أحمد بن فخري الرفاعي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 12 يناير 2008
- المشاركات
- 1,432
- الكنية
- أبو عبد الله
- التخصص
- باحث اسلامي
- المدينة
- عمان
- المذهب الفقهي
- شافعي
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وحزبه ، وبعد ؛
فإن الخلاف بين العلماء أمر ظاهر ومشهور وله أسباب كثيرة ، منها :
اختلاف مدارك العلماء ، وتباين طرقهم في التعامل مع النصوص والاستدلال ، وعدم وصول الدليل الى العالم ، واختلافهم في الأدلة ونظرهم فيها فمنهم من يصح الحديث عنده ، ومنهم من يقف على علته فيراه معلولا ، الى غير ذلك من أسباب الخلاف .
والخلاف أمر طبيعي بين بني البشر وقد وقع الخلاف بين الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقصة التيمم والخلاف الذي حصل بين عمر وعمار رضي الله عنهما وصل الى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا اختلاف الصحابة في صلاة العصر في " بني قريظة " فمنهم من صلاها في وقتها وفهم النص في ذلك انه للتحفيز والجد ، ومنهم من صلاها بعد المغرب ووقف عند حرفية النص .
وفي عهد الصحابة والتابعين وقع الخلاف لكنه خلاف زانه الأدب ، وكان الصحابة والتابعون يردون على بعضهم البعض لكنه رد تسربل بالتقوى ، فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها ردّت قول بعض الصحابة فقد ردت قول أبي هريرة : "تقطع المرأة الصلاة" وقالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة " .
وردت قول ابن عمر رضي الله عنهما : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وقالت : وهم أبو عبد الرحمن أو أخطأ أو نسي .
وقد جمع الزركشي مراجعاتها في " الإجابة فيما استدركته على الصحابة " فكانت مراجعاتُها تمثل مدرسة للتربية والأدب رضي الله عنها .
وقد قيل لابن عباس رضي الله عنه : إن عليا يقول : لا تؤكل ذبائح نصارى العرب ؛ لأنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر ، فقال ابن عباس : تؤكل ذبائحهم ؛ لأن الله تعالى يقول : (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) .
لم تمنع ابن عباس مكانة علي رضي الله عنهما من أن يصدع بالحق ، ولم يُحفظ عن علي أنه انزعج من رد ابن عباس .
وعن ابن عمر رضي الله عنه في الذي توالى عليه رمضانان : "بدنتان مقلدتان " ، فأُخبر ابن عباس بقوله فقال : " وما للبدن وهذا ؟ يطعم ستين مسكينا " .
فقال ابن عمر : صدق ابن عباس امض لما أمرك به .
وفي عصر التابعين ؛ كان الواحد منهم يختلف مع الآخر فيُخَطّئه لكن اختلافهم لم يفسد الود بينهم ، بل نمّاه وزاده .
روى ابن عبد البر في " الجامع " :
عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي ، إن إبراهيم قال في الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع له بعضا ويعجل له بعضا : إنه لا بأس به ، وكرهه الحكم.
فقال الشعبي : أصاب الحكم وأخطأ إبراهيم .
وقيل لسعيد بن جبير : إن الشعبي يقول : العمرة تطوع ، فقال : أخطأ الشعبي .
وذكر لسعيد بن المسيب قول شريح في المكاتب فقال : أخطأ شريح .
لقد كان الواحد منهم يفرح اذا بان خطأوه ، فاختلاف العلماء يوقف العالم على خطأ نفسه ، فمن ذا الذي لا يخطىء، وسبحان من تنزه عن الخطأ والنسيان ، أما البشرفما أكثر أن يغيب عن العالم الدليل او العلة ، وهذا سفيان الثوري رحمه الله استفتاه رجل فأفتاه ، ثم بان له أنه أخطأ ، فذهب يبحث عن السائل فلم يجده ، فقام ينادي في الأسواق : لقد سألني رجل عن مسألة كذا ، وقلت له فيها كذا وكذا ، والصواب كذا وكذا .وهذا الإمام الشافعي اختلف اجتهاده فكان له قولان في كثير من المسائل تمخض عنها ما عُرف بالمذهب الجديد والقديم
وهذا الإمام احمد من نظر في مسائله وجد في المسألة الواحدة أكثر من قول .
