العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مراجعة علمية لكتاب ضوابط المصلحة : الدكتور رفيق المصري

حمزة عدنان الشركسي

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 يونيو 2011
المشاركات
189
التخصص
اقتصاد إسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي
٢٠١٠ م/ ١٤٣١ ه) ) ١٥٨- مجلة جامعة الملك عبدالعزيز: الاقتصاد الإسلامي، م ٢٣ ع ٢، ص ص: ١٤٩
١٤٩
مراجعة علمية لكتاب:
ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية
تأليف: محمد سعيد رمضان البوطي
الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية ( ١٣٩٧ ه/ ١٩٧٧ م)، ٤٦٦ صفحة.
رسالة دكتوراه في أصول الشريعة الإسلامية من كلية القانون والشريعة بجامعة الأزهر.
مراجعة: رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبدالعزيز جدة المملكة العربية السعودية
البوطي من مواليد عام ١٩٢٩ م، كان أستاذًا بكلية الشريعة في جامعة
دمشق وعميدا لها، وله عدد كبير من الكتب والكتيبات والبحوث والمقالات
والدروس والخطب والبرامج التلفزيونية. من أبرز كتبه كتاب "ضوابط
، المصلحة"، والطبعة التي بين يدي منشورة في مؤسسة الرسالة، ط ٢
١٣٩٧ ه= ١٩٧٧ م. وتقع في ٤٦٦ صفحة. وهي رسالة دكتوراه في أصول
الشريعة الإسلامية من كلية القانون والشريعة بجامعة الأزهر، لعام ١٣٨٥ ه =
١٩٦٥ م. يتألف الكتاب من تمهيد وثلاثة أبواب.
- التمهيد فيه بيان لمعنى المصلحة وخصائصها في الشريعة والنظم الوضعية.
١٥٠ مراجعة: رفيق يونس المصري
- الباب الأول في علاقة الشريعة الإسلامية بالمصلحة، وفيه بيان لمراعاة
الشريعة للمصالح، وأدلة ذلك من القرآن والسنة والقواعد. وفيه أيضا رد على شبهتين:
إحداهما أن أفعال الله لا تعلل، والأخرى ما يقال من أن الأجر على قدر المشقة.
- الباب الثاني في ضوابط المصلحة الشرعية، وهي خمسة: اندراجها في
مقاصد الشارع، عدم معارضتها للقرآن، عدم معارضتها للسنة، عدم معارضتها
للقياس، عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها. وفي الضابط الثاني رد
على من زعم أن عمر بن الخطاب غلب المصلحة على القرآن في مسائل، منها:
إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، عدم قطع يد السارق عام المجاعة. وفي الضابط
الثالث بيان لمعنى السنة، وقطعية وجوب العمل بخبر الآحاد، والفرق بين
تصرف الرسول بالفتوى وتصرف الرسول بالإمامة. وفي هذا الضابط أيضا رد
على ما زعمه بعض الكاتبين من أن في فقه الأئمة تغليبا للمصلحة على السنة،
مثل الحكم بجواز التسعير وجواز تلقي الركبان في بعض الحالات، وجواز
تفضيل بعض الأولاد في العطية. وفي هذا الضابط أيضا رد على من قال بأن
الإمام مالكًا خصص خبر الآحاد بالمصلحة، ورد على الطوفي الذي غّلب
المصلحة على النص. وفي الضابط الرابع بيان لمعنى القياس ولمعنى
الاستحسان، وسبب إنكار الإمام الشافعي له. وفي الضابط الخامس بيان لتفاوت
المصالح والاستدلال على ترتيبها، وبيان لمعنى الرخصة والعزيمة وسد الذرائع.
وخصص المؤلف خاتمة للباب الثاني تعرض فيها لقاعدة المشقة تجلب التيسير،
وقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان وأنها ليست على ظاهرها، كما تعرض
للحيل وناقش رأي ابن القيم فيها.
- الباب الثالث في المصالح المرسلة، وفيه رد على من زعم أن الإمام مالكًا
يأخذ بالمصالح المرسلة، وإن عارضت عموم نص أو إطلاقه. وفي هذا الباب
أيضا بيان لموقف العلماء من الاستصلاح (الصحابة، التابعين، الأئمة)، والانتهاء
إلى أن المصالح المرسلة مقبولة بالاتفاق.
