د. أيمن علي صالح
:: متخصص ::
- إنضم
- 13 فبراير 2010
- المشاركات
- 1,023
- الكنية
- أبو علي
- التخصص
- الفقه وأصوله
- المدينة
- عمان
- المذهب الفقهي
- الشافعي - بشكل عام
[h=3]الريسوني: سيادة نزعة التشديد سبب كثرة المحرمات[/h][h=2][/h][h=4][/h]
وأوضح الريسوني أن علم المقاصد بالنسبة للشريعة هو بمثابة الروح للجسد، مشددا على أن الشريعة التي تسقط مقاصدها أو تغفلها إما شريعة محرفة، وإما شريعة ميتة.
وفي الحوار، أفكار "ريسونية" كثيرة لعلها تفتح أمام القارئ والمهتم العديد من أبواب التفكير والتأمل والردود.
- أهمية المقاصد بالنسبة للشريعة ونصوصها وأحكامها، هي أهمية الروح للجسد، فمقاصد الشريعة هي روحها، ومقاصد النصوص هي روحها، ومقاصد الأحكام هي روحها، وأنا أستوحي هذا المعنى من كلمة الإمام الشاطبي "المقاصد أرواح الأعمال".
فالشريعة إذا أُُغفلت مقاصدها، أو أسقطت مقاصدها، أو حُرفت مقاصدها، أو لم تؤخذ مقاصدُها بعين الاعتبار، تكون إما شريعة محرفة -ولو بدون قصد- وإما شريعة باهتة أو شبه ميتة، وإما جامدة عاجزة.
وفي جميع الحالات تكون غيرَ الشريعة الحقيقية التي أرادها الله، فكل من يُسلّم أن الشريعة لها مقاصد وغايات، ولها حِكَم وأهداف، فيجب عليه -قدر استطاعته- أن يفكر فيها، وأن يبحث عنها، وأن يتفقه فيها، وأن يعمل بمقتضاها، فالمقاصد يجب الأخذ بها في العلم والعمل معا، وإن كان الأخذ بها في العلم أهم وآكد؛ لأن على العلم ينبني العمل وعليه ينبني الاجتهاد والفتوى، فالعمل تابع للعلم وللعلماء، فإذا اهتم العلماء بالمقاصد، وتفقهوا في المقاصد، وبنوا فقههم وفتاواهم واجتهاداتهم وتوجيهاتهم على المقاصد، كان الدين بخير، وكانت الدنيا –أيضا- بخير. مثلا، "الزواج الأبيض" الذي انتشر اليوم بين كثير من شباب المسلمين المقيمين في الغرب أو الراغبين في الذهاب إليه، ويجدون من يسوِّغه لهم، وهو مجرد تحايل وتلاعب بأحكام الشريعة وتـحريف لها وإبطال لمقاصدها، فهكذا تصبح الأحكام إذا جردت من مقاصدها.
** هل معنى هذا أن فقهاء المقاصد هم الفقهاء الحقيقيون وليس فقهاء النصوص؟
- بالنسبة إليّ، فقيه النصوص وفقيه المقاصد شيء واحد، فلا يكون الفقيه فقيها حتى يَفْـقه النصوص بمقاصدها، فليس هناك فقه للنصوص بدون مقاصدها، كما ليس هناك فقه للمقاصد بدون نصوصها.
فالذي يزعم المقاصد بدون نصوص، يقال له: من أين لك هذا؟ ومن أتانا بمقاصد بلا نصوص نقول له: هذه مقاصدك أنت لا مقاصد الشريعة. وأما من يأتينا ويحتج علينا بنصوص دون مقاصد، فهذا يقال له: قف، لست بفقيه، وإنما أنت حافظ، وراوٍ، ورُبَّ حافظ راوية لا فقه معه، ورُبَّ حاملِ فقه ليس بفقيه، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
وقد نبه الإمام الغزالي على أن بعض العلماء الحفاظ قد يوصف أحدهم فيقال "فلان من أوعية العلم"، وهي إشارة مهذبة إلى كثرة حفظه وقلة فقهه، فهو صاحب نصوص وروايات محفوظة، ولكنه ضعيف الفقه لأحكامها وحِكَمها.
وقد ذهب إمام الحرمين الجويني –وغيره- إلى أن الظاهرية ليسوا فقهاء وليسوا مجتهدين، وخلافهم -كالعوام- لا يؤثر في انعقاد الإجماع، فلا يكمِّله إن كان ناقصا، ولا ينقص منه إن تم بدونهم؛ لأن منتهى فقههم هو استظهار النصوص وشرحها شرحا لغويا ظاهريا.
والأمثلة التي أشرتَ إليها، هي فعلا نماذج من التفسير الظاهري السطحي لبعض نصوص الشريعة الغراء، وهي منه براء، وهي تفسيرات يرددها -في الغالب- بعض من يحفظون متونا لا يعرفون نطاقها ولا سياقها، أو بعض الوعاظ والمفتين المبتدئين؛ أما العلماء الذين تدور عليهم الفتوى في هذا العصر -كالعلامة القرضاوي وكثيرين غيره- فلهم اجتهاداتهم الرشيدة والسديدة في هذه الأمور.
** هل صحيح ما يقال: إن علماء الغرب الإسلامي هم رواد علم المقاصد؟
- لقد أسهم علماء الغرب الإسلامي إسهامات نوعية في مسيرة الفكر المقاصدي، سواء قبل الإمام الشاطبي أو بعده. ومنهم القاضي أبو بكر ابن العربي، وابن بطال شارح صحيح البخاري، وابن رشد، وابن خلدون. ومن المعاصرين: ابن عاشور، وعلال الفاسي، وقبلهما العلامة الشيخ ماء العينين بن مامين الشنقيطي المغربي، الذي كان رائدا وسباقا إلى التعريف بالشاطبي وبفكره وبكتابه (الموافقات)، فبمجرد أن اكتشفه في أوائل القرن العشرين، بادر رحمه الله إلى نظمه، لتسهيل حفظه وتداول مضامينه، وسمى منظومته (موافق الموافقات)، ثم لم يلبث أن قام بشرح النظم شرحا مختصرا بعنوان (المرافق على الموافق) وطبع بفاس سنة 1924.
ومنهم كذلك الفقيه المقاصدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، فهؤلاء وأمثالهم، قدموا فعلا خدمات جليلة ومتميزة في مجال الدراسات المقاصدية تنظيرا وتطبيقا. وهذا لا ينفي الريادة المبكرة والتأسيسية لعدد من علماء المشرق؛ كالجويني، والغزالي، وابن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية، وشاه ولي الله الدهلوي، وغيرهم ممن قبلهم أو بعدهم.
وعلى كل حال، لا ننسى أن مقاصد الشريعة جزء لا يتجزأ من فقه الشريعة ومن كل نظر سليم في أحكامها ومنظومتها التشريعية؛ فالشريعة الحقيقية -كما يقول ابن القيم- مصلحة كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، وعدل كلها، فهذه هي الشريعة التي عليها عامة العلماء الراسخين والفقهاء المعتبرين، مشارقة ومغاربة، قدماء أو محْـدَثين.
** ما آليات تنزيل علم المقاصد في حياتنا المعاصرة، خاصة في المجالات المتقلبة، كالمجالين السياسي والاقتصادي، وبالذات مع وجود إكراهات جمة في هذين البابين معا؟
- الآليات التي تسأل عنها توجد كلها تحت كلمة واحدة، هي الاجتهاد، فالآليات يعرفها المجتهدون، ويمتلكها المجتهدون، ويحسن استعمالها المجتهدون، وقد لخص الإمام الشاطبي شروط الاجتهاد ومؤهلاته في صفتين هما: فهم المقاصد على كمالها، والقدرة على الاستنباط من خلالها. ثم بين رحمه الله أن الاجتهاد حينما يتعلق بالمصالح والمفاسد، فإنه يحتاج إلى الخبرة والدراية -بصفة أساسية- بتلك المصالح وتلك المفاسد، في ذاتها وحقيقتها. ومعلوم أن معظم الاجتهادات السياسية والاقتصادية هي اجتهادات في تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وتدبيـر أفضل الطرق لتحصيل الأولى وتكثيرها، وتعطيل الثانية أو تقليلها، وهنا تأتي ضرورة الاجتهاد الشوري الجماعي الذي يضم الفقهاء والخبراء الدارسين والممارسين، فهذه هي أرقى آليات الاجتهاد، وهي أرقى الضمانات لتنزيل فقه المقاصد بلا إفراط ولا تفريط.
** كما تعلم، البعض ممن يدعون إلى تطبيق فقه الواقع لصالح المجتمع والأمة يبالغون فيه إلى درجة تمييع الدين -أصولا وأحكاما- بحجة المعاصرة والمعايشة.. إلى آخره، فكيف تقرؤون مآلات هذا الفهم الفقهي الذي يدعي المعاصرة وموافقة الواقع؟ وهل لكم أن تدلوا لنا ببعض الأمثلة الواقعية في هذا الباب؟
- أعيد التذكير والتأكيد أن المعنى الصحيح لمصطلح "فقه الواقع"، إنما هو معرفة الواقع والخبرة بشؤونه وأحواله على ما هي عليه، وهو مصطلح وُضع بجانب مصطلح "فقه الدين"، ليكون مكملا له ومعينا عليه، لا بديلا عنه. ولكن البعض يفهمونه على أنه صنف جديد من الفقه، يجب أن يحل محل الفقه القديم، وفقه الواقع عند هؤلاء -أو عند بعضهم- هو الفقه الذي يخضع للواقع ولا يصادمه، بل يواكبه بفتاوى التسويغ والتأييد والقبول والترحيب، وهذا في الحقيقة ليس من الفقه في شيء، وليس من الاجتهاد في شيء، أو هو -إن شئت فقل عنه- فقه نفي الشريعة، أو هو اجتهاد في إقصائها وإلغائها.
أتذكَّـر أننا التقينا (أظن في سنة 1999) مع وزير مغربي حداثي جدا، وناقشنا معه دعوته وحملته لإلغاء عدد من الأحكام الشرعية في مجال الأسرة، عملا بمقتضى المرجعية الأممية كما يقولون، وقلنا له: علينا أن نأخذ أيضا بمرجعيتنا الإسلامية. فقال: نعم لكن مع الاجتهاد لتـتوافق مع المرجعية الأممية ومع متطلبات الحداثة. ففهمنا يومها أن دعوة هؤلاء للانفتاح وللاجتهاد، معناها الوحيد: هو القبول والتسليم بما يأتينا من الغرب، مع الاجتهاد -نعم الاجتهاد- في إزالة "العوائق الدينية" من أمامه، وفي ذلك فليجتهد المجتهدون، ولأجل ذلك يستدعون "فقه الواقع"، وبهذا المعنى يرحبون بالمقاصد، وهذه في الحقيقة "مقاصد الشريعة الاستعمارية" -حسب تعبير علال الفاسي- وليست مقاصد الشريعة الإسلامية.
** ألا يخشى، دكتور أحمد، أن يجرنا الرضا بفقه الواقع والتمسح بعتبته إلى ولوج أبواب السياسة المعاصرة، حيث يسود الظلم العالمي الجديد؟
- نعم، فليكن. يجب علينا "ولوج أبواب السياسة المعاصرة، حيث يسود الظلم العالمي الجديد"، نعم ((ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ)) [المائدة:23]. أما الرضا فلا.
فمن الواقعية أن ندخل جميع الأبواب التي تفتح لنا، وأن نعمل على فتح الأبواب الأخرى الموصدة في وجوهنا. ويجب أن ندخل بالخصوص إلى حيث يسود الظلم، القديم أو الجديد. بل لماذا ندخل أبوابا ليس فيها ظلم؟ ماذا سنفعل فيها؟ الإسلام رسالة، وأهله أهل رسالة، ورسالة الإسلام الدائمة هي ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) [الحديد:25]. فحيث زال القسط أو اختل القسط، فيجب أن ندخل ونتدخل ونبذل جهدنا ونقدم ما عندنا.
طبعا لا ينبغي ولا يجوز أن نلتحق بالواقع وننخرط فيه كما تفعل السواقي والروافد في النهر العظيم المتدفق؛ تذوب فيه وتفنى، وتقويه وترفع من هديره، وربما تسهم في فيضانه وزيغانه.
يجب أن نتفاعل ونتعارك ونتحاور ونتدافع مع الواقع، ليس فقط بنوع من النِّدِّية، بل بنوع من الاستعلاء، الاستعلاء المتواضع المحب للخير والنفع (الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله). إن ضعف المسلمين لا ينبغي أن يحجب عنا قوة الإسلام. وإذا كان الغرب يغزو المسلمين في عقر ديارهم، فإن الإسلام يغزو الغرب في عقر دياره، يا للمفارقة!!
** الكثيرون يعطلون النصوص باسم المصالح والمقاصد، بذريعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألغى سهم المؤلفة قلوبهم، وأيضا يحتكمون إلى قولة تنسب إلى ابن القيم الجوزية رحمه الله: "حيث توجد المصلحة فثَم شرع الله"، ما رأيكم في هذا الموضوع كعالم مقاصدي؟
- ما فعله عمر عدل وشرع، وما قاله ابن القيم حق وصدق، وفي كل منهما تطبيق للنصوص وتحقيق لمقاصدها.
فسهم (المؤلفة قلوبهم) هو أحد الأسهم الثمانية لمستحقي الزكاة، ولا شك أن الأصناف المستحقين للزكاة، إنما يستحقونها ويُعطَوْنها لأسباب ولصفات يتصفون بها، ولمقاصد تتحقق بأخذهم لها، وهذه الأسباب والصفات والمقاصد قد تزول وتتغير أو تنتهي، فمثلا حينما يكون عندنا فقير مسجل في قائمة المستحقين للزكاة، ثم نعلم أنه قد استغنى أو اغتنى، فإننا نحذفه من القائمة حتى لو كان هو ما زال يطالبنا بالزكاة ويظن نفسه مستحقا لها، وكذلك يقال في سائر الأصناف، واليوم مثلا اختفى نهائيا صنف (وفي الرقاب)، واختفى تقريبا صنف (العاملين عليها).
في زمن البعثة المحمدية، كان كثير من الزعماء يرون الإسلام مهدِّدًا لمكاسبهم وامتيازاتهم وأرزاقهم، فكانوا ينضمون لمحاربته لهذا السبب (إسلاموفوبيا)، فأفهمهم الإسلام أنه لا ينزع من أحد مكانة ولا زعامة ولا ثروة، وإنما يمنعهم فقط من الغصب والظلم والتسلط بغير حق؛ وتشجيعا لهم على الاطمئنان والاقتراب من الإسلام لفهمه وفهم مقاصده ومكاسبه، وأيضا لتقليل الخصوم والمحاربين للدين الناشئ الفتي، جعل سهما من أسهم الزكاة لهؤلاء (المؤلفة قلوبهم)، فاقتربوا فعلا من الإسلام واندمجوا في المسلمين، وتبين لهم الرشد من الغي والحق من الباطل، وأخذوا حقوقهم وزيادة.
ثم إن الإسلام قد ثبَّت وجوده وقوته بصفة نهائية وأبدية، فكان لا بد من الفطام، فقد انتهى زمن المؤلفة قلوبهم وانتهت دواعي هذا التأليف، فـلْـينْـتَـهِ سهم (المؤلفة قلوبهم)، مثلما كان لا بد -بعد ذلك- أن ينتهي زمن الرق بانتهاء أسبابه ودواعيه، وينتهي معه سهم (وفي الرقاب).
لقد كان في المجتمع الإسلامي الأول عدة فئات وأوضاع مؤقتة، أعطيت لها أحكام خاصة، كفئة المؤلفة قلوبهم، وفئة أهل الصُّـفَّـة، وفئة الطلقاء، وفئة الأرقاء، وفئة المنافقين.. وهؤلاء جميعا انتهوا أو انتهت خصوصياتهم الظرفية، فكان لا بد أن تنتهي الأحكام الظرفية الخاصة بهم.
وهذا من قبيل ما يطلق عليه الأصوليون مصطلح "زوال محل الحكم"، فإذا زال محل الحكم فلا يصح أن نضع الحكم في غير محله وفي غير ما وضع له، وهذا ما أدركه عمر رضي الله عنه فعمل بمقتضاه، ووافقه عليه الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم.
فما فعله عمر ليس من تعطيل النصوص، بل هو صميم فقه النصوص، وهو من باب وضع النصوص في مواضعها، ومن باب تجنب وضعها في غير مواضعها.
أما قولة ابن القيم، فعليها جماهير العلماء والفقهاء قديما وحديثا، فكلهم يقولون: "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله"، وهذا معناه أنك متى وجدت مصلحة حقيقية، خالصة أو راجحة، فاعلم أن شرع الله يريدها ويطلب تحصيلها وتنميتها وصيانتها، وأنه كذلك يكره تفويتها أو إتلافها أو التفريط فيها، ومتى وجدت مفسدة أو مضرة حقيقية، خالصة أو راجحة، فاعلم أن الشرع يكره اقترافها أو بقاءها أو السعي فيها، ويريد ويطلب رفعها وتجنب سبيلها، فهذا هو معنى أن شرع الله يوجد حيث توجد المصلحة، وهذا ما دلت عليه نصوص لا تحصى.
على أن المصلحة المتحدث عنها هنا، ليست أهواء وشهوات ونزوات، وليست بالضرورة هي ما يُعتبر مصلحة عند أرباب البنوك والشركات العابرة للقارات أو العابرة للمحرمات، وليست هي المصلحة كما يراها -مثلا- مكيافيلي وأتباعه. المصلحة المتحدث عنها هي التي تتوافق مع الشرع ومقاصده ومعاييره وأولوياته.
** سبق لكم أن أبديتم أكثر من مرة إعجابكم الكبير بفقه السيدة عائشة رضي الله عنها، ما مرد هذا الإعجاب؟ وهل ترى صلاحية تطبيقات فقهها رضي الله عنها في عالمنا اليوم؟
- السيدة عائشة رضي الله عنها، هي واحدة من أئمة المسلمين وفقهائهم الكبار، ولو أنها عاشت في عصر التدوين والتصنيف، لحجبت أو تقدمت كثيرا من الأئمة الكبار في الحديث والفقه والتفسير ومقاصد الشريعة. وإعجابي بها هو إعجاب بكل ما وصلَنا من علمها وحصافة رأيها، ومن ذكائها وفكرها النقدي، ومن تمسكها بكليات الشريعة وقطعياتها في مواجهة بعض التسربات والتوهمات، التي عرض شيء منها حتى لبعض الصحابة، ففقه السيدة عائشة تبرز فيه قواعد منهجية أصولية مقاصدية، نحن في أمس الحاجة إلى تفعيلها.
** تحدثتم في بعض الملتقيات العلمية والحوارات الصحفية أنكم تأملون في تخفيض 20 بالمائة من المحرمات في الفقه الإسلامي حتى يصل إلى الاعتدال؛ فلماذا؟
- هذه حكاية يطول شرحها، ويُخشى من سوء فهمها ومن سوء استغلالها، ومفادها باختصار، هو أن الفقه الإسلامي -في نظري- سادت فيه شيئا فشيئا نزعات متعددة، تلتقي في المبالغة في الأخذ ببعض القواعد التشريعية، كقاعدة الاحتياط في الدين، وقاعدة سد الذرائع، وقاعدة اتقاء الفتنة، وقاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غُـلِّـب الحرام. وبغض النظر عن الرقم 20 أو 10 بالمائة أو غير ذلك، فإن هذه المبالغة قد أعطت قدرا كبيرا من التحريمات والتشديدات الاحتياطية، التي يمكن إسقاط أكثرها عند الغربلة والتمحيص المتوازن المتحرر من هاجس الاحتياطات.
المصدر:
http://www.onislam.net/arabic/fiqh-a-tazkia/fiqh-papers/8084/92036-2007-04-14 10-51-07
حسن الأشرف
الرباط- أكد الفقيه المغربي د. أحمد الريسوني أن الفقه الإسلامي قد سادت فيه نزعات تميل إلى المبالغة في التشديد، ما تسبب في اتساع مساحة المحرمات عند البعض تحت دعوى سد الذرائع، والاحتياط في الدين وغيرها، وطالب الريسوني بإسقاط الكثير من تلك المحرمات استنادا إلى مقاصد الشريعة العليا.
جاء ذلك في حوار خاص لشبكة إسلام أون لاين.نت، انتقد فيه الريسوني من يعطلون النصوص باسم المصالح والمقاصد، بذريعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألغى سهم المؤلفة قلوبهم.وأوضح الريسوني أن علم المقاصد بالنسبة للشريعة هو بمثابة الروح للجسد، مشددا على أن الشريعة التي تسقط مقاصدها أو تغفلها إما شريعة محرفة، وإما شريعة ميتة.
وفي الحوار، أفكار "ريسونية" كثيرة لعلها تفتح أمام القارئ والمهتم العديد من أبواب التفكير والتأمل والردود.
المقاصد روح الأعمال
** بداية، باعتباركم أحد العلماء والباحثين في علم المقاصد؛ ما مدى أهمية هذا العلم بالنسبة لواقعنا كمسلمين؟- أهمية المقاصد بالنسبة للشريعة ونصوصها وأحكامها، هي أهمية الروح للجسد، فمقاصد الشريعة هي روحها، ومقاصد النصوص هي روحها، ومقاصد الأحكام هي روحها، وأنا أستوحي هذا المعنى من كلمة الإمام الشاطبي "المقاصد أرواح الأعمال".
فالشريعة إذا أُُغفلت مقاصدها، أو أسقطت مقاصدها، أو حُرفت مقاصدها، أو لم تؤخذ مقاصدُها بعين الاعتبار، تكون إما شريعة محرفة -ولو بدون قصد- وإما شريعة باهتة أو شبه ميتة، وإما جامدة عاجزة.
وفي جميع الحالات تكون غيرَ الشريعة الحقيقية التي أرادها الله، فكل من يُسلّم أن الشريعة لها مقاصد وغايات، ولها حِكَم وأهداف، فيجب عليه -قدر استطاعته- أن يفكر فيها، وأن يبحث عنها، وأن يتفقه فيها، وأن يعمل بمقتضاها، فالمقاصد يجب الأخذ بها في العلم والعمل معا، وإن كان الأخذ بها في العلم أهم وآكد؛ لأن على العلم ينبني العمل وعليه ينبني الاجتهاد والفتوى، فالعمل تابع للعلم وللعلماء، فإذا اهتم العلماء بالمقاصد، وتفقهوا في المقاصد، وبنوا فقههم وفتاواهم واجتهاداتهم وتوجيهاتهم على المقاصد، كان الدين بخير، وكانت الدنيا –أيضا- بخير. مثلا، "الزواج الأبيض" الذي انتشر اليوم بين كثير من شباب المسلمين المقيمين في الغرب أو الراغبين في الذهاب إليه، ويجدون من يسوِّغه لهم، وهو مجرد تحايل وتلاعب بأحكام الشريعة وتـحريف لها وإبطال لمقاصدها، فهكذا تصبح الأحكام إذا جردت من مقاصدها.
** هل معنى هذا أن فقهاء المقاصد هم الفقهاء الحقيقيون وليس فقهاء النصوص؟
- بالنسبة إليّ، فقيه النصوص وفقيه المقاصد شيء واحد، فلا يكون الفقيه فقيها حتى يَفْـقه النصوص بمقاصدها، فليس هناك فقه للنصوص بدون مقاصدها، كما ليس هناك فقه للمقاصد بدون نصوصها.
فالذي يزعم المقاصد بدون نصوص، يقال له: من أين لك هذا؟ ومن أتانا بمقاصد بلا نصوص نقول له: هذه مقاصدك أنت لا مقاصد الشريعة. وأما من يأتينا ويحتج علينا بنصوص دون مقاصد، فهذا يقال له: قف، لست بفقيه، وإنما أنت حافظ، وراوٍ، ورُبَّ حافظ راوية لا فقه معه، ورُبَّ حاملِ فقه ليس بفقيه، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
وقد نبه الإمام الغزالي على أن بعض العلماء الحفاظ قد يوصف أحدهم فيقال "فلان من أوعية العلم"، وهي إشارة مهذبة إلى كثرة حفظه وقلة فقهه، فهو صاحب نصوص وروايات محفوظة، ولكنه ضعيف الفقه لأحكامها وحِكَمها.
وقد ذهب إمام الحرمين الجويني –وغيره- إلى أن الظاهرية ليسوا فقهاء وليسوا مجتهدين، وخلافهم -كالعوام- لا يؤثر في انعقاد الإجماع، فلا يكمِّله إن كان ناقصا، ولا ينقص منه إن تم بدونهم؛ لأن منتهى فقههم هو استظهار النصوص وشرحها شرحا لغويا ظاهريا.
تفسير ظاهري
|
** الذين يفقهون النصوص بمعزل عن المقاصد يسقطون في حرفية الفهم والأخذ بظواهر النصوص، ما نتج عنه مثلا حسب هذا النوع من الفقه: إسقاط الزكاة عن أموال الصناعات، وبعض الأنشطة التجارية الضخمة بحجة أن النصوص لم تذكرها، والإصرار على إخراج زكاة الفطر من الأطعمة، وتحريم التصوير"الفوتوغرافي"، ماذا يمكنكم قوله حول مثل هذه المواقف والنتائج التي يصل إليها أصحاب هذا الفقه؟
- أولا، أنا لا أقول: "الذين يفقهون النصوص بمعزل عن المقاصد"، ولكن أقول: الذين يستعملون النصوص بمعزل عن المقاصد، بمعنى أنهم لا يفقهون النصوص حقيقة، وإذا فقهوها فعلا، فهم لا شك يكونون قد استحضروا مقاصدها، فالفقه -كما قلت قبل قليل- لا يكون فقها حقيقيا إلا باستحضار المقاصد ومعرفتها، وبدون مقاصد لا يكون الفقه فقها ولا الفقيه فقيها، إلا بالمعنى العُـرفي أو المدرسي أو المهني.والأمثلة التي أشرتَ إليها، هي فعلا نماذج من التفسير الظاهري السطحي لبعض نصوص الشريعة الغراء، وهي منه براء، وهي تفسيرات يرددها -في الغالب- بعض من يحفظون متونا لا يعرفون نطاقها ولا سياقها، أو بعض الوعاظ والمفتين المبتدئين؛ أما العلماء الذين تدور عليهم الفتوى في هذا العصر -كالعلامة القرضاوي وكثيرين غيره- فلهم اجتهاداتهم الرشيدة والسديدة في هذه الأمور.
** هل صحيح ما يقال: إن علماء الغرب الإسلامي هم رواد علم المقاصد؟
- لقد أسهم علماء الغرب الإسلامي إسهامات نوعية في مسيرة الفكر المقاصدي، سواء قبل الإمام الشاطبي أو بعده. ومنهم القاضي أبو بكر ابن العربي، وابن بطال شارح صحيح البخاري، وابن رشد، وابن خلدون. ومن المعاصرين: ابن عاشور، وعلال الفاسي، وقبلهما العلامة الشيخ ماء العينين بن مامين الشنقيطي المغربي، الذي كان رائدا وسباقا إلى التعريف بالشاطبي وبفكره وبكتابه (الموافقات)، فبمجرد أن اكتشفه في أوائل القرن العشرين، بادر رحمه الله إلى نظمه، لتسهيل حفظه وتداول مضامينه، وسمى منظومته (موافق الموافقات)، ثم لم يلبث أن قام بشرح النظم شرحا مختصرا بعنوان (المرافق على الموافق) وطبع بفاس سنة 1924.
ومنهم كذلك الفقيه المقاصدي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، فهؤلاء وأمثالهم، قدموا فعلا خدمات جليلة ومتميزة في مجال الدراسات المقاصدية تنظيرا وتطبيقا. وهذا لا ينفي الريادة المبكرة والتأسيسية لعدد من علماء المشرق؛ كالجويني، والغزالي، وابن عبد السلام، والقرافي، وابن تيمية، وشاه ولي الله الدهلوي، وغيرهم ممن قبلهم أو بعدهم.
وعلى كل حال، لا ننسى أن مقاصد الشريعة جزء لا يتجزأ من فقه الشريعة ومن كل نظر سليم في أحكامها ومنظومتها التشريعية؛ فالشريعة الحقيقية -كما يقول ابن القيم- مصلحة كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، وعدل كلها، فهذه هي الشريعة التي عليها عامة العلماء الراسخين والفقهاء المعتبرين، مشارقة ومغاربة، قدماء أو محْـدَثين.
** ما آليات تنزيل علم المقاصد في حياتنا المعاصرة، خاصة في المجالات المتقلبة، كالمجالين السياسي والاقتصادي، وبالذات مع وجود إكراهات جمة في هذين البابين معا؟
- الآليات التي تسأل عنها توجد كلها تحت كلمة واحدة، هي الاجتهاد، فالآليات يعرفها المجتهدون، ويمتلكها المجتهدون، ويحسن استعمالها المجتهدون، وقد لخص الإمام الشاطبي شروط الاجتهاد ومؤهلاته في صفتين هما: فهم المقاصد على كمالها، والقدرة على الاستنباط من خلالها. ثم بين رحمه الله أن الاجتهاد حينما يتعلق بالمصالح والمفاسد، فإنه يحتاج إلى الخبرة والدراية -بصفة أساسية- بتلك المصالح وتلك المفاسد، في ذاتها وحقيقتها. ومعلوم أن معظم الاجتهادات السياسية والاقتصادية هي اجتهادات في تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وتدبيـر أفضل الطرق لتحصيل الأولى وتكثيرها، وتعطيل الثانية أو تقليلها، وهنا تأتي ضرورة الاجتهاد الشوري الجماعي الذي يضم الفقهاء والخبراء الدارسين والممارسين، فهذه هي أرقى آليات الاجتهاد، وهي أرقى الضمانات لتنزيل فقه المقاصد بلا إفراط ولا تفريط.
مقاصد استعمارية
** ـ د. ريسوني، هناك من غالوا بفقه الواقع، وصاروا يضعون مرتبته فوق مرتبته العلمية اللائقة، حتى إنهم اعتبروا كل من يفهم حيثيات واقع المسلمين اليوم فقيها في الكتاب والسنة. كما أن هناك من قصر في هذا الفقه وأهمل مراعاته.. ما رأيك في القسمين معا؟ ثم ما هي أوجه التوازن الذي يجب إقامتها بينهما على مستوى التنزيل على الواقع الحالي؟
- لا شك أن معرفة الواقع بصفة عامة، وفقه الواقع الذي نجتهد فيه ونجتهد له بصفة خاصة، هو شرط ضروري من شروط الاجتهاد الصحيح السديد؛ ولكن فقه الواقع وحده، إنما يسمح لصاحبه أن يصف ذلك الواقع ويحلله ويقومه، أما أن يعطيه، أو يعطي عنه حكما شرعيا، فهذا لا سبيل إليه بدون علوم الشريعة ونصوصها وأحكامها ومقاصدها؛ فعلوم الشريعة هي أركان العملية الاجتهادية، ومعرفة الواقع شرط في صحة التطبيق والتنزيل، والشروط وحدها بدون أركان لا تنتج شيئا ولا ينبني عليها شيء؛ فمثلا: الصحفيون اليوم هم أكثر الناس معرفة بالواقع، فهم فقهاء الواقع الممتازون، فهل يصبحون فقهاء ومفتين ومجتهدين في الدين بمجرد فقه الواقع دون فقه الشريعة وعلومها؟!** كما تعلم، البعض ممن يدعون إلى تطبيق فقه الواقع لصالح المجتمع والأمة يبالغون فيه إلى درجة تمييع الدين -أصولا وأحكاما- بحجة المعاصرة والمعايشة.. إلى آخره، فكيف تقرؤون مآلات هذا الفهم الفقهي الذي يدعي المعاصرة وموافقة الواقع؟ وهل لكم أن تدلوا لنا ببعض الأمثلة الواقعية في هذا الباب؟
- أعيد التذكير والتأكيد أن المعنى الصحيح لمصطلح "فقه الواقع"، إنما هو معرفة الواقع والخبرة بشؤونه وأحواله على ما هي عليه، وهو مصطلح وُضع بجانب مصطلح "فقه الدين"، ليكون مكملا له ومعينا عليه، لا بديلا عنه. ولكن البعض يفهمونه على أنه صنف جديد من الفقه، يجب أن يحل محل الفقه القديم، وفقه الواقع عند هؤلاء -أو عند بعضهم- هو الفقه الذي يخضع للواقع ولا يصادمه، بل يواكبه بفتاوى التسويغ والتأييد والقبول والترحيب، وهذا في الحقيقة ليس من الفقه في شيء، وليس من الاجتهاد في شيء، أو هو -إن شئت فقل عنه- فقه نفي الشريعة، أو هو اجتهاد في إقصائها وإلغائها.
أتذكَّـر أننا التقينا (أظن في سنة 1999) مع وزير مغربي حداثي جدا، وناقشنا معه دعوته وحملته لإلغاء عدد من الأحكام الشرعية في مجال الأسرة، عملا بمقتضى المرجعية الأممية كما يقولون، وقلنا له: علينا أن نأخذ أيضا بمرجعيتنا الإسلامية. فقال: نعم لكن مع الاجتهاد لتـتوافق مع المرجعية الأممية ومع متطلبات الحداثة. ففهمنا يومها أن دعوة هؤلاء للانفتاح وللاجتهاد، معناها الوحيد: هو القبول والتسليم بما يأتينا من الغرب، مع الاجتهاد -نعم الاجتهاد- في إزالة "العوائق الدينية" من أمامه، وفي ذلك فليجتهد المجتهدون، ولأجل ذلك يستدعون "فقه الواقع"، وبهذا المعنى يرحبون بالمقاصد، وهذه في الحقيقة "مقاصد الشريعة الاستعمارية" -حسب تعبير علال الفاسي- وليست مقاصد الشريعة الإسلامية.
** ألا يخشى، دكتور أحمد، أن يجرنا الرضا بفقه الواقع والتمسح بعتبته إلى ولوج أبواب السياسة المعاصرة، حيث يسود الظلم العالمي الجديد؟
- نعم، فليكن. يجب علينا "ولوج أبواب السياسة المعاصرة، حيث يسود الظلم العالمي الجديد"، نعم ((ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ)) [المائدة:23]. أما الرضا فلا.
فمن الواقعية أن ندخل جميع الأبواب التي تفتح لنا، وأن نعمل على فتح الأبواب الأخرى الموصدة في وجوهنا. ويجب أن ندخل بالخصوص إلى حيث يسود الظلم، القديم أو الجديد. بل لماذا ندخل أبوابا ليس فيها ظلم؟ ماذا سنفعل فيها؟ الإسلام رسالة، وأهله أهل رسالة، ورسالة الإسلام الدائمة هي ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) [الحديد:25]. فحيث زال القسط أو اختل القسط، فيجب أن ندخل ونتدخل ونبذل جهدنا ونقدم ما عندنا.
طبعا لا ينبغي ولا يجوز أن نلتحق بالواقع وننخرط فيه كما تفعل السواقي والروافد في النهر العظيم المتدفق؛ تذوب فيه وتفنى، وتقويه وترفع من هديره، وربما تسهم في فيضانه وزيغانه.
يجب أن نتفاعل ونتعارك ونتحاور ونتدافع مع الواقع، ليس فقط بنوع من النِّدِّية، بل بنوع من الاستعلاء، الاستعلاء المتواضع المحب للخير والنفع (الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله). إن ضعف المسلمين لا ينبغي أن يحجب عنا قوة الإسلام. وإذا كان الغرب يغزو المسلمين في عقر ديارهم، فإن الإسلام يغزو الغرب في عقر دياره، يا للمفارقة!!
المقاصد تعطل النصوص!!
- ما فعله عمر عدل وشرع، وما قاله ابن القيم حق وصدق، وفي كل منهما تطبيق للنصوص وتحقيق لمقاصدها.
فسهم (المؤلفة قلوبهم) هو أحد الأسهم الثمانية لمستحقي الزكاة، ولا شك أن الأصناف المستحقين للزكاة، إنما يستحقونها ويُعطَوْنها لأسباب ولصفات يتصفون بها، ولمقاصد تتحقق بأخذهم لها، وهذه الأسباب والصفات والمقاصد قد تزول وتتغير أو تنتهي، فمثلا حينما يكون عندنا فقير مسجل في قائمة المستحقين للزكاة، ثم نعلم أنه قد استغنى أو اغتنى، فإننا نحذفه من القائمة حتى لو كان هو ما زال يطالبنا بالزكاة ويظن نفسه مستحقا لها، وكذلك يقال في سائر الأصناف، واليوم مثلا اختفى نهائيا صنف (وفي الرقاب)، واختفى تقريبا صنف (العاملين عليها).
في زمن البعثة المحمدية، كان كثير من الزعماء يرون الإسلام مهدِّدًا لمكاسبهم وامتيازاتهم وأرزاقهم، فكانوا ينضمون لمحاربته لهذا السبب (إسلاموفوبيا)، فأفهمهم الإسلام أنه لا ينزع من أحد مكانة ولا زعامة ولا ثروة، وإنما يمنعهم فقط من الغصب والظلم والتسلط بغير حق؛ وتشجيعا لهم على الاطمئنان والاقتراب من الإسلام لفهمه وفهم مقاصده ومكاسبه، وأيضا لتقليل الخصوم والمحاربين للدين الناشئ الفتي، جعل سهما من أسهم الزكاة لهؤلاء (المؤلفة قلوبهم)، فاقتربوا فعلا من الإسلام واندمجوا في المسلمين، وتبين لهم الرشد من الغي والحق من الباطل، وأخذوا حقوقهم وزيادة.
ثم إن الإسلام قد ثبَّت وجوده وقوته بصفة نهائية وأبدية، فكان لا بد من الفطام، فقد انتهى زمن المؤلفة قلوبهم وانتهت دواعي هذا التأليف، فـلْـينْـتَـهِ سهم (المؤلفة قلوبهم)، مثلما كان لا بد -بعد ذلك- أن ينتهي زمن الرق بانتهاء أسبابه ودواعيه، وينتهي معه سهم (وفي الرقاب).
لقد كان في المجتمع الإسلامي الأول عدة فئات وأوضاع مؤقتة، أعطيت لها أحكام خاصة، كفئة المؤلفة قلوبهم، وفئة أهل الصُّـفَّـة، وفئة الطلقاء، وفئة الأرقاء، وفئة المنافقين.. وهؤلاء جميعا انتهوا أو انتهت خصوصياتهم الظرفية، فكان لا بد أن تنتهي الأحكام الظرفية الخاصة بهم.
وهذا من قبيل ما يطلق عليه الأصوليون مصطلح "زوال محل الحكم"، فإذا زال محل الحكم فلا يصح أن نضع الحكم في غير محله وفي غير ما وضع له، وهذا ما أدركه عمر رضي الله عنه فعمل بمقتضاه، ووافقه عليه الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم.
فما فعله عمر ليس من تعطيل النصوص، بل هو صميم فقه النصوص، وهو من باب وضع النصوص في مواضعها، ومن باب تجنب وضعها في غير مواضعها.
أما قولة ابن القيم، فعليها جماهير العلماء والفقهاء قديما وحديثا، فكلهم يقولون: "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله"، وهذا معناه أنك متى وجدت مصلحة حقيقية، خالصة أو راجحة، فاعلم أن شرع الله يريدها ويطلب تحصيلها وتنميتها وصيانتها، وأنه كذلك يكره تفويتها أو إتلافها أو التفريط فيها، ومتى وجدت مفسدة أو مضرة حقيقية، خالصة أو راجحة، فاعلم أن الشرع يكره اقترافها أو بقاءها أو السعي فيها، ويريد ويطلب رفعها وتجنب سبيلها، فهذا هو معنى أن شرع الله يوجد حيث توجد المصلحة، وهذا ما دلت عليه نصوص لا تحصى.
على أن المصلحة المتحدث عنها هنا، ليست أهواء وشهوات ونزوات، وليست بالضرورة هي ما يُعتبر مصلحة عند أرباب البنوك والشركات العابرة للقارات أو العابرة للمحرمات، وليست هي المصلحة كما يراها -مثلا- مكيافيلي وأتباعه. المصلحة المتحدث عنها هي التي تتوافق مع الشرع ومقاصده ومعاييره وأولوياته.
** سبق لكم أن أبديتم أكثر من مرة إعجابكم الكبير بفقه السيدة عائشة رضي الله عنها، ما مرد هذا الإعجاب؟ وهل ترى صلاحية تطبيقات فقهها رضي الله عنها في عالمنا اليوم؟
- السيدة عائشة رضي الله عنها، هي واحدة من أئمة المسلمين وفقهائهم الكبار، ولو أنها عاشت في عصر التدوين والتصنيف، لحجبت أو تقدمت كثيرا من الأئمة الكبار في الحديث والفقه والتفسير ومقاصد الشريعة. وإعجابي بها هو إعجاب بكل ما وصلَنا من علمها وحصافة رأيها، ومن ذكائها وفكرها النقدي، ومن تمسكها بكليات الشريعة وقطعياتها في مواجهة بعض التسربات والتوهمات، التي عرض شيء منها حتى لبعض الصحابة، ففقه السيدة عائشة تبرز فيه قواعد منهجية أصولية مقاصدية، نحن في أمس الحاجة إلى تفعيلها.
** تحدثتم في بعض الملتقيات العلمية والحوارات الصحفية أنكم تأملون في تخفيض 20 بالمائة من المحرمات في الفقه الإسلامي حتى يصل إلى الاعتدال؛ فلماذا؟
- هذه حكاية يطول شرحها، ويُخشى من سوء فهمها ومن سوء استغلالها، ومفادها باختصار، هو أن الفقه الإسلامي -في نظري- سادت فيه شيئا فشيئا نزعات متعددة، تلتقي في المبالغة في الأخذ ببعض القواعد التشريعية، كقاعدة الاحتياط في الدين، وقاعدة سد الذرائع، وقاعدة اتقاء الفتنة، وقاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غُـلِّـب الحرام. وبغض النظر عن الرقم 20 أو 10 بالمائة أو غير ذلك، فإن هذه المبالغة قد أعطت قدرا كبيرا من التحريمات والتشديدات الاحتياطية، التي يمكن إسقاط أكثرها عند الغربلة والتمحيص المتوازن المتحرر من هاجس الاحتياطات.
المصدر:
http://www.onislam.net/arabic/fiqh-a-tazkia/fiqh-papers/8084/92036-2007-04-14 10-51-07