قدمتها له البلدية لهذا الغرض. ولم يستدع المؤتمر أعضاء "الجماعة"، ولا حتى الذين ساهموا في المشروع، بما فيهم مديره عبد الرحمن مدينة مليرة. وقررت "الجماعة" متابعة التأثير المستتر على هذا المشروع الذي أسس بأموال المسلمين حتى لا يضيع نهائيًا(4).

وبعد لقاء قرطبة، راجعت "الجماعة" برنامجها التعليمي، وكانت في الماضي قد حرصت حرصًا كبيرًا على تيسير التعليم الإسلامي لأفرادها، بإنشاء مدارس إسلامية في كل مراكزها، وتوظيف معلمين من المغرب. ولم ترضَ "الجماعة" على نتائج هذه التجربة، لقلة العارفين بالدعوة الإسلامية، واللغة الأسبانية في آن واحدٍ، فقررت إرسال بعثات من شبابها إلى البلاد الإسلامية، لتكوين أطر تعليمية من الأندلسيين أنفسهم، وهكذا وقع اتفاق بين "الجماعة" ورابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، لإرسال وفد من الشباب الأندلسي في شهر رمضان عام 1404هـ (مايو عام 1987م) إلى الديار المقدسة، وتنظيم حلقة تعليمية لهم، مع إقامة شعائر العمرة، وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك بتمويل من الرابطة، وتطوع عدد من أساتذة جامعة الملك عبد العزيز بجدة. وقد خطط الدرس وترأسه كاتبه كأحد المتطوعين(5).

شارك في هذا الوفد خمسة من معلمي "الجماعة"، منهم عبد الرحمن حبصاوي، وزوجه رشيدة كروم (وهي معلمة كذلك)، وعبد السلام أصريح، ومحمد الوزاني، وأحمد قمقوم. ومن الشباب الأندلسي: أبو ياسر رينا أنداردي، وعبد العزيز غارسيا فرناندس، ومنصور بيريز كالبينتي، ويوسف الحبيب فيغراس رولدان، وعرفات باريا باريرا. وقد حصلوا في آخر الحلقة الدراسية على شهادة. وكانت الحلقة ناجحة، عاش أثرها الأندلسيون حياة إسلامية محضة في جو شهر رمضان المبارك بالديار المقدسة، الدراسة في النهار، والعبادة في الليل، مما كان فيه لهم أحسن الأثر.

وفي 10/5/1987م شارك "حزب التحرير الأندلسي" في الانتخابات البلدية في الأندلس(6)، ففاز بثلاثة مقاعد في مدينة الجزيرة الخضراء، من مجموع 24 مقعدًا. فاز فيها الحزب الاشتراكي العمالي الأسباني بـ 13 مقعدًا، والائتلاف الشعبي بـ4 مقاعد. واليسار المتحد (الشيوعي) بمقعدين، والوسط الديموقراطي والاجتماعي بمقعدين. والجزيرة الخضراء مدينة على مضيق جبل طارق، بمقاطعة قادس، يزيد عدد سكانها على المائة ألف. وممثلو "حزب التحرير الأندلسي" الفائزون هم: أنور استبان باوتستا، وهو عمدة للجزيرة الخضراء، وألفونسو أرتيغا، وسلبيا ألونسو. وهكذا برهن "حزب التحرير الأندلسي" على استطاعته إيصال مرشحيه إلى مقاعد المجالس البلدية. وبعد هذا النجاح قررت "الجماعة" فتح مركز إسلامي لها في الجزيرة الخضراء بعد إقفال مركزها في دوس هرماناس، لقربه من إشبيلية، ولترشيد مصاريفها. وظل بذلك "للجماعة" ستة مراكز في المدن التالية: إشبلية، وقرطبة، وشريش، ومالقة، ومرسية، والجزيرة الخضراء.

ثم حاول "حزب التحرير الأندلسي" المشاركة في انتخابات منطقة استرمادورا بمقاطعة بطليوس، مطالبًا بضمها مع منطقة مرسية لمنطقة الأندلس(7)، ولم يُسمح له بالمشاركة بحجة أن مرشحيه ليسوا من سكان المقاطعة(8). فقدم "الحزب" شكوى بلجنة بطليوس الانتخابية إلى المحكمة التشريعية التي أكدت قرار اللجنة(9).

وفي 10/7/1987م تقدم الحزب "لانتخابات البرلمان الأوروبي"، معلنًا أن "الأوروبية" ربما أدت إلى العنصرية، وقطع شعوب أوروبا، خاصة الشعب الأندلسي، عن الشعوب الإسلامية المجاورة(10). فحصل على 9.881 صوتًا، منها 3.533 في الأندلس، 2.081 في قطلونية، 1.232 في بلنسية، و2.935 في مناطق أسبانيا الأخرى. فبرهنت هذه النتائج على أن الأفكار الإسلامية لها صدى في المجتمع الأندلسي، ومساندون رغم ضعف الإمكانات.