مراجعة علمية لكتاب: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: لمحمد سعيد البوطي ١٥١
مزايا الكتاب
- من مزايا الرسالة أنها نشرت في كتاب، فهناك من لا ينشر رسالته
العلمية، لأنه لا يجد ناشرا لها، أو لأنه لا يحب أن يطلع عليها أحد، خشية
الفضائح. يكفي أنه حصل على الشهادة وحمل لقب دكتور والسلام!
- لعله الكتاب الوحيد في بابه.
- يتمتع الكاتب في هذا الكتاب بعقلية نقدية، لكني لم أعد أح  س بها في
كتاباته اللاحقة. فهو ينتقد ابن القيم، كما ينتقد الغزالي مثلاً (ص ٣٩٣ و ٣٩٤
و ٣٩٨ )، وهو والغزالي من مذهب واحد. لكنه في كتابات لاحقة شعرت أنه
وإن كان يقارن بين المذاهب إلا أنه سرعان ما يعود إلى مذهبه. ولكن انتقاده
للغزالي رد عليه حسين حامد حسان في نظرية المصلحة ص ٤٣٢ . ولم يرد
البوطي على حسين حامد في الطبعات اللاحقة من كتابه، حسب علمي.
- الكتاب مهم للحد من الادعاءات المتزايدة التي فتح بابها الطوفي بأن
المصلحة يمكن أن تتغلب على النص.
- الكتاب مفيد من حيث الرد على الطوفي الذي ذهب إلى تغليب المصلحة
على النص. فالبوطي يحمد له أنه هاجم الطوفي ولم يسلك مسلكه كما فعل عدد
من الباحثين الذي أولعوا بالطوفي وظنوا أنه أتى بجديد يسجل له ويحمد عليه!
ويكفي عندي للرد عليه أن يقال بحقه بأنه يجعل كلام الله ككلام البشر! وإذا
صارت المصلحة فوق النص هل يبقى شيء من الدين ؟!
- الكتاب مفيد من حيث الاستدلال الشرعي لترتيب المصالح المتعلقة
بالدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وكذلك المصالح المتعلقة بالضروريات
والحاجيات والتحسينيات.
- ويستفيد من الكتاب المهتمون بأصول الفقه، كما يستفيد منه المهتمون
بالاقتصاد الإسلامي.
١٥٢ مراجعة: رفيق يونس المصري
- لغة الكتاب واضحة وسليمة، خلا بعض الأخطاء اللغوية والمطبعية.
منها ما يتعلق بقواعد الهمزة (الوصل والقطع) هل تكتب أم لا تكتب؟ هل تكتب
فوق الألف أم تحتها؟ ومنها ما يتعلق باستعمال "بعض". من ذلك قوله: "جمعوا
المقدمتين إلى بعضهما" (ص ١٢ س ٩) والصواب: جمعوا المقدمتين إحداهما إلى
الأخرى. أو يكتفي بالقول: جمعوا المقدمتين. "وتناسقها مع بعض" (ص ٧٥
س ١٦ ) والصواب: وتناسقها بعضها مع بعض. "كيفية تعارض المصالح مع
، بعضها" (ص ٢٣٢ س ٧، ص ٢٥٠ آخر سطر من الهامش، ص ٣٠٣ س ١٧
ص ٣١٧ س ٧، ص ٣٦٣ س ١٢ ، ص ٤٢٨ س ١٩ ) والصواب: بعضها مع بعض.
"أحد المصلحتين" (ص ٢٦٢ س ١٤ ) والصواب: إحدى. "أحد صورتي" (ص ٣١٦
الهامش) والصواب: إحدى. "الطرق الحكيمة" (ص ٣٤١ س الأخير) والصواب:
الحكمية. "أي أن عمدة أرباب هذا المذهب" (ص ٣٤٧ س ٥) والصواب: أي إن.
"مجهولوا الصنعة" (ص ٣٥٦ ، س ٧) والصواب: مجهولو الصنعة. "الملاءمة"
(ص ٣٦٣ س ١٩ ) والصواب: الملائمة. "الملائمة" (ص ٣٧٢ س ٣) والصواب:
الملاءمة. "اضطرد القول" (ص ٣٨٥ س ١٢ ، ص ٣٩٥ س ١٠ ) والصواب:
اطرد. "ليس إلا استمرار للحكم" (ص ٤١٢ س ١٨ ) والصواب: استمرارا. في
متن الكتاب وفي فهرس الأبحاث (ص ٤٢٤ ) استخدم لفظ "خصائص" وجعل
مفردها "خاصة"، والصواب: خصيصة. أما "الخاصة" فتجمع على خواص.
