العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

السنة و فقه الحال و المآل

إنضم
5 أغسطس 2010
المشاركات
837
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
أصول الفقه
المدينة
عين تموشنت
المذهب الفقهي
مالكي
السلام عليكم :
إليكم هذه المسودة المتواضعة
في:
السنة و فقه الحال و المآل
ألتمس منكم التمحيص
المقدمة
الحـمد لله ذي القصـد و النعم حلا و ترحالا، و الشكر له على إنعامه حـالا و مآلا، و أتوب إليه إقبالا، و الصـلاة و السلام على خير البرية محمد أقوالا و أفعالا، و على آله و صحبه بدءا
و استقبالا.
أما بعد: فإن من خصائص التشريع نزوله على مقتضى الفطرة، و القصد إلى السماحة لاستغراق المكلفين، و الضبط و التحديد و كراهيتهما باعتبار، و ذروة سنامه الاعتبار بالأحوال و المآلات حكما و احتكاما.
و كل خاصية تعكس مرونة و عظمة لا يرتقي إليها الإنس و الجن و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
فإحالة الأحكام على معهود الطبع و اللسان يرفع عنت التكليف و مشقته، فيحصل مقام الامتثال دون إكراه أو حدو عليه.
كما أن السماحة تحرض على معاشرة التشريع أمرا و نهيا، لأن في طلب الإقدام مصلحة، و في الإحجام مفسدة لا تقدرها العقول.لأن ميزان الملاءمة أو المنافرة شرعي و إن اهتدى المعقول إلى بعض مراتبه.و حيث عقد على التحديد فلمصحة فيه و حيث نهى عنه و كرهه فلمفسدة فيه.
وكل ذلك لتقرير منظومة تعذر النفع المحض و الضرر المحض، لأن الصلاح قد يهجر إذا كان مغمورا، و الفساد قد يعتبر إذا كان غامرا. و متى ترجح الحسن تأرجح القبح، و عكسه بعكسه.هذا الذي أحوج إليه تغير الزمان و المكان و الأشخاص، و ألح على ضرورة اقتناء الحال و المآل، و الإفراد
و الاجتماع، و الشرط و الإضافة، و الكل و الجزء و القوة و الفعل.
و عليه: فلا ينظر إلى الأحوال و إن تحققت منافعها إلا أن تحول و لا إلى المآلات اغترارا بمحاسنها إلا إن كان الحال من جنس ما يؤول؛لأن الشرع لا يحرم مطلقا باعتبار الجهة المغلوبة في الفساد المآلي.
و ذرائع الفساد تحرم و إن كانت صلاحا في ذاتها ؛ فاليد المتآكلة تقطع و إن كانت الذريعة مفسدة لأن فيها صلاح الجسد، و الترس يضرب و إن أزهق مهجا بريئة حال القطع بالظفر، و الكلمة الطيبة تمنع إذا ورثت ما يمنع.
و الجمع بين ما تناظر معقول شرعا، و كذا التفريق بين ما تظاهر، و قد يهمل الشرع ما ألفه العقل فيفرق شمل النظائر، و يجمع بين الضرائر، تعويلا على نظرة مآلية حال النشر أو الجمع.
و لا يرقى العقل في هذه المواطن أن يدفع المجموع أو يجمع المدفوع، و لو تفرد بالعقد و النقل لقلب الحقائق و خلط الأحكام و الحكم.
و لو تصرف النظر في النقل قصرا و تعدية من غير التزام و إحكام لعد مضاهيا للشارع بحصر أو إلحاق ما لم يكن مقصودا.
لا نتحدث في هذه التوطئة حديثا فلسفيا مجردا بل إن نصوص القرآن و السنة و مذاهب المعاشرين شاهدة عل ما قيل، و مؤذنة بوجوب دركه قبل تنزيله.
و لتقرير ذلك نتحدث عن مظاهر العدول في الكتاب و بعرض مجمل نفصله في السنة لاحقا.
مظاهر العدول في الكتاب و السنة:
[FONT=QCF_BSML]ﭧ ﭨ ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P141]ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ[/FONT][FONT=QCF_P141]ﯙ[/FONT][FONT=QCF_P141] ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] الأنعام: ١٠٨
و وجه الاستدلال بالآية: أن الباري عز وجل حرم سب الأصنام رغم كونه مشروعا في أصله، لأن مآله يؤدي إلى سب الله تعالى، و يؤذن بالاسترسال على دعوتهم.[1]
[FONT=QCF_BSML] ﭧ ﭨ ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P171]ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ[/FONT][FONT=QCF_P171]ﯠ[/FONT][FONT=QCF_P171] ﯡ ﯢ[/FONT][FONT=QCF_P171]ﯣ[/FONT][FONT=QCF_P171] ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ [/FONT]الأعراف: ١٦٣
و محل الشاهد في الآية: أن الله تعالى حرم الصيد على اليهود في يوم السبت ، فابتلوا بأن جعلت الحيتان تأتيهم فيها يوم السبت شرعا، فاحتالوا على مقتضى النهي، ونصبوا الشباك يوم الجمعة ليأخذوا ما وقع فيها يوم الأحد،لهذا مسخهم الله قردة و خنازير.
على معنى أن عملهم كان ذريعة للاصطياد في اليوم المنهي عنه, و لولا اعتبار المآلات لما كان الحكم كذلك.[2]
و القدر المفيد مما ورد: أن أحكام المنع و توابعها لا تتعلق بالأفعال من حيث ذاتها، أو الوسائل من حيث حقائقها المشروعة. و لكن النهي تقرر فيها من جهة الغاية الموصلة إليها. و من المعلوم بالاستقراء أن أرذل الذرائع إلى أرذل الغايات هي أرذلها على الإطلاق.
و في السنة : منع ما يجوز لئلا يؤدي إلى ما لا يجوز .منها:
قول النبي صلى الله عليه و سلم:{ لولا قومك حديث عهد بكفر لأسست البيـت على قواعد