وتابعت "الجماعة" نشاطها الثقافي والإعلامي، منذ يونيو عام 1987م، من ذلك: نشر ورقة "الدعوة" الإعلامية بين أفرادها.وفي 28-29/6/1987م قام وفد من "الجماعة" بالمكوث على أبواب مسجد قرطبة الكبير في ذكرى سقوط قرطبة بتاريخ 29/6/1236م، وذلك كما قال ابن قزمان البلوطي –أحد منظمي "المكوث": لأن احتلال قرطبة في الذكرة الأندلسية هو مثال تاريخي للتعدي على شعب بالقوة، وإزاحة الحضارة الإسلامية لمدة 751 سنة، وإحلال محلها الثقافة النصرانية القشتالية". وأن المكوث هو "التركيز 24 ساعة على السلام والحوار بين الشعوب، وبرهنة أن الفكر الأندلسي هو دائمًا فكر تعاون وسلام، وأننا مستعدون لمد يدنا لأي جماعة من أي جنس، أو دين، أو ثقافة، مثلما كنا في العصور الماضية(11). وقام المسلمون بالصلوات الخمس جماعة في الشارع بداية من مغرب يوم 29/6".

وفي شهر يوليو سنة 1987م حطمت شركة بناء، ستين مترًا من سور المدينة العتيق، الذي بناه الموحدون في القرن الثاني عشر الميلادي. فتقدم حزب التحرير الأندلسي، بشكوى إجرامية ضد من قام بهذا الهدم، وطالب باستقالة المسؤولين الفنيين في المجلس البلدي، الذي أعطوا الإذن بالهدم. كما طالب الحزب بإيقاع عقوبات، ودفع غرامة للأذى الذي لحق بذلك أهل قرطبة، في ملكيتهم الفنية والتاريخية.

ثم قررت "الجماعة" معارضة الاحتفال بسقوط المدن الأندلسية في يد النصارى في كل مدن الأندلس. وهكذا بعد قرطبة في 19/8/1987م عارضت "الجماعة" الاحتفال الرسمي بذكر سقوط مالقة، وتساءلت: كيف يسمح لنفسه عمدة المدينة، بدروآبريسيو، أن يجلس "مفتخرًا بالذكرى المئوية الخامسة لمذبحة عشرين ألف مالقي، الذين قتلوا من طرف الجيوش القشتالية؟". وقارنت "الجماعة الإسلامية" في منشور وزعته، عمل العمدة هذا "كما لو أن الشعب الباسكي أجبر على الاحتفال بقنبلة غورنيكا، أو الشعب القطلاني بيوم 11 سبتمبر، في الوقت الذي أدى فيه دخول الملكين الكاثوليكيين إلى مالقة إلى نهاية حقبة من الإشعاع الاقتصادي والثقافي". وعدت "الجماعة في منشورها أن الاحتفال بسقوط مالقة "لا يمكن أن يكون سوى شتيمة خطيرة جدًّا للشعب المالقي، واستفزازًا له"(12). وساند حزب "اليسار المتحد" الموقف الإسلامي، وأعلن أن الاحتفال إنما هو "احتفال بمذبحة" وقاطعه.

وفي 23/11/1987م ذكرى سقوط إشبيلية قامت "الجماعة" بمظاهرة، غنت فيها النشيد الوطني الأندلسي. وساند المسلمين الحزب القومي الأندلسي، واليسار المتحد، واللجان العمالية(13). وصرح المسلمون أن من العيب أن تحضر شخصيات أندلسية هذا الاحتفال الذي هو "عمل كاثوليكي عسكري، يحتفل بذكرى مذبحة أهل إشبيلية"(14).

وفي 4/11/1987م ذكرى "يوم الأندلس" نظم "حزب التحرير الأندلسي" و" الجماعة الإسلامية في الأندلس" مظاهرة سلمية في قرطبة(15).

فاجتمع المتظاهرون في "ساحة كولون" في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، حاملين الأعلام الأندلسية، واتجهوا نحو المسجد الجامع. وساندت "النقابة الأندلسية للعمال" ومنظمات أخرى، هذه المظاهرة، فنجحت بذلك "الجماعة" في أن تتزعم الحركة القومية الأندلسية.

وبعد هذه المظاهرة، وقع اصطدام بين روجي غارودي، و"الجماعة الإسلامية في الأندلس" فخير غارودي عبد الرحمن مدينة، بين بقائه في "الجماعة" وبين "بقائه كمدير متحف القلعة الحرة". فكتب له رسالة يطلب منه فيها أن يستقيل: قائلاً: "يظهر لي أنه من التناقض أن تكون في نفس الوقت رئيس حزب سياسي (لم يكن رئيس الحزب)، ورئيس مؤسسة دينية (لم يكن رئيسها)، ورئيس مركز ثقافي يجعل المبادئ المسكونية والعالمية، نصب عينيه. ولهذا أطلب منك أن تقدم استقالتك، ليس لأسباب مهنية، ولكن للسبب الوحيد الذي هو تعارض أعمال الرئاسة الثلاثة التي تؤدي إلى التناقض مع أهداف القلعة المسكونية".