ما قد يؤخذ على الكتاب
- الكتاب ثلاثة أبواب، الأول والثاني في المصالح، والثالث في المصلحة
المرسلة. ويصعب على القارئ أن يربط بين الباب الثالث والبابين السابقين،
فيمكن أن يتساءل القارئ عن أي مصالح يتكلم البوطي في البابين الأولين؟ هناك
كثير من الأمثلة التي ذكرت في البابين الأولين عادة ما يتكلم عنها العلماء في
المصالح المرسلة؟ هل كان يتكلم في البابين الأولين عن المصالح المعتبرة، ثم
انتقل في الباب الثالث إلى الكلام عن المصالح المرسلة؟ أم ماذا، هذا يحتاج إلى
مراجعة علمية لكتاب: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: لمحمد سعيد البوطي ١٥٣
بيان من الكاتب صريح وواضح، كما كان يحتاج منه إلى تمهيد يتعلق بأنواع
المصالح، ومن ثم الدخول في المصالح التي يريد الكلام عنها. وإذا قارنا بين
كتاب البوطي في المصلحة وكتاب حسين حامد في المصلحة (نظرية المصلحة
١٩٨١ م) وجدنا أن خطة حسين حامد أوضح. فقد بدأ بتمهيد عرف فيه
المصلحة، ثم بين تقسيماتها المختلفة، بعد ذلك قسم الكتاب إلى أربعة أبواب:
الباب الأول: نظرية المصلحة في الفقه المالكي. الباب الثاني: نظرية المصلحة
في الفقه الشافعي. الباب الثالث: نظرية المصلحة في الفقه الحنبلي. الباب الرابع:
نظرية المصلحة في الفقه الحنفي. ولعله بدأ بالفقه المالكي بالنظر لوضوح
المصلحة المرسلة في مذهب مالك. وبنى كتابه كله على المصلحة المرسلة وما
يتصل بها من الاستحسان وسد الذرائع. أما البوطي فقد تكلم عن المصلحة
المرسلة في الباب الثالث (الأخير_______) من كتابه، أما في البابين الأول والثاني فلا
يكاد يفهم القارئ عن أي مصلحة يتكلم البوطي.
- ع  رف الكاتب المصلحة المرسلة بأنها كل منفعة داخلة في مقاصد
الشارع دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء (ص ٣٣٠ ). وهذا التعريف
الشائع سّلم به الكاتب ولم يناقشه بدقة، بل بقي معنى المصلحة المرسلة غامضا
عنده كغيره ممن سبقوه. فإن كان معناها الأمور المسكوت عنها فهذا يغني عنه
قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة". وإن كان معناها أنها مصالح موافقة للمقاصد
والقواعد والضوابط فهذا يق  ربها من أنها قياس عام، ومن ثم فلا تخرج عن
القياس. وإن كان معناها الاستحسان فسيأتي الكلام عن الاستحسان. ثم كيف
نحكم على أن هذا الأمر مصلحة قبل أن نفحصه ونجتهد فيه؟ نعم قد يح  ول
الاجتهاد المصلحة من مصلحة مرسلة إلى مصلحة معتبرة أو مصلحة ملغاة. قد
يعد المجتهد الأمر المسكوت عنه مصلحة من باب الفرض (الفرضية) الذي يجب
التحقق منه بالاختبار، حتى إذا تحقق أنه مصلحة صار مصلحة معتبرة
بالاجتهاد، وإلا كان مصلحة ملغاة. المهم أن كلام علماء الأصول في المصلحة
المرسلة يحتاج إلى فحص وتدقيق ومراجعة. وقد تتخذ المصلحة حيلة من الحيل
الأصولية للتلاعب بالأحكام الشرعية حسب الأهواء.
- ادعاء الكاتب كغيره من المعاصرين بأن جميع المذاهب تأخذ بالمصالح
المرسلة، أيضا فيه نظر. ولعل الإمام الشافعي يتكلم عن المصالح المعتبرة أو
القريبة منها (الشبيهة بها)، فظن الكاتب وغيره أنه يتكلم عن المصالح المرسلة.
