العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هل نُسخت الأصول المكية بالتفريعات المدنية؟

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
من كتاب الموافقات للشاطبي (بتصرف)

المسألة الرابعة عشرة
تقدّم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء، والعام لجميع المكلفين، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضّح النوعين، ويبيِّن جهة المأخذ في الطريقين.
وبيان ذلك أن المشروعات المكية، وهي الأولية، كانت في غالب الأحوال مُطلَقَة غير مقيَّدة، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق: من التلبُّس من كلّ ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كلّ ما هو مُنْكَر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقلُ معزولٌ عن تقريره جملة من تفاصيل التعبدات. فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلَّفين في تلك العادات، ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كلّ بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجّه بها للواحد المعبود، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بيّنه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مُقرَّر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب، ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينصّ على تقييدها بعد. وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبُّس بالمحاسن. فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد وفاته، وفي زمان التابعين.
إلاّ أن خطة الإسلام لما اتّسعت ودخل الناس في دين الله أفواجا، ربما وقعت بينهم مشاحّات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يحقّ لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصياتُ ضرورات تقتضي أحكاما خاصة، أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تَفْصِل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات، إذْ كان أكثرُها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة، فضلا عن غيرها، كما لم تستقلّ بأصول العبادات وتفاصيل التقربات، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه، ومال إليها طبعُه، وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم، وطلبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنزل الله تعالى ما يبيِّن لهم كلّ ما احتاجوا إليه بغاية البيان، تارة بالقرآن وتارة بالسنّة، فتفصّلت تلك المجملات المكية، وتبيّنت تلك المحتملات، وقُيِّدت تلك المطلقات، وخُصِّصَت بالنسخ أو غيره تلك العمومات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطّردا، وأصلا مستنًّا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة، فضلا من الله ونعمة.
فالأصول الأُوَّل باقية لم تتبدّل ولم تُنسَخ، لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات. وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه في الأمور الجزئية المتنازع فيها، لا في الكليات.
وهذا كلّه ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية، فإن الأحكام المكية مبنيّة على الإنصاف من النفس، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين، وأما الأحكام المدنيّة فمنـزّلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدّم من بعض المنازعات والمشاحّات، والرُّخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات، فإن الكليات كانت مقرَّرة مُحْكَمة بمكة، وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكيّة على حالها، ولذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا وتأكيدا. فكملت جملة الشريعة ـ والحمد لله ـ بالأمرين، وتمّت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: ٣).
وإنما عنيّ الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظانّ التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة. وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خطّ الفصل بين ما أحلّ الله وما حرّم، حتى لا يتجاوزوا ما أحلّ الله إلى ما حرّم، فهم يحقِّقون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاحُّ ربّما مؤدِّيا إلى مقاربة الحدّ الفاصل، فهم يَزَعُونَهُم عن مداخلة الحمى، وإذا زلّ أحدُهم يُبيَّن له الطريقُ الموصل إلى الخروج عن ذلك في كلّ جزئية، آخذين بحُجَزِهِم تارة بالشدّة وتارة باللين، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإيّاه تحرّوا.
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلاً وتركًا فلم يفصِّلوا القول فيه، لأنه غير مُحتَاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقلّ بإدراك العمل فيه، فوكّلوه إلى اختيار المكلَّف واجتهاده، إذْ كيف ما فعل فهو جارٍ على موافقة أمرِ الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمورٌ ولكن بحسب قُربِها من الحدّ الفاصل، فتكلَّم الفقهاء عليها من تلك الجهة، فهو من القسم الأول.
وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تبيّن لك فرق ما بين القسمين، وبون ما بين المنـزلتين، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول. ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها، حتى صارت كالنسي المنسيّ، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".[SUP][SUP][1][/SUP][/SUP]
فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهورُ فيه العلماءَ على الجملة، وأما النظرُ في الجزئيات فيختصّ بالعلماء.
فصل
كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنـزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم، فسبقوا غاية السبق، حتى سُمُّوا السابقين بإطلاق، ثم لمّا هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامُهم، فكانت المتمِّمات أسهل عليهم. ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه، بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حُدَّ لهم في المكي والمدني معا، لم تزحزحهم الرُّخص المدنيّات عن الأخذ بالعزائم المكيّات، ولا صدّهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما مُتِّعُوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة.
فعلى تقرير هذا الأصل، مَنْ أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت. وعلى الأول جرى الصوفية الأُوّل، وعلى الثاني جرى مَنْ عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه. ومن ههنا يُفهَم شأنُ المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظانّ أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلّفوا ما لم يُكلّفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاش لله! ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنّة صفوة الله من الخليقة. لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أوّل الإسلام، ونصوص التنـزيل المكي الذي لم يُنسخ، وتنـزيل أعمالهم عليه تبيَّن لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء، وباتباعها عنوا على وجه لا يضادّ المدني المفسِّر.



[1] صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين.
 
أعلى