ولما رفض عبد الرحمن مدينة ترك جماعته، أقاله غارودي من عمله في 21/12/1987م، وعين محله راهبًا سابقًا ليس له علاقة بالأندلس وتاريخها. وتقول الصحافة: إن الأحداث ابتدات في 3/12/1987م، في مقر بلدية قرطبة عندما هدد ممثلو "الرابطة القومية"(حزب اليمين)، و"الحزب الاشتراكي العمالي المتحد"(الحاكم)، بإلغاء الاتفاق الذي حصل عليه غارودي لاستعمال "القلعة الحرة"، بسبب "النظرة الفردية للتاريخ التي تظهر أهمية الإسلام على حساب النصرانية واليهودية"(16). فأنقذ غارودي مشروعه بإقالة عبد الرحمن مدينة الذي أعلن: "لقد أقلت عند رفض الاستقالة لأسباب غير مهنية، ولكن لأنني عضو في الجماعة الإسلامية، وبهذا رجعنا إلى عصر اصطياد الساحرات، وإلى أسوأ أيام محاكم التفتيش. فأنا كبش الفداء". فقدم موظفو المتحف المسلمون استقالتهم(17)، وتظاهر مسلمو قرطبة ضد غارودي(18)، واتهموه بخيانة المسلمين الأندلسيين(19)، وتابعوه في المحكمة(20)، طالبين منه حقوق عبد الرحمن مدينة. ثم هدأت الأحوال، واتبع كل واحد من الطرفين طريقه.

ولم تؤثر أزمة "الجماعة" مع غارودي في نشاطها. ففي 21/1/1988م عارض المسلمون حفلات ذكرى سقوط غرناطة، وتظاهروا هذه المرة ضد الاحتفال(21) الذي تصر الكنيسة والدولة على إحيائه رغم المعارضة. وفي 23/1/1988م، أعلنت حكومة الأندلس المحلية، أن "مؤسسة الإسلام والأندلس"، مؤسسة ذات مصلحة عامة للمجتمع.

وفي فبراير سنة 1988م ابتدأت "الجماعة" بإرسال بعثات طلابية لتعلم الإسلام واللغة العربية في البلاد الإسلامية، فأرسلت أول بعثة من خمسة طلاب إلى الجامعة الأردنية، لمدة سنتين ونصف، اثنان منهم من قرطبة، وواحد من مرسية، وواحد من شريش، وواحدة من إشبيلية. وقد توسع هذا البرامج حتى أصبح عدد المبعوثين يقارب الأربعين، إلى عدة بلاد إسلامية عربية، وغير عربية(22).

وفي مستهل سنة 1988م، قامت "الجماعة" بتنظيم مظاهرات في مدن الأندلس المختلفة لمساندة الانتفاضة الفلسطينية. ففي 21/3/1988م، أقيم حفل في "دار الشباب" بمدينة المرية حضره عدة آلاف من شباب المدينة، وألقيت فيه الخطب والمحاضرات(23). وفي الحقبة من 15-22/4/1988م، أقيمت التظاهرات في "مركز خوان 23 الثقافي" بقرطبة، حضرها عدة آلاف من الأشخاص لمدة أسبوع كامل(24). وتبع هذا النشاط، فتح مركز إسلامي جديد "للجماعة" في المرية، فأصبح مركزها السابع.

وفي أبريل سنة 1988م، اشتركت "الجماعة" و"حزب التحرير الأندلسي" في قرطبة، في تظاهرة ضد دفن النفايات النووية في منطقة "الكبريل" بمقاطعة قرطبة(25).

وفي 29/6/1988م، مناسبة سقوط قرطبة، طلبت "الجماعة" من أنطونيو انفانتس فلوريدو، مطران قرطبة، الإذن بإقامة الأذان، وصلاة المغرب، والخطبة داخل المسجد الجامع(26). فرفض المطران(27)، بحجة أنه "لا يمكنه أن يسمح بصلاة غير نصرانية في كاتدرائية كاثوليكية". ولكن "الجماعة" رأت أن قرار المطران مبني على "حق مأخوذٍ بالقوة والتسلط"، وقررت إقامة الصلاة في الشارع أمام المسجد في التاريخ المذكور(28).

وفي الأسبوع 15-22/6/1988م، قامت جماعة الجزيرة الخضراء بأول نشاط لها على المجال الأندلسي، وهو تقديم معرض صوتي وبصري حول مدينة الزهراء وتاريخها وآثارها(29). وبهذا النشاط ابتدأ المركز الإسلامي بالجزيرة الخضراء سلسلة من النشاطات الثقافية الهامة.

وهكذا تعددت أوجه نشاطات "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وأخذت تفكر في تقوية علاقاتها خارج أسبانيا، وداخلها، أما خارجها فبإقامة روابط الأخوة بالجماعات الإسلامية بصفة عامة، وبالشتات الأندلسي بصفة خاصة. أما في الأندلس فبالتعاون مع كل القوى الحية الأندلسية بصفة عامة، وبالجمعيات الإسلامية الأخرى بصفة خاصة. كما أخذت "الجماعة" تفكر في تأسيس مراكز أبحاث، ونشر المجلات. كما ظلت حريصة على تقوية صفها، وعدم السماح لأحد أن يشتت وحدتها.