- ذكر الكاتب، كما سيأتي، أن الحنفية يأخذون بالمصالح المرسلة باسم
الاستحسان، كما ذكر بالمقابل أن إنكار الإمام الشافعي للاستحسان لا ينافي
اعتباره للاستصلاح (ص ٤٠٨ ). وإني أجزم أن الاستحسان والاستصلاح بمعنى
واحد، ولكنه من باب التظاهر بالاختلاف بين المذاهب، فلعل المذهب الحنفي
سبق المذهب المالكي في الأخذ بالاستحسان، فأراد المذهب المالكي أن يلحق به
مع الرغبة في الظهور بمظهر مختلف عنه، فسمى الاستحسان استصلاحا. فإذا
أنكر الشافعي الاستحسان فهذا يعني أنه ينكر الاستصلاح، خلافًا لما يقوله
الكاتب. فالكاتب عندما يتكلم عن الشافعي يرى أن الاستحسان مختلف عن
الاستصلاح، وعندما يتكلم عن أبي حنيفة يرى أن الاستحسان لا يختلف عن
الاستصلاح! وعلى هذا فالراجح عندي أن الاستصلاح يخص المالكية والحنفية،
أما الإمام أحمد والإمام الشافعي فلا يريان الأخذ بالاستصلاح. ذلك أن
الاستصلاح عندهما داخل في القياس بمعناه الصحيح. ومن ثم فإن القول بأن
الاستصلاح يأخذ به حتى الإمام أحمد والإمام الشافعي قول لا صحة له، وفيه
الكثير من التكلف وتقويل للإمامين ما لم يقولاه. ومن ثم فنحن نختار قول
القائلين بأن المصالح المرسلة ليست محل اتفاق بين المذاهب. كما نختار التمييز
بين الاستصلاح دليلاً مستقلاً والاستصلاح دليلاً تابعا، والاستصلاح بمعناه
الاصطلاحي الصحيح هو الاستصلاح القائم على أنه دليل مستقل بذاته. والذين
يقولون بأن الإمام مالكًا قد أفرط في الاستصلاح إنما يريدون أنه قد أخرج
الاستصلاح من كونه دليلاً تابعا إلى كونه دليلاً مستقلاً، والله أعلم. وقول
مراجعة علمية لكتاب: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: لمحمد سعيد البوطي ١٥٥
الشافعي: أستحسن في المتعة كذا وكذا، لا يفيد أن الشافعي يق  ر الاستحسان
بمعناه الاصطلاحي، كما ذهب إلى ذلك عدد من الكاتبين المتساهلين.
- وصل الكاتب، بعد كلام طويل ومعقد ومتداخل ومتعب للقارئ العادي
وغير العادي، إلى "أن الأخذ بالاستصلاح محل اتفاق من أئمة المسلمين وعلمائهم،
ولا يضير ذلك أن كثيرا من هؤلاء الأئمة لم يعدوا الاستصلاح أصلاً مستقلاً في
الاجتهاد، وأنهم أدمجوه في الأصول الأخرى، إذ الخلاف لا ينبغي أن يكون في
التسمية والاصطلاحات" (ص ٤١٠ ). وذكر الكاتب أن: "الإمام أحمد لم يكن يعد
الاستصلاح أصلاً خاصا برأسه، بمعنى كونه قسيما للكتاب والسنة والقياس، بل
كان يعد ذلك معنى من معاني القياس (...)، وأخذ القياس بهذا المعنى الواسع كان
اصطلاحا يكاد يكون عاما في صدر عصر الأئمة، وسنرى أن الشافعي من أبرز
أرباب هذا الاصطلاح" (ص ٣٦٨ ). أقول: كان على الباحث أن يشرح المقصود
بالمعنى الواسع (راجع حسين حامد في نظرية المصلحة)، كما لا أوافقه أبدا على
هذه النتيجة التي ذكرها في النص الأول، لأن الاستصلاح بالمعنى الاصطلاحي
ما لم يكن دليلاً مستقلاً فإنه لا يسمى استصلاحا، وهناك فرق كبير جدا بين من
قال بالاستصلاح دليلاً مستقلاً والاستصلاح تابعا للأدلة الأخرى. هناك فرق كبير
جدا بين أن يجوز الشيء بناء على القياس أو يجوز بناء على المصلحة. وهذا
الخلط لا جرم أنه يؤدي إلى انهيار جميع الأمثلة التي ذكرها الكاتب وصدع بها
رأس القارئ. من قال بأنه دليل مستقل هم المالكية، وكذلك الحنفية إذا كان
الاستحسان (استحسان المصلحة) عندهم بمعنى الاستصلاح، وهو ما أميل إليه.
