العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الاستقراء عند الأصوليين (على شكل وورد)

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
الاستقراء عند الأصوليين


مقدمة
لقي الاستقراء عناية فائقة من قبل المتقدمين من علماء المسلمين من الناحية التطبيقية في مجال المؤلفات اللغوية، والعلوم الشرعية، والعلوم الكونية والتجريبية. وقد استعمله الفقهاء والأصوليون في كثير من مباحثهم الفقهية والأصولية، ولكنه لم يلق عناية من الناحية التنظيرية من قبل الأصوليين ترقى إلى مستوى ذلك الاهتمام العملي. ويهدف هذا البحث إلى التعرف على كيفية تعامل الأصوليين مع موضوع الاستقراء على المستويين العملي والتنظيري، ومحاولة استشفاف الأسباب التي جعلت غالبيتهم لا يهتمون بالتنظير لهذا المنهج المهم من مناهج البحث.
ويعتمد الباحث في دراسته هذه المنهجين الاستقرائي والتحليلي لتتبع جهود بعض الأصوليين في التنظير لهذا المنهج، والمواضع التي صرحوا باستخدامهم إياه في مؤلفاتهم الأصولية، ثم تناول تلك الكتابات بالتحليل والنقد من أجل الوصول إلى إثبات فرضية البحث واستخلاص الأسباب التي يمكنها تفسير ذلك.
وقد كتبت حول الاستقراء عدة دراسات،[1] ولكن الدراسة التي لها علاقة كبيرة بإشكالية هذا البحث، هي دراسة الدكتور إبراهيم زين بعنوان: "الاستقراء عند الشاطبي ومنهج النظر في مدوناتنا الأصولية"،[2] وهي الدراسة التي تتقاطع مع هذا البحث في بعض النقاط التي ستتم مناقشتها من حين لآخر.[3]
أما عن محاور البحث فإنه يستهل بدراسة وصفية تستعرض ما كتبه الأصوليون في مبحث الاستقراء، مع أخذ بعض النماذج التطبيقية من كتبهم للتعرف على المواضع التي صرحوا فيها باستخدامه في دراساتهم الأصولية. أما المحور الثاني فإنه للبحث في أسباب عدم اهتمام غالب الأصوليين بالتنظير لهذا المنهج، وهي الإشكالية التي يفضل الباحث تناولها من خلال تحليل ومقارنة لجهود كل من الغزالي والشاطبي، بحكم أن الغزالي هو أول من تحدّث عن الجانب النظري للاستقراء في كتاب من كتب الأصول (حسب حدود اطلاع الباحث)، وأن الشاطبي أحدث تغييرا كبيرا في النظر إلى الاستقراء من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية التطبيقية في بعض المباحث الأصولية.

التنظير للاستقراء في كتب الأصول

الاستقراء بوصفه مبحثا نظريا هو في أصله من مباحث علم المنطق، ولذلك فإن تعريفه مأخوذ أساس من كتب المنطق. وقد عرَّفه أبو حامد الغزالي بأنه: "أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكم على ذلك الكلي به"،[4] وهذا تعريف مشترك بين المناطقة والأصوليين وإن اختلفت في بعض الأحيان صياغتهم له.[5]
ويقسم الاستقراء إلى نوعين: تام، وناقص. أما الاستقراء التام فهو عند المناطقة: "أن يُستدلّ بجميع الجزئيات ويُحكم على الكل".[6] أما الأصوليون فقد اختلفوا في تعريفه على اتجاهين:
أحدهما: يلتزم بالتعريف المنطقي، ومنهم الغزالي (505هـ)، والأسنوي (772هـ)، والزركشي (794هـ)، والبدخشي (922هـ)، حيث يشترطون في كون الاستقراء تاما أن يشمل جميع الجزئيات بما فيها الجزئية محل الاستدلال.[7]
وثانيهما: لم يلتزم بذلك التعريف، وجعل الاستقراء التام هو استقراء جميع الجزئيات باستثناء صورة النـزاع التي هي محل الاستدلال، ومن هؤلاء ابن السبكي (771هـ)، وابن النجار الحنبلي (972هـ).[8]
وأما تعريف الاستقراء الناقص فهو: "أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات، حكم على ذلك الكلي به".[9] ولا يختلف تعريفه في كتب الأصول كثيرا عما هو عند المناطقة. وهو الذي يعبّر عنه المتكلمون بـ"السبر والتقسيم"، ويعبّر عنه الفقهاء بـ"إلحاق الفرد بالأغلب"، و"الأعم الأغلب".[10]
واختلف الأصوليون في تعريف الاستقراء الناقص: هل يشترط أن يكون شاملا لأكثر الجزئيات أم لبعضها فقط دون اشتراط أن تكون الأكثر؟ فعرفه البعض بأنه الذي يشمل أكثر الجزئيات، ومنهم الزركشي،[11] وابن النجار،[12] وعبد الوهاب بن السبكي.[13]
وقد استشكل ابن عباد في حاشيته على المحلي التقييد بالأكثر، لأنه يلزم عليه عدم الاحتجاج بالاستقراء الذي يكون لنصف الجزئيات أو أقل من النصف، وقد يكون ذلك مخالفا لما استدل به بعض الفقهاء، ولذلك اقترح ترك التقييد بالأكثر، والاكتفاء بالبعض، مع ضبط ذلك البعض بكونه يفيد ظن عموم الحكم.[14] وهذا هو مذهب بعض الأصوليين الذين اكتفوا باستقراء بعض الجزئيات دون تقييد بالأكثر، ومنهم الرازي،[15] والأسنوي والبدخشي.[16]
أما عن نتيجة الاستقراء التام فإنها تعدّ قطعية بشرط أن يكون ثبوت الحكم للجرئيات المستقرأة قطعيا، وأن يكون شمول الاستقراء لجميع الجزئيات قطعيا أيضا، أما إذا دخل الظن أحد هذين الشرطين فإن النتيجة تصير ظنية.[17]
وأورد ابن النجار الجزم بإفادة هذا النوع من الاستقراء القطع،[18] ونسب عبد الوهاب بن السبكي القول بقطعية نتيجته إلى أكثر العلماء، ورجحه المحلي في شرحه.[19]
أما عن الفائدة العملية للاستقراء التام فقد ذكر الغزالي[20] والشربيني أنه ليس له فائدة عملية؛ لأنه ـ على حد تعبير الشربيني ـ "مبني على علم ثبوت الحكم في جميع الجزئيات، والأصوليون إنما يحتاجون الدليل لعلم الجزئي، والفرض أنه معلوم".[21] وهذا الحكم منطقي وسليم، لأنه إذا كان القصد من الاستقراء هو استنباط حكم فرع غير معلوم الحكم فإن الاستقراء التام لا يجدي في ذلك، لأنه لا يمكن أن يكون تاما إلا بمعرفة حكم تلك الجزئية، وبعد معرفة حكمها لا تكون هناك حاجة للبحث مرة أخرى عن حكمها. ولكن هذا الحكم بعدم الفائدة يتماشى مع النظرة التي تحصر فائدة الاستقراء في استنباط الأحكام، أما إذا نظرنا إليه من نواحي أخرى، حيث يكون الاستقراء طريقا إلى تكوين القواعد والمبادئ العامة والأحكام الكلية، أو طريقا إلى الرفع من مرتبة الحكم من الظن إلى القطع أو إلى ما يقرب من القطع، فإن الاستقراء التام يكون ذي فائدة كبيرة.
أما نتيجة الاستقراء الناقص فإنها تفيد الظن، بسبب عدم شمول الاستقراء لجميع الجزئيات، حيث يمكن أن تخالف بعض الجزئيات التي لم يشملها الاستقراء حكم الجزئيات التي شملها، وهو ما يصطلح عليه بمشكلة الاستقراء الناقص. وقد عبر العطار عن ذلك في حاشيته على جمع الجوامع بأن "الاستقراء ]الناقص[ يدل على عدم وجود الزائد لا على امتناعه الذي هو المدعى"،[22] ونقل عن العبري قوله: "الاستقراء التام غير معلوم، والناقص لا يفيد".[23]
وقد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن الاستقراء الناقص يفيد الظن المعمول به، وأول القائلين بهذا الغزالي، الذي يبرر ذلك الظن المعمول به بأنه كلما زاد عدد الحزئيات الشاهدة لأمر ما زاد الظن فيه، فإذا وجد الأكثر على نمط لم يبق الاحتمال على التعادل، بل رجح بالظن أحد الاحتمالين، وصار إثبات الواحد على وفق الجزئيات الكثيرة أغلب من كونه مستثنى على النذور.[24] وهو الرأي الذي ذهب إليه البيضاوي، والأسنوي، والبدخشي،[25] والزركشي،[26] بل إن البيضاوي ذهب إلى لزوم العمل به، محتجا بما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن نحكم بالظاهر"،[27] وعلق البدخشي على هذا الأثر بقوله: "وهو وإن كان على صيغة الخبر لكن المراد الأمر".[28]
ونسب الزركشي إلى البعض (دون تسمية لذلك البعض) بأنه لا يوثق بنتيجة الاستقراء الناقص (أي لا يعمل بها) إلا إذا تأيدت بالإجماع،[29] وهذا القول بمثابة الإلغاء لهذا النوع من الاستقراء، لأن الإجماع وحده حجة، وهو أقوى من الاستقراء، فإذا وجد الإجماع لم تعد هناك حاجة إلى استقراء. وذهب الرازي إلى أنه لا يفيد الظن، إلا إذا تأيّد بدليل منفصل، ولكنه قال إنه على تقدير إفادته الظن فإن العمل به يكون واجبا، لما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الحكم إنما يكون بالظاهر.[30]
ونسب الزركشي إلى القرافي القول بأن من له أهلية استقراء الشريعة والاحتجاج باستقرائه هو المجتهد المطلق، أما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به، ولكنه اعترض على هذا القول بوصفه بالتحجير على الباحثين.[31]
ونتيجة هذا العرض أن الاعتداد بالاستقراء لم يكن يسير على وتيرة واحدة، فالغزالي (الذي يبدو أنه أول من تحدث عنه من الناحية النظرية من الأصوليين) قد جعله يفيد الظن المعمول به في الفقهيات، أما الرازي فقد نزل به إلى مرتبة أدنى، ونفى عنه إفادة الظن، ولكن من جاء بعد الرازي مثل البيضاوي والأسنوي عاد ليرفعه إلى مرتبة الظن المعمول به، بل إن البيضاوي زاد في الرفع من مرتبته ليجعل العمل به لازما، مسوغا ذلك بقوله: "فما دام الاستقراء يفيد أن ظاهر الأمر على ما تحصل منه فإن العمل به يكون لازما".[32]