إبراهيم }[3]
و تحرير وجه الاستدلال: أن تأسيس البيت على قواعد إبراهيم مشروع في ذات، و لكن تعلقت به مفسدة غامرة لجهة الصلاح، فترك الخير الذي عليه الشر يربو.
و من نظائر ما قيل:قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عندما أشير عليه بقتل المنافقين:" أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه."[4]
و هو المظهر العام في فقه المعاشرين من الصحابة و التابعين. و المعاشرة على ضربين:
معاشرة حقيقية: و هي ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و معاشرة حكمية:و هي حظ الخلف من التشريع حال اقتناص مبادئه و كلياته.
و يمثل لهذا المظهر بقول عمر في سواد العراق:" لولا أن أترك الناس بيانا ليس لهم شيء ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر، و لكن أتركها خزانة لهم يقتسمونه...".[5]
و بموقف ابن عباس رضي الله عنهما من قوله صلى الله عليه و سلم:{ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه}[6]. حيث قال رضي الله عنه: "و أحسب كل شيء مثله"؛ تعويلا على قصد الحاجة،
و عدولا عن القصد الظاهري. و في هذا الفهم توكأ ابن عباس رضي الله عنهما على فقه الأحوال؛ حيث العدول إلى زمن تنزيل النص، و اعتماد أسباب الورود في بيان المعنى المراد. و هجر هذه القيود يورث توقفا يحرض النظر على القول بالتعبد كما قال مالك ـ رحمه الله ـ:" إنه ـ أي الحديث ـ مخصوص بما ورد دون تعليل أو إلحاق"، فلذلك جوز بيع الطعام في الهبة قبل قبضه.
قال صاحب القبس: " لأنه شرع محض، و تعبد صرف لا يفهم المعنى من، و لا تعقل علته، و إنما يكون الإلحاق عند فهم العلة، و عقل المعنى، فيركب عليه مثله." [7]
تتجلى نظرية المآل في قواعد الاستحسان، و سد الذرائع، و مراعاة الخلاف، و اعتبار الحيل.
و هو ما نحيل تفصيله في آخر هذا البحث.
و الحاصل : أن تفسير النصوص ينبغي أن يكون على مقتضى فقه الحال و المآل؛ و فيهما يعدل الحاذق الألمعي إلى بيئة الخطاب ليحصل الملابسات المحتفة بالنص ترددا بين أحواله و مآلاته في ذلك الزمن، ثم يعود إلى واقع النازلة ليستصدر حكما باعتبار الحال و ما يؤول إليه تنزيل ما تم دركه سابقا.
على معنى: أن نظرية المآل في الواقع تستنطق حالين و مآلين،أو هي حال و مآل من جهة تنزيل النص، و حال و مآل باعتبار الحوادث و النوازل.و هو القدر الذي سنحاول تفصيله تبعا.

