رد: "خيار التصرية" بين مذهب الجمهور، وبين مذهب الحنفية
السلام عليكم
مسألة الخيار في المصراة: روى البخاري (2148)، ومُسلم (3890) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع التمر.
والمصراة: هي الناقة أو البقرة أو الشاة التي يُصّرَّى اللبن في ضَرْعها، أي يُجمع ويُحبس فلم يُحلب أيامًا. وهي مأخوذة من التصرية، وأصل التصرية حبس الماء، يُقال: صريت الماء إذا حبسته. والمعنى: جمع اللبن وحبسه في ضرع الحيوان بفعل البائع ليكبر الضرع، فيغتر المشتري بذلك ويشتريها ظنًّا منه أن عظم الضرع لسبب كثرة اللبن كثرة طبيعية، وهو منهي عنه شرعًا.
قال الشافعي: هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. اهـ. راجع: فتح الباري (4/ 362)، والنهاية (3/ 28).
واختلف الفقهاء فيمن اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم بأنها مصراة ثم علم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف: هو بالخيار بين أن يُمسك وبين أن يردها بالعيب، فإن ردها رد معها صاعًا من تمر. وقال أبو حنيفة ومُحمد بن الحسن: ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب.
جاء في الفقه على المذاهب الأربعة: أن الشافعية- قالوا: إذا اشترى المصراة فحلبها فإن له ردها مع رد صاع من تمر معها. وكذا إذا استهلك لبنها بغير الحلب كأن ترك ولدها يرضعها. وإذا علم أنها مصراة قبل أن يتلف لبنها فإن له ردها بدون أن يكون ملزمًا برد شئ معها: كما لا يلزم برد صاع التمر بخصوصه إذا اتفق المتعاقدان على غيره فيصح أن يرد بدل اللبن نقودًا أو برًا أو غيرهما مع الاتفاق. واللبن الذي يجب معه الرد هو لبن مأكول اللحم، أما لبن غيره كالأتان فإنه لا يرد بدله. وإن كانت التصرية عيبًا فيه يرد به. وكذا لا يرد بدل القليل التافه، وإذا كرر حلبها فإنه لا يلزم إلا برد صاع واحد، نعم إذا كانت الناقة أو الشاة ملكًا لشركاء متعددين، أو اشتراها شركاء فإن لكل واحد من البائعين صاعًا، وعلى كل واحد من الشارين صاعًا. اهـ.
والمالكية- قالوا: إذا اشترى المصراة فحلبها فإن له ردها بشرط أن يرد معها صاعًا من غالب قوت بلده، ولا يشترط رد صاع التمر بخصوصه، ويحرم أن يرد اللبن فقط، إنما له رده مع رد الصاع. وكذا يحرم رد بدل الصاع من نفوذ أو غيرها. وإذا لم يحلبها ثم علم بأنها مصراة فله ردها بدون أن يلزم بالصاع. واللبن الذي يجب معه الرد هو لبن مأكول اللحم، أما غير مأكول اللحم فإنه لا يجب معه رد الصاع وإن كان يرد نفس الحيوان بالتصرية لأنها عيب فيه. وإذا كرر حلبها فلا يرد إلا صاعًا واحدًا ما لم يدل تكرار الحلب على الرضا، وذلك كأن يحلبها لينتفع بلبنها. أما إذا حلبها لاختبارها مرة أخرى فإنه يدل على الرضا، وإذا حلبها مرة ثالثة فإنها تدل على الرضا إلا إذا ادعى أنه حلبها الثالثة ليختبرها، لأن الحلبة الثانية لم تكف في اختبارها ولكن عليه اليمين. فإذا حلبها بعد الثالثة كان ذلك رضًا قولًا واحدًا. وإنما يعتبر تكرر الحلبات ثلاثة أو أقل إذا حلبها في مواعيد حلبها، فإذا حلبها في يوم واحد ثلاث مرات وكانت عادتها حلبتين حسب له اثنان فقط. وإذا اشترى من بائع واحد شياهًا متعددة في عقد واحد فوجدها مصراة كلها فإن له ردها، وعليه أن يدفع على كل واحدة حلبها صاعًا على الأرجح.
