- إنضم
- 23 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 8,147
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو أسامة
- التخصص
- فقـــه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- مكة المكرمة
- المذهب الفقهي
- الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
ابن حزم وتوسيع دائرة المباح (*)
علي بن أحمد بن سعيد، هذا ليس فقط الاسم الحقيقي لأدونيس الشاعر الحداثي المعروف، بل هو أيضاً اسم الفقيه الأندلسي أبو محمد ابن حزم. طالما كان الحديث عن هذه الشخصية الفريدة ممتعاً فدعونا نمر على سيرته مرور العجِل. يقول ابن حزم متحدثاً عن مولده. "ولدت بقرطبة في الجانب الشرقي في (ربض منية المغيرة) قبل طلوع الشمس آخر ليلة الأربعاء، آخر يوم من رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، بطالع العقرب، وهو اليوم السابع من نونير "( نوفمبر).ابن حزم هو ذلك الفقيه المحدّث الشاعر الفيلسوف المثقف العنيد الذي ترك بصمة وعلامة فارقة في جبين تراثنا الإسلامي ولم يستطع خصومه أن يمحوه من الوجود برغم سعيهم الحثيث لتحقيق ذلك، وبرغم حرقهم لكتبه في زمن لم يكن فيه مطابع، وبرغم أنه وصل بهم التمكن منه والتسلط عليه إلى درجة إلقائه في السجن. يقول ابن حزم واصفاً تلك المحنة في كتابه (طوق الحمامة) صفحة 261 "وفي إثر ذلك نكبني (خيران) صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين - وقد انتقم الله منهم - عني وعن محمد بن إسحاق، صاحبي، أننا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهراً". ثم إن خيران نفاه بعد ذلك وغرّبه، يقول ابن حزم في نفس المصدر" ثم أخرجنا على جهة التغريب فصرنا إلى حصن القصر". جاءت هذه التهمة بناء على أن أسرة ابن حزم كانوا من موالي بني أمية وكان جدّه خلف بن معدان ممن دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش. هذه التجربة القاسية صقلت نفس ابن حزم وقوت عزيمته ولم توقعه في دائرة الإحباط والانزواء، ولذا رأيناه يقول في إحراق كتبه من شعره:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إذ أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقٍ وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
فكم دون ما تبغون لله من ستر
بقاء كتب ابن حزم بعد قرابة ألف سنة من وفاته، وبرغم الحرق الذي طالها وبرغم كل التشنيع والحرب التي شنت عليه في حياته وبعد مماته وحتى هذه الساعة، يدل على أن هناك من يعتنق فكره ويؤمن بمنهجه وأن له قبولاً واحتراماً عند شريحة ليست بالقليلة من المسلمين. رحم الله ابن حزم، لم يكن رجلاً كاملاً برغم حبنا له، فقد كان قاسياً في ردوده على خصومه، حاد الطبع، شرس العبارة في حق من سبقوه من الفقهاء، خصوصاً عندما يسعى لتفنيد فكرة للإمام الشافعي الذي كان ابن حزم مسكوناً به، بل كان أحد أتباع مذهبه في بداية أمره، وكذا كان مع مالك وأبي حنيفة وصاحبيه، أما أحمد بن حنبل فلا أذكر أنني قرأت لابن حزم كلمة نابية في حقه، وهذا لا يصعب على التحليل فهناك قرب واضح بين منهج الرجلين، وإن كان ابن حزم يختلف عن أحمد في أن اتباعه للنصوص مبني على أصوله بحيث يتحكم عقله الباطن في الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف بشكل منطقي وغير متناقض، ويرتكز على قناعات عقلية سابقة.
ميزة ابن حزم على كل الفقهاء الذين يوضع في مصافهم تكمن في أنه وسع مساحة العفو في الحلال والحرام في الفقه الإسلامي فقد ذكر في كتابه (المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار) قول النبي صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ". ثم قال ابن حزم: فجمع هذا الدين أولها عن آخرها، ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح، وليس حراماً ولا فرضاً، وأن ما أمر به فهو فرض، وما نهى عنه فهو حرام، وأن ما أمرنا به فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط، وأن نفعل مرة واحدة نؤدي ما ألزمنا، ولا يلزمنا تكراره، فأي حاجة بأحد إلى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ونحمد الله على عظيم نعمه".
بسبب رفضه للقياس، نجد أنه وصل لنتائج كثيرة تحجم دائرة المحرم، ولو استحضرنا رأي ابن حزم في كثير من المسائل المختلف فيها لوجدنا أنه طبق أصوله بإخلاص، فلا مكان في خريطة ذهنه لشيء اسمه مكروه وليس بمحرم، ولا تحريم عنده إلا بنص من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة، ولا اعتبار عنده في هذا لفتوى صحابي أو قياس أو مصلحة مرسلة أو سد لذريعة، هكذا وسع ابن حزم الدائرة وضيق المحرم بما ورد به النص، بعكس الشافعي الذي كان يميل إلى ألا يبقى مسألة فقهية إلا وحكم فيها بالتحليل والتحريم بناء على الأصول المعروفة وكذا فعل الأحناف، فطالهم من كلام ابن حزم شيء كثير. بغض النظر عن الموقف الذي قد نتخذه في مسألة جواز القياس من عدمه، ابن حزم يقدم لنا منهجاً دينياً علمياً منطقياً لا يمكن للمنصف إلا أن يحترمه وإن اختلف معه، وأعتقد أنه من الواجب إعادة الاعتبار لفقه هذا الرجل العظيم لما يحمله من تيسير كبير على المسلم المعاصر المكافح للحفاظ على دينه في عصر المدنية القاتلة.
--------------------------
(*) الكاتب: خالد الغنامي
المصدر