أولا: الاعتبار بحال الخطاب النبوي قبل تنزيله:
و في هذا الحد تجلب البيئة و الوعاء المكاني الذي انصهرت فيه الأحكام لقياس درجة التأثير و التأثر بين الحكم و المقام الذي قيل فيه. لأنا نجزم بأن التشريع راعى ظروفا في إنشاء الأحكام، و هي تدور معها وجودا و عدما مما يحتم على التحقيق أن يعود القهقرى لمعرفة مراد النص النبوي، قال الشاطبي: " قد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة، إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب، و لا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك."[8]
و يترجم لذلك المثل التالية:
ـ منها نهيه عليه الصـلاة و السلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث حتى قيل: لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم، و يحملون منها الودك، و يتخذون منها الأسقية.فقال النـبي صـلى الله عليـه و سلم:" و ما ذاك؟"، قالوا: نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال عليه الصلاة و السلام:" إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم، فكلوا و تصدقوا و ادخروا".[9]
ـ و منها تهديده صلى الله عليه و سلم بإحراق بيوت من تخلف عن صلاة الجماعة.[10]
قال ابن مسعود:" و قد رأيتنا لا يتخلف عنا إلا منافق معلوم النفاق ".[11]
ـ و منها ما رواه الترمذي و حسنه عن المغيرة بن شعبةـ رضي الله عنه ـ:" أن النبي صلى الله عليه و سلم مسح على جوربيه و نعليه ".
و فقه الحال يقتضي إناطة الأحكام الشرعية بالمعاني و الأوصاف، و إهمال الأسماء و الأشكال.فلم تحرم الخمور إلا لكونها تذهب العقول، و لا الزنا إلا لحفظ الأنساب و الأعراض، و لا الربا إلا لحفظ الأموال.
و من مقاصد الالتفات إلى المعنى :موافقة القصد و تحقيق مصلحة الإلحاق.
أما التعلق بالأسماء فقد يورث تناقضا من حيث تحريم ما يجوز و تجويز ما يحرم، كالجمع بين العرية
و الربا، و بين خنزير الماء و البحر تحريما، و بين الجورب الحالي و الجورب القديم تجويزا للمسح عليهما.
قال ابن القاسم في المدونة:" لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء، و يقول: أنتم تقولون خنزير." و قال ابن القاسم: "و أنا أتقيه، و لو أكله رجل لم أره حراما."
و لتوقف مالك توجيهات:
الأول:أنه توقف فيه لعموم قوله [FONT=QCF_BSML]ﭨ[/FONT][FONT=QCF_BSML] [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P107]ﭑ ﭒ[/FONT][FONT=QCF_P107] [/FONT][FONT=QCF_P107]ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] المائدة:٣و[FONT=QCF_BSML] [/FONT]قوله [FONT=QCF_BSML] ﭨ[/FONT][FONT=QCF_BSML] [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P124]ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ[/FONT] [FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT][FONT=QCF_BSML] [/FONT]المائدة: ٩٦ الأولى تحرمه و الثانية تبيحه.
الثاني: أنه توقف إنكارا على من سماه خنزيرا، و أنه لا ينبغي تسميته خنزيرا ثم السؤال عن أكله، حتى يقال: إنهم أكلوا لحم خنزير.[12]
و نحن أطلقا على ما يلبس في الرجلين من الحرير الاصطناعي اسم الجورب، فأجزنا المسح عليه دون الالتفات إلى زمن الخطاب لبيان علة جوازه.
تقرير ذلك: أن حديث المغيرة جاء عاما و لم يحدد مسمى الخف و الجورب و لا قيده بقيود تحدد حقيقته، و مع هذا فإن الفقهاء وضعوا شروطا للمسح عليها؛ و هي كونها مجلدة أو منعلة...
و لا شك أن هذا التخصيص و الفهم محله فقه الحال الذي يستدعي نظرية المقام، لأن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز المسح على ما كان معمولا به في زمانه.
قال ابن شاس:"لا شك في جواز المسح على الخف الذي اعتاده العرب إذا كان مفردا ساترا لمحل الوضوء صحيحا".[13]
و قال الكاساني:" إن جواز المسح على الخفين ثبت نصا بخلاف القياس، فكل ما كان في معنى الخف في إدمان المشي عليه، و بإمكان قطع السفر به يلحق به، و ما لا فلا، و معلوم أن غير المجلد و المنعل من الجوارب لا يشارك الخف في هذا المعنى فتعذر الإلحاق، على أن شرع المسح إن ثبت للترفيه لكن الحاجة إلى الترفيه فيما يغلب لبسه".[14]
و يدخل في المذكورات ما مثل به القرافي و ابن عاشور في مسائل قتل الساحر و الحرابة.[15]
و عليه: فإن موافقة القصد تقتضي معالجة الواقع الذي تنزل فيه الخطاب لاقتناص علل التجويز أو المنع للجمع بين ما تمالأت معانيها و إن اختلفت أسماؤها، و التفريق بين ما تناقضت عللها و إن اتفقت أسماؤها. و هو المناط المتعلق به في حكم التصوير الفوتوغرافي.

