د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
موقف الشافعي من القياس والأدلة التبعية
في هذه الورقة نحاول – بعون الله وتوفيقه-: استعراض إجمالي لموقف الإمام الشافعي رحمه الله من القياس، ومن الأدلة التبعية الأخرى، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع.
وأهمية هذا الاستعراض: أن لغة الشافعي المتقدمة باصطلاحاتها الخاصة، عكست نتائج متضادة لدى المتأخرين في موقفه من الأدلة الأخرى بإزاء موقفه من القياس، ففريق يرى أنه ينكرها، حصراً منه الاجتهاد في باب القياس الخاص، وفريق آخر يرى بخلاف ذلك، وأن الشافعي رحمه الله كان واسع الخطو في اعتبار الأدلة التبعية، وإن كان يحكمها بأزمة وقيود.
وتفصيل ذلك سيكون متدليا من أعلى في الفقرات العمودية التالية:
أولاً: شمول الأخبار لأحكام الحوادث نصا أو استدلالا:
كلام الشافعي في هذا الباب كثير ومنتشر، ومنه قوله: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها"([1]).
ثانياً: العلم طبقات، وإنما يؤخذ العلم من أعلى:
قال الشافعي: "العلم طبقات شتى:
الأولى: الكتاب، والسنة إذا ثبتت السنة.
ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم له مخالفا منهم.
والرابعة: اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
الخامسة: القياس على بعض الطبقات.
ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان: وإنما يؤخذ العلم من أعلى"([2]).
ثالثاً: الناس في العلم طبقات:
قال الشافعي: "الناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به"([3]).
رابعاً: علم العامة وعلم الخاصة:
العلم من وجوه:
- منه إحاطةٌ في الظاهر والباطن.
- ومنه حق في الظاهر فقط.
وعلمُ الخاصة:
- سنةً من خبر الخاصة يعرفها العلماء، ولم يُكَلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبِرِ عن رسول الله بها، وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين، وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلطُ.
- وعلمُ إجماع.
- وعلمُ اجتهادٍ بقياسٍ، على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايِسِه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله([4]).
خامساً: المثالان المشهوران: القبلة، العدل:
للإمام الشافعي رحمه الله مثالان مشهوران على تقسيم العلم إلى علم إحاطة بالظاهر والباطن، وعلم إحاطة بالظاهر، ويمثل لذلك بمثالين مشهورين:
المثال الأول: استقبال القبلة: فإنه يصيبها من رآها في المسجد الحرام، وعلم ذلك علم إحاطة بالظاهر والباطن، ويتحراها من غابت عنه، وعلم ذلك علم إحاطة بحق في الظاهر دون الباطن، فما كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا في طلب العين الشاهد([5]).
المثال الثاني: العدالة: فإنا كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه، وقد يكون غير عدل في الباطن([6]).
خامساً: النص:
- كان السلف لا يرون اللازم إلا الكتاب أو السنة([7])، وقد أَتَيَا جميعاً بمتابعة سبيل المؤمنين، والنهي عن التفرق عنهم، وهذا هو الإجماع الصادر عن نص.
- لا يكون ما سوى النص حجة إلا إذا كان دالا عليه.
سادساً: معنى النص:
جاءت النصوص متضافرة باتباع لفظ النص ومعناه، والقياس الصحيح لا يجاوز معنى النص، وإنما هو بيان وإثبات لعلة النص، وغاية الأمر تعدية صورة النص، والإلحاق بها في حكمه، وهذه طريقة جماعة من الأئمة، وفقهاء الحديث.
وليس مِن الإنصاف أن يختزل رأيه المحرَّر والمفصَّل في حرفٍ واحد، وهو نفسه لم يرض أن يكون قوله كذلك.
سابعاً: ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد، الاجتهاد هو القياس.
ثامناً: شرط الاجتهاد:
الاجتهاد لا يكون إلا لمن عرف الدلائل عليه من خبر لازم كتاب أو سنة أو إجماع ثم يطلب ذلك بالقياس عليه بالاستدلال([8]).
تاسعاً: وإن كان الشافعي يحصر الاجتهاد في نطاق "القياس"، إلا أن القياس عنده يستوعب الأدلة الأخرى، لأن كل الأدلة خارج "النص" لا تعتبر إلا أن تكون مقايسة بالنص إما على أصل خاص، كمسألة بمسألة، وإما على أصل عام، كاعتبار النص للمقامات العالية من اعتبار المصالح وسد الذرائع، وبه ندرك عدم دقة ما وصف مذهب الشافعي من عدم اعتبار الشافعي لهذه الأدلة.