ولم تكن تلك المراجعات والاختلافات التي صدرت عن السلف على وجه التتبع لأخطاء بعضهم البعض ، ولكنها الحاجة تدعو الى ذلك ، فقد كان بيان الحق قِبلتهم ، ورضا الله وجهتهم ، ومع هذا فقد كان الحب والمودة بينهم في الذروة .
فهذا الإمام أحمد بن حنبل روي عنه أنه قال : "ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي ".
وفي رواية : "ما صليت صلاة منذ كذا سنة إلا وأنا أدعو للشافعي ".
وكان الامام الشافعي يطنب في مدح شيخه مالك ، ويدعو له . وكان رحمه الله - أعني الشافعي - له صحبة مع تلاميذ الامام أبي حنيفة رحمهم الله جميعا.وقد وجد عند بعض العلماء شدة وحدة في الرد على بعضهم البعض لكن هذا كان قليلا في العصور الأولى ، ومع تقدم الزمان تطور الخلاف الذي كان يتجاوز المسألة محل الخلاف الى صاحبها . وحُفظت قصص ، وصنف بعض المصنفين كتبا تحمل عناوين فيها انتقاص من المخالف ، ومن الخلاف المشهور بين العلماء ما وقع بين الامام مالك وابن أبي ذئب ، وبين شيخ الاسلام ابن تيمية ومناوئيه ، وما جرى بين السخاوي والسيوطي على الجميع رحمة الله ، وهذا الخلاف حمل في بين ثناياه الاستياء ممن اطلعوا عليه ، لكنه في الوقت نفسه كان سببا في تفجير طاقات العلماء ودفعهم الى تصانيف وردود حملت الكثير من الفوائد .
وتتالت القرون وتتابعت الى أن جاء عصرنا ، فَنَبَزَ نَبزٌ من المنتسبين الى العلم شُغِفوا بتتبع العثرات والأخطاء ، فترى صغيرَهُم تبعا لكبيرهم ينشغل بعثراتِ وهفوات العلماء " تزبب قبل أن يتحصرم "، إذا وقف على خطأ فرح به أكثر من فرحه بالصواب ، نفقت سُوقُهم فمالوا على الأسواق الرائجة حسدا ومقتا ليخسروها ، حسبوا أن طريق الشهرة بتخطئة العلماء وما علموا أن قوة هذا الدين بقوة رجاله وأعمدته بعد حفظ الله ، فترى الغرّ الذي لم يُفطم يتكلم في البخاري والترمذي وابن ماجة ، هيهات هيهات ، جهلوا قدر أنفسهم فلم يعرفوا أقدار الناس ، ولو عرفوا مقدار أنفسهم لطأطأوا الرؤوس عند ذكر الأئمة وعلماء الأمة .
وليعلم هؤلاء أن الجزاء من جنس العمل ، وأن من يتتبع عوار الناس يُقيّضُ له من يتتبع عورته ، فأنت لا ترى أحدا يتتبع عوار الناس الا وقد أُبتلي بمن يجاريه ويكيل له الصاع صاعين . فالمشتهرون بهذا الفعل كانت عاجلة أمرهم نُكرا ، فجاءهم طلبةُ علمٍ دونهم في المكانة سلقوهم بألسنة حداد أشحة على الخير ، فتارة يتهمونهم بسرقات الكتب بله السرقات العلمية ، وتارة يسفهون أحلامهم ويستخِفّون بعلومهم ، فسبحان من وعد على البر احسانا ، وعلى الكبر والحسد خسرانا .
نُقل إلي أن أحدهم تكلم في الحافظ ابن حجر العسقلاني ، قال : وما عند ابن حجر ؟ لو كان في زماننا لأفحمته ، وترى هذا المسكين لا يحسن قراءة كتاب الله تعالى ، ولا يحفظ من الحديث الا عدّ الأصابع ، ولو سألته عن أصول الفقه لوجدته له مُعاديا ، ولو طلبت اليه أن يَعُدّ أركان الصلاة لحار جوابا .
وقد وصل الأمر ببعضهم وأراد أن يتتبع بعض المعاصرين في كتبه ، فصار يذكر الأخطاء المطبعية التي لا تخفى على الأطفال لينتقص بها صاحب الكتاب .
ذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله في " الذيل على طبقات الحنابلة " في ترجمة الناصح بن الحنبلي رحمه الله أن خلافا وقع بين الحافظ ابن قدامة المقدسي والناصح في مسائل علمية ، منها : ما يتعلق بالسماع ، فقد كان الناصح يترخص فيه ، فتكاتبا فأرسل ابن قدامة رسالة الى الناصح ، ورد الناصح عليها ، فكتب الموفق ابن قدامة على ظهر رسالته ردا ومما جاء فيه :
" كنت أتخيل في الناصح: أن يكون إماماً بارعاً، وأفرح به للمذهب؛ لما فضله اللّه به من شرف بيته، وإعراق نسبه في الإِمامة، وما آتاه الله تعالى من بسط اللسان، وجراءة الجنان، وحدة الخاطر، وسرعة الجواب، وكثرة الصواب. وظننت أنه يكون في الفتوى مبرزاً على أبيه وغيره، إلى أن رأيت له فتاوى غيره فيها أسد جواباً، وأكثر صواباً. وظننت أنه ابتلي بذلك لمحبته تخطئة الناس، واتباعه عيوبهم. ولا يبعد أن يعاقب الله العبد بجنس ذنبه - إلى أن قال: والناصح قد شغل كثيراً من زمانه بالرد على الناس في تصانيفهم وكشف ما استتر من خطاياهم ومحبة بيان سقطاتهم. ولا يبلغ العبد حقيقة الإِيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يحب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه وإظهار أخطائه. وكما لا يحب ذلك لنفسه ينبغي أن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، والعلماء المبرزين. وقد أرانا الله تعالى آية في ذهابه عن الصواب في أشياء تظهر لمن هو دونه.... " انتهى
نقول لهؤلاء أربعوا على أنفسكم ، حسبكم من العلم أن تَسمُوَا به نفوسكم ، فهذا العلم شرعُ الله ودينُه ، به وصل أهل الصدق الى أرفع الدرجات ، ونالوا به أعلى الكرامات ، فمن طلبه لمرضاة الله فهو الناصح الأمين ، ومن طلبه لدنيا يصيبها فهو المغرور المسكين .
وبحسب امرىء أن ينشغل بعيب نفسه فيقومها ، ويتعلم العلم ليعمل به ، فلا خير في علم لا ينفع صاحبه وإن وجد خلافا في أصل من أصول الدين أو خرقا لأمر متفق عليه بين المسلمين ، فَليُشهر رايته ، وليرفع عقيرته ، بأسلوب علمي بعيد عن الاسفاف والانتقاص . فبيان الحق هو المراد لا الشخص المخالف .
نفعني الله واياكم بهدي كتابه والالتزام بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن الخلاف بين العلماء أمر ظاهر ومشهور وله أسباب كثيرة ، منها :
اختلاف مدارك العلماء ، وتباين طرقهم في التعامل مع النصوص والاستدلال ، وعدم وصول الدليل الى العالم ، واختلافهم في الأدلة ونظرهم فيها فمنهم من يصح الحديث عنده ، ومنهم من يقف على علته فيراه معلولا ، الى غير ذلك من أسباب الخلاف .
والخلاف أمر طبيعي بين بني البشر وقد وقع الخلاف بين الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقصة التيمم والخلاف الذي حصل بين عمر وعمار رضي الله عنهما وصل الى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا اختلاف الصحابة في صلاة العصر في " بني قريظة " فمنهم من صلاها في وقتها وفهم النص في ذلك انه للتحفيز والجد ، ومنهم من صلاها بعد المغرب ووقف عند حرفية النص .
وفي عهد الصحابة والتابعين وقع الخلاف لكنه خلاف زانه الأدب ، وكان الصحابة والتابعون يردون على بعضهم البعض لكنه رد تسربل بالتقوى ، فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها ردّت قول بعض الصحابة فقد ردت قول أبي هريرة : "تقطع المرأة الصلاة" وقالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بينه وبين القبلة " .
وردت قول ابن عمر رضي الله عنهما : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وقالت : وهم أبو عبد الرحمن أو أخطأ أو نسي .
وقد جمع الزركشي مراجعاتها في " الإجابة فيما استدركته على الصحابة " فكانت مراجعاتُها تمثل مدرسة للتربية والأدب رضي الله عنها .
وقد قيل لابن عباس رضي الله عنه : إن عليا يقول : لا تؤكل ذبائح نصارى العرب ؛ لأنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر ، فقال ابن عباس : تؤكل ذبائحهم ؛ لأن الله تعالى يقول : (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) .
لم تمنع ابن عباس مكانة علي رضي الله عنهما من أن يصدع بالحق ، ولم يُحفظ عن علي أنه انزعج من رد ابن عباس .
