رد: مسائل في الجرح والتعديل
أقدم أولاً أنني قد كتبت الجواب وأعدت كتابته وعدلته كثيراً ، وذلك أن موضوعكم يحتاج مصنفاً كاملاً ، وأنا أحاول قصره على جواب في مشاركة ، ولكن هذا ما أمكن الساعة ، وفي الموضوع بعضٌ من جوانبه فأقول :
قولكم : [أكثر التعديل والتجريح يقوم على تقويم جانب الحفظ والخطأ والشذوذ من الراوي، لا على تقويم جانب السلوك]
سلمناه ، فكان ماذا ؟
أنتم قلتم : [فما بنوه على السلوك من ذلك فينبغي أن يُقدم فيه قول المجرح على المعدل مطلقا]
فهب أن ما ذكرتم من ندرة التكلم في الجانب السلوكي قليل نادر ـ وليس كذلك وسيأتي ـ فالخطأ فيه وارد بنفس نسبته أو قريبة من الخطأ الوارد على الكلام في الضبط والحفظ ، فاستويا ، فكان التعديل مقدم في الحالين لما قدمته في أصل الموضوع مفصلاً.
لكنه ليس بنادر ، ولعل الذي أوهم ذلك هو تعبيركم بلفظ (سلوكي) فإنه موهم منه جهة ، وأنا شخصياً لا أعرفه أصلاً ، ولكن استدللت على معناه من سياق كلامكم الذي يعطي أنه ما يقابل الكلام في الضبط والحفظ ، فمثلاً عبارتكم هذه :
[أكثر التعديل والتجريح يقوم على تقويم جانب الحفظ والخطأ والشذوذ من الراوي(1)، لا على تقويم جانب السلوك(2)]
تعطي أن الكلام في جانب السلوك يقابل الكلام في جانب الحفظ والضبط ، وعليه يدخل فيه الكلام في جانب السلوك وبدعة الرواي وارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر بالإضافة إلى خوارم المروءة والكلام فيها كثير كثير جداً.
بل تهمة الرجل بالكذب هو من هذا الباب لا من باب الحفظ والضبط ، فإن المتهم بالكذب قد يكون من أحفظ الناس كما قيل في الشاذكوني وغيره.
ثم نقول : لا علاقة لهذا أصلاً بموضوعي إلا من جهة قولكم بتقديم الجرح على التعديل إذا تعارضا في الجانب السلوكي وقد رددناه ، فلا حاجة بي للتعريج على غيره ، لكن نوادر مفيدة .
فقولكم مثلاً : [أما سلوكه فلا يحكم عليه إلا من عاصر الراوي وعايشه واطلع على غالب أحواله، وهو قليل جدا نسبيا]
في الحقيقة لو قلتم [قليل نسبياً] كان أوفق ، فإن كلامهم في من عاصروه كثير جداً لكنه بالنسبة إلى الكلام فيمن لم يعاصروه أقل ، ولا يشترط الإطلاع على غالب الأحوال كما ذكرتم ، بل يكفي الإطلاع على موجب الجرح فقط.
قولكم : [ولذلك تجد أكثر الجرح في كتب الرجال مُعلَّلا بالكذب أو النكارة أو الخطأ أو الاختلاط أو كثرة الوهم...الخ]
تقدم الكلام فيه ، لكن أنبه على أن الكلام في الكذب ينبغي أن يكون بحسب تعبيركم سلوكياً ، كما تقدم.
أما الاختلاط فلو نظرت في كتب المختلطين رأيت أن الأغلب الأكثر أنهم يعتمدون كلام من عاصر المختلط ثم يعتمدون كلام المعاصر أو يردونه ، وبين ذلك مسائل بعضها يعرف بالمعاصرة وبعضها بالسبر وبعضها مشترك بينهما.
[وكل هذا إنما يُوقف عليه بتتبع الرواية ومقارنتها بغيرها لا بتتبع السلوك]
أن تتبع الروايات لا يعني بالضرورة أن الجرح المبني عليه ليس بسلوكي ، فقد تعلم بالتتبع أن الرجل يكذب في دعواه الرواية عن أناس لم يلقهم أصلاً ، وقد تقدم الكلام عنه.