نماذج من التطبيق العملي للاستقراء


عند الحديث عن الاستقراء عند الأصوليين ينبغي التفريق بين تناولهم له من الناحية النظرية باعتباره طريقا من طرق استنباط الأحكام، وبين استعمالهم له من الناحية العملية في استخراج القواعد والأحكام العامة. فليس هناك شك في أن الاستقراء كان حاضرا بقوة عند الأصوليين منذ بدايات التدوين في علم الأصول، وأنه أدى دورا مهما في صياغة القواعد الأصولية. وقد أشار إلى ذلك الزركشي حين ذكر أن عمل الأصولي قائم في جزء منه على الاستقراء، فمسائل اللغة التي بحثها الأصوليون مثل دلالة صيغة الأمر على الوجوب وصيغة النهي على التحريم، وصيغ العموم، وتفاصيل الاستثناء، قضايا أخذوها باستقراء من كلام العرب يفوق استقراء اللغويين والنحويين.[33] كما أشار ابن أمير الحاج إلى أن الأحكام اللغوية الكلية المتعلقة بالعموم والخصوص، والتباين والترادف، والحقيقة والمجاز، والظهور والنصوصية، والإشارة والعبارة، تم استخراجها من اللغة العربية بطريق الاستقراء.[34]
وكذلك استخدم الفقهاء الاستقراء في بحث الكثير من القضايا الفقهية، فمثلا نسب الزركشي إلى الشافعي الاحتجاج بالاستقراء في مسائل كثيرة، منها الوقت الذي تبدأ فيه عادة الحيض، وأقل مدته وأكثرها، وذكر أن أصحاب المذهب جروا على هذا الطريق. وذكر اختلاف علماء المذهب في الجزئيات التي تخالف ذلك الاستقراء المروي عن الإمام هل يعمل بها أم تكون كالمهملة؟ فإذا وجدت ـ مثلا ـ امرأة تحيض أو تطهر أقل من المدة المحددة هل يعمل بذلك أم لا؟ وأورد في المسألة أوجها عن علماء المذهب: منها اعتبار تلك الحالات والأخذ بها، ونسبه إلى أبي إسحاق الأسفرايني، ومنها أنه إن وافق قولا من أقوال السلف كان معتبرا، أما إذا لم نجد قولا من السلف يؤيد ذلك فلا عبرة به، ومنها عدم الاعتبار به، وهو الذي رجحه الزركشي، وعلله بأن "الأولين أعطوا البحث حقه، فلا يلتفت إلى خلافه".[35]

وفضلا عن استخدام الاستقراء في تكوين القواعد الأصولية وبعض الأحكام الفقهية، فإن علم القواعد الفقهية قائم في أصله على الاستقراء، وربما عُدَّ أوسع مجال طبّق فيه الفقهاء والأصوليون منهج الاستقراء، لأن تلك القواعد في غالبيتها العظمى قائمة على استقراء الجزئيات الفقهية المتشابهة وأدلتها وصولا إلى استخلاص القواعد والضوابط العامة.
وللمزيد من إبراز كيفية استخدام الأصوليين للاستقراء في بحوثهم، نعرض فيما يأتي لبعض النماذج من كتب الأصول التي كتبت بعد مرحلة النضج لهذا العلم التي بلغت تمامها مع المستصفى لأبي حامد الغزالي، وهي الكتب التي شاع تداولها في العصور المتأخرة، مع إضافة كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور لحفاوته البالغة بمنهج الاستقراء. وسيكتفي الباحث هنا بالإشارة إلى ما صرح فيه صاحب الكتاب باستخدام الاستقراء، وهذا لا يعني حصر المسائل التي استعمل فيها الاستقراء في هذه، بل هناك احتمال استخدام المؤلف للاستقراء في مسائل أخرى دون تصريح بذلك.

1ـ المستصفى من علم الأصول
(الغزالي/ 505هـ): تحد الغزالي عن الاستقراء من الناحية النظرية في مقدمات المستصفى، وسيأتي عرض ذلك وتحليله فيما بعد، أما من الناحية التطبيقية، فنجده صرح بالاحتجاج بالاستقراء في موضع واحد من المستصفى، وأعطاه مكانة عالية، حيث جعله أقوى من النقل الصريح، ولكن ذلك الاستدلال لم يكن في قضية شرعية، بل في مسألة لغوية أصولية. فقد ذهب في معرض حديثه عما تفيده صيغة الأمر: هل هي للوجوب أم للندب أم يتوقف فيها؟ إلى اختيار القول بالتوقف؛ وعدم حملها على الوجوب أو على الندب إلا بقرينة، لأنه ـ في رأيه ـ لا يمكن أن نجزم بترجيح أحد الجانبين (الوجوب أو الندب) إلا بدليل قطعي، ولما كان لا مدخل للعقل في اللغات فإنه لا يبقى سوى النقل المتواتر وهو ما لم يثبت، وإذ لم يثبت النقل المتواتر في هذه المسألة، فلا يبقى سوى التوقف والنظر في القرائن.[36] ثم شرع بعد ذلك في الرد على من يعترض على تخصيص صيغة الأمر بالإيجاب والندب مع استعمالها في الإباحة والتهديد مستندا إلى الاستقراء، حيث يقول: "قلنا ما يُعرف باستقراء اللغة وتصفّح وجوه الاستعمال أقوى مما يعرف بالنقل الصريح، ونحن كما عرفنا أن الأسد وضع لسبع، والحمار وضع لبهيمة، وإن كان كل واحد منهما يستعمل في الشجاع والبليد، فيتميز عندنا بتواتر الاستعمال الحقيقة من المجاز، فكذلك يتميز صيغة الأمر والنهي والتخيير تميز صيغة الماضي والمستقبل والحال، ولسنا نشك فيه أصلا وليس كذلك تميز الوجوب عن الندب".[37]

2ـ كشف الأسرار على أصول البزدوي
(عبد العزيز البخاري/ 730هـ): استخدم عبد العزيز البخاري الاستقراء في ما يأتي: ـ الاستدلال على حصر الأدلة الشرعية الأصلية في أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.[38] ـ الاستدلال على حصر الموانع الحسية والشرعية لوجود الحكم مع وجود العلة في خمسة، هي: مانع يمنع انعقاد العلة، ومانع يمنع تمام العلة، ومانع يمنع حكم العلة، ومانع يمنع تمام الحكم، ومانع يمنع لزوم الحكم. (4/49) ـ الاستدلال على حصر الأمور التي تتعلق بها الأحكام الشرعية في أربعة، هي: السبب، والعلة، والشرط، والعلامة. (4/241) ـ الاستدلال على حصر ما يسقط به الشيء المستحق في ثلاثة طرق، هي: الأداء، والإسقاط، والعجز. (1/209) ـ الاستدلال على حصر أنواع القرائن التي يصرف بها الكلام من الحقيقة إلى المجاز في النصوص الشرعية في خمسة أنواع، هي: الاستعمال والعادة، ودلالة اللفظ في نفسه، ودلالة سياق النظم، ودلالة ترجع إلى المتكلم، ودلالة في محل الكلام. (2/140) ـ الإشارة إلى أن حصر علاقات المجاز في خمس عشرين نوعا كما ذكرها البزدوي إنما تم بناء على استقراء استعمالات المجاز في كلام العرب. (2/87) ـ الاستدلال على أن الواو أكثر استعمالها في العطف، حتى صار الأصل في استعمالها ذلك. (2/166)

3ـ جمع الجوامع وشرح المحلي (ابن السبكي/771هـ، والجلال المحلي/ 864هـ): صرح هذان العالمان باستخدام الاستقراء في المسائل الآتية: ـ تأييد مذهب القائلين بامتناع التكليف بالمحال لذاته بكون ذلك الامتناع ثابتا بالاستقراء.[39] ـ إثبات قواعد النحو بالاستقراء، فما ثبت عمومه من اللغة بالاستقراء يكون شاملا وعاما، وذلك مثل رفع الفاعل ونصب المفعول به. وعلق العطار في حاشيته على ذلك بأنه إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية مثل كون كل فاعل مرفوع لم يحتج بعد ذلك إلى سماع جميع ماصدقات هذه القاعدة، بل كلما وقع لنا فاعل في جملة رفعناه، ولا يعد ذلك قياسا، بل يكون ذلك الجزئي مندرجا في تلك القاعدة. (1/433) ـ الاستدلال على كون الألفاظ المجازية في اللغة أغلب من الألفاظ المشتركة، حيث أن ذلك ثابت باستقراء ألفاظ اللغة العربية. (1/494) ـ الاستدلال على فرضية الصلاة بارتباطها بالأذان، حيث ثبت باستقراء الشريعة أن كل صلاة يؤذن لها فهي واجبة، والصلاة التي لا يؤذن لها ليست واجبة. (2/149)

البحر المحيط (الزركشي/794هـ): صرح الزركشي في كتابه البحر المحيط باستخدام الاستقراء في المسائل الآتية: ـ النص على أن قواعد اللغة العربية ثبتت باستقراء كلام العرب، مثل كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا.[40] ـ الاستدلال على أنه لا يشترط على المقلد لزوم تقليد عالم واحد، بل له أن يسأل ويقلد أكثر من واحد. حيث ذكر أن استقراء أصول الصحابة ومقلديهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون على من استفتاهم في مسألة ثم سأل غيرهم عن مسألة أخرى، وهو دليل على أنه يجوز للشخص العمل بقول من استفتاه في كل مسألة، ولا يشترط عليه الاقتصار في السؤال على شخص واحد والالتزام بجميع أقواله. (4/576) ـ مطالبة من يدعي ثبوت جميع جزئيات القراءات السبع بالتواتر أن لا يطلق ذلك إلا بعد استقراء الطرق التي رويت بها تلك القرءات عن أولئك الأئمة. (1/377-378) ـ الاستدلال على أن الأصل في مفردات اللغة أنها مفردة، ولا يحمل اللفظ على الاشتراك إلى بدليل، حيث أن ذلك ثبت باستقراء مفردات اللغة العربية. (1/490) ـ الاستدلال على وقوع النقل العرفي في الأسماء الخاصة. (1/516) ـ الاستدلال على وجود المجاز في اللغة. (1/542) ـ اعتراض الزركشي على قول الغزالي بأن تغير صيغة الجمع في الاسم يدل على أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، بأن تغير صيغة الجمع لا مدخل له في كون اللفظ حقيقة أو مجازا إلا إذا أثبت ذلك باستقراء في اللغة، فحينئذ يمكن الاستدلال به. (1/587) ـ الاستدلال على أن استعمال اللفظ مطلقا يكون عادة في المعنى الحقيقي، أما استعماله مقيدا فإنه يدل على أن اللفظ مستعمل مجازا، ويدل على ذلك استقراء كلام العرب. (1/588) ـ إذا تعارض المجاز والاشتراك في لفظ من الألفاظ فإنه يكون الأولى حمل اللفظ على المجاز لا على الاشتراك، لأن المجاز في لغة العرب أكثر استعمالا من الاشتراك بدليل الاستقراء. (1/592) ـ حصر أقسام المخصص في اثني عشر مخصصا. (2/420) ـ القول بأنه إذا أطلق الصحابي في روايته قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل عادة على السماع، وذلك بناء على استقراء عادتهم في النقل. (3/430) ـ الاستدلال على ربط الأحكام الشرعية بالمصالح باستقراء تلك الأحكام. (4/187)

التقرير والتحبير (ابن أمير الاحاج/ 879هـ): صرح ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير على التحرير في أصول الفقه لكمال الدين بن الهمام باستخدام الاستقراء في المواضع الآتية: ـ عند تعليقه على ما يعود عليه الضمير في قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء، واستبعاد أن يكون المقصود بالأسماء هنا المسميات، على اعتبار أن استقراء الاستعمال اللغوي يدل على المفعول الثاني لفعل التعليم، والمفعول الثاني إنما يكون من قبيل الأعراض والصفات لا من قبيل الأشخاص والذوات.[41] ـ الاستدلال على أن صيغة الأمر بعد الحظر تفيد الإباحة باستقراء استعمالات الشرع لها في نصوصه. (1/379) ـ الاستدلال على عدم وجود اسم متمكن آخره واو لازمة قبلها ضمة، وعلق عليه بأنه استقراء صحيح، ولكنه يفيد الظن. (1/213) ـ الاستدلال على أن الاسم إذا كان لمشترك معنوي ينطبق على جميع الأفراد المشتركة فيه. (1/104) ـ الاستدلال على أن إضافة الحكم الشرعي إلى الذوات تفيد عرفا أن المراد المعنى المقصود منها، أي منع الفعل المقصود منها، فالتحريم في الحرير يعني تحريم لبسه، وفي الخمر يعني شربه، وتحريم الأمهات يعني حرمة الاستمتاع الجنسي. (1/211) ـ الاستدلال على عموم اللفظ المشترك لجميع أفراده. (1/267) ـ الاستدلال على عدم وجود حق مشترك بين العبد والله تعالى مع تساوي الطرفين، والاستدلال على حصر أقسام حق الله تعالى في ثمانية أنواع. (2/135) ـ الاستدلال على حصر الأدلة الشرعية في أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. (2/273) ـ الاستدلال باستقراء الكتب المشهورة في السنة النبوية على وقوع البيان بالفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم كما وقع بالقول، وكان ذلك في معرض إثبات بيان المجمل بالفعل كما أنه يقع بالقول. (3/50) ـ بيان الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول وبيانه بالفعل، حيث ذكر أن الاستقراء يفيد أن كثيرا من الأفعال المبينة للمجمل تشتمل على مراده من المجمل، وليس هذا في القول. (3/52) ـ الاستدلال على وجود النقص فيما يؤلفه البشر، وأن الكمال في ذلك لكتاب الله تعالى، عند الحديث عن الإعجاز في القرآن الكريم. (3/323) ـ استقراء حالات تقديم الحنفية للترجيح على الجمع بين العام والخاص، حيث أنه يتنازع مذهبهم في العلاقة بين العام والخاص نظران، أشهرهما عَدُّهُما متعارضين، والقول بنسخ أحدهما للآخر إن تبين المتأخر والمتقدم، أو ترجيح أحدهما على الآخر إذا تبين مرجِّح، وهذا عندهم مُقَدَّم على الجمع بينهما على خلاف ما هو عند الجمهور. وقد يظن البعض أن الأولى عندهم الجمع بين الدليلين على الترجيح بينهما لقولهم إن إعمال الدليل أولى من إهماله، ولكن استقراء موقفهم من العلاقة بين العام والخاص يشير إلى خلاف هذا الظن ويؤيد المشهور من المذهب. (3/6)

الموافقات (الشاطبي/790هـ)
صرح الشاطبي باستتخدام الاستقراء في المواضع الآتية: إثبات قطعية الأصول العامة للفقه ورجوعها إلى كليات الشريعة القطعية (1/19). إثبات حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد (1/25). إثبات أن الشريعة إنما وضعت لحفظ الكليات الخمس (1/26، 2/227). الارتقاء ببعض الأحكام الشرعية إلى مرتبة القطع وصيرورتها من المعلوم من الدين بالضرورة (1/26). استقباح الشرع للخوض في المسائل التي لا ينبني عليها عمل (1/31). إثبات قطعية الأصول العامة للشريعة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات (1/53-54، 2/39). بيان العلاقة بين الشرط والمشروط (1/198). إثبات كون الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد (2/4-5). كون الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني (2/232). كون الأصل في العبادات التعبد (2/228، 231). نفي حق العبد في إسقاط حقوق الله تعالى (2/285). كون العادات الكلية التي أسست عليها حياة الإنسان لا تتبدل ولذلك فإن الأحكام الشرعية المبنية عليها لا تتغير (2/226، 227). إثبات أن مورد التكليف هو العقل (3/19). إثبات أن أحكام الشريعة جارية على مقتضى العقول (3/20). بيان أن اقتضاء الأدلة الشرعية للأحكام بالنسبة للمحال التي ترد عليها تلك الأحكام على نوعين: الاقتضاء الأصلي، وورود الدليل على مناط خاص (3/59). إثبات قلة المتشابهات في الشرعيات (3/64). الاستدلال على أن التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما في الفروع الجزئية (3/72). الاستدلال على أن النسخ لم يقع في الكليات وإنما وقع في الجزئيات (3/79، 3/88). إثبات أن الغالب في طريقة الطلب والنهي في الأحكام الشرعية خفة التأكيد فيما يكون الطبع الإنساني باعثا عليه أو منفرا منه إحالة على مقتضى الجبلة الطبيعية، في حين يكون التأكيد أشد فيما يكون مخالفا لمجاري العادات أو فيه ثقل وكلفة على النفس البشرية (3/99-102). التعرف على قصد الشارع من الأوامر والنواهي (3/112). الاستدلال على مقتضى صيغة الأمر (3/115). الاستدلال على قصد الشارع إلى رفع الحرج (3/122). الاستدلال على نذور تمحض الشيء للمنفعة أو للمضرة (3/138). اختلاف حكم الشرع فيما يجتمع فيه حلال وحرام عما يتمحض لأحدهما (3/144). إثبات صيغ العموم بالاستقراء المعنوي (3/221). الاستدلال على أن الغالب في أسلوب القرآن الكريم قرن الترغيب بالترهيب، والترجية بالتخويف (3/267-271). الاستدلال على أن تعريف القرآن الكريم بالأحكام في غالبه كلي لا جزئي (3/274). بناء فهم نصوص القرآن على حسب ترتيب النزول (3/304). إضافة السنة أشياء كثيرة لم ينص عليها القرآن (4/12). الاستدلال على أن ما في السنة راجع في معناه إلى ما في القرآن الكريم تفصيلا وبيانا (4/10). الاستدلال على انحصار محل النزاع بين المتناظرين في تحقيق المناط (4/247).

مقاصد الشريعة الإسلامية (محمد الطاهر بن عاشور/1379هـ): أبرز المواضع التي صرح فيها ابن عاشور باستخدام الاستقراء في كتابيه مقاصد الشريعة وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام هي: إثبات عدم انبناء المقاصد الشرعية على الأوهام والتخيلات، وإثبات مقصد السماحة في الشريعة الإسلامية، وتحديد المقصد العام من الشريعة، وتحديد أنواع الحيل وعلاقتها بتفويت المقاصد الشرعية، وإثبات مقصد سد الذرائع، وإثبات كون التشريع منوطا بالضبط والتحديد، وإثبات قصد الشارع إلى الحرية، وإثبات تعليل الأحكام الشرعية، وإثبات مقاصد الشارع من مختلف أنواع المعاملات والعقود.[42]