--------------------------------------------------------------------------------

(1)Los Musulmanes Celebran en Cordoba el XII Centenario de la Mezquita"Cordoba , 6/12/1986

(2)Sebastian Cuevas"Servicios de Information hn Vigilado el Congreso Islamico que Hoy Concluye" Diario-16 7/12.1986

(3)El Islam Nos Pentra" Cambio-16 , 9/2/1987

(4)مشروع جارودي في قرطبة يستحق الدعم "الشرق الأوسط 7/3 /1987م

(5) "دورة تدريبية كمكثفة في السيرة و العلوم الإسلامية" جريدة المدينة 27/6/1987م

(6) El Ex Alcalde Franciso Estban Encabeza la Lista de Liberacion Andaluza Candidatura por Algecrias" Diario Sur 2/5/1987

(7) Liberacion Andaluza Quiere la Fusion de Badajoz y Mucia en Andalica" Correo de Andalucia 7/5/1987

(8) Rechazba La Candidature de liberacion Andaluza en badajoz"Hoy de Badajoz 12/5/1987

(9) Liberacion Andaluza Volvio a Recurrir"Diario de Extremadura 19/5/1987

(10) Liberacion Andaluza Considera que el Europeismo es una concepcion Nefasta de la Vida"Diario Sur 28/5/1987

(11)C.Aumente "Musulmanes Andalusies Recuerdan junto a la Mezquita la conquista de C''ordoba"Cordoba 30/6/1987

(12) Francisco Acedo "Malaga Afronte su Pasado desde la Feria La Vanguardia,30/8/1987

(13) Jose Bejarano " Los Nacionalistas lnterrumpen un Acto en La Catedral de Sevilla" la Vanguardia, 3/11/1987

(14) El Auntamiento Conmemoro Ayer la Conquista de la Ciudad" El correo de Andalucia,24/11/1987"

(15) Liberacion Andaluza Convoca en codoba una Manifestacion "Nuevo Diario 5/15/1987"

(16) Carmen Garijo "Cesado Antonio Medina Como Conservador de la Torre de la Calahorra "Nuevo Diario , 22/12/1987

(17) Juan M.Niza "Los Empleados de la Torre de la Calahorra Presentan su Dimision "Diario Cordoba 24/12/1987

(18) El Colectivo Musulman Cordobes Tacha de Traidor a Garaudy" Nuevo Diario 18/1/1988

(19)Maria Olemo "La Yamaa Islamica Acusa a Garaudy de Traicionar a Los Musulmanes Andaluces" Cordoba 18/1/1988

(20) C.Aumente "Abderrahman Medina Reclama su Puesto de Trabajo Como tecnico en la Calahorra"Cordoba 22/1/1988

(21) Independentistas Andaluces Alteraron la Conmemoracion de la Toma de Granada "ideal , 3/1/1988

(22) فيصل شبول "الشعب تلتقي طلاباً من أسبانيا في الجامعة الأردنية أشهروا إسلامهم "الشعب 13/2/1988م

(23) Hoy Acto Puplico en Apoyo a la OLP"Ideal 21/3/1988

(24) Manifestacion en Solidaridad con el Pueblo Palestion" Nuevo Diario ,16/4/1988

(25) Sebastian Cuevas "Quinientas Personas se Manifeestaron Ayer Contra El Cementerio Nuclear de El Cabril" Diario-16 , 10/4/1988

(26) Sebastian Cueven "Musulmanes Piden la Mezquita ;para Conmemorar su Derrota "Diario-16, 18/6/1988

(27)El Obispo no Accede a la Peticion de la Comunidad Islamica" Nuevo Diario , 28/6/1988

(28) Musulmanes Oran Frente la Mezquita" Nuevo Diario ,30/6/1988
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
العلاقة مع الشتات الأندلسي

العلاقة مع الشتات الأندلسي

العلاقة مع الشتات الأندلسي

منذ النصف الثاني من سنة 1988م، أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" بعلاقتها بالشتات الأندلسي، خاصة في أفريقيا وجنوبي أمريكا. ففي 14/7/1988م، استدعت "الجماعة" السيد إسماعيل بن عثمان بن بركة من قبيلة "الآرما" - وهي قبيلة متأصلة من الجيش المغربي الأندلسي، الذي غزا تمبكتو برئاسة الأندلسي جودر في القرن السابع عشر الميلادي - لإلقاء سلسلة من المحاضرات في المركز الإسلامي بقرطبة، حضرها جم غفير من القرطبيين.

وإسماعيل بن عثمان، باحث في مركز أحمد بابا للدراسات الإسلامية بتمبكتو بمالي، أتى إلى الأندلس بدعوة من "جمعية الدراسات الدولية"، و"الجمعية الثقافية لسنة 2020"، التي حرصت على الاستعانة به لدراسة التأثير الأندلسي على العالم العربي والأفريقي(1). وقد حضر إسماعيل وكاتبه، احتفال عيد الأضحى في قرطبة، كما حضره عدد كبير من مسلمي قرطبة يزيد على السبعين(2). ثم انضم السيد إسماعيل كباحث، إلى "مؤسسة الإسلام والأندلس" التابعة" للجماعة الإسلامية بالأندلس".

وفي 3/8/1988م، أقامت بلدة قسطلة (مقاطعة قادس)، حفلاً تكريميًّا لسيدي الوالد، الشيخ محمد المنتصر الكتاني، حيث أعطت اسمه للشارع الرئيسي بالبلدة، فأصبح يسمى "شارع المنتصر الكتاني"، تكريمًا له لخدمته للجماعة الإسلامية بالأندلس، ومساعدة الأندلسيين في استعادة شخصيتهم وهويتهم وحضارتهم(3). ولقد سلم المجلس البلدي لكاتبه، ممثلاً عن السيد الوالد، رسالة رسمية تقول: إن المجلس اتخذ هذا القرار "اعترافًا للحب والمساعدة التي أظهرت الأستاذ الكتاني للأندلس". وقد حضر كاتبه قسطلة نائبًا عن السيد الوالد الذي لم يستطع الحضور لأسباب صحية، واستقبله المجلس البلدي برئاسة أنطونيو كونزالس، رئيس المجلس وعمدة قسطلة، كما حضر شقيقه محمد الزمزمي، وعدد من المسلمين الأندلسيين. وأقام العمدة حفلاً للضيوف في إحدى فنادق البلدة بهذه المناسبة التي اتخذتها البلدة يوم عيد. وكان هذا التكريم هو في الحقيقة تكريمًا "للجماعة الإسلامية في الأندلس"، التي حرصت على الاعتراف بالجميل للسيد الوالد، الذي أبدى لها النصح، والتشجيع منذ بداية نشاطها.

وفي الحقبة 16-21/8/1988م، نظم مركز الجزيرة الخضراء الإسلامي التابع "للجماعة"، أسبوعًا ثقافيًّا أندلسيًّا بمدينة طريف المجاورة(4)، شاركت فيه أجواق أندلسية من الأندلس والمغرب، كما قدم فيه فن البناء والطبخ الأندلسيين. وقد حضر احتفال الافتتاح أنطونيو رويز، عمدة طريف، وعمدة سبتة، والمدن المجاورة للجزيرة الخضراء.

وفي 23/11/1988، تظاهر مسلمو "الجماعة" بمعارضة احتفالات ذكرى سقوط إشبيلية في يد النصارى، برئاسة فرناندو الثالث، ملك قشتالة، وأعلنت أن هذا الاحتفال "عمل لا أخلاقي وسبة لإشبيلية وأهلها"، و"أن الكنيسة والبلدية سيسبان تاريخنا نحن الإشبيليين والأندلسيين بإقامتهم حفلاً لتشريف ملك سفاح احتل بقوة السلاح مدينة إشبيلية، وأجبر عددًا كبيرًا من أهلها على الهجرة، بعد أن طردهم من بيوتهم ومدينتهم(5).

وفي أوائل ديسمبر، شاركت "الجماعة" عبر مركزها الإسلامي بمرسية في ندوة حوار بين الديانات الأسبانية، نظمتها جريدة "أبنيون" المرسية. حضر الندوة ممثلون عن "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وعن طوائف نصرانية مختلفة منها "الكنيسة الكاثوليكية"، و"كنيسة كريسطو" و"كنيسة أنخليكا المعمدانية"(6).

وفي 4/12/1988م احتفل المسلمون بيوم الأندلس على عادتهم بتنظيم مظاهرة انطلقت من ساحة كولون بقرطبة إلى المسجد الجامع، حيث قرأوا منشورًا بعنوان "من أجل حريتك يا أندلس". ولقد حضر المظاهرة عدة مئات من المسلمين والمتعاطفين معهم. كما طالب المتظاهرون بإلغاء القواعد الأمريكية الموجودة بمورور، وروطة بالأندلس، وتحرير جبل طارق، وسحب الجيش الأسباني من الأندلس(7).

وفي آخر شهر ديسمبر، استدعت "الجماعة" في إطار ربط علاقتها بالشتات الأندلسي، الشاب المهندس رضوان بن محمد بن محمود الرشيكو، من بلدة سليمان بتونس، وهو من سلالة أبي عبد الله، آخر ملوك غرناطة(8). ومكث رضوان في ضيافة "الجماعة" مدة شهر، زار إبانها المراكز الإسلامية المختلفة، وألقى المحاضرات عن الهجرة الأندلسية إلى تونس. وفي 2/1/1989م، شارك في معارضة "الجماعة" لاحتفالات سقوط غرناطة بدخول قصر الحمراء، رافعًا العلم الأندلسي على رأس جماعة من الأندلسيين(9)، في استرجاع رمزي لقصر الحمراء.