و من طرق درك فقه الحال قرآنا و سنة:
أولا: أسباب النزول:
فلا يمكن فهم معنى الآيات القرآنية، إلا بعد الوقوف عند سبب نزولها، حيث الوقوف على مقتضى الأحوال، أو مقام التشريع.
والجامع في سبب النزول أن له دورا في فهم النص،وفيه تحصيل لمقاصد العموم بالتعدية،وله دور في قصر النص على أفراد الحكم،وذلك إذا كان السبب خاصا،والنص عاما،ودلت قرينة على التخصيص،وفيه تحقيق لمقاصد التخصيص،وعدم التعدية،قال ابن عاشور:"فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية،لأن ذلك يبطل مراد الله،كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص،ولا إطلاق ما قصد منه التقييد،لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد، أو إلى إبطاله من أصله". ([16])

ثانيا: أسباب الورود:
و الحديث فيه على مقتضى ما سبق، قال الشاطبي:"قد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة".
ثالثا: رد المكي إلى المدني والمدني إلى المكي:
رد المكي إلى المدني والمدني إلى المكي:
وهو من الخاص الذي يراد به العام،لأن هذا التوجيه سيق لبيان وتمثيل العلاقة بين الكلي والجزئي،حيث قام المنهج المكي على سرد الكليات في الغالب،واستقل المنهج المدني بالتفصيلات في الغالب،وفي تفسير النص لا يصح للمجتهد الاكتفاء بالنظر في الكليات،وإهمال الجزئيات أو بالعكس. وفي هذا القدر تجلب البيئة.
على معنى:أن التشريع راعى الفطرة المكانية في إنشاء الأحكام،فأقبل على الموروث التراثي؛فاحتضنه وزينه، وألغى ما علق به من مفاسد وأوهام وتخيلات، فتحقق مسمى الاعتبار والإلغاء والإرسال، وتمت الموازنة بين مقام الربوبية، ومقام الحظوظ التكليفية،ولفت الشرع إلى مدينتي التشريع(مكة، والمدينة)،وخص كل منهما بجملة من الفضائل:
فقال في مكة: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }، [الإسراء/1]؛
وقال في المدينة:"إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها."
وسيقت الأحكام في مكة مجملة وكلية،وفي المدينة مبينة مفصلة وناسخة،وهذا على مقتضى ما غلب.على معنى: اختصت مكة بتقرير القواعد العامة والكليات الشرعية،وترجمت المدينة ذلك المسمى،فاختلف المنهج التشريعي بين الكلية والجزئية، لما اقتضته مصلحة تمهيد الأحكام، وتقرير القواعد قبل الإلزامات التفصيلية.
قال الشاطبي:"اعلم؛أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والذي نزل بها القرآن على النبي-صلى الله عليه وسلم-بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة،كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة..." ([17]) والذي يؤكد تلك الحقيقة ؛أن النسخ وقع معظمه بالمدينة ([18])
ويجب أن نجزم بأن ما وقع لا يورث تناقضا في أصل الخطاب،لأنه موضوع على الدوام، وإنما وجد هذا التباين؛لاختلاف الاعتبار ومرونة المعتبر، وإن خرجت الأحكام عن أصل، فإنها داخلة في أصل آخر،وإلا كان سقوط الخطاب عن الصبي قبل البلوغ،ثم ثبوته بعده تباينا وتناقضا، تعالى التشريع الإسلامي عن ذلك علوا كبيرا، و لك أن تمثل للمكلفين في مكة والمدينة بالبلوغ وعدمه.