عاشراً: من أنواع القياس عند الشافعي:
- فأقوى القياس أن يحرِّم الله في كتابه أو يحرم رسول الله القليل من الشيء، فيُعْلمَ أن قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثلَ قليله في التحريم أو أكثرَ، بفضل الكثرة على القلة، وكذلك إذا ُحمِد على يسير من الطاعة، كان ما هو أكثرُ منها أولى أن ُيحمد عليه، وكذلك إذا أباح كثيرَ شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحاً.
- أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه.
- أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام.
- وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه، وقد يختلف القايسون في هذا([9]).
الحادي عشر: علم الشافعي بتوسعه في تفسير القياس:
قال الشافعي: "وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي هذا " قياساً " ويقول: هذا معنى ما أحل الله، وحرم، وحمِد، وذمّ، لأنه داخل في جملته، فهو بعينه، ولا قياسٌ على غيره.
ويقول مثل هذا القول في غير هذا، مما كان في معنى الحلال فأُحل، والحرام فحُرم.
ويمتنع أن يُسمَّى" القياس " إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّه بما احتمل أن يكون فيه شَبَهاً من معنيين مختلفين، فَصَرَفَه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر.
ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النصَّ من الكتاب أو السنة، فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم.([10])
الثاني عشر: القياس لا يكون إلا على مطلوب:
والمطلوب لا يكون أبداً على عين قائمة تطلب بدلالة يُقصد بها إليها، أو تشبيهٍ على عين قائمة، والخبرُ - من الكتاب والسنة - عينٌ يتأخَّى معناها المجتهدُ ليصيبه، كما البيتُ يتأخَّاه مَن غاب عنه ليصيبه، أو قَصَدَه بالقياس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاجتهاد، والاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلبُ الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائلُ هي القياس([11]).
الثالث عشر: الاجتهاد هو القياس.
الرابع عشر: القول بالاستحسان حرام إذا خالف الخبر، وإنما الاستحسان تلذُّذ، فلا يجوز الاستحسان بغير قياس، وإنما يجوز لأهل العلم القياس على الخبر.
خاتمة
اعتبر جماعة من أهل العلم أن الإمام الشافعي رحمه الله يضيق دائرة الاجتهاد في باب القياس، اعتبارا بالمقدمات التالية:
- نصوص الشافعي في أن الاجتهاد هو القياس.
- نصوص الشافعي في أن القياس لا يكون إلا على عين قائمة من النص يتوخاها المجتهد.
- موقف الشافعي الرافض لدليل الاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، ونحو ذلك من الأدلة.
- مقارنة بعضهم بين الشافعي وتضييقه لدائرة الاجتهاد، وبين توسع الإمام مالك رحمه الله في اعتبار المصالح المرسلة وسد الذرائع.
وقد تطورت المصطلحات بعد ذلك، وتشققت الأدلة إلى أنواع وأصناف، وبذلك يظهر خطأ حصر أصول الشافعي في قوالب عباراته القديمة.
إن المتأمل في فقه الشافعي لاسيما في باب الاستدلال منه، سواء كان ذلك في فقهه الشخصي أو في فقه مذهبه العام ليظهر له بجلاء أين كان يقف الشافعي، وأين كان يضرب، لقد كان واسع الخطو في اعتبار الدليل، وإن كانت ذخيرته الأصولية بقواعدها وقيودها تحول دون الإسراف في هدم أسوار الأدلة.
([1]) الرسالة للشافعي ص 20.
([2]) الأم للشافعي (7/ 280).
([3]) الرسالة للشافعي ص 19.
[4]) الرسالة للشافعي (باختصار ص 478، 479).
([5]) الرسالة للشافعي (ص 481، 497).
([6]) الرسالة للشافعي (ص 482).
([7]) الأم (1 / 153،7 / 262).
([8])الأم للشافعي (7/ 291).
([9]) الرسالة للشافعي ص 39، 479، 512.
([10]) الرسالة للشافعي ص 515، 516.
([11]) الرسالة للشافعي ص 503- 505، 507- 509، 511.