وعن ابن عمر رضي الله عنه في الذي توالى عليه رمضانان : "بدنتان مقلدتان " ، فأُخبر ابن عباس بقوله فقال : " وما للبدن وهذا ؟ يطعم ستين مسكينا " .
فقال ابن عمر : صدق ابن عباس امض لما أمرك به .
وفي عصر التابعين ؛ كان الواحد منهم يختلف مع الآخر فيُخَطّئه لكن اختلافهم لم يفسد الود بينهم ، بل نمّاه وزاده .
روى ابن عبد البر في " الجامع " :
عن إسماعيل بن أبي خالد قال : قلت للشعبي ، إن إبراهيم قال في الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع له بعضا ويعجل له بعضا : إنه لا بأس به ، وكرهه الحكم.
فقال الشعبي : أصاب الحكم وأخطأ إبراهيم .
وقيل لسعيد بن جبير : إن الشعبي يقول : العمرة تطوع ، فقال : أخطأ الشعبي .
وذكر لسعيد بن المسيب قول شريح في المكاتب فقال : أخطأ شريح .
لقد كان الواحد منهم يفرح اذا بان خطأوه ، فاختلاف العلماء يوقف العالم على خطأ نفسه ، فمن ذا الذي لا يخطىء، وسبحان من تنزه عن الخطأ والنسيان ، أما البشرفما أكثر أن يغيب عن العالم الدليل او العلة ، وهذا سفيان الثوري رحمه الله استفتاه رجل فأفتاه ، ثم بان له أنه أخطأ ، فذهب يبحث عن السائل فلم يجده ، فقام ينادي في الأسواق : لقد سألني رجل عن مسألة كذا ، وقلت له فيها كذا وكذا ، والصواب كذا وكذا .وهذا الإمام الشافعي اختلف اجتهاده فكان له قولان في كثير من المسائل تمخض عنها ما عُرف بالمذهب الجديد والقديم
وهذا الإمام احمد من نظر في مسائله وجد في المسألة الواحدة أكثر من قول .
ولم تكن تلك المراجعات والاختلافات التي صدرت عن السلف على وجه التتبع لأخطاء بعضهم البعض ، ولكنها الحاجة تدعو الى ذلك ، فقد كان بيان الحق قِبلتهم ، ورضا الله وجهتهم ، ومع هذا فقد كان الحب والمودة بينهم في الذروة .
فهذا الإمام أحمد بن حنبل روي عنه أنه قال : "ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي ".
وفي رواية : "ما صليت صلاة منذ كذا سنة إلا وأنا أدعو للشافعي ".
وكان الامام الشافعي يطنب في مدح شيخه مالك ، ويدعو له . وكان رحمه الله - أعني الشافعي - له صحبة مع تلاميذ الامام أبي حنيفة رحمهم الله جميعا.وقد وجد عند بعض العلماء شدة وحدة في الرد على بعضهم البعض لكن هذا كان قليلا في العصور الأولى ، ومع تقدم الزمان تطور الخلاف الذي كان يتجاوز المسألة محل الخلاف الى صاحبها . وحُفظت قصص ، وصنف بعض المصنفين كتبا تحمل عناوين فيها انتقاص من المخالف ، ومن الخلاف المشهور بين العلماء ما وقع بين الامام مالك وابن أبي ذئب ، وبين شيخ الاسلام ابن تيمية ومناوئيه ، وما جرى بين السخاوي والسيوطي على الجميع رحمة الله ، وهذا الخلاف حمل في بين ثناياه الاستياء ممن اطلعوا عليه ، لكنه في الوقت نفسه كان سببا في تفجير طاقات العلماء ودفعهم الى تصانيف وردود حملت الكثير من الفوائد .
وتتالت القرون وتتابعت الى أن جاء عصرنا ، فَنَبَزَ نَبزٌ من المنتسبين الى العلم شُغِفوا بتتبع العثرات والأخطاء ، فترى صغيرَهُم تبعا لكبيرهم ينشغل بعثراتِ وهفوات العلماء " تزبب قبل أن يتحصرم "، إذا وقف على خطأ فرح به أكثر من فرحه بالصواب ، نفقت سُوقُهم فمالوا على الأسواق الرائجة حسدا ومقتا ليخسروها ، حسبوا أن طريق الشهرة بتخطئة العلماء وما علموا أن قوة هذا الدين بقوة رجاله وأعمدته بعد حفظ الله ، فترى الغرّ الذي لم يُفطم يتكلم في البخاري والترمذي وابن ماجة ، هيهات هيهات ، جهلوا قدر أنفسهم فلم يعرفوا أقدار الناس ، ولو عرفوا مقدار أنفسهم لطأطأوا الرؤوس عند ذكر الأئمة وعلماء الأمة .