والحنابلة- قالوا: إذا اشترى المصراة فإن له ردها بذلك العيب وعليه أن يرد معها صاعًا من تمر عملًا بالحديث المذكور، ويسمون هذا خيار التدليس.
والحنفية- قالوا: إذا اشترى المصراة فليس له ردها بذلك العيب مطلقًا، وإنما له المطالبة بالتعويض عما نقص من قيمتها بذلك العيب. ويقولون: إن الحديث الوارد في ذلك وإن كان صحيحًا في ذاته ولكن يُعارضه شئ واحد آخر، وهو أن القياس الثابت بالكتاب والسنة والإجماع قد دل على أن ضمان العدوان يكون بالمثل أو القيمة، وفي مسألة المصراة قد تعدى البائع بالتصرية تغريرًا بالمشتري فعليه أن يضمن قيمة النقص الحاصل بالعيب. أما المشتري فلم يتعد بالحلب، وعلى فرض أنه تعدى فإنه يلزم بقيمة اللبن أو مثله، والتمر ليس واحدًا منهما، فكان الحديث مُخالفًا للقياس فلم يُعمل به. وقال أبو يوسف: إنها ترد ويرد معها قيمة اللبن.
وراجع: الفقه على المذاهب الأربعة (2/ 182).
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (6/ 397): إذا حلب المصراة ليس له ردها عندنا، وهل يرجع بالنقصان؟ في رواية الكرخي: لا، وفي رواية شرح الطحاوي: يرجع لفوات وصف مرغوب فيه بعد حدوث زيادة منفصلة. وقيل: لو اختيرت هذه للفتوى كان حسنًا لغرور المشتري بالتصرية، ولو اغتر بقول البائع هي حلوب فتبين خلافه بعد الولادة يرجع فكذا هنا. اهـ. وراجع: شرح معاني الآثار (4/ 19)، والمبسوط (13/ 38).
وقال النووي في روضة الطالبين (3/ 466)، والمجموع (11/ 198): يثبت بالتصرية الخيار للمشتري، وفي خياره وجهان: أصحهما أنه على الفور. والثاني يمتد إلى ثلاثة أيام. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 104): من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها ثم علم، فله الخيار في الرد والإمساك. اهـ.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (18/ 202): اختلف العلماء في القول بحديث المصراة؛ فمنهم من قال به، ومنهم من رده ولم يستعمله، وممن قال به: مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل الحديث. ذكر أسد وسحنون عن ابن القاسم أنه قال لمالك: تأخذ بهذا الحديث؟ قال: نعم. وقال مالك: أَوَ لأَحَدٍ في هذا الحديث رأي. قال أبو عمر: ورده أبو حنيفة وأصحابه وزعم بعضهم أنه منسوخ وأنه كان قبل تحريم الربا، وبأشياء لا يصلح لها معنى إلا مجرد الدعوى، وقد روى أشهب عن مالك نحو ذلك، ذكر العتبي من سماع أشهب عن مالك: أنه سئل عن حديث المصراة فقال: قد سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطأ عليه، ولئن لم يكن ذلك: إن له اللبن بما أعلف وضمن. قيل له: نراك تضعف الحديث؟ فقال: كل شئ يوضع موضعه، وليس بالموطأ ولا الثابت وقد سمعته. قال أبو عمر: هذه رواية منكرة والصحيح عن مالك ما رواه ابن القاسم، والحديث عن أهل العلم بالحديث صحيح من جهة النقل. اهـ. وراجع: المدونة (3/ 3013)، والمنتقى شرح الموطأ (5/ 106).
وما حكاه ابن عبدالبر عن أصحاب أبي حنيفة صرح به الطحاوي كما في شرح معاني الآثار (4/ 19) فقال: ليس للمشتري رد المصراة بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب. وممن قال ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وذهبوا إلى أن ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منسوح فروى عنهم هذا الكلام مجملًا، ثم اختلف عنهم من بعد في ناسخ ذلك ما هو. اهـ. وراجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 726).