يقول الكاتب: "والناظر في أبواب المعاملات من كتب الحنفية يجدها مملوءة
بمسائل الاستصلاح، باسم الاستحسان تارة وباسم العرف تارة" (ص ٣٨٣ ). قال
مالك: "الاستحسان تسعة أعشار العلم". وقال الشافعي: "من استحسن فقد شرع".
وقال الجويني: "إن الاستصلاح مركب صعب لا يجترئ عليه متدين" (البرهان
١١٢٠ ). وقال أيضا بأن من شأن الاستصلاح أن: "يصير ذوو الأحلام /٢
١٥٦ مراجعة: رفيق يونس المصري
١١١٥ ). وما من شك بأن الجويني أقدر من / (العقول) بمثابة الأنبياء" (البرهان ٢
البوطي على فهم المذهب الشافعي وغيره من المذاهب.
- لم يناقش الكاتب قول من قال بأن المصلحة المرسلة يجب أن تكون كلية
لا جزئية، وعامة لا خاصة.
- كلام الكاتب عن الاستحسان فيه نظر. وربما يكون الاستحسان حيلة من
الحيل الأصولية التي يراد بها الخروج عن القياس والتفلت من الأصول والقواعد
والضوابط. والإمام الشافعي لم يوكل أحدا بتأويل مقولته: "من استحسن فقد
شرع". لابد من التمييز بين كلام الأئمة وكلام أتباعهم، فقد يتلاعب الأتباع بكلام
أئمتهم تحت أسماء مختلفة: تفسير، شرح، إعادة قراءة ... إلخ. فإن كان
الاستحسان بمعنى العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، فهذا داخل في القياس،
ومن المغالطة أو التشويش أن يسمى استحسانًا. وإن كان الاستحسان بمعنى
العدول عن القياس الجلي إلى القياس الخفي فأنا أخشى أن يكون القياس الخفي
حيلة خفية صادرة عن أهل الرأي والحيل. وإن كان الاستحسان بمعنى ترك
القياس إلى ما هو أرفق بالناس، أو أوفق للناس (ص ٢٤٠ و ٣٨٢ ، والمبسوط
١٤٥ )، فهذا من باب الالتفاف على القياس. ومن قال بأن القياس كذا /١٠
والاستحسان كذا فقد أزرى بالقياس، كما أنه لا يمكن أن يعد من أهل القياس.
فما فائدة القياس إذا كنا مستعدين منذ البدء للتنازل عنه عند أدنى مناسبة؟ والقول
بأن الاستحسان دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعجز عن التعبير عنه هذا القول
حيلة أصولية أدهى وأم  ر. فما أدراك لو عبر المجتهد لانفضح، فكان من الدهاء
أن يسكت تحت دعوى العجز. إنه من الدهاء أحيانًا أن يقول المجتهد: إني عاجز
عن الكلام، فالسكوت أبلغ. والنصوص الشرعية فيها قواعد وفيها استثناءات.
ومهمة المجتهد هل ين  زل هذه الواقعة على القاعدة أم على الاستثناء؟
- رفض الكاتب تقسيم المصالح إلى دنيوية وأخروية (ص ٨٤ ) فقال: "درج
أكثر الباحثين على تقسيم المصالح إلى نوعين: أخروية (...) ودنيوية (...).
مراجعة علمية لكتاب: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: لمحمد سعيد البوطي ١٥٧
ولكني لا أجد داعيا إلى اتباع سبيل هذا التقسيم في هذا المجال" (ص ٨٤ ). قرأت
ما جاء تحت هذا العنوان في كتابه فوجدته غامضا، ولم أفهم له وجها، ولم أفهم
عن أي مجال يتكلم، ولا أذكر أحدا يرفض هذا التقسيم، انظر كتاب القواعد
الكبرى للعز بن عبد السلام على سبيل المثال.