الاستقراء بين الغزالي والشاطبي وابن عاشور

1. تأسيس الغزالي للاستقراء

يرى الدكتور إبراهيم زين أن الغزالي أحدث إنجازا علميا كبيرا في مجال التنظير للاستقراء، وهو الإنجاز الذي استفاد منه الشاطبي ومهّد له السبيل لإحداث نقلة نوعية في النظر إلى الاستقراء، كما حاول أن يثبت أن الغزالي هو الذي أسس لربط الاستقراء بالتواتر المعنوي، وحاول الاستدلال على ذلك بالمدرك السادس الذي تحدث عنه الغزالي في مقدمات المستصفى وأضافه إلى مدارك اليقين، وهو الذي يتظافر فيه العدد المحدود مع القرائن المصاحبة؛ فهو من حيث العدد لا يصل إلى حد التواتر، ولكنه من حيث انضمام القرائن إليه قد يرتقي إلى مرتبة القطع، كما استند إلى طريقته التي استدل بها على المصلحة المقصودة للشرع. [43]
والواقع أن ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم زين هو مجرد استنتاج ليس هناك دليل واضح يسنده من معطيات واقعية في كتب الغزالي.
فالغزالي على الرغم من أنه حاول توظيف المنطق في علم الأصول وصاغه صياغة تمكنه من الانسجام إلى حد ما مع التراث الإسلامي، إلا أنه كان حريصا على المحافظة على المفاهيم المستقرة للمصطلحات المنطقية. ومما يؤكد التزامه بمدلولات ومفاهيم المصطلحات المنطقية (مثل التواتر والاستقراء) أنه التزم في كتابه المستصفى بمفاهيم تلك المصطلحات كما وصفها في كتبه المنطقية. وقد أكد في مقدمة المستصفى أن ما يقوم به في تلك المقدمة هو ضرب من اختصار ما ذكره من قبل في كتب المنطق، ومما قاله: "نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ... على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر، وكتاب معيار العلم...".[44] كما أحال عليهما في كثير من المواضع من تلك المقدمة.
والغزالي عندما تحدث عن المدرك السادس كان واضحا في عدم إلحاقه بالتواتر أو بالاستقراء، بل جعله مدركا خاصا، فهو ليس من باب الاستقراء؛ لأن الاستقراء عند الغزالي هو تتبع جزئيات الماهية الواحدة، كما لم يدخله ضمن التواتر لعدم توفر العدد المطلوب فيه، بل توجه به إلى قضية القرائن التي هي مسألة مطروقة ومألوفة عند الأصوليين. ومع أن هذا المسلك يصب في الواقع في مصب الاستقراء المعنوي إلا أن الغزالي لم يشأ أن يربطه بالاستقراء، بل ربطه بالقرائن.
وما تحدث عنه الغزالي في الاستدلال على المصلحة المقصودة للشرع يصب في خانة ما سماه الشاطبي بالاستقراء المعنوي، ولكن الغزالي كان حريصا على التفريق بين التواتر والاستقراء والقرائن، لأن الأول عنده من مدارك اليقينيات، والثاني من مدارك الظنون فقط، والقرائن مصطلح مستقل.
والناظر فيما كتبه الغزالي في التنظير للاستقراء سواء في كتب المنطق أو في مقدمات المستصفى لا يجد فيها عمقا وتحررا من قيود مصطلحات المنطق القديم، فالأمثلة التي يقدمها للاستقراء وينقضه على أساسها هي عادة أمثلة بسيطة وسطحية، مثل الاستدلال على كون فاعل العالم جسم، بناء على استقراء للفاعلين من خياط، وبناء، وإسكاف، ونجار، ونساج وغيرهم، حيث أنهم أجسام، ومن ثم يستنتج أن الجسمية صفة ملازمة للفاعلية.[45] وهذا مثال لا يصلح للاستدلال به على نقض الاستقراء لأن الوصف الوحيد المشترك في هذا المثال بين "فاعل العالم" والفاعلين الآخرين هو إطلاق وصف الفاعل فقط، في حين أن طبيعة كل منهما تختلف تماما عن طبيعة الآخر، ومن ثم فإن دعوى الاستقراء في حدّ ذاتها لا تقوم، ولو أن مدعي الاستقراء استقرأ آلهة حقيقية فوجدها تشترك في وصف ما لأمكن له أن ينسب ذلك الوصف إلى إله آخر من جنسها.
وفي مجال الفقهيات ركز الغزالي في تمثيله للاستقراء على استنباط أحكام فقهية جزئية من غير استناد إلى علة جامعة وإنما لمجرد وصف قد يكون عارضا. والمثال المشهور الذي ضربه الغزالي للاستقراء في الفقهيات ـ وظل يتكرر عند كثير من الأصوليين ممن جاء بعده ـ هو إثبات حكم صلاة الوتر بالقول بأنه تم استقراء جزئيات الفرض "من الرواتب وغيرها، كصلاة الجنازة، والمنذور، والقضاء، وغيرها" فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها على الراحلة، في حين ثبت أنه صلى الوتر على الراحلة، فهذا دليل على أن ما يصلى على الراحلة هو نفل، وبذلك يثبت أن الوتر نفل وليس واجبا.[46] وعند التدقيق في هذا المثال يظهر وجود شك في إمكانية وقوع مثل هذا الاستقراء أصلا. فالمفترض في الاستقراء أن يقوم على استقراء كيفية أداء الرسول صلى الله عليه وسلم للصلوات المفروضة، ولكن هل ثبت أصلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نذر صلاة ثم لم يصلها على الراحلة حتى ندخل الصلاة المنذورة في الاستقراء؟ وهل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة قضاء حتى يكون ذلك محل استقراء للقضاء؟ وهل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة من الصلوات الخمس منفردا في السفر حتى يكون هناك احتمال صلاتها على الراحلة؟ أم أنه كان يصلي إماما بالناس ولا يمكن عمليا لشخص أن يصلي إماما بالناس وهو على الراحلة. وهل يمكن أصلا أداء صلاة الجنازة على الراحلة حتى تدخل في الاستقراء؟ فصلاة الجنازة لا تكون إلا على ميت مسجى على الأرض ينبغي دفنه بعد ذلك وهي أمور تحتاج إلى استقرار على الأرض حتى لو كان الناس في حال سفر. وبناء على ذلك فإن هذا المثال للاستقراء يبدو أقرب إلى أن يكون افتراضيا.
وكذلك الشأن في مثال المنع من الوقف بناء على أن استقراء التصرفات اللازمة من بيع ونكاح وعتق وخلع يفيد أنه لا يتبع فيها شرط العاقد،[47] فهو استقراء في غير محله لأن الوقف تبرع وهو مختلف عن العقود التي ذكرت، فضلا عن أن عدم لزوم شرط العاقد في بعضها مختلف فيه، كما هو الحال في النكاح.
ويبدو للباحث أن هناك عقبتان أساسيتان أسهمتا في تحجيم التنظير للاستقراء عند الغزالي ومن تبع طريقه من الأصوليين، أولاهما: هي التزامه بالمفاهيم الشائعة في عصره للمصطلحات المنطقية ومنها الاستقراء. فالغزالي قد حام في كتاباته كثيرا حول بعض ما يُعدّ في الحقيقة ضمن الاستقراء بمعناه الواسع، ولكن يبدو أن تقيُّده بالمصطلحات المنطقية الشائعة في عصره جعله لا يعدها من ضمنه. فمثلا ما تحدث عنه في مدارك اليقين وهو "التجربيات" هو في الواقع مما يمكن إدراجه ضمن مفهوم الاستقراء، وذلك مثل الحكم على النار بالإحراق، والقول بجاذبية الأرض، وجاذبية المغناطيس، وغيرها،[48] ولكن الغزالي أرجع حكم العقل بتلك الأحكام العامة إلى قياس خفي، حيث يقول: "... وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي[49] ارتسم فيه، ولم يشعر بذلك القياس، لأنه لم يلتفت إليه، ولم يشغله بلفظ، وكأن العقل يقول: لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر، ولو كان بالاتفاق لاختلف، وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات...".[50] والواقع أن ما يتحدث عنه الغزالي هو كليات استقرائية قائمة على استقراء ناقص، ولكنه استقراء مدعوم بسنن كونية وضعها الله تعالى في هذا العالم، وهو ما عبّر عنه بتلازم الأسباب والمسببات واطراد العادات، وإن كان ابن سينا قد أنكر كون تلك المقدمات الأولية للقياس ثابتة بالاستقراء وإنما هي ثابتة على أساس وضوحها الذاتي،[51] إلا أنه يرد عليه سؤال: من أين جاء هذا الوضوح الذاتي؟ ولا يمكن أن يقال إن جميع مقدمات الأقيسة العقلية ناتجة عن علم ضروري، بل الواقع أن الكثير منها هو نتيجة استقراءات تمت عبر زمن طويل من خلال التجربة.
أما العقبة الثانية فهي: تناول الاستقراء في المباحث الأصولية على أساس أنه طريق من طرق استنباط الأحكام الفقهية الجزئية، وهو الأمر الذي سار عليه من جاء بعده من الأصوليين عند التنظير للاستقراء. ولا شك أن ما ذهب إليه الغزالي وغيره من الأصوليين من بعده في حديثهم عن مكانة الاستقراء بناء على كونه طريقا لاستنباط الأحكام الفقهية الجزئية سليم ومنطقي. ولكن المشكلة هي تناوله بهذه الطريقة ومحاولة النظر إليه على أنه طريق من طرق استنباط الأحكام الجزئية، في حين أن أهميته تكمن في استخلاص القواعد العامة أكثر منها في البحث عن أحكام الجزئيات، وإن كانت تلك الأحكام العامة التي يتوصل إليها بطريق الاستقراء قد تستخدم بعد ذلك في الاستدلال على بعض الجزئيات، ولكن تلك مرحلة أخرى لها شروطها في التطبيق.
وبعيدا عن التنظير نجد الغزالي ـ كما سبق ذكره ـ قد احتج بالاستقراء في موضع من كتابه المستصفى وأعطاه مكانة عالية، حيث جعله أقوى من النقل الصريح، ولكن ذلك الاستدلال لم يكن في قضية شرعية، بل في مسألة لغوية أصولية. فالغزالي في هذا الموضع استعمل الاستقراء بقصد الوصول إلى حكم كلي يكشف عن القصد الذي وضعت له صيغة الأمر، دون أن يعود بعد ذلك للاستدلال بذلك الحكم الكلي على استعمال مفرد لصيغة الأمر في موضع من المواضع على صورة ما كان في صلاة الوتر. ويبدو أن الغزالي قد تحرر في هذا الموضع من قيود المنطق، حيث استدل بالاستقراء وربطه بالتواتر مع أنه كان قد فصل بينهما في مقدماته وعند حديثه عن التواتر في مباحث السنة النبوية. فوصف "تواتر الاستعمال" هنا ليس بالمعنى المنطقي للتواتر ولكنه بمعناه من حيث المضمون، وهو الذي جعله يميز بين الحقيقة والمجاز في استعمالات بعض الألفاظ.[52]