ثم حَكَى الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 20) عن عيسى بن أبان: أن ذلك كان في أول الإسلام حين كانت العقوبات في الذنوب يُؤخذ بها الأموال حتى نسخ الله الربا، يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن بيع المصراة، جعل عقوبة من يفعل ذلك أن يكون اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعًا كثيرة، ثم نُسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها، فلما كان ذلك كذلك، ووجب رد المصراة بعينها وقد زايلها اللبن، علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها، قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري، فلما لم يكن رد اللبن كله للمشتري إن كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاه التي قد ردها عليه بالعيب، وكان ملكه له إياه بجزء من الثمن إذا كان وقع به البيع، فلا يجوز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللين سالمًا له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بائعه بنقصان عيبها. اهـ.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 12): والذي قال عيسى من هذا يحتمل غير ما قال، إني رأيت في ذلك وجهًا هو أشبه عندي بنسخ هذا الحديث من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى، وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتري منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها، قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء، وحدث بعضه في ملك المشتري بعد الشراء، إلا أنه قد احتلبها مرة بعد مرة، فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعًا، إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه، وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضًا، وحكمه حكم الشاة؛ لأنه من بدنها هذا على مذهبنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها، جميع لبنها الذي كان حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة، وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه، فكان المشتري قد ملك لبنًا دينًا بصاع تمر دين، فدخل ذلك في بيع الدَّين بالدَّين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد عن بيع الدين بالدين، فنسخ ذلك ما كان تقدم منه، مما روي عنه في المصراة، مما حكمه حكم الدين. اهـ.
وقد رد بعض الحنفية هذا الحديث بدعوى مخالفته لقياس الأصول المعلومة، وما كان كذلك لم يلزم العمل به، إذا كان من رواية غير الفقه وانسد باب الرأي فيه، فالحديث عند هؤلاء مخالف للقياس من كل وجه، وأبو هريرة في نظرهم ليس من فقهاء الصحابة، وقد أنكر بعض الحنفية ذلك، ونازعوا في صحة هذه القاعدة، وذهبوا إلى عدم اشتراط فقه الراوي لتقديم الخبر على القياسم، وبينوا أن الحديث ليس مُخالفًا للقياس وشهدوا لأبي هريرة بالفقه والفضل.
والظاهر عند بسط التفصيل في هذه المسألة: أن فقه الراوي لم يكن مشترطًا عند الإمام أبي حنيفة لقبول الحديث، وإنما كان يستعمله كمُرجّح بين الأدلة، فيُقدم حديث الفقيه على حديث غيره عند التعارض، ولم يذكر الحنفية أمثلة لهذه القاعدة عدا مسألة المصراة وقد تباين أقوال الحنفية في تحديد السبب في رد أبي حنيفة لحديث المصراة، بناءً على موقفهم من هذه القاعدة، فمن أقرها ذهب إلى أن ترك الحديث كان لأجلها، ومن رفضها التمس سببًا آخر لرد الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 364): واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى: منهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مُخالفًا للقياس الجلي. وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته عنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر، والقهقهة في الصلاة، وغير ذلك، وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة، فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك، قال ابن السمعاني في الأحكام: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله؛ بل هو بدعة ضلالة. اهـ.
ورده بعضهم؛ لأنه مخالف لظاهر الكتاب في قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ) [البقرة: 194] وخبر الواحد لا يُخصص ظاهر الكتاب؛ لأن ذلك نسخ عندهم، والنسخ لا يكون إلا بالمتواتر أو السنة المشهورة.
ولم أر مسألة اضطربت فيها أقوال الحنفية كهذه المسألة؛ فبعضهم ادعى النسخ، والبعض رده؛ لأنه مخالف للقياس وراويه غير فقيه، والبعض الآخر لمخالفته ظاهر الكتاب، وهذا يدل على ضعف موقفهم تجاه العمل بهذا الحديث؛ ولذلك نجد أن بعض الحنفية خالف المذهب وأخذ بمذهب الجمهور كأبي يوسف وزفر وإليه مال السرخسي فقال كما في المبسوط (13/ 38): وبعد ما صحَّ الحديث فكل قياس متروك بمقابلته، مع أن الحديث موافق للأصول.