وليعلم هؤلاء أن الجزاء من جنس العمل ، وأن من يتتبع عوار الناس يُقيّضُ له من يتتبع عورته ، فأنت لا ترى أحدا يتتبع عوار الناس الا وقد أُبتلي بمن يجاريه ويكيل له الصاع صاعين . فالمشتهرون بهذا الفعل كانت عاجلة أمرهم نُكرا ، فجاءهم طلبةُ علمٍ دونهم في المكانة سلقوهم بألسنة حداد أشحة على الخير ، فتارة يتهمونهم بسرقات الكتب بله السرقات العلمية ، وتارة يسفهون أحلامهم ويستخِفّون بعلومهم ، فسبحان من وعد على البر احسانا ، وعلى الكبر والحسد خسرانا .
نُقل إلي أن أحدهم تكلم في الحافظ ابن حجر العسقلاني ، قال : وما عند ابن حجر ؟ لو كان في زماننا لأفحمته ، وترى هذا المسكين لا يحسن قراءة كتاب الله تعالى ، ولا يحفظ من الحديث الا عدّ الأصابع ، ولو سألته عن أصول الفقه لوجدته له مُعاديا ، ولو طلبت اليه أن يَعُدّ أركان الصلاة لحار جوابا .
وقد وصل الأمر ببعضهم وأراد أن يتتبع بعض المعاصرين في كتبه ، فصار يذكر الأخطاء المطبعية التي لا تخفى على الأطفال لينتقص بها صاحب الكتاب .
ذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله في " الذيل على طبقات الحنابلة " في ترجمة الناصح بن الحنبلي رحمه الله أن خلافا وقع بين الحافظ ابن قدامة المقدسي والناصح في مسائل علمية ، منها : ما يتعلق بالسماع ، فقد كان الناصح يترخص فيه ، فتكاتبا فأرسل ابن قدامة رسالة الى الناصح ، ورد الناصح عليها ، فكتب الموفق ابن قدامة على ظهر رسالته ردا ومما جاء فيه :
" كنت أتخيل في الناصح: أن يكون إماماً بارعاً، وأفرح به للمذهب؛ لما فضله اللّه به من شرف بيته، وإعراق نسبه في الإِمامة، وما آتاه الله تعالى من بسط اللسان، وجراءة الجنان، وحدة الخاطر، وسرعة الجواب، وكثرة الصواب. وظننت أنه يكون في الفتوى مبرزاً على أبيه وغيره، إلى أن رأيت له فتاوى غيره فيها أسد جواباً، وأكثر صواباً. وظننت أنه ابتلي بذلك لمحبته تخطئة الناس، واتباعه عيوبهم. ولا يبعد أن يعاقب الله العبد بجنس ذنبه - إلى أن قال: والناصح قد شغل كثيراً من زمانه بالرد على الناس في تصانيفهم وكشف ما استتر من خطاياهم ومحبة بيان سقطاتهم. ولا يبلغ العبد حقيقة الإِيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يحب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه وإظهار أخطائه. وكما لا يحب ذلك لنفسه ينبغي أن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، والعلماء المبرزين. وقد أرانا الله تعالى آية في ذهابه عن الصواب في أشياء تظهر لمن هو دونه.... " انتهى
نقول لهؤلاء أربعوا على أنفسكم ، حسبكم من العلم أن تَسمُوَا به نفوسكم ، فهذا العلم شرعُ الله ودينُه ، به وصل أهل الصدق الى أرفع الدرجات ، ونالوا به أعلى الكرامات ، فمن طلبه لمرضاة الله فهو الناصح الأمين ، ومن طلبه لدنيا يصيبها فهو المغرور المسكين .
وبحسب امرىء أن ينشغل بعيب نفسه فيقومها ، ويتعلم العلم ليعمل به ، فلا خير في علم لا ينفع صاحبه وإن وجد خلافا في أصل من أصول الدين أو خرقا لأمر متفق عليه بين المسلمين ، فَليُشهر رايته ، وليرفع عقيرته ، بأسلوب علمي بعيد عن الاسفاف والانتقاص . فبيان الحق هو المراد لا الشخص المخالف .
نفعني الله واياكم بهدي كتابه والالتزام بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
التعديل الأخير: