قال رحمه الله :والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد
---
اختار الجويني هذا التعريف وهو جيد ووافٍ بالمقصود, والمشهور عند الأصوليين أن يعرف بأنه =العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية, ومرادهم من هذه القيود تسليط الضوء على معنى محدد بحيث يكون التعريف جامعا مانعاً, وسبق الكلام عن هذا..وبيانه :
(العلم) يشمل كل علم , من شرع وعلوم مادية كالهندسة والطبيعة,
(بالأحكام) أي بالأمور التي فيها حكم وهي التي يسند فيها خبر إلى مبتدأ أو فاعل إلى فعل ونحوها
فلو قال قائل :أعرب لفظ "الله" في قوله "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فالجواب :"الله" مفعولٌ به
فقولنا :مفعولٌ هو حكم نحوي,,وثم أحكام طبيّة..وأحكام طبعية..وغير ذلك,,فلهذا قيدوا أكثر فقالوا :
(الشرعية) ليخرجوا ما سوى المتعلق بالشرع..فلما كانت علوم الشريعة فيها العقائد وغيرها قالوا:
(العملية) أي المتعلقة بالأعمال من صلاة وصيام وحج ومعاملات ونحوها..لا المتعلقة بمسائل العقيدة
ولما كانت هذه الأمور منها ماهو معلوم بالضرورة بحيث لا يجهلها أحد كحكم الخمر مثلا,وكان الفقه عند من اختار هذا التعريف مختصاً بالأمور التي فيها إعمال للذهن في الأدلة توصلا بذلك للحكم الشرعي عن طريق الاستنباط,
قالوا (المكتسب) أي المتحصل عبر الاجتهاد, ثم هم يعنون أيضاً بقولهم المكتسب أموراً أخرى منها:-
-أن يخرجوا علم الله تعالى..وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم..ونحو ذلك..والقصد:أن علم الله ورسوله من جنس آخر
فالله تعالى علمه أزلي وليس باجتهاد..والرسول علمه الله تعالى بالوحي,فهذا كما ترى فيه نوعُ تكلف بسبب تأثرهم بمسألة الحدود عند المناطقة..ودعني أذكرك بما سبق من أن الحدود إنما يستفيد منها المبتدئون لتصور كُنه الشيء, فتعجب حينئذ من الجدل الطويل في رسم هذه التعاريف ,فيرد بعضهم على بعض وكل ينقض تعريف الآخر ويبين معايبه..مع أنك لو جئت لعامي وقلت له :الفقه عند الأصوليين هو أمور الصلاة والزكاة وأحكام الزواج والمعاملات ونحوها..والعقيدة هي أمور التوحيد والإيمان بالغيب ونحوها..لكان عنده تصور كاف شاف
أما الجويني فقال :معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد..
التعليق على تعريفه:-
-عبر بالمعرفة دون العلم, لأن المعرفة عنده تعني العلم المسبوق بجهل (وفيه نظر من جهة اللغة )
فكأنه بذلك اختصر التعريف السابق فأبدل بقولهم "العلم ..المكتسب" قوله :معرفة, لأن العلم إذا سبقه جهل ,فهو يتطلب اكتساباً
-وقال "التي طريقها الاجتهاد" أي المعرفة المتحصلة عن طريق إعمال العقل في النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام
إما حرام أو حلال أو واجب أو مكروه أو مستحب
-تخصيصه الفقه بأنه ماكان عن طريق الاجتهاد يشبه مدلول الفقه عند الصحابة باعتبار وصف المؤهل لهذا الاجتهاد , ويدل عليه ما جاء في البخاري لما أنكر أحدهم فعل معاوية قدام ابن عباس رضي الله عنهم فقال : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة ! قال ابن عباس : إنه فقيه ,فهذا الاستعمال يدل على أن معاوية من أهل الفقه والنظر , ومن هنا اختار الراغب الأصفهاني لمعنى الفقه في اللغة :فهم دقائق الأشياء, لكن الأولى أن الفقه كعلم إذا كان يشمل ما دق مأخذه واحتاج لنظر واجتهاد فمن باب أولى أن يشمل الواضح, وثم فرق بين تسمية الشيء فقهًا, وبين وصف المرء بأنه فقيه
فكما أن وضع ضماد صغير على جرح يسير من الطب, لكن ليس كل من أحسنه يسمى طبيباً
فكذلك معرفة الضروريات مشمولة في علم الفقه وليس من كل عرفها يسمى فقيهاً
-وفي المقابل فإن استعمال الصحابة لهذا اللفظ أعلم من جهة أنهم لم يخصوه بأحكام عملية..بل كل من تبحر في الشريعة إلى حد معين صار فقيها عندهم..وهذا مغاير لعرف المتأخرين لاسيما الزمن المعاصر, ولا مُشاحة في الاصطلاح