وذكروا وجوهًا كثيرة لمخالفة الحديث للأصول، لخصها الكوثري في النكت الطريفة ص(91) فقال: إنه اوجب الرد من غير عيب ولا شرط، وقدر الخيار بثلاثة أيام وإنما يتقيد بالثلاثة خيار الشرط، وأوجب الرد بعد ذهاب جزء من المبيع، وأوجب البدل مع قيام المبدل، وقدر بالتمر والطعام والمتلفات إنما تضمن بالمثل أو القيمة، وجعل الضمان بالقيمة مع أن اللبن مثلي، ويؤذي إلى الربا إذا كان ثمن المصراة بالتمر حيث يزيد صاعًا منه، كما يؤدي إلى الجمع بين العوض والمعوض. وهذه ثماني مخالفات تقضي بترك العمل بالحديث. اهـ.
وقد أجاب النووي عن دعوى النسخ بأنها دعوى بالاحتمال من غير دليل، وعن دعوى مخالفة الحديث لقياس الأصول بأن ما ورد النص به فهو أصل بذاته، ولا يعتبر فيه موافقه الأصول كالدية على العاقلة، والغرة في الجنين وغير ذلك، وليس إبطال أصل لمخالفته أصولًا أخرى بأَوْلَى من إبطال تلك الأصول لمخالفتها ذلك الأصل، والصواب العمل بها جميعًا، وترك القياسم من أجل خبر الواحد؛ لأنه أقوى منه.
ولهذا قال أبو حنيفة: إن القياس أن الأكل ناسيًا يفطِر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة: (إنما اطعمه الله وسقاه). وقَبِلَ أبو حنيفة خبر أبي فزارة في جواز التوضؤ بالنبيذ وخبر زاذان في إبطال المصلي بالقهقهة، مع أنهما خالفا القياس. راجع: المجموع شرح المهذب (11/ 198).
ثم أجاب جوابًا تفصيليًّا استوعب فيه جميع الوجوه التي ذكرها الحنفية لمخالفة الحديث للأصول والرد عليها، وبيَّن أن الحديث ليس فيه مخالفة للأصول، وممن اعتنى بذلك أيضًا الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 366)، فمن أراد الوقوف على تلك الوجوه والرد عليها فليرجع إليهما.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (18/ 209): وممن رد حديث المصراة أبو حنيفة وأصحابه، وهو حديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل، وهذا مما يعد وينقم على أبي حنيفة من السنن التي ردها برأيه وهذا ما عيب عليه، ولا معنى لإنكارهم ما أنكروه من ذلك؛ لأن هذا الحديث أصل في نفسه، والمعنى فيه والله أعلم على ما قال اهل العلم: أن لبن المصراة لما كان مغيبًا لا يوقف على صحة مقداره، وأمكن التداعي في قيمته وقلة ما طرأ منه في ملك المشتري وكثرته، قطع النبي صلى الله عليه وسلم الخصومة في ذلك بما حده فيه. اهـ.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 236): الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة؛ فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله، وكلام رسوله، وما عداهما فمردود إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام أحمد: إنما القياس أن تقيس على أصل، فأما أن تجئ إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس، فعلى أي شئ تقيس؟ ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد للأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة للأصول حتى رد. اهـ.
وكما نرى فإن مسألة المصراة من المسائل التي توجه بسببها النقد لمذهب أبي حنيفة، وعدها العلماء من مخالفته للحديث، وقد التمس أصحابه سببًا لذلك فتباينت أقوالهم وتضاربت، والذي يعينان في هذا المقام: أن دعوى مخالفة خبر المصراة للقياس، وأن راويه ليس فقيهًا فلا يقدم خبره على القياس، قول لبعض الحنفية وليس كلهم، وأن هذا القول قد انتُقد بشدة من الحنفية ومن غيرهم، مما يقوي أن اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس ليس من قواعد أبي حنيفة.
وللحديث تتمة فيما بعد إن شاء الله تعالى،،
والله أعلم.