2. تأسيس الشاطبي للاستقراء

على عكس ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم زين من أن الشاطبي قد راعته الطريقة التي نظم بها الغزالي نظريتي الحد والبرهان، والكيفية التي رتب بها مدارك العقول ومراتب اليقين،[53] فإن انتقاد الشاطبي الصريح لنظرية الحد، وعدم تقيده بها، وارتقائه بالاستقراء إلى إمكانية إفادة اليقين، حتى ولو كان ناقصا، يخالف ذلك الادعاء، إن لم نعتبره نقدا صريحا لما فعله الغزالي. فقد رفض الشاطبي منذ البداية (المقدمة الخامسة) إدخال أي مسألة من المسائل العلمية التي ليست هي من صلب علم أصول الفقه ضمن مباحثه، ومنها بطبيعة الحال المباحث المنطقية، كما أنه رفض في المقدمة التالية (المقدمة السادسة) الالتزام بالحدود المنطقية لأنها من جهة لا تليق بعامة الناس والشريعة إنما جاءت لعامة الناس، والتأليف فيها ـ خاصة فيما يتعلق بالتعريفات ـ يجب أن يسير على فهم الجمهور، ومن جهة أخرى لأن المناطقة أنفسهم اعترفوا بأن وضع التعريفات على مقتضيات نظرية الحد في المنطق أمر متعسر إن لم يكن متعذرا، ومن ثم فهو يرى أن بذل الجهد في مثل ذلك الأمر تكلف وطلب لما لا ينبغي طلبه.[54]
وواضح من أسلوب الشاطبي أنه لم يكن متقيدا تقيدا تاما بمدلولات المصطلحات المنطقية كما هو الحال عند الغزالي، وفي الوقت نفسه لم تكن له حساسية مفرطة ضد المنطق بحيث يرفضه رفضا تاما، بل إنه يستخدم الاستدلالات والمصطلحات المنطقية في كثير من المواقع من كتابه، وليس ذلك فشلا منه في تطبيق نظرته إلى نظرية الحد،[55] بل لأنه أمر لا مفكّ منه، حيث أن المنطق ليس شرا، بل فيه ما يعين على التفكير والاستدلال السليمين، ولكن المحذور هو المبالغة في استعماله والتقيُّد برسومه وشكلياته، وهو الأمر الذي كان يرفضه الشاطبي، فهو كان يتحرّى في تعريفاته الدقة وأن تكون جامعة مانعة قدر الإمكان عند الحاجة إلى ذلك، ولكن دون التقيُّد بالشكليات التي وضعها المناطقة وفي جميع التعريفات، وكان يستخدم المصطلحات المنطقية ولكن دون التقيُّد الحرفي بدلالاتها وظلالها المنطقية، بل كثيرا ما يميل بها إلى مدلولاتها اللغوية سواء منها الوضعية أو الاستعمالية.[56]
وربما كان هذا هو السر الذي جعله يمزج بين التواتر والاستقراء ليخرج بمصطلح "الاستقراء المعنوي" الذي هو مزيج بين الاستقراء بمفهومه الضيق في المنطق اليوناني والتواتر المعنوي عند علماء المسلمين. فالغزالي كان حريصا على التفريق بين التواتر والاستقراء، ولم يشأ ربطهما ببعضهما البعض، أما الشاطبي فقد سار على خلاف ذلك، حيث ربط بين الاستقراء والتواتر، بل ذهب إلى حد جعل الاستقراء نوعا من أنواع التواتر، حيث يقول في معرض الحديث عن وجود الأدلة القطعية في الشريعة، وأن آحاد الأدلة التي تتصف بذلك نادرة: "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق؛ ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي".[57]
و"الاستقراء المعنوي" عند الشاطبي هو الأمر "الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة؛ على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك".[58] والشاطبي بربطه بين الاستقراء والتواتر المعنوي، وإدراجه للاستقراء ضمن التواتر قد تجاوز تنظير المنطق القديم للاستقراء وأوجد له أسسا جديدة ذات جذور أصيلة في العلوم الشرعية.[59]
أما عن عمل الشاطبي لتجاوز ما يصطلح عليه بـ"مشكلة الاستقراء الناقص" التي هي كيفية تسويغ تعميم حكم الجزئيات التي تم تصفحها وفحصها إلى تلك التي لم يتم تصفحها ولا فحصها، فإن الشاطبي بين أن المقصود بأوصاف القطع والعموم والكلية عند الحديث عن نتيجة الاستقراء وتعميماته هي الأوصاف العادية التي تقضي العادة بكونها كذلك، وليس من اللازم أن تكون عقلية محضة، كما وضع ضوابط كثيرة لبيان كيفية تجاوز مشكلة الاستقراء الناقص.[60]
وقد وقع للدكتور إبراهيم زين التباس عندما ذهب إلى أن قضايا الاستقراء والقطع والظن واليقين والاطراد والكلية عند الشاطبي تندرج تحت ما فعله من إعادة النظر في فهم الصلة بين العلم والعمل، وأن محور كتاب الشاطبي هو تجاوز ثنائية العلم والعمل عند المتكلمين، وهو بذلك يكون قد حلّ الجانب النفسي للاستقراء.[61] والواقع أن العلم الذي يتحدث عنه علماء الكلام سواء في علم الكلام أو عند كتابتهم في علم الأصول هو بمعنى اليقين والقطع، ويقابله العمل وهو في استعمالهم ذلك بمعنى الظن الغالب الذي يعمل به عادة، فهم عندما يقولون ـ مثلا ـ إن خبر الواحد يفيد العمل لا العلم، يعنون الظن والقطع. أما ما يقصده الشاطبي عند حديثه عن العلم والعمل، فلا علاقة له بهذا، وإنما استعمل مصطلحي "العلم، والعمل" بالمعنى العام لهذين المصطلحين وليس بالمعنى المنطقي، فالعلم هو ما يكتسبه الإنسان من معارف يثق بها ويعتقد صحتها، والعمل هو ترجمة العلم إلى تطبيق في الحياة العملية. ومما ينفي نفيا مطلقا ما توهمه الدكتور إبراهيم زين (أن الشاطبي استعمل مصطلحي العلم والعمل بمعنى القطع والظن) تعبير الشاطبي بـ"العلم الملجئ إلى العمل"، فلو كان مقصوده العلم بمعنى اليقين والعمل بمعنى الظن فكيف تستقيم هذه العبارة فيكون اليقين ملجئا إلى الظن؟
والواقع أن الشاطبي عند حديثه عن العلاقة بين العلم والعمل لم يكن يتحدث عن مسألة منطقية نظرية، وإنما كان يتحدث عن مسألة سلوكية شرعية، وهي أن العلم في الإسلام لا تتم فائدته سوى بالعمل به. وهو بذلك ينتقد طريقة من صار يتخذ العلم للتكسُّب، أو للتزين فقط، ويؤكد على العودة بالعلاقة بين العلم والعمل إلى ما كان عليه السلف الصالح. ولا يظهر من كلام الشاطبي عن العلاقة بين العلم والعمل أي ربط لهما بالاستقراء ولا بمسألتي القطع والظن.
ومن الفروق بين نظرتي الشاطبي والغزالي إلى الاستقراء الفرق في النظر إلى مجال استخدامه، فالغزالي عند تنظيره للاستقراء أراد استخدامه في العلوم الشرعية بوصفه منهجا من مناهج استنباط الأحكام الفقهية الجزئية كما هو واضح من الأمثلة التي أوردها، وهي الطريقة التي سار عليها من جاء بعده من أصوليي المذهب. وما دام الاستقراء يراد له الاستعمال بهذا الطريق فإنه من المعقول أن يكون صالحا للظنيات فقط لا للقطعيات، وأن لا تكون له مكانة كبيرة في الفقه والأصول.
أما الشاطبي فإنه لم يحاول أصلا استعمال الاستقراء بهذا الطريق، ولا سعى للتنظير له على أساس أنه طريق من طرق استنباط الأحكام الجزئية، بل جعله منهجا لاستخلاص مقاصد الشريعة العامة منها والخاصة، وهي التي لا يمكن استخلاصها سوى بتتبع جزئيات كثيرة من النصوص والأحكام الشرعية، أو الاستدلال على مسائل أصولية يرى الشاطبي أن أفضل طريق لإثباتها هو الاستقراء. وبذلك يكون الشاطبي قد تجاوز إحدى النقائص التي وقع فيها من سبقه من المنظرين للاستقراء، وهي بحثه في إطار الأدلة الشرعية المستعملة في تحصيل الأحكام الفقهية الجزئية. ولا شك أن هذا التجاوز قد فتح له آفاقا واسعة في الاحتفاء بالاستقراء ومحاولة جعله أساس استدلالاته على العمومات والكليات.
أما ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم زين بقوله: "يجب أن نؤكد أن الإمام الشاطبي قد فهم من قراءته للمستصفى أن السبيل الأوحد في الاحتجاج للمقاصد هو الاستقراء بالكيفية التي بينها الإمام الغزالي في الاحتجاج لمقاصد الشريعة"،[62] فهو محاولة لقراءة ما كتبه الشاطبي في الموافقات على أنه امتداد لما كتبه الغزالي في المستصفى. فحتى إذا سلمنا بأن الشاطبي أخذ من الغزالي منهج الاستدلال على مقاصد الشريعة، فإن الشاطبي قد جعل الاستقراء محور استدلاله على قضايا أخرى كثيرة في علم أصول الفقه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.[63]
وكون الاستقراءات الكلية التي استخرجها الشاطبي ـ كما يرى الدكتور إبراهيم زين[64] ـ لا تخرج عن المعاني التي أشار إليها العلماء من قبله لا يقلل من أهمية عمله، ومن إبرازه منهج الاستقراء في الاستدلال للقضايا الكلية. ولا عيب إذا لم يأت الشاطبي بمعاني لم يسبقه إليها أحد من العلماء، فغالب المعاني الأساسية موجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولم يأت بها أحد من العلماء، وفضل العالم يكون في جهده في إبراز تلك المعاني وربطها بواقع الحياة، وليس دائما في ابتكارها. والجديد في جهد الشاطبي في موضوع الاستقراء ليس هو ابتكاره من العدم، بل تحريره من التهميش النظري الذي لقيه في المنطق القديم، وربطه بموضوع التواتر الذي يحظى بكثير من الحفاوة لدى علماء المسلمين، وإخراجه ـ من الناحية النظرية ـ من المضيق الذي حصرته فيه كتب الأصول بالاكتفاء بالبحث في إمكانية جعله طريقا لاستنباط الأحكام الجزئية، ثم إبراز المجال الحقيقي الذي ينبغي لهذا المنهج أن يعمل فيه. وكفى بهذه الجهود إسهاما في تطوير مباحثه.