ثانيا: الاعتبار بمآل حكم الخطاب قبل تنزيله و نظرات عمر ـ رضي الله عنه ـ المستقبلية:
إن كان لفهم النص فقه حال ينبغي أن يجلب، فإن لتنزيل الحكم المستفاد منه فقه مآل يجب أن يستعرض؛ و ذلك للمنع من إيقاع الفساد عند ترجمة التكليف. و إن كان فهم غير المراد كذبا
و افتراءا، فإن استثمار ما يوقع في الهلاك غلو و إن كان مردا؛ تعلقا بالأشخاص و الأمكنة
و الأزمنة؛ لهذا كانت القواعد في شرعنا أغلبية و ليست كلية، لكثرة ما يرد عليها من استثناءات،
و من أجله خصت العمومات و قيدت المطلقات.
و ترجم إمام دار الهجرة هذا الفقه بقوله:" المغرق في القياس يكاد صاحبه أن يفارق السنة".
لا يتحدث الإمام إلا عن الغلو في تكريس القواعد و الكليات، و أن المستعصم بذلك مخالف لمنهج النبوة في توظيف الأحكام.
نترجم للكبائر بمسألة أو مسألتين، و هو ديدن الحذاق لئلا يعتكف المعالج على مدارسة المثل معرضا عن القوانين و المناهج و المقاصد.
و الفقه السائر المفحم، فقه المحدث عمر ـ رضي الله عنه ـ في سواد العراق. و تكرار المثال لا يضر إن كان بقراءة أخرى.
تحرير ذلك :أن الفاروق استعرض النص بفقه الحال في محله حيث أوجب النبي صلى الله عليه و سلم القسمة، و أعمل عمر خلافه باعتبار فقه المآل.
كما احتضن حكم من قتل قتيلا فله سلبه، و أعمل خلافه؛ تحقيقا لجنس المصلحة التي تشوف إليها سيد الخلق يوم كان الناس بحاجة إلى رفع الهمم و التحريض على صون حياض الإيمان بما خصهم به الشرع من رعي حظوظهم. و هي المصلحة ذاتها التي تفاعل معها عمر ـ رضي الله عنه ـ و تفاءل في زمانه، فقرر حكم إعادة السلب إلى بيت مال المسلمين.
و من المخالفات الشرعية أن نعتبر هذه جرأة على مقام النبوة بل هي موافقات للمراد و لا يكون ذلك إلا من معاشر للمنهج الشرعي.
و هو الفقه الذي عمت به البلوى عند الصحابة الكرام:
سئل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن تغيير الشيب، و ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله:" غيروا الشيب و لا تشبهوا باليهود"، فقال:" إنما قال ذلك و الدين في قل، فأما و قد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ و ما اختار لنفسه."
قد أبان الصبح لذي عينين، و أفهم ذو المسكتين؛ علي و أترابه ـ رضي الله عنهم ـ أن الخطاب يفقه على مقتضى أوعية زمانية و مكانية، و على قرائن حالية و توقعات مآلية.و قد يكون من العبث و الإفساد أن تستصحب الأحكام ذاتها إلا إذا وجد ما يقتضي ذلك، كأن تكون منفعة الحكم ذاتية أو مفسدته كذلك.
و الناس ممن خلف على مراتب؛ فمنهم من عول على هذه النظرات فحاكم ما كان على مقتضى ما يكون، و منهم من أنكر و اعتبر قيام الاعتبار لا يطعن في أصل المشروعية. و بؤرة النزاع بين المذاهب مسألة بيوع الآجال. بل إن منهم من أبطل المندوبات و الواجبات لحفظ حرمة المآلات؛ فأنكر مالك صيام الست من شوال لئلا يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه.[19]
و أصل النزاع: تعارض نظرية المآل مع النصوص النبوية الثابتة.
و لكن يجب أن نؤكد أن ثمة تحقيقا يرفع الخلف بين الأئمة حيث شهادة التفريع على الأخذ بالنظرية في كل المذاهب:[20]
فمن دفع الاحتمال بأصل المشروعية، اعتمده لمنع الغلو في تحكيم القواعد مطلقا؛ فعدلت الحنفية عن الأقيسة فاستحسنت، و اعتبرت المالكية هذا العدول تسعة أعشار العلم.
و كل منهم نظر إلى فساد الاحتكام إلى الكليات مآلا و إن كانت مشروعة من حيث الحال.
و المحرض على هذه المنظومة هو أن الشرع ساق أحكامه متفضلا لتحقيق مصالح المكلفين ودفع الفساد عنهم، و هو ميزان الإذعان.
*مبررات الاحتكام إلى فقه المآل:
للاحتكام إلى فقه المآلات جملة من المبررات و المقاصد يحدها:
1 ـ تهذيب الغلو في طرد الأحكام دون مراعاة لميزان المنفعة الشرعية:
إذ من المعلوم تتبعا أن الثوابت في شرعنا عزيزة الوجود إذا ما قورنت بالمتغيرات، و أن ذكر الجزئيات لتمثيل المنهج الاستنباطي، و الإجابة على أعيان المسائل في وقتها و مكانها. بل إن الثابت الذي لا يتغير ما كان نفعه ذاتيا، و لا يتصور ذلك إلا في الكليات التي تضطرد غالبا مع إهمال مستثنياته التي لا تلغيها لكونها آحادا لا تقوى على مصادمة القواطع و إن اعتبرت في بعض المقامات.
2 ـ استغراق المكلفين:
معلوم أن من خصائص التشريع العموم، و يعتري العموم التخصيص و التقييد و النسخ و الاستثناء. لأن الشارع عدل في مواطن تحقيق الصلاح من الكليات إلى الجزئيات في أعيان المسائل،و هو الدال على مرونة التشريع، و إفادة استغراق المكلفين.و صورة الاستغراق في التخصيص و التقييد؛ إخراج المكلفين من عموم و مطلق الخطاب و إدخالهم في الاستثناء من القواعد العامة احتكاما إلى فقه المآل، إذ من شأن الإغراق في تحكيم القواعد أن يوقع المكلفين في حرج ينتفي معه الامتثال.و لإدخالهم لابد من استثنائهم، فهم و إن خرجوا من العمومات لم يخرجوا من التشريع.
و الحاصل: أن الشريعة تستغرق المكلفين في جميع أحوالهم حيث الارتباط بالمراد، حال الابتداء وذلك بتكريس العموم، و حال الاستقبال و ذلك بقصر العمومات.[21]
3 ـ مواكبة التشريع للحوادث النازلة:
و هذا مقصد لازم لما سبق؛ لأن الاعتبار بالمآل أسوة بالحال إنما كان لتأكيد ربانية التشريع و أحاديته، لأنه لا يعلم مصالح الناس إلا رب الناس. و لا يملك أي تشريع أن يواكب الحوادث و المنافع إلا التشريع القرآني و النبوي.
4 ـ اختلاف مصالح الناس:
تختلف المصالح، و تتفاوت الرتب على قدر اختلاف حاجات الناس و تبدل الأعراف...و إلزام المكلف بجزئيات ثابتة يشوش عليه اقتناء ضرورياته و حوائجه .
و عليه: فإنه يراعى في ترجمة الحكم المستفاد من الحال معتبرات المآل.
5 ـ تعاور الفساد والصلاح حالا و مآلا:
لما كانت المصلحة مصلحة باعتبار، و المفسدة مفسدة باعتبار، و انتفى مسمى تمحض المنافع و المضار[22]،أضحى الاحتكام إلى معيار الغلبة رجحانا أو تأرجحا، و إلى اختلاف الزمان و المكان مراعاة لتعاور المفاسد و المصالح حلا و ترحالا.
تنجيس المصطلحات باعتبار الاستعمال المآلي:
لقد ساق الشرع نموذجا قرآنيا لدفع ما نجسه الاستعمال المآلي من المصطلحات المشروعة، كمصطلح "راعنا"، حيث كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم: راعنا على جهة الطلب و الرغبة
ـ من المراعاة ـ أي التفت إلينا، و أضحى هذا بلسان اليهود سبا، أي: اسمع لا سمعت؛ فاغتنموها و قالوا: كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا؛فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه و سلم و يضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ و كان يعرف لغتهم؛ قال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه و سلم لأضربن عنقه، فقالوا أولستم تقولونها؟فنزلت الآية.
و نهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ و يقصدوا المعنى الفاسد فيه.[23]
و مما ورد النهي عنه في السنة: ما في مسند أحمد، و سنن أبي داود، و الترمذي:
ـ عن عمرو ابن سعيد الثقفي: أن رجلا استأذن النبي صلى الله عليه و سلم فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأمة يقال لها روضة :" قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن، فقولي له يقول : السلام عليكم أأدخل؟: فسمعه الرجل فقال:"أ أدخل؟ ".
ـ و عن ريحانة قالت: جئت عمر فقلت:أ ألج ؟ فقال لي: "إذا جئت فقولي: السلام عليكم، فإن قالوا: و عليكم السلام، فقولي:أ أدخل؟".[24]
و قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ:" لا يقل أحدكم: أهريق الماء، و لكن يقول أبول."[25]
وسأل عمر رجلا عن شيء فقال: الله أعلم. قال عمر:" خزينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم، إذا سئل أحدكم عن شيء فإن كان يعلمه قاله، و إن كان لا يعلمه قال: لا علم لي بذلك".[26]
و بيان وجه الحرمة فيما ذكر: أنه يشترك في الإيلاج معان متعددة، و لما كان ذكره فيما يجوز يذكر بما قد يمنع أمر الشرع بانتقاء أحسن الألفاظ.كما أن جلب هيئة قضاء الحاجة بإراقة الماء ينجسه في الطبع و العادة حتى يسد باب تذكر النجاسات حال ذكر الطاهرات.
و ترجمة المثال التالي في قاعدة: من أشكل الإشكالات شرح البديهيات. لهذا قال عمر ـ رضي الله عنه ـ:"قد خزينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم". و معلوم أن لفظ "راعنا" نجسه اليهود بالاستعمال.
هذا و قد تتبع الشيخ أبو زيد مقاصد النهي عن جملة من الألفاظ في الشرع فوجدها على النحو التالي:
ـ صيانة التوحيد و حماية له و لحماه، حفظا للكليات الخمس.
ـ التعايش بين العباد.
ـ شد آصرة التآخي بين العباد.[27]
و لا نشك بأن الاهتداء إلى وجه المنع فيما ذكر في هذا الباب، إنما كان باعتبار الموازنة بين فقه الحال و فقه المآل.