دعني أهمل الكلام في السلوكيات جملة إذ الخلاف كان حول هل يقدم في الجرح أو التعديل ، وقد تقدم معك جوابه.
ثم نقلتم عني قولي :
[لو قلنا : عدمت السبل لكان أقرب من قولكم تيسرت ، فإن هذه الطرق التي تتكلمون عنها تختص فقط بما قد دوِّنَ دُوْنَ ما كان في الصدور وذهب بذهاب أهله.
كيف وقد ذهبت مصنفات بما فيها من الأحاديث والطرق.
كيف والناجي كثيرٌ منه مخطوط لم يشهد النور.
كيف والمحققين المعروفين اليوم لا يحسنون فهم طرق المتقدمين في النقد حتى ترى بعضهم يشتشهد لحديث "يجعل رأسه رأس حمار" بحديث "يجعل رأسه رأس كل]
كيف وغاية ما يمكن الوصول إليه عدد المروايات في الجملة دون معرفة اختصاص فلان بفلان وملازمته له كذا من السنين أو أنه لم يدركه إلا في آخر عمره أو غير ذلك مما لم تستوفيه كتب التراجم وكان يعرفوه نقاد الحديث سابقاً]
وهو كلام سليم يوجب أن المتأخر لا يقدر على فتح الكلام في الرواية اعتماداً على مروياتهم لما فقد منها إلا بمقدار ما تكلم به المتقدمين ، وله أن يتتبع حيث حصر المتقدمون الكلام عليه برويات بعينها ، فلو قال بعضهم : "فلان ضعيف لأنه روى حديث كذا عن مالك ، ولو كان من حديث مالك لعرفه أصحابه أمثال يحيى والقعنبي " ويكون غيره قد خالفه ووثقه ، فإنه يمكنك أن تجاريهم في ذلك بأن تقول مثلاً : قد رواه يحيى والقعنبي في كتاب كذا بالإسناد الصحيح عنهما فصح أنه ثقة كما قاله فلان.
فهذا المقدار من الاجتهاد لا أنكره.
ثم فيما يأتي من كلامكم دعوى أن علم المتقدمين موسوعي والمتأخرين بوسعهم أن يتخصصوا ويلحقوا بهم.
وفي الجملة لا أخالف في كون علمهم موسوعي من جهة ، ولكنه أيضاً تخصصي بشكل لا يمكن اللحاق به ، فإنك تراهم في كتب التراجم يعرفون الراوي عمن روى وكم روى عن كل واحد ثم من روى عنه وكما روى عنه كل واحد ، ثم يميزون حديث كل واحدٍ من شيوخه وحديث كل واحد من طلبته ، ويعرفون تاريخ وفيات الجميع أو ما يدل عليه ، ثم يعرفون من شاركه في الرواية عن شيوخه ليقارنوا حديثه بحديثهم ، ثم يعروفن هذه الأحاديث من رواها من غير شيوخه ، ثم يعرفون ما يشبهها من حديث الناس حتى تراهم يقولون مثلاً : (أحاديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر تشبه أحاديث عبدالله بن عمر) وهم يقصدون بذلك القدح في حديثه بذلك فإن عبدالله بن عمر المكبر ضعيف ، وهذا الشبه في الروايات يدل على أن الأمر اختلط على الدراوردي ـ مع ثقته في نفسه ـ فروى أحاديث عبدالله عمر عن عبيد الله بن عمر ، ويعرفون أحوال ذلك الراوي من ابتدائه إلى انتهائه ، فإن تغير تراهم يعرفون سبب تغيره ، ومن روى عنه قبل تغيره وبعد تغيره ثم ذلك الراوي عنه قبل التغير أو بعده أحواله على نحو ما تقدم حتى يميزوا إن كان خلط بحديثه حديث غيره أم لا ، ثم تراكيب الأسانيد التي رواها هل فيها سقط أو هي متصلة هل روي بها الحديث أو لا يجيء فيها حديث أصلاً ولكن هذا الراوي أخطأ وغير ذلك مما لا يسع ذكره هنا.
فهذا دليل على أن المتقدم مع معرفته الموسوعية متخصص تخصصاً دقيقاً للغاية ، وذلك اعتماداً على صدور موسوعية ذهبت وذهب ما كان فيها ، فلا يستطيع المتأخر الإطلاع على ما كانت تحوي ليبني عليه.
ومع ذلك فتخصصات المتقدمين متفاوتة فتجد عامتهم معرفتهم تختلف من راوٍ إلى آخر فبعضهم معرفته بالبغدادين أتم منها بالحجازيين وآخر بأهل دمشق أكثر منها بأهل بغداد وهذا في عامتهم ، بل منهم من معرفته برواية معينين هي على هذا النحو لا غيرهم .
وهنا أنبه أيضاً أن المعرفة الموسوعية ليست حفظاً فقط ، بل معرفة كما ذكر ذلك أبو زرعة فميز بين ما يحفظه في صدره وما يعرفه بمجرد ذكره ، وهذا نراه في أنفسنا ، فمثلاً تجد الرجل لا يحفظ القرآن ، فإن ذكرت له آية بادرك إلى ذكر موضعها في كتاب الله ، وهكذا رأيت غير واحد في كتاب البخاري مسلم لا يحفظ الكتابين لكن ما إن تذكر له حديث حتى يذكر لك منه علما أين ذكراه وهل تكرر وهل انتقده الدارقطني ووجه الجواب ، مع أنه لا يحفظ الصحيحين عن ظهر قلب. فإن كان هذا في زماننا فكيف في زمن كان يصرف الرجل فيه عمره لطلب الحديث محضاً أو يخصص نفسه له وأن تعلم غيره ، وقد رأيت في التلفاز من يحفظ في هذا الزمان الأمهات الست ، وعرفت من يحفظ الترمذي حفظاً متقناً مع الكثير من الأجزاء الحديثية في زمن لعلك لا تحتاج إلى هذا الحفظ لتيسر الكتب والأجهزة ، فكيف بزمن لا تستطيع أن تجمع فيه الحديث إلا من صدور الرجال ، وليس معك لحفظه إلا صدرك والكتاب؟
فأنا لا أستبعد أبداً ما صح عن أحمد بن حنبل من حفظه لنحو سبعمائة ألف حديث أو حتى ألف ألف حديث ، لكن مقصودهم بالحديث الطرق ، فمثلاً لو روي حديث واحد عن مالك عن الزهري عن أنس ورواه سفيان عن الزهري عن أنس وعبيدالله عن الزهري عن أنس ومعمر عن الزهري عن أنس فإنهم يعدونه أربعة أحاديث.
أما الملايين فلا هذه مبالغات.
بل لو قيل أن من يحفظ ألف ألف حديث كثير ما قبلته ، بل هو فيهم نادر جداً فقد كان الحفاظ يعجبون من أحمد غاية العجب مع أنهم حفاظ ، فلو كان هذا فيهم كثير لما تعجبوا منه ، والأغلب عليهم المعرفة بها على نحو ما تقدم لا حفظها إلا حفظ كتاب على ما ذكرتم.
وقولكم [مما ينبغي التسليم به هو أن الله تعالى حفظ هذا الدين، وما ضاع من حديث أو طريق فإن له بديلا من طريق آخر أو دليل آخر يسد مسده]
ثم ماذا ؟ هل هذا يعطي أن تلك الطرق والأحاديث التي ضاعت لا تأثير لها في معرفة حال الرواي المبحوث في أمره ؟
ثم ما علاقة البدائل بأحوال الرواة ؟
[ومما ينافي الحفظ في نظري أن نفترض أن أكثر الروايات والطرق ضاعت أو أن الله تعالى لم يترك لنا سبيلا البتة لمعرفة من هو مقبول ومن هو مردود من الرواة بسبب اختلاف العلماء فيه]
هل تريد أن مما ينافي الحفظ مجموع الأمرين ضياع الطرق وعدم ترك طريق أم كل واحد على حدة ؟
أما الأول : فماذا في تسليمه ؟
أما الثاني : فما الدليل عليه ؟
ولكن لا ، قد ضاعت آلاف الطرق لا نعرفها اليوم كما ضاع علينا العلم بالآلف من الرواة لا نعرف لهم إسماً ولا رسما ، وأدنى مطالعة لتراجم الرواية تنبيك عن ذلك ، فقد تقدم عن أحمد بن حنبل أنه كان يحفظ نحو سبعمائة وخمسون ألف حديث والبخاري نحو ثلاثمائة وأبو زرعة أكثر من مائة ألف حديث ، وما يعرفونه أكثر مما يحفظونه ، وليس في المصنفات ولا حتى المخطوط منها هذه المقادير عنهم ولا نصفها ولا ثلثها بل ولا عشرها.
وتلك الأسانيد التي لم تبلغنا عبارة عن رواة منهم من روى عنه غير أحمد في كتبه ووصلتنا ، فتلك الروايات عنه التي لم تبلغنا لا شك تعطي معرفة بحاله لو جمعت ، فكيف الحال مع ضياعها ؟
لكن هذا لا يعطي انقطاع طرق المعرفة ، فإن العارفين بتلك الطرق من المتقدمين قد تكلموا في الرواة ، وما يظهر من اختلاف فيهم فالمتأخر يعالجه بنحو مضوعنا هذا والكلام في غيره من علوم الحديث.
وإسقاط كلام أهل الجرح والتعديل لاختلافهم لم يكن قولي بل قولكم ، وإنما ذكرناه في المتأخرين إلزاماً فقط ، إذ لو جاز إسقاط كلام المتقدمين لاختلافه فلماذا لا يسقط كلام المتأخرين لاختلافهم.
وكيف أدعي سقوط كلام المتقدمين وانسداد سبل التعرف على أحوال الرواة وموضوعي هو في التعرف على أحوال الرواة عن طريق الجرح والتعديل ، وكيفية التعامل مع المتعارض منها ، ثم للسبر والتتبع دور حتى في زماننا هذا تقدمت إحدى صوره وسيأتي عند نقلي ما كتبته في معنى النكارة.
[ومما لا يخفى أن المتقدم من العلماء وإن كان له فضل المعاصرة والسبق فإن للمتأخر أيضا فضل الإحاطة والجمع، وأعني بذلك أنه يطلع على كل ما قيل في الراوي من قبل علماء الجرح والتعديل أما النقاد أنفسهم فإن تيسر لأحدهم اطلاع على أقوال من سبقه فلا شك أنه لم يطلع على أقوال من جاء بعده إلى أن توقف هذا العلم]
أقول : هذا الذي زعمته لا يخفي في الحقيقة يخفى بل لا يصح ، وذلك عند التحقيق في صياغة هذه العبارة ، وذلك أن صياغتها عامة مجردة ، وعند تقييدها بهذا العلم ووضعها على واقع المحدثين فإنا نزعم أن المتقدم يحيط بمرويات الراوي على التفصيل السابق وبمرويات غيره مما له تعلق بمروياته ، ولا نسلم ذلك في المتأخر ، وإن كان فات المتقدم شيء من كلام أمثاله في الراوي فلا يضره ، إذ ليس هو بحاجته مع تمام إحاطته بالأسباب التي ينبني عليها الكلام في الراوي مدحاً وقدحاً ومعرفته بكيفية بناء الحكم عليها . ثم لما مات ذهبت تلك الطرق والمرويات التي كانت في صدره ولا نسلم أن الموجود يحيط به أو يغني عنه بحيث يستقل المتأخر بالنظر فيها بمعرفة أحوال الرواة وجمع عبارات الجرح والتعديل من الكتب لا يعني الإحاطة بها ، والإحاطة بها لا تعني فهمها ، ثم فهما لا يعني معرفة التوفيق بينها ، ثم إن معرفة جميع ذلك ليس بقوة معرفة سببها . والأخير تَخَصُّص المتقدم ، لذا ربما سمع أحمد عبارة ابن معين في رجل ثم لا يعبأ بها وهكذا غيره.
ولا يظن الظان أنه إذا دخل في حيز الإمكان أن يجمع حديث راوٍ مختلف فيه نحو ابن لهيعة أو السبيعي مثلاً أنه بذلك قد علم الأسباب التي تقدح في عدالة الراوي أو ضبطه ، فهذا لا يكون بالكبس على زر (بحث) والنظر في النتائج ، وإلا لكنا جميعاً اليوم أفقه من مالك والشافعي ، ولتوضيحه أنقل مثال واحد :
قال الإمام أحمد رحمه الله : كنت أنا وعلي ابن المديني فذكرنا أثبت من يروي عن الزهري ، فقال علي : سفيان بن عيينة ، وقلت أنا مالك بن أنس ، وقلت : مالك أقل خطأ من الزهري ، وابن عيينة يخطئ في نحو عشرين حديثاً عن الزهري في حديث كذا وحديث كذا ، فذكرت منها ثمانية عشر حديثاً وقلت : هات ما أخطأ فيه مالك ، فجاء بحديثين أو ثلاثة ، فرجعت فنظرت فيما أخطأ فيه ابن عيينة فإذا هي أكثر من عشرين حديثاً.
وهذا المثال يرشد إلى فوائد جمة كثيرة ، أولاً فيه أن أحمد حفظ حديث سفيان ومالك عن الزهري ، أنه حفظ أيضاً ما يميز صحيح حديث سفيان عن الزهري من ضعيفه ومثله مالك ، وأنه كي يميز ذلك يجب أن يكون حفظ جميع الروايات عن الزهري حتى يقارن بها حديث سفيان وحديث مالك ثم يرجح ، أنه يجب أن يفهم أن ما انفرد به أحدهما ليس من باب رواية الثقة بل خطأ ، وهنا المعضلة الزباء والداهية الدهياء ، فإن تمييز ذلك لم يحسن كثيريني أن يفسروه حتى قيل في علم العلل أنه كهانة.
وحين أراد أن يحكم أحمد على أوثق من روى عن الزهري لم يكن في حاجة إلى معرفة كلام من بعده ، وإذا أراد المتأخر أن يحكم لا ينفعه معرفة كلام من قبله . هذا إذا فرضنا أن كل الأسانيد التي يحفظها أحمد عن مالك عن الزهري وعن ابن عيينة عن الزهري وعن غيرهما عن الزهري بين يديه ، وأنى له ذلك.
ثم مات أحمد أسأل الله جل وعلا أن يجزيه عن المسملين أعظم الجزاء ، فمن يحلف أن كل ما حفظه أحمد من هذه الطرق التي اعتمدها هي بين أيدينا وأن المتأخر له فضل جمعها فضلاً عن جمع غيرها معها بحيث يكون ل الفضل الذي يميزه كمتأخر عن المتقدم ؟
[ومما لا يرفضه عقل ولا يعافه ذوق سليم أن من استوعب كل ما قيل في مسألة جزئية مع اتصافه بالحد الأدنى من مراتب النظر أنه يكون أكثر قدرة على بيان وجه الحكم فيها من عالم كبير مر بهذه المسألة لماما في ضمن آلاف المسائل التي نظر فيها. وهذه هي فضيلة الاختصاص. وكذلك من جمع كل ما قيل في راو مع حصر كل مروياته وأنفق سنين من عمره في دراستها ومقارنتها بغيرها فسيكون حكمه أدقَّ من عالم موسوعي كبير تعرض لهذا الراوي ضمن آلاف آخرين، نظر في مروياتهم وأحوالهم]
أقول : ما المراد بالاستيعاب ؟ مجرد الإحاطة من غير فهم أما مع الفهم ؟
أما الأول فأن العقل السليم يعاف القول به ، أما الثاني فإن المتقدم أفهم لما يقول ممن ينقل عنه قوله . ثم إن الاختصاص بحسب توصيفكم كافٍ في بيان عدم الحاجة إلى فتح هذا الاجتهاد المزعوم ، فإن المتخصص إن قبلنا قوله تقليداً برز سؤال : ألم يكن في اتباع المتقدمين كفاية ؟ وإن لم نقبله تقليداً ، فما فائدته؟
أما الموسوعية والتخصصية فقد تقدم الكلام عليها ، كما أن المتقدمين اختلفت تخصصاتهم فمنهم من كان أعلم من غيره بالعلل والخطأ في الحديث كابن معين وأحمد وابن المديني والبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني ، ومنهم من كان أعرف من غيره بالزيادات كابن خزيمة ومنهم من كان أحفظ ومنهم من كان أفقه لها ، وحتى في الرواة تجدهم يقولون : فلان أعلم بأهل بلده ، وأعلم بمشايخه وأعلم بمن عاصره ، بل حتى في الراوي الواحد تجد أناس مختصين به كاختصاص إسرائيل وشريك بأبي إسحاق والقعنبي ويحيى بن يحيى بمالك وغير ذلك.
ثم هنا كلام كثير يجعلني أعيد ما كررته فلا حاجة إلى تتبعه :
[ومن الأكثر خطورة سد باب الاجتهاد وإغلاق أبواب النظر والاكتفاء والانكفاء على مجرد النقول قال فلان وقال فلان]
صدقت فلندع الخطر من الجانبين ، على أنني لم أقل بانغلاق باب الاجتهاد ، وإلا لم طرحت هذا الموضوع وفيه الرد حتى لأقوال المتقدمين في الجرح والتعديل في بعض المسائل كرد قول الجارح أو المعدل بعد الاطلاع على سبب الجرح والتعديل عند التعارض ، وليس مرادي بالتعارض مجرد أن يوثق فلان ويضعفه فلان ، وسيأتي.
[ثم إني لم أدع إلى فتح الباب على مصراعيه، بارك الله فيكم، بل فقط في "الرواة المختلف فيهم من جهة الحفظ"]
قد طرقتم له حفظكم الله باقتراح جعله عملاً إحصائياً مستفيدين من وجود الأجهزة ، ولو قام به المتأهلون اليوم لادعاده غيرهم غداً كما هو حاصل في الفقه فترى الجميع حتى أنا أتكلم فيه ، والله إني لأستحيي من جرأتي وبخاصة وإسمي يظهر بارزاً حاملاً تخصصي البعيد كل البعد عما أكتب فيه وأقارع فيه أهله ، ولكن لاعتقادي أن أمثالكم موجودون يردون علي خطأي في وجهي أتجرأ ، وإذا رأيت منكم الرضا رضيت] صغرت الخط حتى لا تستطيع قراءته (ابتسامة) .
[ وإذا أردنا التضييق أكثر قلنا "الرواة الذين اشتد الخلاف فيهم من جهة الحفظ"]
هؤلاء هم أصعب من يتكلم فيهم المتكلمون ، فمن خف فيهم الخلاف من جهة الحفظ فذلك لظهور أحد القولين ظهوراً قوياً وظهور ضعف مقابله ، وحيث اشتد فذلك لعدم ظهور ترجح أحد القولين على الآخر.
وعلى كل لا بأس بالاجتهاد في هذا ، لكن لا على طريق الاستقلال ، بل هو كالفقه تنظر في أقوال المتقدمين وترجح بين أقوالهم بالدليل.
[أما الحكم على أهل العصر بأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد في ذلك فلا أسلِّمه لكم، بارك الله فيكم]
لم أدعيه فلا حاجة لي بالنظر إلى السببين.
نقلتم عني قولي : [أما اختلافهم القديم فلا يسقط أقوالهم ، فقد وجد الخلاف في الشافعي وشعبة وابن عيينة وأمثالهم بأشياء منه اليسير ومنها الخطير والمتأخرون مطبقون على ثقبتهم وهكذا في جانب التعديل.
فليس كل اختلاف مسقط لأقوال المختلفين.]
ثم قلتم : [من تُكِّلم فيه بما لا يوجب الرد ممن شذ هنا وهناك فهذا خارج عن محل البحث]
أقول : إن اختلف في هؤلاء مع جلاء الأمر فورود الاختلاف في غيرهم أكبر احتمالاً ، ونحن نرى كثيراً من المتأخرين يختلفون في الحكم على الرواية مع اجتهادهم وتتبعهم للروايات ويكفي أن تقرأ كتاب (التنكيل) للإمام المعلمي لتر ذلك.