3ـ تأصيل محمد الطاهر بن عاشور للاستقراء


سار ابن عاشور على طريق الشاطبي في الحفاوة بالاستقراء خاصة في مجال استخلاص مقاصد الشريعة، وجعله أول مسلك من مسالك الكشف عن مقاصد الشارع وأعظمها قدرا ونفعا،[65] كما جعله دليلا كليا يستدل به على بعض الأحكام الجزئية.[66]
ولم أجد عند دراسة موقف ابن عاشور من الاستقراء من الناحية النظرية فرقا كبيرا بينه وبين الشاطبي.[67] غير أن الدكتور إبراهيم زين يرى أن ابن عاشور جعل "مادة إعمال الاستقراء هو القرآن الكريم ومتواتر السنة النبوية"[68] وبذلك فإن "الناظر في تحليل ابن عاشور لكيفية استخدام الاستقراء في إثبات المقاصد يجزم يقينا بمعرفته الدقيقة لحدود ذلك المنهج... ويحق لنا أن نقول بأنه قد أعاد بناء الاستقراء بكيفية تبلغ اليقين المرجو، ولا توقعنا في المغالطات التي وقع فيها الشاطبي من قبل".[69]
وهو أمر في مطابقته لما كتبه ابن عاشور نظر؛ إذ أن ابن عاشور جعل مادة الاستقراء آحاد الأدلة الجزئية وأغلبها من سنة الآحاد، والأمثلة التي أوردها على ذلك في غاية الوضوح، بل ربما لم يقع فيها حديث متواتر، كما لم يرد فيها نص قرآني. أما عمومات القرآن فلم يجعلها ابن عاشور مادة للاستقراء، بل جعلها مفيدة للمقاصد بمفردها، كما جعل السنة المتواترة طريقا مستقلا وليس مادة للاستقراء.[70] هذا فضلا عن أن ابن عاشور لم يتحدث كثيرا عن الجانب النظري من الاستقراء، ولم يُعِدْ بناءه، بل أكد ما ذهب إليه الشاطبي من أنه أعظم طريق لإثبات المقاصد الشرعية، ثم استخدمه بعد ذلك عمليا في استخلاص جملة من مقاصد الشريعة العامة والخاصة.
أما القول بأن ابن عاشور أعاد بناء الاستقراء بكيفية تبلّغ اليقين المرجو منه، فإن الواقع أن كلام ابن عاشور عما يفيده الاستقراء غير واضح، فهو عند حديثه عن طرق الكشف عن مقاصد الشارع جعل استقراء جزئيات مبنية على أحاديث آحاد مفيدة لليقين والعلم، وعبّر عنها بمصطلحات "الجزم"، و"اليقين"، و"العلم" وهي مصطلحات مرادفة للقطع منافية للظن.[71] ولكنه ذكر بعد ذلك في مبحث "مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية" كلاما يفيد أن الاستقراء المفيد للقطع هو ما كان باستقراء عمومات القرآن الكريم. وهو وإن لم يصرح بحصر القطع في ذلك النوع من الاستقراء، حيث قال: "مثال المقاصد الشرعية القطعية ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن..."،[72] إلا أنه ربما يفهم من عده مقصد "منع الإِضرار" قريبا من القطع (في حين عدّه الشاطبي مقصدا قطعيا) أنه يشترط لقطعية نتيجة الاستقراء أن تكون مادته عمومات قطعية الثبوت. ولذلك علق على أدلة مقصد "منع الضرر" بأنها وإن كانت كثيرة إلا أنها أدلة جزئية، والدليل العام منها هو قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" وهو خبر آحاد غير قطعي.[73]

خاتمة


خلاصة هذا البحث أن الاستقراء منهج أصيل في البحث العلمي عند علماء المسلمين في العلوم الشرعيةو الكونية. وقد استخدمه المتقدمون من الفقهاء والأصوليين، وكان له السهم الأكبر في صياغة القواعد الأصولية والفقهية، ولكنه من الناحية النظرية لم يجد طريقه مبكرا إلى كتب أصول الفقه، وحتى عندما دخل مباحث الأصول على يد الغزالي (في المقدمات) ومن جاء بعده من الأصوليين ضمن مباحث الأدلة، لم يلق العناية المطلوبة في التنظير له. ويبدو أن ذلك عائد إلى من جهة إلى ظلاله المنطقية، حيث كانت له مكانة ثانوية في المنطق الأرسطي، وإلى الوجهة التي وجهه إليها المنظرون له من الأصوليين، حيث نظَّروا له بوصفه منهجا من مناهج استنباط الأحكام الجزئية، وهو ما لا ينسجم كثيرا مع طبيعته.
وقد بقي الاستقراء من الناحية النظرية حبيس ذلك القصور إلى أن جاء الشاطبي ـ الذي تحرر من قيود وظلال المنطق في بحثه الأصولي ـ فأعاد التأسيس له بربطه بمفهوم التواتر المعنوي وإخراجه من المضيق الذي وضعه فيه المنطق الأرسطي، كما وجَّهَ استعماله إلى الطريق الأسلم الذي سنَّه المتقدمون من العلماء، وهو استخدامه في استخراج المبادئ والقواعد العامة والأحكام الكلية، ومنها التعرف على مقاصد الشريعة العامة والخاصة.

[1] منها: صوالحي، يونس، "الاستقراء في مناهج النظر الإسلامي: نموذج الشاطبي في الموافقات"، إسلامية المعرفة، السنة الأولى، العدد الرابع، 1996م، ص56-91؛ نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص283-291.

Soualhi, Yunus, Imam al-Shatibi’s Induction: From Mere conjecture to Methodic Status, unpublished MIRKH thesis, IIUM.

Hallaq, Wael B., “On Inductive Corroboration, Probability and Certainty in Sunni Legal Thought” in Law and Legal Theory in Classical and Medieval Islam, Bookfield, Vermont: Ashgata, 1995, IV, pp.3-31.
[2] زين، إبراهيم محمد، "الاستقراء عند الشاطبي ومنهج النظر في مدوناتنا الأصولية"، إسلامية المعرفة، السنة 8، العدد 30، خريف 2002م/ 1423هـ، ص27-59.

[3] ينبغي الإشارة هنا إلى أن بحث الدكتور إبراهيم محمد زين "الاستقراء عند الشاطبي ومنهج النظر في مدوناتنا الأصولية" كتبه في الأصل للرد على مقال لصاحب هذا البحث بعنوان: "الاستقراء عند الإمام الشاطبي"، نشر في مجلة التجديد، السنة الرابعة، العدد السابع، 1420هـ/ 2000م، ص201-224، حاول فيه نقض ما رآه دعاوى من صاحب المقال لا تؤيدها الأدلة، أو سوء قراءة لما أنتجه الغزالي والشاطبي.

[4] الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، شرح أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ/ 1990م) ص148.

[5] انظر مثلا: الزركشي، بدرالدين محمد بن بهادر، البحر المحيط في أصول الفقه، ضبط محمد محمد تامر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ/ 2000م) ج4، ص321؛ الأسنوي، شرح الأسنوي على منهاج الوصول في علم الأصول للبيضاوي مطبوع مع شرح البدخشي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ/1984م) ج1، ص188.