[1] انظر: التحرير و التنوير، ابن عاشور، 4/427

[2] انظر: تفسير القرطبي: القرطبي: 2/58، 7/61 ، 305، أحكام القرآن:ابن العربي:2/797 و ما بعدها.

[3] بمعناه مع اختلاف في الألفاظ: رواه البخاري:كتاب الحج، باب 42 فضل مكة و بنيانها، رقم 1585 عن عائشة بلفظ:"لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم". و رواه مسلم: كتاب الحج 15باب 69:نقض الكعبة و بنائها ،رقم 1333 .

[4] رواه البخاري: كتاب المناقب:61،باب :8 : ما ينهى من دعوى الجاهلية، لرقم:3518.


[5]

[6] أخرجه البخاري:كتاب البيوع 39 باب:بيع الطعام قبل أن يقبض و بيع ما ليس عندك 55 و مسلم: كتاب البيوع21 ، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض8.

[7]

[8] ـ الموافقات:3/262.

[9] ـ أخرجه في الموطأ: كتاب الضحايا: باب ادخار لحوم الأضاحي رقم 7، و أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي: باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث حديث رقم 28.

[10] ـ رواه البخاري: كتاب الخصومات:باب إخراج أهل المعاصي و الخصوم من البيوت بعد المعرفة:رقم:2420.

[11] ـرواه مسلم:كتاب المساجد و مواضع الصلاة: باب فضل صلاة الجماعة و بيان التشديد في التخلف عنها و أنها فرض كفاية.رقم:257.

[12] انظر: مقاصد الشريعة: ابن عاشور:240.

[13] عقد الجواهر الثمينة في فقه عالم المدينة: 1/ 84.

[14] بدائع الصنائع:1/84.

[15] الفروق:4/282.

http://www.mmf-4.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=49#_ftnref16([16]) -التحرير والتنوير:1/50.

http://www.mmf-4.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=49#_ftnref17([17]) -المصدر السابق:3/77؛ وما بعدها.

http://www.mmf-4.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=49#_ftnref18([18]) -المصدر نفسه:3/78.

[19] انظر مذاهب الفقهاء في:الموطأ:1/311،البحر المحيط: الزركشي:8/90، الفروق:2/32،33،الاستذكار :ابن عبد البر:5/94، كشف الأسرار: البزدوي:2/707،شرح مختصر الروضة:2/283، بداية المجتهد: ابن رشد:1/225، إعلاء السنن:التهانوي:9/153.

[20] انظر: البحر المحيط:8/90، الفروق:2/32، 33، المرافق على الموافق:471.

[21] انظر تفصيل هذه المسألة:القنية شرح الفائق في المقاصد للمؤلف:ص 7 و ما بعدها.

[22]انظر لتحقيق هذه المسألة : القنية:للمؤلف:ص 55 و ما بعدها.

[23] انظر: تفسير القرطبي: 2/ 57، أحكام القرآن: ابن العربي:1/32، إعلام الموقعين:1/149.

[24] معجم المناهي اللفظية:بكر بن عبد الله أبو زيد:ص 39.

[25] المرجع نفسه:53.