[وإنما من تعارضت فيه الأقوال تعارضا بينا، وهو كثير، ولا شك أن الأقوال المتعارضة إذا تكافأت تساقطت]
إن تكافأت ، ولا نسلم التكافؤ.
[فلا بد من البحث عن دليل آخر من خارجها]
إن كان تتبع الروايات من هذه الوسائل ، فهو مما اعتمده المتقدمون ، فإن أدت إلى اختلافهم وجب ترك الاعتماد على الرويات جملة ، وإن كان كلامهم المبني عليه أيضاً ساقطاً لتعارضه ، فقد انسد باب الاجتهاد والتقليد معاً ؟!!
[ولا شيء بأيدينا إلا سبر ما أمكننا سبره أو التوقف، والسبر أولى من التوقف لأنه لا ينبغي التوقف حيث أمكن البحث عن دليل أو أمارة]
ممتاز جداً فذاك السبر إما أن يقوي أحد القولين الجرح أو التعديل أو يؤدي إلى قول ثالث، أما الأول فهو مرادنا بالترجيح بين الجرح والتعديل ، ويجب فيه أن لا نستقل ابتداءً بل لا بد من النظر إلى كلام الجارح والمعدل وعلاقته بالسبر المذكور ، فلو مثلاً اختلف في راوٍ من أجل عشرة أحاديث فقط مع اتفاقهم على ضبطه في غيرها فسبر ذلك الغير مضيعة للوقت.
أما الثاني : فإما أن يكون باطلاً كالقول الثالث في الفقه ، أو باطلاً لكون اتفاق المختلفين على خلافه مع حفظهم لما ليس بين أيدينا مانع من إنشاء القول الثالث ، لما قدمناه.
[وهذا بخلاف منهج المتأخرين كابن حجر والذهبي رحمهم الله تعالى في الحكم على الرواة المختلف فيهم باتباع التلفيق والوصول إلى حلول وسط ]
هذا في حق الإمام الذهبي خطأ عظيم ، فإن الذهبي كثيراً ما يعتمد لمعرفته هو نفسه بالراوي ومروياته بضميمة كلام غيره فيه ، فتراه يشتد ولا يعول في توثيق بعض الرواية ويشنع على جارحه.
ثم هذه الحلول الوسط منها ما يبين عدم التعارض فلا حكم بالتساقط.
[فإذا وثق ناقد راويا وضعفه ناقد آخر جعلوه صدوقا فلا هو ثقة ولا هو ضعيف، وهذا في نظري يخالف منهج المتقدمين لأن أقوالهم، بحسب الفرض في الراوي المختلف فيه، كانت فاصلة: إما التوثيق وإما التضعيف في خصوص الراوي الذي اختلفوا فيه ... إلخ]
ليس كذلك قطعاً ، فأحكامهم تختلف بحسب اختلاف أحوال الرواة فتجد من عبارتهم : هو كذا وكذا ، أرجوا أنه لا بأس به ، يكتب حديثه وينظر فيه ، حديثه صالح، وذلك بسبب أن الأخطاء ليست قليلة جداً بحيث يكون ثقة مطلقاً ولا كثيرة جداً بحيث يكون ضعيفاً ، فيأتي مثل الحافظين الذهبي وابن حجر فيطلعا على كلمات من نحو ابن حبان ويعلمان أنه يسقط الراوي بالخطأين والثلاثة ، وإلى مثل العجلي وابن شاهين ممن يتساهل في كثير من الخطأ ، فيبحثان على من أنكر على الراوي ، فإذا كان بمقدار من يقول فيه أحمد مثلاً هو كذا وكذا أو هو صالح الحديث إنشاء الله فيقولان صدوق توسطاً ، فالتوسط لم يكن بالنظر إلى مجرد ألفاظ الجرح والتعديل ، كلا ، بل هما وغيرهما ينظران فيما ينكر على الراوي وقد نص عليه الذهبي في غير موضع منها مقدمة كتابه (الراوة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد) لكن هذا الذي ذكرتموه وعبتموه هو للأسف صنيع كثير من المُحْدَثِيْن اليوم.