ومنذ سنة 1988م أخذت "الجماعة" تفكر في عقد مؤتمر عالمي أندلسي إسلامي تجمع فيه الشتات الأندلسي، بالمسلمين الأندلسيين في أرض الأندلس، يكون فاتحة للتعاون بين من بقوا في الأندلس، ورجعوا إلى الإسلام، ومن طردوا من بلادهم، وبقيت الأندلس حية في أشخاصهم، وفي قلوبهم. وفي 25/1/1989م أعلن قرار عقد المؤتمر رسميًّا في الصحافة الأسبانية(10) بتاريخ 1-3/9/1989م، في بلدة قسطلة (مقاطعة قادس). ثم تكونت لجنة لتهيئ المؤتمر برئاسة محمد رميرز فرج، والي "الجماعة"، على فرح الجزيرة الخضراء. وفي 10/3/1988م أقام هذا الأخير مؤتمرًا صحفيًّا في أحد فنادق الجزيرة الخضراء الكبرى، فسر فيه للصحفيين أهداف المؤتمر وأهميته(11)، مما كان له الأثر الطيب في الصحافة الأسبانية، ورددت صداه الصحافة المغربية الناطقة بالفرنسية(12).

وفي سنتي 1988 و1989م، كلفت الحكومة الأسبانية "الجماعة" بالمشاركة في تعليم العاطلين عن العمل وتأهليهم. وهكذا نظمت "الجماعة" نفسها، ونجحت في إعطاء دروس للمئات من الموطنين، بتمويل من الدولة في مراكزها بإشبيلية، وقرطبة، ومالقة، ومرسية، والجزيرة الخضراء في اختصاصات مختلفة، بما فيها تعليم اللغة العربية، كلغة من اللغات القومية الأسبانية، لكونها لغة الأندلس القديمة.

وفي 19/6/1989م شارك "حزب التحرير الأندلسي" في الانتخابات الأوروبية، فحصل على 9419 صوتًا في كل أسبانيا، أي أقل بـ462 من عدد الأصوات المحصلة في انتخابات سنة 1987م، منها 2216 من الأندلس، و1999 من قطلونية، و4204 من مناطق أسبانيا الأخرى.

ولم ترض هذه النتيجة لا "الجماعة"، ولا أعضاء "حزب التحرير الأندلسي". فاجتمع مجلس "الجماعة" في الجزيرة الخضراء يوم السبت 15/7/1989م، وتدارس فائدة العمل السياسي في الوقت الراهن، موازيًا محاسنه بمساوئه. وكان رأي الأكثرية أن هدف تأسيس "حزب التحرير الأندلسي" كان التعريف بالمبادئ الإسلامية، والهوية الأندلسية، لأكبر عدد من الأندلسيين، وأن عدد المقتنعين بهذه الأفكار لم يزد حسب الانتخابات، بينما ازدادت أعداد أعداء "الجماعة" بسبب الحركة السياسية. لذا رأوا أن مضار "الحزب" في الوقت الراهن هي أكثر من محاسنه، فقررت "الجماعة" أن تطلب من "الحزب" أن يلغي نفسه، فصوت بالأكثرية قرار إلغاء "حزب التحرير الأندلسي"(13)، وقررت "الجماعة" التعاون مع كل الأحزاب السياسية التي تعطف على الشعب الأندلسي، والهوية الأندلسية، والمبادئ الإسلامية.

وفي 14/7/1989م، اعترفت "اللجنة الاستشارية للحرية الدينية" في أسبانيا بالإجماع، بالإسلام كدين ذي جذور أسبانية وثيقة. ويعني هذا الاعتراف بالدين الإسلامي، بعد سقوط غرناطة بـ497 سنة، وبعد الطرد الكبير بـ380 سنة(14)، حصول المسلمين على نفس المساعدات التي تحصل عليها الأديان الأخرى المعترف بها، كالكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، شرط أن تتوحد جميع الجماعات الإسلامية في أسبانيا في اتحاد، للتعامل كمسلمين، مع السلطة الأسبانية بصوت واحد.

وفي نفس الشهر، أسست "الجماعة" في قرطبة مركزًا للدراسات الأندلسية، ومجلة "لام ألف"، وهي مجلة إسلامية علمية، ذات مستوى رفيع، تقدم باللغة الأسبانية أبحاثًا أندلسية إسلامية، ومواضيع تهم الحاضر والتاريخ، والهوية الأندلسية. رئيس تحرير المجلة هو عبد الرحمن مدينة مليرة، ومدير النشر هو عبد الرحمن محمد معنان الحبصاوي. وقد نشرت "الجماعة" 5000 نسخة للمجلة، التي ظهر منها لحد منتصف 1990م، ثلاثة أعداد.

وفي أوائل أغسطس سنة 1989م، زار بعض مراكز "الجماعة" في الجزيرة الخضراء، وشريش، وإشبيلية، وقرطبة، ومالقة، وفد، منهم الأساتذة: كامل سلامة الدقس، نائب أمين عام رابطة العالم الإسلامي، وخليل محمد حمد، أمين عام هيئة الإغاثة الإسلامية بالكويت، ومحمد عمر جمجوم، أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وحامد الرفاعي مستشار برابطة العالم الإسلامي(15).

