رد: حمل: طرق الكشف عن مقاصد الشارع (دكتوراة) - د. نعمان جغيم - pdf
المقدمة:
من المتفق عليه بين العلماء المسلمين أن الأحكام الشرعية إنما شُرعت لتحقيق مقاصد سامية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، وأنه ينبغي على المجتهد تحرّي هذه المقاصد في ممارسته الاجتهاد، والإفتاء على مقتضى ما يوافقها ويخدمها.
ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم في حاجة إلى تدوين علم أصول الفقه وضبط مباحثه والكتابة في مقاصد الشريعة والبحث فيها، وذلك لأمرين:
الأول:
أنهم عايشوا طور التشريع، وليس من عايش كمن سمع، فمعايشة صدور النص التشريعي يعني معايشة المقام الذي صدر فيه ذلك النص والظروف والملابسات التي أحاطت به، وذلك يكاد يكون كافيّاً في إدراك مقصد الشارع من ذلك النص أو الفعل النبوي، وتظهر أهمية المعايشة في خفاء مقصد الشارع من بعض النصوص وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يعايشها منهم، ولكن من كانت حاله كذلك منهم كان يتدارك الأمر بالاستفسار ممن شهد وعايش، ومن أخطأ منهم في فهم مقصد من المقاصد بسبب غياب عنصر المشاهدة، استدرك عليه من شهد ذلك كما هو معلوم فيما استدرك الصحابة بعضهم على بعض.
الثاني:
سلامة اللسان وسعة الاطلاع على مقاصد العرب من كلامها.
فإن أشكل عليهم أمر بعد هاتين الميزتين لجؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم للاستفسار منه.
وكذلك كان التابعون لِمَا وَرِثُوهُ من علم الصحابة، فضلاً عن أنهم كانوا ما زالوا على قدر كبير من سلامة اللسان وصفاء القريحة، فأحاطوا بكليات الدين ومبادئه العامة ومقاصده الكلية، وإن غاب عن بعضهم شيء من نصوص السنّة أو لم يصلهم من طريق تصحّ به الرواية.
ولَمَّا اتسعت رقعة الإسلام وبدأ يظهر فساد في اللسان وضعف في القريحة، ظهرت الحاجة إلى ضبط قواعد فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، وهو الذي جُمِع بعد ذلك فيما اصطُلِح عليه بعلم أصول الفقه، وكان متضمناً لأهم الأسس والقواعد التي تُدْرَكُ بها مقاصد الشارع من خطابه. وقد أعطى ذلك مع ما شهدته تلك الفترة من ازدهار في حركة التدوين دفعاً قويّاً للعلوم الشرعية لتعيش بعد ذلك قروناً من الازدهار نَبَغَ فيها عدد كبير من العلماء في شتى العلوم.
وجاء عصر الجمود الذي اتّسم بفساد في اللسان، وضعف في الهمم، وقلة من تأهّل للاجتهاد، وفشوّ التقليد المشوب بالتعصب المذهبي، وكان من مساوئ ذلك شيوع الحيل الفقهية التي كانت في أصلها مخارج شرعية، وتلك علامة ظاهرة على الانحراف عن مقاصد الشارع من أحكامه وغياب تصور واضح للكليات الشرعية،
وفي ذلك يقول محمد الطاهر بن عاشور:
"كان إهمال المقاصد سبباً في جمودٍ كبيرٍ للفقهاء ومعولاً لنقض أحكام نافعة، وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل، التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومُقِلّ". وقد حاولت حركةُ التقعيد الفقهي تدارك هذا النقص بوضع قواعد فقهية عامة تضبط الجزئيات وترجعها إلى أصولها الكلية، ومع نجاحها إلى حدٍّ ما فإنها لم تكن كافية للتخلص من ذلك.
وكما كان الاستحسان مخرجاً مما قد ينتج عن الالتزام الصوري بالقياس من إخراج لبعض الأحكام عن القواعد الكلية للشريعة ومقاصدها العامة؛ إذْ هو في جوهره عدول عن قياس ظاهر توفرت فيه كلّ شروط القياس لأن نتيجته قد تؤدي إلى مخالفة قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، فقد جاء إبراز مقاصد الشريعة وإفرادها بالتأليف للتخفيف من غلواء التقليد والتعصب المذهبي والاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات ليتمّ الرجوع بالفقه إلى ما كان عليه في زمان الصحابة والتابعين وكبار الأئمة. وقد كان من رواد هذه الحركة الجويني، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبد السلام، والقرافي لِتُتَوَّجَ تلك الجهود على يد الإمام الشاطبي في كتابيه الموافقات والاعتصام اللذين كَانَا ثمرة المعاناة التي عاشها هو ذاته في الصراع مع تيار التعصب المذهبي المذموم والابتداع، وقد حكى طرفاً من ذلك في كتاب الموافقات ومقدمة الاعتصام.
ومع التسليم بأهمية البُعْد المقاصدي في الاجتهاد، وضرورة إنضاج المعالم الأساسية لنظرية المقاصد، يبقى السؤال:
كيف نتعرّف على مقاصد الشارع؟ ما المسالك والأدوات المنهجيّة التي ينبغي استخدامها لتحديد مقاصد الشارع التي تشكِّلُ بعد ذلك أسس وضوابط الاجتهاد؟
ثمّ بعد معرفة هذه المسالك،
ما السبيل إلى تنزيلها على الواقع لاستخراج المقاصد الشرعية بأنواعها: العامة والخاصة، والكلية والجزئية؟ كيف استخدمها الفقهاء والأصوليون في اجتهاداتهم، وكيف يمكن أن نستخدمها اليوم؟
وبناءً على أهمية هذا الموضوع ومحوريّته في نظرية المقاصد فإنه في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل؛ ذلك أن نظرية المقاصد لا يكتمل بناؤها، ولا تؤتي ثمرتها تنزيلاً على الواقع إلاّ إذا حُدّدت تلك المسالك والوسائل المنهجية التي يستخدمها المجتهد في استخراج مقاصد الشارع التي تكون هادياً له في اجتهاده.
ويشتمل البحث على مقدمة وبابين وخاتمة.
جاءت المقدمة في بيان أهمية الموضوع، وملخص لأبرز الدراسات السابقة حوله.
أما الباب الأول
فهو في كيفية استخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها ومعقولها،
وقد اشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول:
وهو بمثابة تمهيد للموضوع، حيث يتناول التعريف بمقاصد الشريعة، وبيان أنواعها وتقسيماتها، ثم يعرض بشيء من التفصيل إلى بيان أهمية العلم بمقاصد الشريعة خاصة لمن يتصدى للفتوى والاجتهاد، حيث تكون عوناً وهاديّاً له في حسن فهم النصوص وإدراك ما خفي من المعاني، والترجيح بين ما يبدو فيه تعارض منها، وحسن تنزيلها على الواقع بمراعاة مآلات تلك الأحكام ومدى تحقيقها لما قصده الشارع منها.
أما الفصل الثاني
: فهو في بيان أن أوّل ما تُستخلَص منه مقاصد الشارع هي ظواهر نصوصه، لأنها هي وعاء أمره ونهيه، وهي المتضمن لإرادته.
فإذا تبيّن أن تلك الظواهر غير مقصودة، أو لم تكن واضحة إلى الدرجة التي تُستخلص منها المقاصد استخلاصاً مباشراً، انتقل الباحث إلى البحث عن القرائن والظروف والملابسات التي ورد فيها ذلك الخطاب للاستعانة بها على تحديد المقصود منه، وهو
موضوع الفصل الثالث
.
فإذا لم يكن منطوق النص وافيّاً بمقصد الشارع انتُقِلَ إلى معقوله، وذلك من خلال البحث عن علل النصوص وحِكَمها، وتكون بعض مسالك العلة طريقَ المجتهد في استخراج مقاصد الشارع من معقولِ نصوصه، وهو موضوع الفصل الرابع.
أما الفصل الخامس
: فقد خصص لدراسة كيفية دلالة سكوت الشارع على مقاصده من خطاباته، وبيان ما يصلح منه ليكون كذلك وما لا يصلح.
أما الباب الثاني
فهو مخصص لمسلك الاستقراء، وقد تَمّ إفراده بباب مستقلّ لأهميته في الكشف عن المقاصد العامة واستخراج الكليات الشرعية، ولأنه لم ينل حظه من البحث في الدراسات الشرعية، ولِمَا يكتنفه من خلاف حول أهميته في هذه الدراسات وحول إمكانية التوصل من طريقه إلى نتائج قطعية أو قريبة من القطع.
وقد جاء في ستة فصول
.
الفصل الأول:
في تعريف الاستقراء قديماً وحديثاً، وبيان أقسامه ودلالة كلّ قسم منه.
الفصل الثاني
: في لمحة عن الاستقراء في العلوم الشرعية، حيث يتبيَّن أن الاستدلال الاستقرائي استدلالٌ أصيل في العلوم الشرعية، وليس وليدَ انتقالِ التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، فهو حاضر بجلاء في المجال التطبيقي عند علماء المسلمين وإن لم يُعْتَنَ به كثيراً في المجال النظري.
ولَمّا كان
الشاطبيّ أبرز من اعتنى من الأصوليين بمبحث الاستقراء،
وأعطاه بعداً تطبيقيّاً واسعاً في مجال المقاصد الشرعية كان من اللازم إفراده بالدراسة، فخُصِّص لذلك
الفصل الثالث
من هذا الباب.
أما
الفصل الرابع
فقد خُصص لرأي ابن عاشور في الاستدلال الاستقرائي في مجال مقاصد الشريعة، وكيفيّة تطبيقه إياه.
وبعد هذه الدراسة المستفيضة للاستدلال الاستقرائي جاء
الفصل الخامس
لتقييمه: ما له وما عليه، وليبيِّن الفروق التي يجب مراعاتها بين الاستقراء في العلوم الطبيعية والاستقراء في العلوم الشرعية خصوصاً والعلوم الاجتماعية عمومًا.
أما
الفصل السادس
فهو دراسة تطبيقية لبيان كيفية استثمار الاستدلال الاستقرائي في المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، واستخلاص الكليات من جزئيات النصوص والأحكام.
ثم تأتي خاتمة البحث لإبراز بعض الخلاصات والتوصيات.
علمًا بأن أصل هذا الكتاب هو بحث تكميلي لنيل درجة الدكتوراة من كلية معارف الوحي والعلوم الإنساية بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا وقد أجيزت في سنة 2001م.