[6] التهانوي، محمد علي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، مراجعة الدكتور رفيق العجم (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1996م) ج1، ص172.

[7] الغزالي، معيار العلم، ص151؛ شرح البدخشي ومعه شرح الأسنوي، ج3، ص180-181؛ الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321.

[8] السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي، متن جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية البناني وتقرير الشربيني (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ/ 1998م) ج2، ص534؛ ابن النجار، محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي، شرح الكوكب المنير، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد (الرياض: مكتبة العبيكان، 1413هـ/ 1993م) ج4، ص418-419.

[9] الغزالي، معيار العلم، ص148.

[10] السبكي، متن جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية البناني، ج2، ص535؛ الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321؛ ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج4، ص419.

[11] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321.

[12] ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج4، ص419.

[13] السبكي، متن جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية البناني، ج2، ص535.

[14] العبادي، أحمد بن قاسم، الآيات البينات على شرح جمع الجوامع، ضبط زكريا عميرات (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1417هـ/ 1996م) ج4، ص246.

[15] الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1412هـ/ 1992م) ج6، ص161.

[16] شرح الأسنوي ومعه شرح البدخشي، ج3، ص180-181.

[17] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج1، ص172؛ تقرير الشربيني، ج2، ص533.

[18] ابن النجار، شرح الكوكب المنير، ج4، ص419.

[19] متن جمع الجوامع مع شرح الجلال المحلي وحاشية البناني، ج2، ص534-535.

[20] الغزالي، معيار العلم، ص148. مع الإشارة إلى أن الغزالي جعل الاستقراء التام مما يصلح للاستدلال به على القطعيات. المستصفى، تصحيح نجوى ضو (بيروت: دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، د. ت) ج1، ص56.

[21] تقرير الشربيني على حاشية البناني، ج2، ص533.

[22] العطار، حسن، حاشية العطار على جمع الجوامع (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ/ 1999م) ج2، ص277.

[23] المرجع نفسه، ج1، ص272.

[24] الغزالي، معيار العلم، ص151، 187.

[25] شرح الأسنوي مع شرح البدخشي، ج3، ص180-181.

[26] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321.

[27] كثيرا ما تورد كتب الأصول هذا الأثر على أنه حديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الحافظ العراقي قال عنه: "لا أصل له، وسئل عنه المزي فأنكره". وهو نفس ما ذهب إليه ابن حجر العسقلاني وابن كثير. انظر: العراقي، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي، تحقيق وتعليق محمد بن ناصر العجمي (بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط1، 1405هـ/ 1989م) ص107، وانظر أيضا تعليقات المحقق، ص107-108.

[28] شرح الأسنوي مع شرح البدخشي، ج3، ص181.

[29] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321.

[30] الرازي، المحصول، ج6، ص161.

[31] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص574.

[32] متن البيضاوي مع شرحي البدخشي والأسنوي، ج3، ص180-181.

[33] الزركشي، البحر المحيط، ج1، ص9.

[34] ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير على التحرير في أصول الفقه ضبطه وصححه عبد الله محمود محمد عمر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ/ 1999م) ج1، ص88.

[35] الزركشي، البحر المحيط، ج4، ص321-322.

[36] الغزالي، المستصفى، ج1، ص257-258.

[37] المرجع نفسه، ج1، ص258.

[38] البخاري، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ/ 1997م) ج1، ص35.

[39] المحلي، شرح المحلي على جمع الجوامع، مطبوع مع حاشية البناني وتقرير الشربيني، ج1، 334.

[40] الزركشي، البحر المحيط، ج1، ص410.

[41] ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير على التحرير في أصول الفقه، ضبطه وصححه عبد الله محمود محمد عمر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ/ 1999م) ج1، ص97.

[42] انظر مزيدا من التفصيل في: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع (عمان: دار النفائس للنشر والوزيع، ط1، 1422هـ/ 2002م) ص303-311.

[43] إبراهيم زين، "الاستقراء عند الشاطبي"، ص30-35.

[44] الغزالي، المستصفى، ج1، ص21.

[45] الغزالي، معيار العلم، ص148-149؛ المستصفى، ج1، ص55-56.

[46] الغزالي، معيار العلم، ص150؛ المستصفى، ج1، ص55.

[47] الغزالي، معيار العلم، ص150.

[48] الغزالي، المستصفى، ج1، ص50-51.

[49] مراد الغزالي بالقياس الخفي هنا يختلف عما يعبر عنه الحنفية في تعريف الاستحسان بالقياس الخفي، فمراد الغزالي بالخفاء هنا هو أن الحكم الذي وصل إليه العقل في هذه المسألة هو في حقيقته نتيجة قياس، وإن كانت طريقة الوصول إليه في الواقع لا تمر عبر صيغة صريحة للقياس. أما القياس الخفي الوارد في موضوع الاستحسان فهو بالنسبة لخفاء علة ذلك القياس (التي هي في الحقيقة العلة المؤثرة) على الناظر لأول وهلة مقارنة مع وصف ظاهر (هو في حقيقته غير مؤثر) قد يبدو له هو علة الحكم.

[50] الغزالي، المستصفى، ج1، ص51.

[51] جعفر آل ياسين، المنطق السينوي: عرض ودراسة للنظرية المنطقية عند ابن سينا (بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط1، 1403هـ/ 1988م)، ص76.

[52] الغزالي، المستصفى، ج1، ص257-258.

[53] إبراهيم زين، "الاستقراء عند الشاطبي"، ص29.

[54] انظر في نقد الشاطبي لنظرية الحد المنطقي: الشاطبي، الموافقات، ج1، ص، ج4، ص. وانظر تعليقات على ذلك في: فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، ص181 وما بعدها.

[55] يفهم ذلك من كلام الدكتور فريد الأنصاري عند حديثه عن استخدامات الشاطبي للمصطلحات المنطقية، ومن ذلك قوله: "... وطبعا قل ما يبلغ تطبيق النظر في نظرية ما تمام ما هو مرسوم في تصورها، ولو كان القائم بالتطبيق هو واضع النظرية ذاته" المصطلح الأصولي عند الشاطبي، ص194.

[56] انظر تعليقا على استعمالات الشاطبي للمصطلحات المنطقية في: فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، 193 وما بعدها.

[57] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص24.

[58] المرجع نفسه، ج2، ص39.

[59] انظر في كيفية ربط الشاطبي بين الاستقراء والتواتر المعنوي: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص263-266.

[60] انظر تفاصيل مقترح الشاطبي لحل مشكلة الاستقراء الناقص في: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص272-282.

[61] إبراهيم زين، "الاستقراء عند الشاطبي"، ص36، 40.

[62] المرجع نفسه، ص38.

[63] انظر في إسهامات الشاطبي في مجال الاستقراء:
Soualhi, Imam al-Shatibi’s Induction: From Mere conjecture to Methodic Status; Hallaq, “On Inductive Corroboration, Probability and Certainty in Sunni Legal Thought” in Law and Legal Theory in Classical and Medieval Islam, pp.3-31.
صوالحي، "الاستقراء في مناهج النظر الإسلامي: نموذج الشاطبي في الموافقات"، ص56-91؛ نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص283-291.

[64] إبراهيم زين، "الاستقراء عند الشاطبي"، ص39.

[65] ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص125.

[66] ابن عاشور، محمد الطاهر، حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات التنقيح (تونس: مطبعة النهضة، 1341هـ) ج2، ص224. نقلا عن: إسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عن الإمام محمد الطاهر بن عاشور (هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416هـ/ 1995م) ص356.

[67] انظر في تفصيل موقف ابن عاشور من الاستقراء: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص295 وما بعدها.

[68] زين، إبراهيم محمد، "الاستقراء عند الشاطبي ومنهج النظر في مدوناتنا الأصولية"، إسلامية المعرفة، السنة، العدد، ص55.

[69] المرجع نفسه، ص57.

[70] ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (كوالالمبور: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م) ص137-140.

[71] المرجع نفسه، ص137-138.

[72] المرجع نفسه، ص171.

[73] المرجع نفسه، ص172. انظر في تفصيل موقف ابن عاشور من نتيجة الاستقراء: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص297-302.
 
أعلى