وفي يوم الجمعة 1/9/1989م، افتتح "المؤتمر الأندلسي الأول" في مقر المريمة ببلدة قسطلة (مقاطعة قادس)، بآيات من القرآن الكريم، ثم النشيد الوطني الأندلسي بحضور أنطونيو كونزالس اسبينوزا، عمدة قسطلة، وأنطونيو رويز خمينيس، عمدة طريف، ومحمد رميرز فرج، رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمر، وعبد الرحمن محمد معنان الحبصاوي، رئيس مجلس "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، كما حضر المؤتمر ما يزيد عن المائتين من أعضاء "الجماعة" وأصدقائها، وحوالي مائة ممثل عن الجاليات الأندلسية في الشتات الأندلسي، منهم: الدكتور عبد الكريم كريم، ممثلاً عن جمعية رباط الفتح، وعائلته، وكاتبه وعائلته، وأندلسيون من تونس على رأسهم رضوان الرشيكو، ومن الجزائر، والمكسيك، وتركيا، وغيرها من البلاد. وغطى المؤتمر أكثر من 30 صحفيًّا من عدة دول. وكان الجميع مقيمًا في مقر المؤتمرات بالريمة، حيث أقيمت الصلوات الخمس جماعة في مسجد هيئ للمناسبة، طيلة أيام المؤتمر.

وبعد الحفل الافتتاحي، تقدم عبد الرحمن معنان بالترحيب بالحاضرين، ثم قدم رؤساء الوفود كلمات جمعياتهم، رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وجمعية رباط الفتح بالرباط، ومركز الدراسات الإسلامية بمربلة، وكلية العلوم الإسلامية باسطنبول، ومسجد باريز بفرنسا، والجمعية الثقافية الإسلامية بتطوان، وغيرها من الجمعيات. ثم قدم في الجلسة الأولى عبد الرحمن مدينة بحثًا عن الجذور الأندلسية وتاريخ الأندلس، وفرانسسكو سانش روانو عن الأندلسيين في جزيرة أفريطش، وحاج الدين ساري الغوثي (جزائري من فرنسا) عن التصوف في الأندلس. ثم أقيمت صلاة الجمعة بإمامه عبد الرحمن معنان. وقدم كاتبه بحثًا في الجلسة الثانية عن الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية المعاصرة، كما قدم الأستاذ محمد بن شقرون (من الدار البيضاء)، بحثًا في الأدب الأندلسي. وبعد المناقشات، توجه المؤتمرون إلى بلدة طريف حيث صلوا صلاة المغرب في الساحة العامة، ثم استقبلهم العمدة، والمجلس البلدي، ورحبوا بهم، ثم استقبلتهم "مدرسة جنوب أوروبا للفنون"، حيث أقام لهم فيها مديرها، هارون قومس دي أبلانيدا (عضو في الجماعة)، عشاء فاخرًا(16).

وفي يوم السبت، افتتحت الجلستان الثالثة والرابعة للمؤتمر بمحاضرة الأستاذ إدريس بن محمد بن جعفر الكتاني، عن الثقافة الأندلسية، وأخرى لكارلوس بوساكمون عن الآثار الأندلسية، وثالثة للشيخ علال البشر، عن الواقع الأندلسي. ورابعة للمهندس رضوان الرشيكو عن الهجرة الأندلسية إلى تونس، وخامسة للأستاذ المأمون الفاسي الفهري، عن تاريخ عائلة أندلسية في المغرب، وسادسة للأستاذ خابير كبلولارا، وسابعة للأستاذ جعفر بن محمد الزمزمي الكتاني، عن الشتات الأندلسي، وثامنة للشريف سيدي على الريسوني (من شفشاون)، وتاسعة للأستاذ علي أوزاك (من جامعة استنبول بتركيا). وانتهى برنامج اليوم بزيارة إلى قشريش (مقاطعة مالقة)، بلدة بلاس أنفانتي، فأقام جميع سكان البلدة وعلى رأسهم عمدتها احتفالاً رائعًا بالمؤتمرين(17).

انتهى المؤتمر يوم الأحد بتأسيس مجلس أعلى أندلسي، يجمع بين أهل المهجر وأهل الأندلس، انتخب له رئيسان (محمد رميرز فرج، وكاتبه)، وحدد له مهام تقوية الثقافة الأندلسية في المهجر، وربط أبناء السلالات الأندلسية بإخوانهم في الأندلس، كما تقرر عقد المؤتمر الثاني في الرباط، والثالث في إشبيلية(18)، وتأسيس جامعة إسلامية في قرطبة، عينت لها لجنة منظمة..

وفي 18/11/1989م عقدت اللجنة أول اجتماعاتها في مقر "الجماعة" بالجزيرة الخضراء(19).

ولقد حصل المؤتمر على تغطية جيدة في الصحافة الأسبانية والتليفزيون والراديو. وكان له الأثر الطيب، خاصة في منطقة الأندلس، كما غطى المؤتمر تغطية لا بأس بها في المغرب(20). وقامت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" بمجهود كبير في تنظيم هذا المؤتمر، وعملت على تمويله دون مساعدة.