[26] و من المصطلحات التي ينبغي أن تهجر في شرعنا: الصلب و الخطيئة و الخلاص، لأن لها خلفية اعتقادية فاسدة؛ لكونها تدعو إلى عقيدة التثليث.

[27] المرجع السابق:4 بتصرف.
 
إنضم
12 يناير 2010
المشاركات
863
الجنس
ذكر
الكنية
أبو مُـعـاذ
التخصص
فقه
الدولة
السعودية
المدينة
خميس مشيط
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: السنة و فقه الحال و المآل

عوداً حميداً فضيلة الشيخ ..
 
إنضم
2 يوليو 2008
المشاركات
2,237
الكنية
أبو حازم الكاتب
التخصص
أصول فقه
المدينة
القصيم
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: السنة و فقه الحال و المآل

شيخنا الأستاذ الفاضل الدكتور الأخضر بارك الله فيكم بحث نافع أحسن الله إليكم وننتظر المزيد من فضيلتكم
 
إنضم
6 يناير 2011
المشاركات
45
التخصص
فقه و أصوله
المدينة
سعيدة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: السنة و فقه الحال و المآل

بارك الله في أستاذنا الفاضل و الحبيب، موضوع مهم و رائع و إن أزمتنا اليوم في سوء فهم النصوص و التخبط في الفتوى ناتج من غياب هذه المفاهيم عند متفيهقة الزمان من تزبب قبل أن يتحصرم
يقول أبو علي القالي صاحب الأمالي في اللغة: درست على شيخ لي، حتى اذا مضت مدة من الزمن ظننت بعدها أني قد ألممت بأطراف العلوم، سولت لي نفسي باتخاذ حلقة، والانفراد بتلاميذ، فلم استأذن شيخي، بل لبست لباس المشيخة، وجمعت حولي في المسجد عددا من الطلبة، وأخذت ألقي عليهم درسا، بعد ان نفشت ريشي وتمشيخت عليهم.
ويشاء الله ان يدخل المسجد استاذي وأنا في الدرس، فلما رآني اقبل نحوي مستغربا، ووقف خلف الحلقة واستولت علي الدهشة، وأخذ يلقي عليّ بالاسئلة المحرجة تباعا، حتى أعييت وانعقد لساني، وانكشف جهلي وصغرت في عيون تلاميذي، فلما كان ذلك قال غاضبا زاجرا: يا هذا.. تزببت قبل ان تتحصرم.. قم من هنا يا كيت وكيت، ورماني بنعله، فعدوت هاربا لا ألوي على شيء تلاحقني ضحكات التلاميذ.
هذه القصة احفظها منذ زمن بعيد عن شيخي، ولكنها بين الحين والحين ترتسم صورتها أمامي كلما نظرت حولي فرأيت شبابا طريا عودهم، قليل من العلم تزودهم، ضحل رقراق علمهم، غزير بحر جهلهم، لا يكادون يحفظون من العلم طرفا، ولا من فنونه أحرفا، لم يدرسوا نحوا ولا بلاغة ولا صرفا، ولا أصولا ولا علة ولا عرفا، يستترون باسم الكتاب والسنة، وديدنهم الدائم إثارة الفتنة، عظيمة جرأتهم على الناس، لأخذهم من الحديث بلا اجتهاد ولا قياس، يتطاولون على العلماء الذين سبقوا، دون ان يكونوا بركبهم قد لحقوا، غرهم ان تجمع حولهم من الناس جهلة، مع ان كل هؤلاء أعداد مهملة، فلمثل هؤلاء يقال بلا مندم: تزببت يا هذا قبل ان تتحصرم.
 
إنضم
5 أغسطس 2010
المشاركات
837
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
أصول الفقه
المدينة
عين تموشنت
المذهب الفقهي
مالكي
رد: السنة و فقه الحال و المآل

سلام من الصميم إلى إخواني : صاحب السبق الشيخ فهد ،
و الدكتور المتألق أبو حازم ، و الأستاذ الأديب بومدين ، و إلى كل أقلام الملتقى....أسأل الله القبول منا جميعا ، و أن ينفعنا بعلومكم ، و يزودنا من أدبكم
 

زناب

:: متابع ::
إنضم
2 مارس 2014
المشاركات
37
الكنية
أم أيمن
التخصص
أصول فقه
المدينة
تلمسان
المذهب الفقهي
مالكي
رد: السنة و فقه الحال و المآل

شكر الله لكم شيخنا الفاضل و زادكم توفيقا و سدادا و نفعنا بعلمكم .
 
أعلى