- كلام الكاتب عن الحيل فيه نظر، وكذلك رده على ابن القيم. فالكاتب
يرى "أن الحيل الشرعية في جملتها مقبولة لدى جمهور الأئمة والفقهاء"
(ص ٢٩٣ )، وأن "ابن القيم لو حرر مقصوده من الحيل المحرمة أو الجائزة
تحريرا واضحا منضبطًا، ثم بنى كلامه على ذلك، لاتضح أنه لا يخالف
الجمهور" (ص ٢٩٥ )، وأنه لو حرر مقصوده من الصحة لما وقع في هذا
التناقض والاضطراب (ص ٣٢١ )، وأنه خلط بين الصحة في معناها القضائي
والصحة بمعناها الخاص بين العبد والله تعالى (...) فجاء كلامه مناقضا لبعضه
(الصواب: متناقضا) في ذلك، ومن ثم جاء كلامه بعد ذلك عن الحيل مطبوعا
بنفس هذا التناقض" (ص ٣٠٣ )، وأيد الكاتب السرخسي الذي قال: "من كره
الحيل في الأحكام فإنما يكره في الحقيقة أحكام الشرع" (ص ٣١٤ ، والمبسوط
٢١٠ ). وحمل الكاتب حملة شعواء على ابن القيم الذي حمل حملة شعواء /٣٠
على الحيل (ص ٣٢١ )، وسنفرد لمسألة الحيل ورقة خاصة.
- خلص الكاتب إلى خمسة ضوابط للمصلحة: اندراجها في مقاصد
الشارع، عدم معارضتها للقرآن، عدم معارضتها للسنة، عدم معارضتها للقياس،
عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها. ثم قال: "وأحسب أنها ضوابط
متفق عليها، لا مجال للنزاع فيها (...)، بل ولا ينبغي أن يكون في هذا أي
مجال للخلاف" (ص ٤١١ ). قد يقال هنا: ما دام أن هذه الضوابط واضحة ومتفق
عليها ولا نزاع فيها فلماذا التأليف فيها إذًا؟! فالعلم أو البحث إنما يكون في
المسائل الخلافية، لا في المسائل المعروفة والمجمع عليها. لكن الحقيقة أن هذا
التعليق من البوطي يحتاج إلى تعديل، ذلك أن هناك من ينازع في هذه الضوابط
كالطوفي ومن تبعه في هذا العصر، ومنهم فقهاء مشهورون، ولعلهم حصلوا
على شهرتهم من حيلهم لا من علمهم. فالدوائر السياسية والمالية والإعلامية
غالبا ما ترحب بمثل هؤلاء، بل وتعمل على إعدادهم وإبرازهم وتسليط الأضواء
عليهم، فهم موصى عليهم من الخارج والداخل. وهؤلاء الفقهاء منهم من يصرح
بهذا، ومنهم من يتخفى بوسائل مختلفة، أو يكون له وجهان: وجه مع العامة،
ووجه مع الخاصة الذين يتشرف بالفتوى لهم، وجه في الفضائيات ووجه آخر
في مجالس الكبراء.
- الضابط الأخير من ضوابط المصلحة الذي ذكره الكاتب: "عدم تفويتها
مصلحة أهم منها أو مساوية لها" (ص ٢٤٨ و ٤١١ )، فيه نظر من ناحيتين: الأولى
أن المصالح إذا تعددت وأمكن الجمع بينها جمعناها ولو كانت متفاوتة، وإذا تعذر
الجمع بينها تخيرنا أرجحها. والناحية الثانية أنه إذا كانت هناك مصلحتان
متساويتان لا يمكن الجمع بينهما فإن من الجائز تفويت إحداهما. فكان من المناسب
أن يكون الضابط على الشكل التالي: عدم تفويتها مصلحة أهم منها إذا لم يمكن
الجمع بين المصلحتين. وعندئذ يمكن تفويت المصلحة الأخرى المساوية أو
المرجوحة إذا لم يمكن الجمع بينهما. وهذا واضح في كتاب القواعد الكبرى للعز
بن عبد السلام، وهو شافعي، والبوطي شافعي، ولا أدري إن كان قرأه كله.
الخلاصة
كتاب البوطي عن ضوابط المصلحة، الذي كتب عام ١٣٨٥ ه=
١٩٦٥ م، أي قبل ٤٤ عاما، ولا يزال يعاد طبعه كما هو، فيه بالتأكيد مزايا
وفوائد كثيرة، لكن لو أعيد طبعه طبعة أخرى تناقش هذه المآخذ المحتملة، ولا
تتجاهلها، لكان هذا نعم أتعب للكاتب، ولكنه أنفع للقارئ وأوضح. فهل يؤثر
الكاتب مراجعة كتاب قديم أم إصدار كتاب جديد يضاف إلى رصيده؟__
 
أعلى