وفي الحقبة 3-5/5/1990م أقامت "الجماعة" بمركزها بقرطبة، مؤتمرًا للحوار الديني بين عدة ديانات أسبانية، حضره عدد كبير من أهل البلد، كان مناسبة هامة لتقديم الإسلام للحاضرين(21). وقد شارك في هذه الندوة ممثلون عن الديانات النصرانية واليهودية والبورية، والبراهمية، والزرادشتية.

وفي 7/1990م فتحت "الجماعة" مركزها الثامن في مدينة قبرة، جنوبي مقاطعة قرطبة. وفي 10/9/1990م، اشترت "الجماعة" بشارع روي لوبيز، رقم 17، بمدينة شريش، بيتًا، بتكلفة قدرها 12 مليون بسيطة، مساحته 380 مترًا مربعًا، وهو صالح لإعادة بنائه كمركز إسلامي لائق في وسط هذه المدينة الأندلسية التاريخية.

كما تابعت "الجماعة" الحوار مع الجماعات الإسلامية الأخرى في أسبانيا، لتأسيس اتحاد شامل لمسلمي أسبانيا يكون فيه الدور الفعال لأهل البلد من الأندلسيين. كما استطاعت الجماعة الحصول على بيت "جماعة قرطبة الإسلامية"، وضم أعضائها إليها. وبهذا لم يضع المجهود الأول الذي بسببه ابتدأ النشاط الإسلامي في قرطبة.

هذا هو المجهود الضخم الذي قامت به "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في ظرف عشر سنوات من العمل الشاق، حتى أصبحت أهم جماعة إسلامية منظمة في أسبانيا. وذلك بدون عون يذكر من العالم الإسلامي، بل رغم كثير من المثبطات والعراقيل التي جعلتها بعض الجمعيات الإسلامية الوافدة في طريقها. وللجماعة أمل كبير في أن تتابع مسيرتها حتى يصبح الإسلام حيًّا ورائدًا من جديد في أرض الأندلس المناضلة، بإذن الله.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) El PrimerEjercito que Atraveso El Sahara era de Origen Andalusi Nuevo Diario, 15/7/1988

(2) Sole Guinea "En Cordoba ,tembien se Esta Celebrando la Fiesta del Cordeo"cordoba , 26/7/1988

(3)El Ayuntamiento Aprueba Conceder el Nombre el Nombre de Muntaser Kettni a una Calle" Diario de Cadiz, 4/8/1988

(4)Isidoro Jimenez "Finaliza Hoy la Primera Semana Andalusi de Tarifa "El Pais, 21/8/1988

(5)El Ayntamiento Conmemora Hoy la Conquista de Sevilla" Cordoba , 23/11/1988

(6)Un Obispo Tres Pastores y Un Musulman "La Opinion de Murica , 3/12/1988

(7)Maria Victoria Madrid "Liberacion Andaluza Celebro el Dia del la Patria Andalusi "Nuevo Diario , 5/12/1988

(8)Jesus Cabrea "Un Descendiente de Boabdil Recorr Andalucia Buscando su Identidad" Nuevo Diario , 20/12/1988

(9)Juan Enrique Gomez "Ridwan Rachino , Descendiente de Boabdil, Tremolo la Bandera de Al-Andalus dese la Torre de la Alhambera"Ideal (granda), 3/1/1989

(10)Se Celebrara el I Congreso Mundial Andalusi que Tendra Como Sede Castellar "ARES , 25/1/1989

(11)Presentabo en Algeciras el I Congreso Mundial Andalusi "Sur, 13/3/1989

(12) La Diaspora Andalouse S''Organise" Le Matin du Sahara , 14/3/1989

(13)El Partido Liberacion andaluza Anuncia su Disolucion por Problemas Economicos y de Falta de Apoyo "Diario de Cadiz , 19/7/1989

(14)La Comision de Libertad Religiosa Reconoce Oficialmenta la Confesion musulmana "El -Pais , 15/7/1989

(15)Una Delegacion de Arabia Saudi Visito el Castello de Guzman el Bueno "Euro-a sur,2/8/1989

(16)Ana Rosajarague "Numerosas Personalidades de la Cultura Islamica se Dieron Cita en la Jarandilla "Europa Sur , 2/9/1989

(17)Ana Rosa Jaraga "El Congreso Mundial Andalusi Rindio Homenaje a Blas Infante "Europa Sur, 3/9/1989

(18)Ana Rosa Jaragua "Musulmanes y Andalusies Podran Integrarse en un Consejo International" Europa Sur , 4/9/1989

(19)Javier Martinez "La Fundacion Islam y Al-Andalus de Algecrias Quiere Crear una Universidad "Sur ,18/11/1989

(20)Aziz Yacoubi " "Un Succes au-dela des Previsions" Le Matin du Sahara , 14/9/1989

(21)C.Aumente "Representantes de Diez Relgiones hablan de la mistica en Cordoba , 4/5/1990
 
أعلى