[وهذه الأيام بحمد الله تعالى ثمة ثورة حديثية متنامية على مناهج المتأخرين من علماء الحديث]
لعلك تقصد الدكتور المليباري ، وفي الحقيقة ثورته ـ إن صح توصيفها بذلك ـ هي في رد الناس عن مناهج المتأخرين إلى مناهد المتقدمين ، ونعم الثورة هذه. وإن كنت لا أحبذ هذه المصطلحات عموماً.
نقلتم قولي : [إلا أن يظن الظان أن الطرق الحديثة ستحل الخلاف ، وهيهات ، فلو تصورنا أنها أخذنا ما في صدور المتقدمين جملة ووضعناه على أفضل البرامج ، ثم بحثنا فوجدنا أن فلان أخطأ في خمسين حديث من أحاديث علان وهو يمثل نسبة عشرة في المائة ، لاختلفوا في الحكم حينذٍ ، هل هو ضعيف من أجل هذا المقدار أم ثقة ، وهل ضعفه يختص بحديثه عن علان أم هو مطلق دال على ضعفه مطلقاً ، ثم الرواة الذين لم نجد من تكلم فيهم بكلام قاطع إن سبرنا حديثهم فوجدناهم رووا أحاديث عن ثقات غير مشاهير انفردوا بها بماذا نحكم عليها؟ بأنها انفرادات لا تقبل إذ لو صحت لوجدت عند غيرهم ، أم هي مقبولة لأن المروي عنهم ليسوا بالمشهورين حتى يلزم منه اشتهار أحاديثهم. وما من حكم تقدره إلا وتجد من يخالفك فيه ، فيسقط قول المتأخرين كما أسقطتم قول المتقدمين]
ثم قلتم : [إذا عرفنا نسبة الشذوذ ونسبة التفرد ونسبة الخطأ فسنصل، لا شك، إلى حكم "ظني"، هو مهما كان أكثر دقة، وأقل مدعاة للاختلاف من الاعتماد المجرد على القرائن المتعلقة بالنقاد من كون هذا متشدد وهذا متساهل وهذا معاصر وهذا غير معاصر وهذا متحامل وهذا غير متحامل، ونحو ذلك من قرائن الترجيح بين أقوال النقاد فيما اختلفوا فيه من الرواة اختلافا بينا]
هذا بعينه ما اعتمد عليه المتقدمون فكان اختلافهم أكثر من اختلاف المتأخرين الذين وصفتموهم بالتلفيق ، فحينئذٍ لو اعتمد عليها المتأخرين مع ضياع الكثير من الطرق سيكون أكثر اختلافاً أيضاً.
ثم لو فرضنا جدلاً أن الخلافات قلت ، مع ذلك سيبقى الظن الحاصل بها أكثر ضعفاً فسنبقى دائماً نتفكر ؟ ترى لو أننا اطلعنا على ما غاب عنا من طرق كيف سيكون لحكم ؟ ترى هذه النتيجة التي أوصلت إلى خلافنا لأحمد وأبن معين وموافقتنا لابن شاهين مع شهرته بالتساهل ما سببها ؟ لماذا قال ابن المديني في هذا الراوي ثقة مع أننا نجد أكثر من ثلاثين في المائة من حديثه خطأ ؟
ولتوضيح هذه التساؤلات فإننا سنزيد إلى الاختلاف بسبب اختلاف النسب في الروايات الاختلاف بسبب اختلاف المتقدمين في نظرهم إلى هذه النسب.
[أرجو مراعاة أن الشخص مثلي إذا تكلم في غير فنِّه فربما يأتي بالعجائب]
هذا يا شيخنا اعتذارنا لا اعتذاركم ، فإنه جزء من تخصصكم ، لا محاوركم المتطفل على هذه العلوم.
أرجو الله أن يديمكم ويديم علينا من فوائدكم ، وأمتعنا بالحوار معكم.
وغفر الله لنا ولكم